الثلاثاء، 14 أبريل 2009

ترجمة اليوم: قصة "جوليا وبايرون" لكريج ريني

[ملاحظة مهمة: هذه ترجمة في طور الإعداد النهائي. يمكنكم التعليق عليها من خلال التعليقات أو عبر إرسال رسالة إلى بريدي الالكتروني harrasi999@hotmail.com. نشر النص الأصلي في عدد 30 مارس 2009 من مجلة النيو يوركر]





جوليا وبايرون

كريج ريني

ترجمة عبدالله الحراصي



حينما كان عمر جوليا تسعة وعشرين عاماً كان اللون الأبيض قد بدأ يغزو شعرها، أما الآن وقد بلغ عمرها الثانية والستين فقد تحول شعرها إلى خوذة جافة من القصدير اللامع الذي يتساوى في مستواه مع عظم فكها الأسفل الهزيل الأسمر. كان الطبيب المتدرب يخبرها بأنها مصابة بالسرطان. سرطان النخاع العظمي.

وجدها تقرأ تقريرها – الذي كان موضوعاً على طاولة في مكتب الاستشاري – ولهذا افترض بأنها قد عرفت تشخيص مرضها. ولعله تخيل بأن دكتوراة علم الحيوان التي تحملها كانت دكتوراة في الطب. كان راغباً في أن يكون كيّساً لطيفاً فقال "اسم مرضك ميلوما، وهو مصطلح عام في الحقيقة. في حالتك" وأشار إلى الملف المتموج الاصفرار الذي وضعت يدها عليه "أنه خطير - حسناً، أنه خطير دائماً - ولكنه ليس حالة مستعصية بلا أمل."

كانت أظافر أصابعه نظيفة ومقلّمة. وقد أعجبها منظر أظافره.

ولم يكن تخيله عن معرفتها الطبية مجانباً للصواب مجانبة تامة، فبعد الفحوصات المبدئية قرأت جوليا بعض ما كتب حول الأمر، وسألت عدداً من أصدقائها الأطباء بعض الأسئلة. كما بحثت على الشبكة. ولهذا فقد كونت تصوراً ذكياً ودقيقاً عن فرص بقائها - من سنتين إلى خمس، وربما عاشت، إن استقرت حالتها، لفترة أطول غير محددة. بل ربما بلغت السبعين، إن ساعفها الحظ. وربما عاشت لفترة أطول إن كانت ساعفها مقدار أكبر من الحظ.

حينما عاد الاستشاري هارونوفتش واقترح عليها أن يتولى هو العناية بها تظاهرت بالجهل التام - لحماية الطبيب المتدرب، ولتسمع أفضل وصف ممكن لمرضها. لم يختلف تشخيص هارونوفتش عن تشخيص الطبيب المتدرب في أي تفصيل مهم.

"لابد أن أبلغك يا سيد هارونوفتش" قالت جوليا "ما قد لا تعرفه إلا إن كان عندك تقارير الطبيب العام الذي أتعالج عنده منذ زمن - بأن العدّ الدموي كان دائماً منخفضاً جداً. لذلك أقول أنني ربما أكون أقل مرضاً مما يظهر عليّ. أعني على الورق."

سمعها المرهف استطاع التقاط صوت يده المكسوة بالشعر وهي تلمس ذقنه. صوت ملمس الشعر. لكي يقول لجوليا أنه يفكر. يتأمل. يوازن. يمارس الحكمة. وأخيراً لفّ ذراعيه حول صدريته، ورجع في كرسيه إلى الخلف وأمال رأسه بعض الشيء ونظر مباشرة إلى عيني جوليا - واقترح عليها العلاج التجريبي الذي كان يفكر فيه لمدة ستة أشهر قبل أن يدفها ظهور أعراض مرضها إلى مستشفاه.

قال "في هذه الحالة سأعطيك الدم للتعويض عن النقص إضافة إلى الكيماوي. حبة واحدة في كل شهر. هذا كل ما في الأمر. دواء جديد. في غاية القوة والتأثير بطبيعة الحال. غير أنه يستحق التجربة. من يدري؟ ربما جاء بفائدة"، وضغط مرتين على قلمه الحبر ذي الماركة الشهيرة مونتبلانك رولربول.

حدق كل منهما في عيني الآخر.

"لقد أرسلوا في طلب بعض الأطباء/ في العطسات/ وفي صفير التنفس"* أجابت جوليا دون أن تبتسم. "أنت الخبير. هذا كل ما في الأمر"

كان أسم الدواء جميلاً: ماندراجوراكس، من صناعة شركة الأدوية التي لا بد وأنها قد عثرت على شكسبيرها الذي يخترع لها الأسماء الجميلة.

خلال ستة أشهر قضى الدواء على الأعصاب من يديها تماماً، فتوقف شعورها بأي شيء.

بعد فشل ماندراجوراكس في فعل أي شيء مفيد غير جلب الضرر لجوليا، أخذ هارونوفتش باستخدام أسلوب علاج أكثر تقليدية – أي العلاج الكيماوي التدريجي من المرحلة الرابعة وبمراقبة شديدة في المستشفى لمدة نصف يوم وليلة. تحملت جوليا الغثيان وتبدلات درجة الحرارة الرهيبة، ولكن بدون سقوط الشعر.

أخذت في الاستقرار. لعبت التنس. والسباحة.

ها هي جوليا: جلدها، كأنه لحم "بريزولا" المجفف البني المحمرّ. هوذا أثر تعرق يدها على مقبض المضرب الجلدي الأحمر. كان جلدها محروقاً إلى حد أن جفنيها يصبحان شاحبين لو أرادت – ويا للألم – إغماض عينيها. ها هي جوليا، تردتي قبعة الاستحمام المطاطية البيضاء كي تغطي عن الأعين جدائل شعرها الشاحب. إنها تبدو أشبه باللص بعينيها الجاحظتين المسودّتين وزيّ الاستحمام المخطط. وفي غرفة تغيير الملابس كانت تضع اصبعاً تحت القبعة المطاطية وتهزّ شعرها. أنه رمادي فاتح، رطب عند الأطراف.

كان السيد هارونوفتش مندهشا من شفاءها النسبي. كان مندهشاً من أن نظام مناعتها ما زال يعمل بفعالية، خصوصاً بعد انهياره الحقيقي قبل عدة أشهر. وأقنع جوليا أن توافق على قيامه بتجربة أخرى. كان يقدم حجته لها بطريقة محسوبة لكي تروق لغريزتها العلمية. ورغم أن نجاح العلاج الجديد في المدى القصير أمر غير متوقع إلا أنه قد يكون قيّماً على المدى الأبعد. إن قوى الشفاء المثبتة عند جوليا أوحت لهارونوفتش أن جرعات الكيماوي الجديدة، رغم خطرها الشديد، من غير المحتمل أن تودي بحياتها. غير أن تطور هذا الدواء وتحسيناته اللازمة لم تعتمد على تجربة بشرية بل على تجريبه على خنزير غينيا.

فكرت جوليا في جرذانها المختبرية المحبوبة - الصحيحة والمعافاة، المعرضة للتجارب الطبية والبشعة، التي تحمل أورامها المفردة مثل "كواسيمودو" وتلك التي تحمل أوراماً المزدوجة مثل "باكتريان". ووقعت العقد بقلم الدكتور هارونوفتش ذي الماركة الشهيرة مونتبلانك رولربول. كلك كلك (صوت إغلاق القلم). تعهد العقد بعدم توقف العلاج بالمضادات الحيوية.

لكن الواقع هو أن المضارات الحيوية قد توقفت. "لنستمر في هذه التجربة لفترة أطول يا جوليا!". لم يعد السيد هارونوفتش يدعوها الدكتورة ددنجتون فهي لم تعد مريضته، فهي الآن، إن شئت، زميلة له في توقيع العقد.

ها هي في رداء المستشفى - أنهكها ربط الحزام خلفها. لقد اختفى ردفاها. بل أنك يمكن أن ترى عصعصها. كان الشعر يملأ جسمها. انها لا تستطيع تحريك فكيها لتأكل إلا بعناء شديد. لقد تقرح حلقها بشدة حتى صار ابتلاع أي طعام أمراً مستحيلاً. وأصبحت لسانها سوداء مثل النيلة. لا يمكنها أن تبتلع أي طعام.

أصبح الحديث صعباً. عشر دقائق مع وقفات استراحة بين كل كلمة تهمس بها وأخرى كي تنطق بالبيت الأول في قصيدة "كلهم لاحظوا / حال حنجرتها"*. كان الأمر في غاية الألم لجوليا وكان زوجها بايرون يحاول إكمال البيت التالي من أي قصيدة يعرف أن جوليا تقصدها. غير أنه كان يفشل عند الضمير – أهو ضمير المذكر، أم ضمير المؤنث؟ - وينزعج غاية الانزعاج لأن عليه مغادرة الغرفة.

حين وافق السيد هارونوفتش أخيراً على إيقاف العلاج والعودة إلى المضادات الحيوية لم تتمكن من ابتلاعها عن طريق الفم. ولم يكن هناك من طريقة سوى أن يقوم بايرون بإدخال التحميلات إلى المستقيم، وكانت التحميلات تأخذ في طريق دخولها كتلاً وقطعاً من لحمها.

أخذ الدم ينزف من مهبلها ومستقيمها، ومع تدهور صحتها بدأت في توسيخ نفسها. وفي نهاية المطاف كانت في غاية الضعف وتعذر عليها المشي. أخذها بايرون إلى الطابق العلوي ممسكاً بيديها النحيلتين. كان وجهها في غاية الشحوب. كان شاحباً إلى حد أنها بدت وكأنها قد وضعت أحمر الشفاه على شفتيها.

قال "أنت ضعيفة. أنك لا تقوين على المشي"

تبسمت، وخرج الماء من فمها، وماتت في حضنه.



بعد أن غادر الحانوتي قبلها بايرون وأدرك كم هي ميتة. لقد ولت على غير رجعة. لم يعد لها وجود. غير أنه لم يتمكن من وضع الغطاء على التابوت. بعد ثلاثة أيام بدأت الابتسامة المتناسقة المتعفنة في التغضن إلى أحد الجانبين. بدت الآن وكانها ابتسامة متكلفة. تساءل إن كان من اللازم تشغيل التدفئة المركزية في البيت بأكمله وليس في الغرفة الاحتياطية فقط.

لم يقو بايرون على النوم، ولهذا جلس في مكتب جوليا، في كرسيها متصفحاً المذكرات التي تركتها في خزانة ملفات "بيج" اللون. لقد سجلت في تلك المذكرات سلوكه الطائش خلال سني زواجهما العشرين. أين هي اللحظات الرقيقة؟ لم تكن مسجلة. استمر في القراءة، مجبراً نادماً باكياً يهز رأسه بين الفينة والأخرى، ولم يوقظه من تلك الحاجة إلا نشيجه. يقرأ كتابتها المختصرة "ب صعب. سكران في حفلة حديقة إيناسينيا. أخبر المدير أن الجميع شواذ. يمارسون اللواط في المدرسة المركزية. س و د يستمتعان بفعله. شرح أن لذة الرجل تحدث بسبب قرب البروستات من جدار المستقيم. لا شي سوى كراسي مفككة صباحاً. لكن هذا يصدق على النساء كذلك. في السيارة قلت: لماذا تفعل هذا؟ ماذا؟ ماذا أفعل؟ تخترع الأكاذيب. أنت مثل الطفل. تفعل أي شيء لتلفت الانتباه. ابعد عني. أفضل نار الجحيم على أن أخدمك".



كل حالات الغيرة التي تحل به، نوبات الغضب، العبوس، كلها مسجلة هنا في المذكرات، في مذكراتها المنهجية. ولم يكن يعلم أحد سوى بايرون أن كل هذه الأحداث لم تكن إلا أساليب منحرفة يعبر بها عن حبه لها. لم يكن لديهما أطفال. كانت في الأربعين حين تزوجا. كانت تمزح أحياناً وتدعي أن لديها طفلة اسمها تريلوبيتس. لهذا لم يكن أمر الأطفال مطروحاً أبداً - وهذا كان أمراً يسعده، غير أنه اعتاد أن يخترع مشهداً كلما شعر بانقباضها وتلعثمها واضطرابها وانسحابها. كان بايرون يسعى للحصول على كل اهتمامها، وليس أقل من اهتمامها الكامل.

لقد نجح في مسعاه! تقول "عبارات غزل ب الفظيع. أفكر فيها طوال الوقت. خارج دماغي طوال الوقت. يكرهني. لماذا؟" لم يجد في المذكرات أي شيء يعبر عن الحب.

أخذ يخبر كل من يلقاه في الشارع من أصدقائهما المشتركين "أنا الذي قضيت على أعصاب فؤادها. كنت أنا الكيماوي قبل الكيماوي. كنت مستبداً للغاية. في قمة البذاءة، كنت بغيضاً جداً. يا الهي! لو قرأتم مذكراتها لوجدتم هذا. تعتقدون بأنها كانت تعرف بأني أهتم بحالها. ولكنكم ستكتشفون بأنها لم تكن تعرف. انها لا تعرف. لقد عذبتها".

ثم يتوقف عن الحديث وينتحب خصوصاً بعد أن يفرّ عنه ذلك الصديق. لم تنفجر دموعه من عينيه، لأنها شلالات تنفجر دائماً ما أن يرى شخصاً يعرفها. "اني لا أتعلم البتة! لا أتعلم، أليس كذلك؟ حتى الجنازة. حتى الجنازة. طلبت من كل الضيوف أن يذهبوا الى اللاند روفر. وقمت بسخافة وقحة للغاية. كان ما فعلته معيباً. كان مخجِلاً"

كان قد رافق جوليا في رحلاتها الحقلية باللاند روفر. عند القبر هبت عاصفة برد صيفية غريبة. التصقت ربطة عنق بايرون السوداء بقميصه. كان وجهه رطباً جداً بسبب المطر فلا تعرف مقدار بكاءه على رحيلها. أخذ نسخة ممزقة الحواف من "نحن ستة الآن"**
Now We Are Six وحاول أن يقرأ "نحن الاثنان" Us Two.

كان التحكم في المقطع الأول معركة حقيقية، بعد أن أزاح نظره عن الصفحة الرطبة، وتباعدت شفتاه وتدلتا. كان البَرَدُ ينهمر ويتقافز. حيث بدأ الطين، بدت الأرض وكأنها حجر النمر***. ثم بدأت الأمور في التسارع حتى المقطع الأخير من القصيدة – الذي طال كثيراً لأن فم بايرون تيبس وتصلب فجأة.

فحيثما أكون، كان "بوه" دائماً هناك

كان هناك دائماً، "بوه" وأنا.

قلت لـ"بوه"

"ماذا كنت سأفعل لو لم تكن موجوداً؟"

أجاب "بوه"

"حقاً

الأمر ليس ممتعاً لشخص واحد

ولكن يمكن لإثنين أن يلتصقا معاً"*

فم ملتفة لشخص أصابته سكتة دماغية.

رمى بايرون نفسه في التابوت الرطب الذي انزلق من حضنه فأسقط إكليلاً من زهور الأقحوان. سقط. كانت إحدى ركبتيه غارقة في الوحل، وبدأ أنفه في النزيف.

لمدة عامين كان آلةَ حزنٍ، فقد كان لا يتوقف عن البكاء عندما يذكر اسمها. ثم تزوج ثانية – امرأة أصغر سناً – وكان زوجاً صعباً.

* من قصيدة عنوانها Sneezles "عطسات" للشاعر أ. أ. مايلن A. A. Milne (أنظر الحاشية التالية).

** "نحن ستة الآن" Now We Are Six كتاب شعري للشاعر أ. أ. مايلن نشر لأول مرة في عام 1972 ويتكون من 53 قصيدة من الشعر المكتوب للأطفال. وقد زينت بعض القصائد برسوم لشخصية الرسوم الشهيرة ويني-ذَ-بوه.

*** حجر النمر tiger stone: من الأحجار شبه الكريمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق