الخميس، 5 نوفمبر 1998

نحو ما بعد "الهم الثقافي"

عمان،وموضع القدم، وأشياء أخرى

نحو ما بعد "الهم الثقافي"

عبدالله الحراصي

يخبرنا محمد بن سيف الرحبي (الصفحة الثالثة من ملحق عمان الثقافي 1-أكتوبر-1998) ان "الهم الثقافي يطارد المسكونين به" وان "المبدع يكون مسؤولا امام التاريخ والمجتمع عن صدق ارهاصاته"، ويقول أيضا ان المثقفين "تتمرغ حياتهم في قارورة حبر- وليس عطر- يسكبونها مع او ضد المألوف والنشاز. يؤسسون لأنفسهم صرحا من المعاناة والألم والوحدة". مقالي هذا يدعو الى تجاوز هذا الطرح للثقافة والوعي والمعرفة، ويجادل بأن هذا الخطاب الثقافي، أي ما أسميه بخطاب الالم والهم والمعاناة والوحدة والابداع والاجتراح والانجراح، خطاب مجمد مكرر مستهلك لا يقود، ولم يقد، الى أي خير فكري أو معرفي، بل حتى إبداعي بمفهوم الابداع الذي يطرحه هذا الخطاب نفسه. أجادل ايضا ان ربط التنظير الثقافي الموجود بهذه التصورات النفسية التأزمية الطابع قد أقصى جوانبا معرفية تكمن في صلب كينونة المجتمع وهويته. ولذا ومن منطق المنفعة المعرفية ومن منطق المسئولية التاريخية، يتوجب، فيما أرى، تجاوزه الى خطاب معرفي يتجاوز عثرات خطاب الهم.

لا أود أن أبدو، وليس قصدي هنا ان أكون، هجوميا او دفاعيا، فلسنا في معركة ولا أرى مبررا لها. المعارك بإنتصاراتها وهزائمها قد تكون اجابات على اسئلة خاطئة، وهو ما لا أرجوه للأسئلة المثارة في هذا المقال.

كل ما أود قوله هو ان طرح الثقافة بكونها ألما أو انعكاسا لألم ومعاناة هو طرح طال عمره، فقد استمر منذ النصف الثاني من الثمانينات، تلك الفترة التي أخذ هذا الخطاب في التشكل في الصفحات والملاحق والبرامج الثقافية في مخرجات الاعلام العماني. هذا الطرح الذي شهدته الساحة العمانية كان بمثابة استمرار للطرح الحداثي الذي تغلغل بقوة في الكيان الثقافي العربي بأكمله. الطرح الحداثي كان طرحا لا يخفي طبيعته الصراعية، الراغبة في الهيمنة والذيوع، والانتصار على الخطاب التقليدي.

على المستوى العماني بدا الأمر وللحق رائعا وظاهرة حملت معها أمنيات واسعة تتجاوز واقعا ثقافيا افترض حينها انه كان سائدا. أعني اننا قرأنا عن زعزعة السائد والمألوف كتوجه يتوجب ترسيخه في كياننا الثقافي، وهو توجه يبرر ذاته، و، من منظور نقد الخطاب، طرح لخطاب معارض للخطاب المهيمن، الذي صور بأنه خطاب تقليدي، تكراري يرسخ قيما، ادبية كتابية في أغلبها، يتوجب تجاوزها.

انعكس هذا التوجه الذي يشار اليه عادة ب"الحداثة" على الساحة الادبية تحديدا، فظهرت اشكال ادبية تتمحور كلها حول قصيدة النثر والقصة القصيرة، وظهر الكثير من الشعراء والقاصين سواء في الصفحات الثقافية او على شكل مجموعات شعرية او قصصية. هذا على مستوى المنتج، وهو منتج لم يكن بقدر الطموح فمعظم الموجود هو إما ركام لفظي حول تكسر المرايا والوحدة والعزلة والغياب، او أصداء عمانية لكتاب عرب لا تخطئهم عين القاريء العادي.

عبارة محمد الرحبي التي تقول ان "المبدع يكون مسؤولا أمام التاريخ والمجتمع عن صدق ارهاصاته" تشير الى سمة تميز خطاب الالم، وهو انكفائيته على الشخص-الكاتب. نحن هنا بإزاء المبدع الذي يرى نفسه مركز الكون. والتاريخ والمجتمع هنا يحاسبان المبدع "عن صدق ارهاصاته". المعرفة ككيان، والحياة البشرية على وجه العموم، ليست أمرا محوريا هنا، والتاريخ والمجتمع، ان اتفقنا على منحهما وظيفة رقابية، يراقبان المثقف لا الثقافة، والمعيار انكفائي أخلاقي هو الآخر يتمحور حول صدق الارهاصات. التاريخ والمجتمع يغدوان جهازان لكشف كذب المثقف العماني. هذا الخطاب أقرب ما يكون الى اجواء الاختلال المجتمعي والجرائم والمحاكمات منه الى جو معرفي سوي.

أرى هنا ان الثقافة، كمؤسسة اجتماعية، المصدرة لهذا لخطاب الهم هي نفسها التي تخلق مفاهيمها التي لا تقابل بالضرورة أمورا لها وجود في الواقع. خطاب الهم الثقافي يخلق هنا مفهوما للتاريخ والمجتمع يدور في فلك المثقف المبدع يرصد حركاته وسكناته ويفضحه إذا كذب. التاريخ والمجتمع ليسا في ذاتهما موضوعا، الحياة ليست موضوعا الا في موقعها من المبدع. وهنا كمنت الخطورة وحدثت في مظاهر شتى. في سيادة مؤسسة ثقافة المعاناة والألم ينعدم الكون بأكمله ويبقى المبدع (أو المبدع الدجال إن صح التعبير).

قد يجادل البعض قائلا بأن مفاهيما مثل التاريخ والمجتمع تخلق في كل الاحوال، وأنا هنا لا اعارض ذلك، بل أؤيده بقوة، فالمفاهيم والمعاني ظواهر ذهنية في كل الأحوال. لكني أقول انه يمكننا ان نخلق تصورات للتاريخ والمجتمع تتجاوز، ولا تلغي في الان ذاته، دورهما الرصدي هذا. يمكننا مثلا ان نخلق مفاهيم وتصورات للتاريخ والمجتمع تجعل المثقف والمبدع يعيشهما ويتفاعل معهما، لا أن يرى فيهما انعكاس سريرته فحسب.

إذا علينا ان نتجاوز خطاب الالم هذا، وجميع التصورات التي ترافقه وتعكس طبيعته الانكفائية الشخصية، لأنه خطير في مستويات كبيرة. الخطورة، مرة اخرى، أمر جدلي يقبل النقاش ووجهات النظر المتعددة، غير اني مع خلق تصورات نافعة تنتج فضاء معرفيا يتجاوز الفضاء الضيق الذي وضعنا فيه خطاب الهم والمعاناة. اني لا أطرح مخططا آخر، لكن كل ما اقوله هو ضرورة خلق تصورات اخرى أنفع وأجدى معرفيا واجتماعيا وتاريخيا، وهو ما سأوضحه في موضع آخر من هذا المقال.

إضافة الى انكفاءه على الشخص-المثقف-المبدع، فإن خطاب "الهم الثقافي" كان، وما يزال، خطاب إقصائي لغيره من اشكال المعرفة. إذا كان الانكفاء سمة تميز خطاب الهم فإن هذا الخطاب لا يختلف عن كل خطاب اجتماعي في رغبته في الهيمنة. كيف تتم الهيمنة؟ انها تتم من خلال استخدام آليات استراتيجية، بعيدة المدى في تأثيرها، تصب في النهاية في خانة بقاء خطاب الهم الثقافي والقضاء المبرم على الخطابات الاخرى التي تحاول البقاء هي الاخرى. تجلية هذه الآليات أمر يتطلب دراسة عميقة ومفصلة، وهو ما لا اسعى اليه في هذا المقال الذي يحاول تقديم المشكلة ليس الا، غير اني أشير بإيجاز الى احدى هذه الآليات في رأيي وهي ما أشير إليها بآلية الاقصاء. الاقصاء هنا هو مظهر من مظاهر القهر والقسر (المعرفيين)، ويتمثل في توجيه عملية التفاعل الناشئة والمرتبطة بهذا الخطاب على نحو يقود الى إبعاد أي خطاب آخر، كالخطاب الديني وخطاب المجتمع التقليدي بل حتى بعض المظاهر المبكرة لخطاب الوعي المعرفي التفاعلي الذي أرى فيه مخرجا.

ان آلية الاقصاء تمارس دورها على المستويين الواقعي والمستقبلي. الاقصاء الواقعي يعني ان سيادة هذا الخطاب الهمي في عمان يقصي ويستبعد انماط المعرفة التي لا تستدعي أي شكل من أشكال "الالم" كالبحث العلمي بمختلف أشكاله، والكتابة التاريخية، والكتابة الدينية وغيرها من اشكال المعرفة. وهذا ما حدث فعلا فلأن الضوء الاعلامي كان، وما يزال، مركزا على هذا الخطاب تم، ويتم، استبعاد كتابات كثيرة مهمة كالدراسات الكثيرة التي كتبها الباحثون العمانيون في كثير من الجامعات العربية وغير العربية في شتى المجالات. كذلك أقصى هذا الخطاب كل حديث او نقاش في موضوعات فقهية او عقيدية لا يمكن استبعادها في جو معرفي تفاعلي. أيضا كان من نتائج ذلك غياب عدد من الكتاب العمانيين الذين كتبوا في الخارج في مواضيع فكرية وفلسفية وتاريخية وغيرها، وعلي المزروعي ليس الا نموذجا واحدا. قد يجادل البعض بأن هذا الاقصاء قد لا يكون قصديا، وأن الوضع الثقافي تطور كيفما اتفق، هكذا دونما مخطط مسبق يقود الى ما اعتبره في هذا المقال أمورا غير صحية. قد يكون هذا الكلام صحيحا، على مستوى الشعور والوعي والقصدية الفردية، لكني انظر الى الامر هنا من منظور عملية اجتماعية اشمل. أرى ان القول، حتى القول، بعدم وجود قصدية وراء حالة الوضع الثقافي يعني ان الأمر اعتباطي وان المجتمع، ممثلا في ثقافته، يتحرك فاقدا العلة المحركة بالمفهوم الفلسفي.

من هذا المنظور فإن استمرار اقصائية هذا الخطاب وانقطاعه عن الجسد المعرفي العماني، وهي نقطة سأعود اليها لاحقا، لا بد من تفحصه بعمق ودقة. ان استمرار وضع ثقافي مثل هذا من المحال ان يكون أمرا اعتباطيا، وأرى انه كان جزءا من حركة تفاعل، قد لا يكون الفرد كفرد واعيا بها وبأبعادها، عززته ورسخته وصنعت منه سائدا مألوفا.

التأثير المستقبلي للإقصاء يتمثل في فكرة ان المستقبل يقوم على الحاضر في عملية تراكم وتفاعل معرفيين وإبداعيين. المعرفة في جانب كبير منها أمر تراكمي. بحيث ان ما نقصيه اليوم سوف لن يكون له وجود غدا في حالة استمرار ذات الخطاب المسيطر، وان المعرفة سوف تتراكم على أساس ما يقدمه هذا الخطاب المسيطر، وهو ما حدث فعلا فخطاب الألم والمعاناة أنتج ركاما من اللغة الألمية. ان المستقبل يقوم على الحاضر، وما نقصيه اليوم من فضاءنا المعرفي سيدخل دائرة العدم مستقبلا، مما ينحيه من أي تفاعل ايجابي الطابع.

أود أن اطرح سبيلا اخر لرؤية بعض انعكاسات هذا الخطاب الهمومي، وهو ما اسميه بقيم مجتمع المثقفين. القيم هي قوانين السلوك ومحدداته. فكيف يسلك مثقفو الهم ويتعاملون في مستواهم الحياتي مع انفسهم ومع الاخرين؟ ان القيم التي سادت والتي لمسها كل من احتك بالكتاب العمانيين (أغلبهم أعني) ليست قيم مجموعات بشرية سوية ان درست من منظور علم النفس (أشير هنا الى ان غرائبية المبدع أمر مقبول في كل المجتمعات وهو ما لا اعنيه هنا). في أغلب الجلسات التي تجمع المثقفين لا حديث الا عن الالم والمعاناة. انعكس هذا على اللغة المستخدمة، في طرق التخاطب، فظهرت عبارات مثل "كيفك، كيف الصباح، كيف الألم، كيف الوجع " (و"كيفك" هذه لا تنطق بمخارج أصوات لهجات عمان بل بلكنات شامية أو عراقية، وهو ما سأعود إليه بعد قليل). ما معنى هذا كله؟ الامر بلا ريب بحاجة الى دراسات نفسية واجتماعية عميقة، بل انني أمضي لأقول ان فهم قيم أغلب المثقفين العمانيين (المهمومين) ورؤيتهم للعالم يتطلب أولا وقبل كل شيء دراسات انثروبولوجية. أوليست الانثربولوجيا هي العلم الذي يدرس أصول المجموعات البشرية وسلوكها وتطورها الاجتماعي والثقافي؟ أوليس مثقفونا مجموعة بشرية تتميز عما عداها؟ (يقول خليفة بن سلطان العبري: "من النادر سفر أديب وبرفقته فرد من خارج دائرة المثقفين"- أيضا في الصفحة الثالثة من ملحق عمان الثقافي 1-أكتوبر-1998).

وفي فقدان هذه الدراسات اطرح فرضية واحدة وهي ان مجتمع المثقفين اتبعت ما يمكن ان اسميه ب"التضاد" كتابة وسلوكا. تبعا للطرح المغاير (بل والمعادي من خلال آلية الاقصاء) للتقليدي والسائد، كان لا بد من "المضاد" والمخالف. شكلا كما اشرنا اخذ هذا محاولات تتجلى في تجارب في قصيدة النثر وفي القصة القصيرة، أدى في مجمله الى ركام شكل هو نفسه في النهاية ضربا من السائد غريب الاطوار ليس له بعد معرفي أو ابداعي حقيقي لا في ذاته ولا على مستوى المجتمع. مجموعات قصص ودواوين شعر تظهر لا يجمع بينها الا الاستهتار بالمعرفة، واستسهال الكتابة، استهتار واستسهال لم يعد في ملك من يشعر بالمجتمع والتاريخ ان يصمت إزاءهما.

على مستوى السلوك اللغوي، اتخذ التضاد اشكال عديدة، يصعب حدها هنا. يمكن الاشارة فقط الى معاداة اللهجات العمانية وإقصاءها بلهجات شامية او عراقية (وليست مصرية، فمصر تمثل سائدا من منظور هذا الخطاب)، حتى من قبل من لم يزر اقرب الدول الى عمان، ودعك من الشام او العراق. لم يعد غريبا ان تجد مثقفا عمانيا يحدثك بلهجة من لم يخرج من بغداد او النجف أو بيروت أو بعلبك .. لا أحد يستطيع ان يحسدنا..

بعض التجليات الاخرى بدت في موضات لفظية تتناثر في منتجات خطاب الهم.. مثل "الصباحات والمساءات، المشاهد، المشهدية، التشظي، الغياب، الذاكرة، العزلة، الوحدة الخ".

واذا كانت هذه بعض تجليات ظاهرة التضاد، فإن ثمة ظواهر مرضية (نفسيا واجتماعيا) تتجلى اساسا بما لا يمكنني الا ان اسميه بفقدان الانتماء المعرفي. وهذه ظاهرة خطيرة جدا يتوجب التوقف عندها وإمعان النظر فيها مليا. ما الذي أعنيه بفقدان الانتماء المعرفي؟ عمان ليست صدفة تاريخية، بل هي كيان له جذور تاريخية راسخة معرفيا. رسوخ تدل عليه بعض الكتب التي نشرت، والكثير مما لم ينشر. معرفة في كل مجالاتها لا حد لها، أدب و"ابداع"، و"ألم" لا نهاية لإنفتاحه

يا برق حرك همومي ان تكن سكنت فكــل حظي تحريك وإسكــــان

لكنه هم مختلف وبالتأكيد ليس هو "الهم الثقافي".

ان المعرفة العمانية طوال تاريخها، استطيع ان ادعي بيسر، كانت معرفة تفاعل مع الواقع الحياتي وتواصل مع ما سبقها وعايشها معرفيا. ان هذه المعرفة استطاعت بتفاعلها مع الاحداث التاريخية تأكيد الهوية العمانية التي ميزت عمان تاريخيا عما عداها. ما معنى غياب، أو تغييب، هذا الجسد المعرفي من الواقع الثقافي في عمان؟ ما معنى جهل الكثيرين بكتاب عمان الذين وصلت بعض مؤلفاتهم الى ما يربو على التسعين مجلدا؟ ما معنى ان يجهل الشعراء العمانيون المعاصرون ابن عديم وسعيد بن خلفان الخليلي و و و ؟ ما معنى عدم قراءة كتب الفقه والعقائد العمانية؟ ما معنى عدم قراءة التاريخ العماني؟ افترض، وأملي ان أكون مخطئا، انه فقدان انتماء معرفي وفقدان شعور بالمسئولية تجاه هذا الانتماء.

ان الامر يتجاوز فقط قضية ال"ما معنى ؟" بل ان الاخطر في رأيي هو تبعات ذلك علينا كعمانيين قبل ان نكون كتابا ومثقفين. الامر خطير ويتجاوز، عندي، الأسف على هذا الواقع الثقافي. ان الانغماس في خطاب "الالم" و"المعاناة" و"الهم الثقافي" لا يعني فقط فقدان الاستمرارية في مسيرة المعرفة العمانية، وفقدان حاضر معرفي وتدميره عن وعي وعن غير وعي، بل انه تدمير منظم لثوابت تتعلق أساسا بالانتماء والهوية وتفاعل الذات الجمعية العمانية بالآخرين.

ما المخرج؟ قبل ان أقدم طرحي الشخصي أود الاشارة الى بضع نقاط، أولها اني أتحدث بصفتي قد عايشت هذا الواقع الثقافي لأكثر من عشر سنوات كونت خلالها خبرة تمكنني على الأقل من كتابة هذا المقال. هذه الخبرة تكونت أيضا من تفاعلي مع أنواع شتى من المعرفة وضروب شتى من الفكر، ومن قراءات عديدة ومن تخصص واهتمام أكاديميين. لا أود الحديث عن شخصي هنا، لكني ارى ان طرحي للموضوع كما يقرأ الان، مرتبط بي كشخص يعيش هذه اللحظة من الزمن العماني والبشري ويتفاعل معها. في هذه اللحظة أجد ان قراءاتي ودراستي وبحثي في نشوء التصورات والمفاهيم ودلالات هذا النشوء وتطوره تقودني الى مساءلة الواقع الثقافي العماني مساءلة قاسية، لا أقول لفضحه وتعريته، فلست في عداء معه، ولكن لدعوة من يهتم بهذا الشأن للوقوف ورؤية موضع القدم المعرفية.

ثاني النقاط التي أود الوقوف عندها هنا انني حين اتحدث عن الخطاب الألمي في الثقافة العمانية المعاصرة لا أعني أفرادا، بل اني أكاد أميل الى تبرئة الافراد في حدودهم كأفراد، وأرى ان ما أعتبره خللا ووضعا مرضيا يتمثل أساسا في مستوى المؤسسة الثقافية بأكملها. وحين أتحدث عن "مؤسسة" فإني لا أقصد كيانا اداريا بل المثقفين المنتجين لهذا الخطاب بإعتبارهم كتلة لها ترابطها وتجانسها داخل النسق الاجتماعي العماني الأعم. ينبغي ان أشير الى اني استخدمت بعض عبارات محمد الرحبي وخليفة العبري بصفتها تجليا لخطاب اجتماعي يتجاوز حدودهما الفردية.

إضافة الى هذه النظرة الاجتماعية فإني أنظر الى الامر من منظور حركة التاريخ. من منظور "أين نحن الآن والى اين نتجه؟".

إذا، ثانية، ما المخرج؟ اني لا أقدم مخططا، لكني أجادل بأنه من الانفع على المستوى الاجتماعي والتاريخي إعادة النظرة الى المسألة الثقافية والمعرفية الموجودة برمتها. يجب، في رأيي، تجاوز الثقافة (بمفهومها الذي يقدمه خطاب الهم) الى الوعي المعرفي، الذي يشمل الابداع الادبي ولكنه لا يكتفي به. رداء المعرفة يجب في ما أرى ان يغطي آخرين نبذتهم مؤسسة المثقفين التي سادت حتى الان.

انني لا ادعو الى إلغاء المؤسسة الاجتماعية المسماة بالثقافة، ولكني أرى ان حالتها الحالية أمر خطير، وانها تدور في دائرة مفرغة، ولذا يجب إعادة صياغتها بأشكال تشمل شتى أنواع المعرفة، وبقيم ثقافية - معرفية مختلفة. وهذا موضوع يتوجب مناقشته وتحليله على نحو أعمق وأدق. الوعي المعرفي يجب ان لا يتمحور حول الكتابة الحديثة من قصيدة نثر وقصة قصيرة وغيرهما، بل ان هذه الكتابة وكل كتابة معرفية يتوجب ان تعكس وعيا اجتماعيا وتاريخيا.

القضية المعرفية يجب ان تتجاوز استجلاب المعرفة المضادة للسائد التقليدي، بأشكاله الكتابية والفكرية، ذلك الاستجلاب الذي نحى منحى شخصي (تألمي) إقصائي لم يعزز الا غياب المثقف (وهنا أعني المثقف - الواعي)، الى معرفة تؤكد حضور هذا المثقف في التاريخ والمجتمع، حضورا يجعله واعيا ومسؤولا عن هذا الوعي في آن واحد. قد يقول البعض ان الواقع من الصعوبة الى انه لا يدعو الا الى الانكفاء. هنا أقول ان قراءة الواقع ليست دائما، ولا ينبغي لها ان تكون، قراءة متجانسة، وخصوصا إذا ارتبط الأمر بإصدار أحكام على ظواهر على مستوى المجتمع بأكمله. ولكني أتجاوز هذا هنا لأقول ان الانكفاء يكاد ان يكون تآمريا حين يتماشى مع مناحي حياتية اخرى يصرح الجميع بسلبيتها وخطورتها وضررها. ان ينكفيء مبدع ويعاني ويتألم فهذه ظاهرة اجتماعية صحية، لكن ان ينكفيء الجميع، وان يتحدث الجميع عن معاناة وعن حضور الغياب وعن الالم والهم، فهذه ظاهرة اجتماعية خطيرة.

ما أسميه هنا بالوعي المعرفي التفاعلي إذا هو احد الحلول التي أراها. حل أعتقد انه ضروري وملح في هذه المرحلة.

ما هي مظاهر الوعي المعرفي التفاعلي؟ أول مظاهره هو تجاوز الثقافة بالمفهوم الموجود، وإفساح المجال للمعرفة الأشمل، حيث اننا في أشد الحاجة الى دراسات في مجالات حياتية كاللغة والانثروبولوجيا والآثار والتعليم والتنمية وغيرها. اننا بحاجة الى القصة القصيرة وقصيدة النثر لكننا ايضا، بل أدعي اننا أحوج، الى الدراسات البحثية التي تتناول شتى مظاهر التفاعل البشري في عمان.

إذا كان هذا على مستوى أشكال المعرفة، فإن الوعي المعرفي التفاعلي يتميز أيضا بتركيزه على التفاعل. ما هو التفاعل الذي أعنيه هنا؟ التفاعل يفترض وجود واقع اجتماعي يشمل أكثر من ظاهرة اجتماعية، حيث تمارس كل ظاهرة من هذه الظواهر وظيفتها بإرتباطها بالظواهر الاخرى. حين اقول مثلا ان خطاب الهم الثقافي خطاب غير تفاعلي فإني أعني انه خطاب معطل اجتماعيا فهو لا يؤدي أي دور اجتماعي ذي شأن، ولا يرتبط وجوده وظيفيا بأي ظاهرة أخرى من ظواهر الحياة البشرية في المجتمع العماني.

الوعي المعرفي التفاعلي الذي أدعو اليه هنا يعتمد في وجوده أساسا على تفاعله. انه يمارس دوره بإرتباطه بالظواهر الاجتماعية الاخرى كالمتحقق من المعرفة العمانية، وبأنماط الحياة والتفكير في عمان، وبحياة الانسان عموما. ان المعرفة هنا تقيم ضربا من التناغم المسؤول في المجتمع. هذا التفاعل يرتبط أيضا برؤية المثقف - الواعي بإبعاده الاجتماعية والتاريخية، وبشعوره بالمسؤولية تجاه تلك الأبعاد. رؤية العالم والمجتمع تتجاوز التبسيطات التقييمية حول الحسن والسيء، فهذا سبيل للتعامل مع المعلبات والحياة ليست كذلك. ان الحياة ليست فقط مجموعة ساكنة من الظواهر يتمحور دور المثقف في إبداء رأيه فيها، بل انها حركة تفاعل مستمر يكمن دور المثقف - الواعي فيها في رؤية هذا التفاعل وتحديد موقعه منه وفيه.

قلت في حديثي عن السمة الاقصائية لخطاب الهم الثقافي ان لها أبعادا مستقبلية تتمثل في ان السائد الثقافي حين يستبعد ظواهرا وقضايا معرفية معينة من مجاله وفلكه فإن هذا الامر يؤدي الى خلق تفاعل وتطور معرفيين يتأسسان على هذا السائد، بمعنى ان السائد يلد نفسه ويعيد خلقها. فماذا يؤسس بالوعي المعرفي التفاعلي؟ انه كما أراه يؤسس أيضا لظواهر أخرى، لكنه يختلف عن السائد الثقافي، الهمي، الحالي بأنه لن يعيد خلق نفسه لكنه سيكون متفاعلا مع حركة المجتمع والتاريخ. خطاب الهم الثقافي السائد حاليا هو خطاب ساكن (رغم أنينه)، لكن وعيا مثل الوعي المعرفي التفاعلي لن يكون ساكنا. سيكون حركيا لا ثبات فيه. الخطاب التألمي خطاب غير واع بذاته، لكن الخطاب التفاعلي ستكون ذاته هي عين التفاعل المعرفي الذي يكونه، ذلك التفاعل الذي هو مظهر من مظاهر التفاعل الاجتماعي والتاريخي الأشمل.

من آثار الوعي المعرفي التفاعلي بإنفتاح مجالاته تعزيز آثار اجتماعية غاية في الاهمية. انه سيؤدي، فيما أرى، الى تعزيز التفاعل في الوعي الاجتماعي. ان الوعي المعرفي الحقيقي في مجتمع ما لا بد ان ينعكس على حياة كل من يعيش في هذا المجتمع، بمن فيه الانسان الذي قد لا يكون مرتبطا ارتباطا مباشرا بهذا الوعي. ان الوعي المعرفي الذي أرى السعي اليه وتعزيزه ستنعكس آثاره على حياة المجتمع عموما. هذا الوعي قد يؤدي ايضا الى تغيير ما في طبيعة النسق المجتمعي مما قد ينعكس الى التأثير في التاريخ بوجه من الوجوه. لكن هذه الانعكاسات كلها تظل بالطبع في دائرة الامكانية فقط. فهذا الوعي قد يجلب ردود فعل اجتماعية تعكس مسيرته المتوخاة وتكبح او تحد من او تؤثر في آثاره المبتغاة، لكن ما يظل صحيحا هو ان هذا الضرب من الوعي المعرفي الذي أرى وجوب السعي اليه وتعزيزه يحمل إمكانية خلق هذه الانعكاسات.

الوعي المعرفي التفاعلي لا يشترط ان يكون استمرارا لموضوعات وأشكال المعرفة العمانية الموجودة، بمعنى اني لا أطلب من المثقفين ان يؤلفوا في الفقه والعقائد (ولم لا في الواقع؟!!)، ولكني أرى ان انتشار هذا الوعي سيبرر ضربا من الاستمرارية التي قد تتخذ أشكالا معرفية قد لا نراها حاليا، سواء على المستوى الابداعي الادبي او البحثي او حتى بجلب بعض انعكاسات هذه المعرفة الى السياق المعيشي للإنسان العماني.

ألخص ما أريد قوله ثانية. انني أرى ان المؤسسة الثقافية الموجودة في الوقت الحالي في عمان والمتمثلة في أشخاص مهمومين يشعرون بالألم والمعاناة ويكتبون قصيدة نثر وقصة قصيرة وما شاكلها هي ظاهرة لم تنتج حتى الابداع الذي تعلن السعي اليه. ولفشلها هذا ولإنقطاعها عن المتحقق من المعرفة العمانية تاريخيا، ولإقصائها لمجالات معرفية في غاية الاهمية فإنه يتوجب السعي وراء اعادة هيكلة مؤسسة الثقافة التي تعزز خطاب الالم والوجع والمعاناة، على نحو يجعلها اكثر ارتباطا بالواقع العماني وبالمسؤولية تجاهه، وبالتواصل التاريخي مع المعرفة العمانية، وبالعالم بتفاعلاته المتعددة وطرح خطابات أخرى كالوعي المعرفي التفاعلي، لا تستند في وجودها وطرحها على تضادها مع المعرفة التقليدية السائدة، بل على محاولة طرح اسئلة جديدة وسبر أغوار مناطق معرفية لم، ولن، يصل اليها خطاب "الهم الثقافي" و"المعاناة والألم والوحدة".

الخميس، 1 أكتوبر 1998

ترجمة لدراسة عن الدولة اليعربية في عمان

الدولة اليعربية (1624- 1744)
منظور خلدوني


عبدالملك الهنائي (باحث وجامعي من سلطنة عمان)
ترجمة عبدالله الحراصي (باحث وجامعي من سلطنة عمان)


هذه الورقة جزء من دراسة عن الدولة العمانية وقد قدمت باللغة الانجليزية في المؤتمر الدولي الألماني حول عمان في بون، يونيو1998.

هذه الدراسة محاولة لتطبيق نظرية ابن خلدون حول نشوء الدول وانهيارها على الدولة اليعربية التي ظهرت في عمان وامتدت لتصبح امبراطورية واسعة مزدهرة اقتصاديا لفترة تربو على القرن (بين عام 1624 - 1744) . وتجادل هذه الدراسة أن الدولة اليعربية هي مثل كثير من الدول التي وصفها ابن خلدون في كتابه المقدمة ، ولابد في البداية من استعراض ملامح هذه النظرية واطروحاتها التي وصفها ابن خلدون في كتابه الشهير المعروف بمقدمة ابن خلدون ، كذلك الدراسات التي تناولت هذه النظرية بالتحليل مثل دراسة لاكوست (1966) ومحمد عابد الجابري (1992) وحسب هنداوي (1996) .

الخلفية النظرية

تعتبر الدولة من أهم القضايا التي تعرضت للنقاش من قبل الباحثين في العديد من الحضارات والأزمنة التاريخية ، وعلى الرغم من أن الدارسين الغربيين من أمثال هيجل وماركس وفيبر، وحديثا مان وسكوكبول وهاليوس، قد قدموا اسهامات عميقة في هذا الموضوع ، إلا أن العالم العربي ابن خلدون هو بحق رائد دراسة الدولة . ففي كتابه المعروف بمقدمة ابن خلدون دراسة يتناول فيها من بين أمور أخرى الدوافع والأسباب التي تقف وراء قيام الدول وأقولها، ويؤكد ابن خلدون على ارتباط نظريته بسكان المناطق الجافة كالعرب والبربر والترك والتركمان والصقالبة (ابن خلدون 1996، 115). غير أن ابن خلدون يركز على أن العصبية لا تتواجد في أغلب العالم الاسلامي، ويرى انه اذا استقرت الدولة وتمهدت فإنه قد تستغني عن العصبية (مص 142).

ويرى ابن خلدون في الدولة ضرورة اجتماعية ذلك لاحتياج الناس الى الوازع الذي يكبح ميل الانسان الطبيعي الى العنف (مص 114) والفكرة المحورية عند صاحب المقدمة هي "العصبية" وهي ما فسرها البعض على انها الشعور الجماعي ، غير أن ثمة تعريفات أكثر عمقا كتعريف لاكو ست الذي يرى أن العصبية "هي حقيقة اجتماعية _ سياسية غاية في التعقيد، ذات أبعاد نفسانية مهمة " (لاكوست 1984، 103). ومن التعريفات الأخرى تعريف الجابري الذي يرى بأنها "رابطة اجتماعية _ سيكولوجية شعورية ولا شعورية تربط بين افراد جماعة ما قائمة على القرابة المادية أو المعنوية ربطا مستمرا يبرز ويشتد عندما يكون هناك خطر يهدد أولئك الأفراد كأفراد أو كجماعة " (الجابري 1992، 297). ان نظرية ابن خلدون ترى أن الغاية التي تجري اليها العصبية هي الملك ، وهو ما لا يتحقق الا ان 0 بالالتحام بين أفراد مجموعة تشترك في نفس العصبية (ابن خلدون 1996، 131).

وهناك مفهوم آخر في نظرية ابن خلدون هو مفهوم العمران ، وهو ضد الخلاء ويعني به ابن خلدون الاجتماع البشري الذي يتم من التساكن والتنازل في قطر أو مكان ما ومن العمران ما هو حضري وما هو بدوي (الجابري 1992، 299). ويستخدم ابن خلدون لفظ العمران في مواضع عدة في المقدمة ، ويهبه معنى متنوعا شاسعا يغطي كل شيء من مفهوم العالم المسكون الجغرافي الى مفهوم الاجتماع ، وهنا يفرق ابن خلدون ثانية بين شكلين من أشكال العمران ، وهما العمران البدوي والعمران الحضري. ويشير الأول الى حياة سكان الريف ، والبدو على وجه الخصوص ، أما العمران الحضري فيشير الى سكان المدن سواء أعاشوا في مدن كبيرة أو في قرى صغيرة (لاكوست 1984، 93). وحسب هذه النظرية فإن قيام الدول يتم خلال فترة التحول من حالة العمران البدوي الى حالة العمران الحضري (هنداوي 1996، 87).

ويضيف ابن خلدون بأن "كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان " (ابن خلدون 1996، 150)، وان للدول "أعمارا طبيعية كما للاشخاص " يقدره ابن خلدون بمائة وعشرين عاما (مص 159). ويضيف بأن "الدولة تنتقل في أطوار مختلفة وحالات متعددة ، هي على وجه العموم لا تتجاوز خمس مراحل (مص 163)، لكل مرحلة منها ما يميزه من الصفات والملامح .

المرحلة الأولى هي مرحلة الظفر، وهي مرحلة يتم فيها الاستيلاء على الملك من الدولة التي سبقتها. وفي هذه المرحلة يكون الحاكم نموذجا يقتدي به الناس فيجبي الضرائب ، ويحمي الأراضي ، ويقدم الحماية العسكرية ، ولا يدعي الحاكم في هذه المرحلة بشيء الى درجة استبعاد الرعية . أما المرحلة الثانية فهي مرحلة الاستبداد، حيث يأخذ الحاكم في ادعاء الملك لذاته ، نابذا رعيته ، مانعا اياهم من محاولة مشاركتهم له في نصيب مما معه .

وفي هذه المرحلة يهتم الحاكم في جذب المؤيدين والتابعين بأعداد كبيرة ، وغاية ذلك هي كبح توق رعيته الذين يشاركونه نفس العصبية . أما المرحلة الثالثة التي يسميها ابن خلدون بالفراغ والدعة ففيها يتمتع الناس بثمار الملك ، حيث يحصلون على الممككات وينشئون المشاريع العظيمة والمروح الباقية الخالدة ، وفيها يدفع الحاكم لجنوده مبالغ كبيرة من المال ، ويمدهم بالدروع والأزياء الحسنة ، "فيباهي بهم الدول المسالمة ويرهب الدول المحاربة ". أما في المرحلة الرابعة وهي مرحلة القنوع والمسالمة فيكون فيها الحاكم راضيا بتقليد من سبقوه دون أن يبذل جهدا للاتيان بسياسات أو قوانين جديدة ويعيش الحاكم حالة سلم مع الآخرين . أما في المرحلة الأخيرة ، مرحلة التبذير والاسراف ، فيأخذ الحاكم فيها بتبذير الثروات التي ورثها في المتع والملذات ويكون للحاكم أتباع سيئون وضيعون يأتمنهم على أهم أسرار الدولة . فى بوصول الدولة الى هذه المرحلة يستولي الهرم على الدولة ، حيث تنهار الدولة في نهاية المطاف (ابن خلدون 1996، 164). غير أن قوة العصبية قد تصل الى ذررتها قبل أن تهرم الدولة ، ويحدث هذا حينما تحتاج الدولة الحاكمة لطلب العون من جماعة أخرى للمساعدة في السيطرة على الأوضاع ، وفي مثل هذه الحالات تتضمن الدولة الحاكمة المجموعة التي تتمتع بالعصبية الأقوى من بين تابعيها الذين تستخدمهم لتنفيذ سياساتها. وهذا يعني تأسيس ملك جديد، يتمثل دوره في تقديم العون للعلك القائم .

وبالنظر الى هذه السمات والخصائص ويتتبع تاريخ الدولة اليعربية ، يظهر لنا جليا أن نظرية ابن خلدون تفسر تفسيرا مقبولا تطور الدولة العمانية خلال تلك الفترة من الزمن . فبالأضافة الى أن دولة اليعاربة استمرت مائة وعشرين عاما ، وهي نفس الفترة التي اقترحها ابن خلدون ، فمن الجلي أيضا بأن العصبية في شكلها الديني كانت المحرك الأساس لقيام هذه الدولة . اضف الى ذلك أن دولة اليعاربة قد تطورت في مراحل تماثل تلك التي راها ابن خلدون . غير أنه على الرغم من ذلك يتوجب التأكيد إن هذا لا يعني أن العوامل الاقتصادية لم يكن لها تأثير في ذلك . فالعامل الاقتصادي قد ساهم الى حد كبير جدا في اتساع الدولة العمانية في الخليج وسواحل الهند وشرق افريقيا في مرحلة تالية .

العصبية الدينية

لقد كان جليا منذ البداية ان الدافع وراء انتخاب الامام ناصر بن مرشد أول أئمة اليعاربة كان مزيجا من العصبية الدينية والقومية .. وهذا الى أي تؤكده كثير من أحداث ذلك الوقت ، وخصوصا خلال السنين الأولى من عهد اليعاربة ، وقد كان الامام ناصر، مثله مثل كل الائمة الذين سبقوه ، مرشح العلماء. حيث اجتمع ما يقرب من الاربعين عالما في الرستاق واعطره البيعة في عام 1624. ويعزو المؤرخون العمانيون مثل ابن قيصر وابن رزيق والسالمي، السبب وراء انتخاب الامام ناصر الى ما دعوه بالفساد والاضطهاد والطغيان والانقسام بين الناس في كثير من الأمور (السالمي 1934، مجلد 2، ص 3). أضف الى ذلك أن انتخاب ناصر بن مرشد قد أعقب بفترة قصيرة استيلاء البرتغاليين على صحار الذي عمق العصبية الدينية والقومية بين المسلمين العرب العمانيين ضد النصاري البرتغاليين . وفي واقع الأمر أن عمان ، أنئذ، كانت تعيش أزمة سياسية واجتماعية عميقة ، حيث كانت ثمة أكثر من خمسة مراكز متصارعة من مراكز القوى في عمان . وكانت هذه القوى تتمثل في النباهنة في الرستاق ، وآل عمير في سمائل ، وبني هناءة في بهلا، والجبور في الظاهرة إضافة الى البرتغاليين في الساحل . وكان هذا يعني أن المجتمع العماني كان مشرذما، وما كان بمقدور أي من هذه القوى متفردا إنهاء الصراع والسيطرة على القوى الأخرى وتوحيد البلاد.

ويرى جلنر انه في أوقات التأزمات الاجتماعية يظهر قائد ديني يوحد القبائل في رابطة جماعية أكبر (خوري 1990، 97)، وهو تماما ما حدث في عمان في تلك الفترة ، حيث جمع أبرز العلماء حينها خميس بن سعيد الشقصي بقية العلماء وأعطى البيعة لناصر بن مرشد، معيدا بذلك نظام الامامة الاباضية الذي كان قد تعطل في زمن النباهنة . وقد كان انتخاب ناصر بن مرشد ذا دلالة مفادها ان العلماء قد أعادوا الروح الى الاباضية التي لم تكن مذهبا دينيا فحسب وانما كانت دائما ايديولوجية مشتركة للعمانيين لوحدة عمان واستقلالها، غير أن هذا لا يعني أن ناصر بن مرشد كان منذ البداية مقبولا على المستوى الوطني، فقد وقفت بعض القبائل والمدن العمانية ، ومنها ما كان تحت سيطرة أسرته نفسها، ضده ومنذ البدء قام الامام بمعونة العلماء بتركيز جهوده على اعادة توحيد البلاد ، مبتدئا بأسرته التي كانت تحكم الرستاق ونخل ، وهو الأمر الذي استغرق تحقيقه حوالي ثمانية أعوام . حيث دخل أولا قلعة الرستاق وطرد منها ابن عمه ، مالك بن ابي العرب . غير أن المعارضة الرئيسية جاءت من الجبور والمتحالفين منهم تحت إمرة ناصر بن قطن ، حيث كانوا مسيطرين على الظاهرة ويجدون الدعم في ذلك في منطقة الاحساء في شرق الجزيرة العربية .

لقد تجلت العصبية الدينية أيضا في دور العلماء في تلك الفترة ، حيث إنهم لم يقتصروا على انتخاب الامام فحسب بل أن كثيرا منهم من أمثال خميس الشقصي ومسعود بن رمضان وخميس بن رويشد كانوا قادة للحملات التي شنت على القبائل المعارضة وعلى البرتغاليين . وأخيرا فإن العصبية الدينية والقومية قد تمثلة أيضا في الاتفاق الذي وقع بين العمانيين والبرتغاليين عقب الهجمة الأولى على مسقط في عام 1643، وقد نص الاتفاق على أنه يتوجب أن يعيد البرتغاليون ممتلكات الشيعة وممتلكات قبيلة العمور التي كان البرتغاليون قد صادروها في صحار (السالمي،ج 2، 0 1).

مراحل الدولة الخمس

واذا كنا قد رأينا أن العصبية الدينية كانت هي العامل المحرك وراء قيام الدولة اليعربية ، فإن الخطوة القادمة تتمثل في تحليل تطور تلك الدولة . فالدول حسب ابن خلدون لها عمر محدود ولا تزيد على ثلاثة الى أربعة أجيال . وعلى هذا الاساس فإن كل الدول تعيش خمس مراحل تطور، هي مرحلة الظفر، ومرحلة الاستبداد، ومرحلة الفراغ والدعة ، ومرحلة القنوع والمسالمة ومرحلة التبذير والاسراف .

مرحلة الظفر

اتسم الاقتصاد العماني طوال التاريخ بالثنائية ، فهناك التجارة البحرية على الساحل والزراعة في الداخل .وكما أشرنا سابقا فإن ابن خلدون يميز بين حياة الصحراء أو ما اسماه بالعمران البدوي، وحياة المدن ، أو العمران الحضري. فالأول يرمز لحياة سكان الريف على وجه العموم ، وليس البدو فقط بينما يرمز الثاني لحياة السكان المدنيين ، سواء عاشوا في المدن أو في القرى ، وما من شك أن اقتصاد المنطقة الداخلية ، حيث قامت دولة اليعاربة ، له سمات العمران البدوي حيث كانت الزراعة عموده الفقري، بينما تميز اقتصاد الساحل الذي كان تحت سيطرة البرتغاليين بسمات الاقتصاد الحضري . وحسب ابن خلدون فإن الدولة تتكون عند التحول من العمران البدوي الى العمران الحضري.

لقد انتبه الامام ناصر بن مرشد مبكرا الى اهمية الملاحة لاقتصاد البلاد،. ولذا فقد قام بجهود عظيمة لاستعادة مدن الساحل العماني وبلداته مثل جلفار وصحار ومسقط من أيدي البرتغاليين . وكان أول انجازاته في هذا الخصوص تحرير جلنار في عام 1633، وفي فترة قصيرة تم تحرير المنطقة الساحلية طها باستثناء مسقط . كما شرع الامام أيضا في جهود دبلوماسية كبيرة غديتها منع البرتغاليين من السيطرة التامة على تجارة المحيط الهندي، فقام بدعوة شركة الهند الشرقية الانجليزية للاتجار مع عمان عبر موانيء صحار والسيب حيث وقعت اتفاقية بين الامام وفيليب وايلد، ممثل الشركة ، في عام 1645 (باقر 1992، 28). واستمر الامام ني ذلك الوقت في الاعداد العسكري، وقام بهجمة ثانية على مسقط كان على رأسها أحد العلماء عام 1648، وقد أدت هذه الهجمة الى اتفاقية بين العمانيين والبرتغاليين الذين كان يقودهم دوم جولياو نورونا القائد العام في مسقط ، حيث اتفق الجانبان على أن يدفع البرتغاليون الجزية للعمانيين ، وأن يسمح للسفن العمانية بالابحار للخارج دون تفتيش على شرط أن تحصل على رخص برتغالية في رحلات العودة ، وعلى الا يدفع العمانيون أي رسوم ضريبية في مسقط (لورمير 1915، الجزء الثاني، القسم الثاني ، ص 0 40).

ويمكن اعتبار الفترة التي بدأت بانتخاب الامام ناصر بن مرشد اماما حتى بعيد تحرير مسقط المرحلة الأولى من الدولة اليعربية . وتحمل هذه المرحلة الكثير من السمات التي تحدث عنها ابن خلدون في وصفه لمرحلة الظفر. فقد اشتهر الامام ناصر بكونه نموذجا للشوري، والعدل والتقوى، ولم يدع لنفسه شيئا يخص به عن بقية العمانيين ، وعلى الرغم مما عرف عنه من قلة ثروته فإنه لم يحاول فرض ضرائب جديدة ، وكان النوع الوحيد من الضرائب في عهده هو الزكاة التي أصر على أن يدفعها الأغنياء بدقة وصرامة ليتم توزيعها توزيعا عادلا على الفقراء ، وأثر عنه أيضا أنه منع معاونيه من القيام بأي عمل من أعمال التجارة (السالمي 1934، ج 2، 49). ومن امثلة التي تبين تحمل الامام وصبره على خصومة أنه عفا عن كل من عارض حكمه كحكام نخل ونزوى، وحث مساعديه أيضا على اتباع نفس السياسة . وفي الرسائل التي بعثها الى ولاته وقواده العسكريين كان كثيرا ما يشدد على أهمية مشاورة العلماء والوجهاء في شؤون الحكم . غير أن تسامح الامام ناصر مع خصومة ومشاورته أهل الحل والعقد يجب الا يعتبر علامة ضعف تحسب على الامام بل هي دليل على مرونته العملية التي ساعدت في اعادة النظام وتوسيع قوة الدولة (ما يلز 1966، 0 21). وبعد حوالي ستة وعشرين عاما من الحكم توفي الامام ناصر بن مرشد في ابريل 1649 وعقب وفاته مباشرة انتخب ابن عمه سلطان بن سيف الأول . وعلى الرغم من أن فترة حكم الامام ناصر كانت ذات طبيعة عسكرية وحربية إلا أنه لم يحاول انشاء جيش دائم أو مؤسسات دائمة ، فالإمام كان مستندا على القوى القبلية التي يقودها العلماء. ولم يبدأ اليعاربة في تكوين مؤسسات دائمة لدولتهم إلا عقب تحرير مسقط خلال عهد الامام سلطان بن سيف بن مالك عام 1650.

وقد اعتبر البرتغاليون وفاة الامام ناصر فرصة سانحة أمامهم كي يتملصوا من المعاهدة التي وقعرها عام 1648، حيث إنهم اعتبروها في غير صالحهم لم مايلز 1966، 204)، فرفضوا دفع الجزية ومنعوا العمانيين من الوصول الى مسقط للتجارة ، وهذا ما حدا بالامام الجديد الى عقد العزم عل الاعداد لحملة قاضية على البرتغاليين في مسقط ، حيث استطاعت قوة عظيمة من العمانيين يقودهم الامام نفسه تحرير مسقط في يناير من عام 1650، مما أدى الى طرد البرتغاليين من آخر مواقعهم في الجزيرة العربية . وعلى الرغم من انهم حاولوا مرارا استرداد مسقط خلال الأعوام 1652،1669، 1993، 1699 الا أن جميع هذه المحاولات باءت بالفشل ، وظلت البحرية العمانية صاحبة اليد الطول في المنطقة لفترة طويلة من الزمن .

مرحلة الاستبداد

يمكن اعتبار السنين الأولى من حكم الامام سلطان بن سيف الأول الى حد كبير استمرارا لمرحلة الظفر، ذلك أن الامام كان يتمتع بنفس السمات التي ميزت الامام ناصر، وانتهج نفس سياسته ، ففي الايام الأولى من عهده ، زار عمان مبعوثان هولنديان لاستشفاف امكانية التوصل الى اتفاقية بين شركة الهند الشرقية وعمان ، وقد وصفه المبعوثان بأنه انسان عادي مثله مثل أي جندي أو فلاح ، وأنه ما كان يتخذ أي قرار دون استشارة من يحضر مجلسه الذي كان مسموحا للجميع بحضوره (سلوت 1993، 191). غير أن طرد البرتغاليين من مسقط أدخل عناصر جديدة دخلت بها دولة اليعاربة المرحلة الثانية من مراحل تطور الدول وهي مرحلة الاستبداد. وكان أهم تطور في هذا الطريق هو مشاركة العمانيين في التجارة العالمية ، ودلالة ذلك هي أن اقتصادهم قد انتقل من العمران البدوي الى العمران الحضري. وقد استلزم مثل هذا التطور اقامة مؤسسات للدولة حيث تم تكوين جيش وأسطول وجهاز حكومي كما تم تنظيم العلاقات بين عمان والقوى الاقليمية والدولية . وتتميز فترة حكم الامام سلطان بن سيف الأول بأنها هادئة نسبيا على الصعيد الداخلي (ما يلز 1966، 213). ففي عصره دداعتمرت عمان ، واستراح الرعية ، وزهرت البلاد، ورخصت الأسعار، وصلحت الشمار" (السالمي 1934، ج 7، 45).

وكانت موارد الدولة حتى ذلك الوقت تعتمد على الغنائم والزكاة وقليل من ايرادات بيت المال (ولكنسون 1987، 118). الا أن التوسع في التجارة أعفى الدولة تدريجيا من الاعتماد على الغنيمة والزكاة باعتبارهما المصدرين الأساسيين للدخل ، وهذا ما مكن الامام الجديد من تكريس جهوده في تنظيم الدولة ، حيث أنشا نظاما بيروقراطيا يتمتع بمساندة قوى عسكرية تتكون من جيش مستديم يتكون من خمسة آلاف محارب ، وكان من دلالات هذه الخطوة انه استبعد شيوخ القبائل ورؤساءها من الادارة (سلوت 1993، 195). وأصبحت الدولة معتمدة على ايراداتها، حتى ان دولة كتلك لم تكن تختلف اختلافا كبيرا عن الدول التي ظهرت في أوروبا في تلك الفترة تقريبا. وقد كان النظام البيروقراطي الذي أنشأه الامام مستقلا عن القيادات القبلية ، وبإنشاء الجيش الدائم تمكن الامام من جذب الانصار والمؤيدين لكبح أي محاولة تهدد سلطة الدولة . أضف الى ذلك أن الامام قد وضع أسس قوة بحرية قوية ، وهذا ما ساعد في توسيع نفوذ الدولة العمانية الى أجزاء كبيرة من المحيط الهندي.

وقد أعطى الامام الاقتصاد والمال اهتماما كبيرا، حيث استمر في تشجيعه التجارة عبر كثير من الاجراءات ، ومنها إعفاء التجار الهنود من الجزية التي تفرضها الدولة الاسلامية على غير المسلمين بدلا من الزكاة )السالمي 1934، ج 2، 67لم . اضف الى ذلك أنه عين وكيلا في مسقط مسؤولا عن الأمور المالية والتجارية ، وهو غير منصب الوالي الذي كان مسؤولا عن الأمور المدنية والادارية (سلوت 1993، 187). وفي هذا السياق قام الامام بفرض زيادة مهمة على الرسوم الضريبية على التجارة في مسقط . ولم يكن هدف هذه الزيادة منع مسقط من أن تصبح هدفا لأطماع الانجليز والبرتغاليين كما اعتقد سلوت (سلوت 1993، 181)، بل كان الهدف هو ايجاد موارد مالية تسمح للامام بتمويل ادارة المؤسسات التي أقامها. لقد كانت كل هذه الترتيبات الادارية والعسكرية والاقتصادية أدلة قوية على مرحلة الاستبداد التي وصفها ابن خلدون .

وكرد على محاولات البرتغاليين لاغلاق السواحل العمانية واستيلائهم على سفن عمانية قام الامام بتحويل المعركة معهم من البر الى البحر وبهذا ضرب في عمق امبراطورية البرتغاليين التجارية (ولكنسون 1987، 48) . ففي عام 1655 شن الأسطول العماني هجمة على بومباي ، كما ظهر في نفس الفترة في ممباسا لتأمين السكان المسلمين الذين استنجدوا بالامام ضد البرتغاليين . وفي الهجمة على ممباسا استولى العمانيون على ثلاث سفن برتغالية مما ساعد في تقوية اسطولهم البحري (هل 1996، 314). ومنذ ذلك الحين ، أصبحت المواني، البرتغالية مثل دير وياسين وسورات أهدافا للحملات العمانية . وقد أدت هذه الهجمات الى غنائم كبيرة استغلها الامام في مشاريع زراعية وعسكرية مثل فلج بركة الموز وقلعة نزوى.

وقد كان تحرير مسقط من البرتغاليين فاتحة عهد جديد في العلاقات بين عمان والقوى الأخرى في المنطقة على أساس المصالح المتبادلة . ففي عام 1651 عرض الامام سلطان على الهولنديين طريقا بريا لتجارتهم مع البصرة (ما يلز 1966، 211). وكان مثل هذا العرض في غاية الأهمية بالنسبة للهولنديين الذين كانوا يحاولون التملص من الرسوم الضريبية العالية التي فرضها شاه فارس على تجارة الحرير. غير أن العلاقات بين الجانبين العماني والهولندي سرعان ما تدهورت في أواسط العقد السادس من القرن السابع عشر حينما حاول الهولنديون التآمر مع الفرس ضد العمانيين ، وخلال الفترة ذاتها، زاد الانجليز الذين كانوا في منافسة مع الهولنديين من اتصالاتهم مع عمان ، حيث تم في عام 1659 توقيع اتفاقية بين الامام سلطان بن سيف الأول والكولونيل رين فورد ممثل شركة الهند الشرقية الانجليزية . وقد نص الاتفاق على أن يعطي العمانيون أحدى قلاعهم في مسقط للانجليز الذين سيبقون حولي مائة من جنودهم هناك ، غير أنه بعد وقت قصير رأى الانجليز أن الاتفاق ليس كافيا لتحقيق طموحاتهم في الخليج ، بينما رأى الامام خطورة اعطاء مثل هذا التنازل على سيادة عمان ولذا لم يدخل الاتفاق حيز التنفيذ (السيار 1975، 169).

يرى بعض الباحثين أن الامام سلطان بن سيف الأول قد شكل سابقة لمن خلفه من الائمة بدخوله في النشاط التجاري (ما يلز 1966، 213) وتشير بعض المصادر العمانية أيضا الى انتقاد البعض عليه تعيينه وكلاء كانوا مشتركين في أنشطة تجارية نيابة عنه (سرحان 1984، 55)وتسند مثل هذه الآراء فكرة أن العصبية لم تكن في هذه المرحلة العامل الأوحد وراء التوسع العماني في شرق افريقيا والهجمات التي شنها العمانيون على السواحل الفارسية والهندية . وفي الواقع أن العامل الاقتصادي وراء هذا التوسع كان جليا، حيث إنه في أواخر العقد السابع من القرن السابع عشر حل قحط عظيم على مناطق من الجزيرة العربية ، ومنها عمان ، أجبر العمانيين على البحث عن مصادر رزق خارج حدودهم الجغرافية . وفكرة القحط الذي حل على عمان تبدو أكثر واقعية من فكرة ويسو التي ادعت أن التوسع العماني كان وراءه مصلحة اليعاربة في نيل طريق مضمون لأسواق الرقيق (ويسو 1986، 119) . وفي الواقع أن السبب المباشر لهجمات اليعاربة في شرق افريقيا كان الرد على دعوة من مسلمي تلك المناطق لتحريرهم من اضطهاد البرتغاليين ، وليس لاسترقاقهم .

الفراغ والدعة

استمرت المرحلة الثانية من حكم اليعاربة حتى أيام الامام بلعوب الذي انتخب بعد وفاة أبيه سلطان . وبإنتخابه دخلت الدولة المرحلة الثالثة وهي مرحلة الفراغ والدعة . وتميز حكم الامام بلعوب بن سلطان بمحاولاته في إدخال الفنون المعمارية وتطويرها، وتتمثل هذه المحاولات جلية في بناء القصر الرائع في جبرين الذي انتقل اليه الامام من نزوى. وأسس الامام أيضا مدرسة داخل القصر، وأشرف شخصيا على طلبتها في كثير من الأمور، منها اختيار "الأطعمة المقوية للافهام والذكاء" (السالمي 1934، ج 2، 83). غير أن هذا لا يعني أن التعليم قد وصل في عهد بلعوب الى ذررته التي بلفها في الفترة من القرن الرابع وحتى القرن التاسع . وتشير الأدبيات العمانية الى أن معظم المناقشات التي تمت في عهده كانت تدور حول مواضيع هامشية ولم يبرز في عهده علماء كأولئك الذين كانوا في السابق .

وقيما يتعلق بالعلاقات بين العمانيين والبرتغاليين ، يجمع المؤرخون على أن الامام بلعوب اتخذ سياسة مختلفة عن الامامين اللذين سبقاه ، فبعد توليه الحكم بوقت قصير وقع الامام معاهدة مع البرتغاليين سمح لهم فيها بفتح محطة تجارية لهم في مسقط ، وسمح لهم أيضا بتعيين وكيل لهم هناك ، يدفع الامام مرتبه ، بينما يستمر البرتغاليون في دفع الرسوم الضريبية المعتادة . كذلك رخص الاتفاق للبرتغاليين أن يشيدوا قلعة في خصب ، في شمال عمان ، وسمح للسفن العمانية بالتوقف في المواني، البرتغالية في المنطقة (سلوت 1993، 216). ويعطي الباحثون رأيين مختلفين فيما يتعلق بالأسباب التي أدت الى توقيع الاتفاقية ، فولكنسون يرى أن الحصار البحري الذي فرضه البرتغاليون على عمان أجبر الامام على توقيع هذه الاتفاقية (ولكنسون 1987، 70). أما سلوت فيرى أن بلعوب كان يسعى الى اقامة صلات أقوى مع التجار الأجانب منذ عهد أبيه ، حينما كان هو واليا على مسقط ، وقد كان الاثنان على خلاف في هذا الموضوع (سلوت 1993، 196). وقد رأى الكثيرون أن الاتفاق لم يكن في صالح العمانيين . فأسهم في اضعاف وضع بلعوب السياسي المهزوز أصلا، حيث إن توليه الامامة بعد وفاة أبيه كان الى حد ما يتعارض مع مبدأ الاباضية

القائل بعدم توارث الامامة . ونتيجة لهذا فقد كان من اليسير تحدي سلطته فقد واجه مقاومة قوية قادها أخوه سيف ، ودخل الاثنان في أتون حرب دموية انتهت بوفاة بلعوب في قصر جبرين الذي حاصره معارضو" عام 1692. وخلال الحرب اعتبر كثير من قادة القبائل أن نشاط سيف

وفاعليته يجعلانه أكثر تأهلا لمنصب الامام ، ولهذا بايعوه بالامامة . بينما اعتبر فريق آخر هو فريق العلماء أن تعيينه إماما كان غير دستوري، ولذا فقد أعطوا البيعة لسيف تقية ، حيث إنه هدد بمعاقبة مخالفيه . ولهذا لم يسانده العلماء حتى وفاة أخيه ، حين أعلن التوبة كما طلبوا منه (السالمي 1934، ج 2، 97).

وعلى الرغم من أن عهد سيف بن سلطان يمكن أن يعتبر على انه استمرار لمرحلة الفراغ والدعة على المستوى الداخلي ، فإنه لم يكن كذلك على المستوى الخارجي، فقد تمتع العمانيون في الداخل بثبار الازدهار الاقتصادي، بينما أحيا الامام سياسة أبيه في محاربة البرتغاليين في الخارج . غير أن الرخاء الذي عاشا العمانيون خلال عهد الامام سيف كان مختلفا عن ذلك الذي كان في عهد أخيه . فعوضا عن تشييد المروح العظام ، ركز الامام الجديد جهوده على الأعمال العامة ومشاريع 0التنمية ، وخصوصا في القطاعين الزراعي والتجاري. وقام بجهود عظيمة في تطوير نظام الري عن طريق انشاء أو ترميم 17 فلجا. واشتهر أيضا بإدخاله نباتات جديدة في عمان كالورس ، والزعفران والنارجيل وخلايا النحل . وقد أدى استصلاح الأراضي في عهده الى زيادة نصيب بيت المال وملك الدولة الى ثلث حقوق الأرض والماء في عمان . وفي المجال التجاري يقدر البعض ان عمان كانت تملك من 24الى 28 سفينة خلال عهده (السالمي 1934، ج 2، 108). وقد استخدمت هذه السفن لأغراض تجارية وعسكرية معا. وقد سمح الازدهار الذي وصلته عمان في عهد الامام سيف بن سلطان بإدخال عملة وطنية تتكون من ثلاث وحدات هي الفلس والغازي والمحمودي (ابن رزيق 1996-129).

وقد رأى بعض الباحثين من أمثال مايلز وولكنسون وباكر خطأ أن المتلكات التي نمت في عهد الامام سيف بن سلطان كانت ملكا شخصيا له ، وبناء على هذا فقد زعم هؤلاء الباحثون انه سمى لذلك بقيد الأرض الذي ترجموه الى الانجليزية بـ Master of Laud صاحب (أو مالك ) الأرض ، وهو اتهام يعكس جهلا باللغة العربية ، بالاضافة الى أنه لا يوجد أي مؤرخ أو عالم عماني رأى هذا الرأي. فالسالمي ، وهو أحد العلماء اضافة الى كونه لفريا ومؤرخا ، يرى أن "قيد الأرض " هو من يسيطر على مملكة بقوته ، ويحكم البلاد بالعدل (السالمي 1934، ج 2، 97). أي أن قيد الأرض ما هو إلا تعبير مجازي عن السلطة والقوة ، ولا يحتمل بأي وجه من الوجوه معنى الملكية الشخصية . وهذه الرؤية لا تسندها سيرة الامام نفسه فحسب ، بل أيضا من الأدب العربي ، وعرض هذه الأدلة لا يدخل في مجال دراستنا هذه . إلا انه تجدر الاشارة هنا الى أن التطور الاقتصادي الذي عاشته عمان في عهده كان نتاجا لجهود كل من الدولة والمستثمرين في القطاع الخاص ، وقد وجهت سياسات الامام بعض الاعيان الى لعب دور في الاقتصاد، وبهذا ظهرت فئات من ملاك السفن وملاك الأراضي. وكان من هؤلاء حمير بن منير النبهاني الذي رمم فلجا في ازكي يدعى قسوة خلال الفترة ذاتها (ولكنسون 1980، 128). أما التجار من أمثال محمود بن حسن (سلوت 1993، 258) واحمد بن سعيد فقد أصبحوا من كبار ملاك السفن .

واضافة الى جهوده في المجال المدني فقد كرس قيد الارض جهوده في تعزيز القوة البحرية التي أسسها أبوه . وعلى الرغم من اختلاف المؤرخين في تقدير الامكانية الحقيقية لقوته ، فإنهم يجمعون بأن عمان أصبحت أعظم قوة بحرية في كل سواحل المحيط الهندي (ما يلز1966، 219). وف هذا الخصوص ، لم يكن الامام سيف قانعا بتملك السفن التقليدية فقط ، لكنه جهز أسطولة بسفن من الطراز الأوروبي. ففي حوالي عام 0 170 توصل الامام الى اتفاق مع ملك بيجو(في أسفل بورما) سمح للعمانيين ببناء سفن في موانيء تلك الدولة (ولكنسون 1987، 49). وفي عام 1705 زار الرحالة الانجليزي لوكي مسقط ، وذكر أن بعض السفن العمانية كانت تبنى في سوردت وفينهر الا نوس في مصانع لا يعلم عنها الانجليز كثيرا (ما يلز 1966، 224). وببداية القرن الثامن عشر ، قدر بأن الاسطول العماني الذي هاجم موانيء البرتغاليين في الهند كان يتكون من حوال تسعين ألف حصان (السالمي 1934، ج 2، 106)، وقد وصل الجند العمانيون في 0 10 سفينة كانت أكبرها تحمل 87 مدفعا بينما كانت الصغيرة منها تحمل من 8الى 10 مدافع (عمان في التاريخ 1995، 790). وعلى الرغم مما يبدو من مبالغة في تقدير القوة العمانية ، الأ أن هذه التقديرات تشير الى المدى الذي وصلت اليه تلك القوة في تلك الفترة من التاريخ . ويتطابق تكوين تلك القوة العظيمة مع وصف ابن خلدون لمرحلة الفراغ والدعة حين يأخذ الحاكم في تأسيس قوة عسكرية كبيرة كي "يباهي بهم الدول المسالمة ويرهب الدول المحاربة ".

وقد استغل الامام سيف بن سلطان هذه القوة لتعزيز دور عمان في المحيط الهندي. فبعد وقت قصير فقط من توليه الامامة هاجم المصنع البرتغالي في كنج في الساحل الفارسي ، منهيا بذلك اتفاق السلام الذي وقعه أخوه معهم (سلوت 1993، 216) . وقد كان هذا الحدث بداية هجوم العمانيين الواسع للسيطرة على الخطوط التجارية في المحيط الهندي، التي كانت لعهد طويل تحت سيطرة البرتغاليين . وقد اشترط الامام على الشاه منحه نصف الموارد الضريبية ، وهي نفس النسبة التي كان يتمتع بها الأوروبيون . وفي المقابل كان على العمانيين أن يمركزوا عشرين من سفنهم لحماية الساحل الفارسي (ولكنسون 1987، 48).

ويعتبر بعض الكتاب الانجليز الانشطة البحرية العمانية في المنطقة ضربا من القرصنة والعدوان والغزو الأجنبي (لورمير 1915، ج 1، 0 40). وتناقض مثل هذه الادعاءات حقيقة أن اليعاربة كانوا حريصين على تأمين طرق تجارة آمنة في المحيط الهندي، تلك الخطوط التي كانت قد تأثرت بفعل اغلاق البرتغاليين للمواني، العمانية ويفعل نشاطات القراصنة الأوروبيين الذين وصلوا الى المنطقة خلال تلك الفترة 1690- 1720 (ما يلز 1966، 227). وما كانت هجمات الامام على بعض امارات المغول في الهند وعلى بعض المواني، البرتغالية الا لتأمين طرق التجارة . وكان أعظم انجاز في هذا السياق هو الاستيلاء على قلعة يسوع في سباسا عام 1698. ففي هذه الحملة بعث الامام اسطولا من سبع سفن تحمل ثلاثة آلاف محارب ، كان جلهم من المرتزقة البلوش ومن شمال الهند، تحت قيادة «علي الكبير» الأمير البلوشي ، واستطاعت هذه الحملة الاستيلاء على القلعة بعد حصار طويل استمر ثلاثة أشهر (هل 1996، 321). وفشلت كل جهود البرتغاليين في استرداد القلعة حتى عام 1728حينما استغلوا الحرب الأهلية التي حلت بعمان لاسترداد القلعة ، غير أنهم سرعان ما طردوا منها ثانية بعد ذلك بوقت قصير. وقد وصف حصار قلعة يسوع وطرد البرتغاليين من ممباسا على أنه نقطة تحول في دور القوة البحرية العمانية ، حيث حولت هذه الأحداث هذه القوة من مجرد قوة شن غارات الى قوة توسعية ، وكان تأسيس الإدارة العمانية في ممباسا دليلا على هذا التغير (شريف 1987، 20). والجدير بالذكر هنا أن استخدام الامام قيد الأرض المرتزقة يتماشى مع نظرية ابن خلدون التي تقول انه عند وصول الدولة الى مرحلتها الثانية فإن الحاكم يبدأ في الاستعانة بغير ابناء جلدته (ابن خلدون 1996-171).

وبعد سقوط ممباسا استولى الامام سيف على بمبا وزنجبار وباتا وكلوة ، طاردا بذلك البرتغاليين من كل مواقعهم على طول الساحل الممتد شمال موزمبيق . وعلى الرغم من هذه الانتصارات العظام ، الا أن الامام سيف ، ومن خلفه في الامامة ، امتنعوا عن اقامة إدارة عمالية مركزية في شرق افريقيا (ما يلز .1966-221)فقد تركوا سكان تلك المناطق يديرون أمورهم بأنفسهم ، ولم يتم تعيين ولاة في كل الساحل الشرقي لافريقيا ، باستثناء ممباسا، حتى مطلع القرن التاسع عشر، ويدعي بعض الباحثين مثل السيار بأن قيد الأرض رفض تأسيس امبراطورية عربية تشمل عمان وشرق افريقيا بسبب ضعفه على المستوى المحلي (السيار 1975، 101)، غير أن مثل هذا الادعاء ينقصه الدليل ، ولا يوجد ما يشير الى أن قيد الأرض واجه أي تحد في عمان بعد وفاة أخيه بلعوب . بل على النقيض فقد وصف قيد الأرض بأنه "أعظم أمراء اليعاربة ، ولم تر عمان مثيلا له لا قبله ولا بعده" (ما يلز 1966، 225). وعلى الرغم من صحة أن قيد الأرض لم يؤسس ادارة دائمة في معظم الساحل الشرقي لافريقيا إلا أنه كان يأخذ جزية سنوية من سكان تلك المناطق في مقابل حمايتهم من البرتغاليين وهذا يستلزم ان المنطقة كانت فعليا تحت سيطرته .

ومع انتهاء دور البرتغاليين في المنطقة حاول الفرس وراثة ذلك الدور، فتآمروا مع البرتغاليين وفي وقت لاحق مع الانجليز والهولنديين والفرنسيين . وقد حذر الامام تلك القوى الأوروبية من المغامرة بتقديم العون للفرس . وقيما كان الانجليز والهولنديون مترددين في تقديم مثل ذلك العون ، علم العمانيون أن الفرس يعدون خطة تآمروا فيها مع البرتغاليين لمهاجمة مسقط ، ولهذا بادأهم الامام قيد الأرض بحملته على كنج في عام 1695، حيث استولى العمانيون على كثير من السفن الفارسية والبرتغالية (عمان في التاريخ 1995، 02 4). واستمر الفرس في جهودهم المناوئة لعمان وبعثوا بوفد الى فرنسا خلال عهد لويس الرابع عشر، حيث توصل الجانبان الى اتفاق سري وافق فيه الفرنسيون على تقديم العون للفرس للاستيلاء على مسقط ، غير أن عمان ظلت رغم ذلك القوة المسيطرة في المنطقة ، وامتنع الفرس من المغامرة في مهاجمة العمانيين بسبب المشاكل الداخلية في فارس وبسبب صراعهم مع افغانستان وروسيا (السيار1975-164 ).

وقد ساعد التطور في القطاع الزراعي اضافة الى زيادة مردود التجارة الدولية في تجميع ثروة كبيرة ، أصاب الثراء جراءها بعض فئات المجتمع العماني الذين تعاونوا مع اليعاربة ، فتشجع هؤلاء على الاحتفاظ بالامامة وبهذا تم تدريجيا التخلي عن المبدأ الاباضي بعدم توارث الامامة .

القنوع والمسالمة

وصف عهد سلطان بن سيف الثاني الذي استمر ثماني سنوات بأنه عهد هدوء داخلي ورخاء وتحرر من العداءات القبلية ، وحسب المبادي، الاباضية فإن الامام سلطان بن سيف الثاني يعتبر اماما ضعيفا، ذلك ان العلماء وضعوا كثيرا من الشروط التي تحد من حريته في القيام بأي فعل دون مشورتهم . كذلك رفض العلماء اعطاءه البيعة حتى يعلن التوبة من الخطايا والذنوب التي ارتكبها في سابق أيامه ، وذلك حين وقف مع أبيه الامام سيف بن سلطان الأول في الحرب التي دارت بين الأخير وأخيه بلعوب في أواخر العقد الثامن من القرن السابع عشر (السالمي 1934، ج 2، 111).

واشتهر الامام سلطان بن سيف أيضا بكونه أقل طموحا وصراحة ومغامرة من أبيه (مايلز، 1966، 238). وهذه الصفات تجعلنا نصف فترة حكمه بمرحلة القنوع والمسالمة حسب نظرية ابن خلدون . فعلى الرغم من أن سلطان قد ورث قوة بحرية هائلة ، فإنه وهي بانجازات سابقيه ، ولم يقم الا بمحاولات قليلة لتوسيع سلطته أو لتحدي القوى الأوروبية في المنطقة ، وخصوصا بعد الفارة الفاشلة على سفينة برتغالية في سوردت ، والتي أدت الى كارثة ألمت بالجانب العماني. وبدلا من ذلك فقد قام بتحويل دفة جهوده لمواجهة الفرس حيث قام بهجمات عديدة عليهم بمساعدة القبائل العربية في الخليج . وبلغت جهوده أوجها في حملته البحرية على البحرين ، حيث استغل الاستياء والانقسامات في فارس تحت حكم الشاه حسين ليسترد الجزيرة عام 1718. غير أن العمانيين ما كان باستطاعتهم الاحتفاظ بها لفترة طويلة ، حيث ساءت العلاقات بينهم وبين البحرينيين جراء اختلاف عل كيفية تقسيم الموارد الطبيعية مثل اللؤلؤ، وهو اختلاف أدى ببعض البحرينيين الى مغادرة بلادهم ، ونتيجة لهذا وجد العمانيون أنفسهم غير قادرين على استغلال تلك الموارد وما كان أمامهم الا مغادرة الجزيرة بعد وقت قصير من وصولهم اليها (السيار 1975، 158).

مرحلة التبذير والاسراف

على الرغم من أن عهد الامام سلطان بن سيف استمر لمدة تقل عمن سبقوه فإن الدولة اليعربية شهدت مرحلتين من مراحل حياتها في عهده ، فإضافة الى مرحلة القنوع والمسالمة التي تحدثنا عنها سابقا، بدأت الدولة اليعربية مرحلة الاسراف والتبذير وهي المرحلة الخامسة في تطور الدول حسب نظرية ابن خلدون ، وأبرز الأدلة على دخول هذه المرحلة هو أن الامام أفرغ خزانة الدولة في بناء حصن الحزم الذي أصبح مركز حكمه وسكن فيه حتى وفاته في عام 1719 .وفي بنائه لهذا الحصن لم يبدد الثروات التي جمعها من سبقوه فحسب ، بل انه اقترض مبالغ كبيرة من الوقف تقدر بخمسمائة فراسلة (وحدة قياس وزن كانت مستخدمة في عمان ) من الفضة ( السالمي 1934، ج 2، 111). وقد اعتبر الكثيرون انفاق هذه المبالغ الكبيرة ضربا من التبذير والاسراف . وكما هو حال عمه بلعوب تفاقم الوضع السياسي للامام وذلك لأن كلا من سلطان وبلعرب ورثا الامامة ولم ينتخبا بالطريقة المعتادة . وبذا بدأ العلماء في التساؤل حول صلاحية ذلك الوضع في وقت تشهد فيه عمان تمازجات وتداخلات اقتصادية مع حضارات أخرى (الن ، 1987، 38). وهكذا فإنه في هذه المرحلة ، أصبحت العصبية التي جاءت باليعاربة الى الحكم في أضعف مستوياتها ، وبوفاة سلطان بن سيف الثاني أصاب الهرم الدولة اليعربية ،ودخلت عمان فترة ثورة اجتماعية بغية امتصاص نتائج اندماجها بالاقتصاد العالمي.

ان اندماج العمانيين في التجارة البحرية قد أفرز لاعبين جديدين في المجال السياسي وأوجد قيما جديدة داخل المجتمع الذي كانت ممراه قبلية الطابع ، فبالأضافة الى العلماء وقادة القبائل الذين كانوا القوى المسيطرة لقرون عديدة فقد ظهرت قوى جديدة مثل التجار الاثرياء وملاك الأراضي والفلاحين . ومن الأمور الجديرة بالملاحظة ذلك التشابه بين هذا الوضع والوضع الذي ظهر في عمان خلال الفترة من أواخر القرن الثالث الهجري _ التاسع الميلادي، حين ارتبطت عمان ارتباطا قويا بالتجارة العالمية ، وهو ما انتج صراعا داخليا أدى الى الاحتلال العباسي وانهيار الامامة الثانية . وبعبارة أخرى فإن حالة عمان هي مثل حالات دول أخرى، حيث ، كما يرى سلامة (1987،211) يؤدي الارتباط بالنظام الرأسمالي العالمي الى تأثير مدمر على كل اشكال العصبية .

لقد أدت وفاة الامام سلطان المفاجئة الى انقسام العمانيين الى معسكرين حول من يخلف الامام . فقد رغب عامة الناس ، الذين يبدو أنهم كانوا عرضة لتأثير بعض قادة القبائل وملاك الأراض ، في أن يخلف الامام ابنه سيف البالغ من العمر اثني عشر عاما وسماه البعض بسيف الصغير، أو سيف الثاني، فيما أيد العلماء وأخرون غيرهم انتخاب مهنا بن سلطان بن ماجد،وهو أيضا ينتمي الى الأسرة اليعربية ، وعلى الرغم من أن العلماء كانوا يدركون أن مهنا كانت تعوزه المعرفة والعلم اللذن يتطلبهما منصب الامام ، إلا أنهم اعتقدوا أنه كان أكثر كفاءة من سيف الثاني، الذي كان غير مؤهل للامامة حسب التقاليد والمبادي، الاباضية حيث انه لم يصل الى سن البلوغ بعد. وبعد الكثير من الشد والجذب اعترف العامة من سكان الرستاق بسيف إماما، غير أن العلماء عارضوا هذا التعيين ، وأقروا الامامة لمنافسه مهنا الذي احذوه الى قلعة الرستاق ليتولى مقاليد الأمور وادارة البلاد. وقد أدى هذا الى صدع خطير بين العلماء وقادة القبائل ، وكان له تأثيره الكبير على المؤسسات السياسية في عمان . وعندما تولى مهنا السلطة قام بالعديد من الخطوات السياسية والاقتصادية بغية اصلاح ما حدث في الماضي من سوء تصوف . وكان جليا أن هذه الخطوات هدفت الى احياء عصبية اليعاربة التي أصابها الوهن ، أو الى خلق عصبية جديدة عن طريق استرضاء كل صفوف الناس . وفي هذا الخصوص قام الامام مهنا بالغاء منصب الوكيل الذي كان الامام سلطان بن سيف الأول أول من أدخله بعد تحرير مسقط ، حيث إن هذا المنصب قد عرض الائمة لسهام النقد فاتهموا باستخدام الوكلاء لمصالحهم الشخصية . وقام الامام مهنا أيضا بإلغاء الرسوم الضريبية وخفف من الضرائب على السكان حتى غير المسلمين منهم (ولكنسون 1987، 223).

غير أن هذه السياسات الاصلاحية لم ترض مناوئيه الذين ما فتثوا يحاولون الاطاحة به . فبعد عام من توليه السلطة وبينما كان الامام بعيدا عن مركز حكمه في الرستاق ، قامت قوات المعارضة بالتقدم من داخلية عمان ناحية مسقط فاستولوا على المدينة وطردوا واليها منها. وما إن سمع الامام بهذا حتى عاد الى الرستاق ليعد العدة لاسترداد مسقط ، غير أن سكان الرستاق الذين كانوا في صف سيف الثاني ثاروا ضده وأجبروه على الخروج من القلعة ثم قتلوه . وما إن حدث ذلك حتى برز أحد أقرباء مهنا يدعى يعرب بن بلعوب ، وادعى بأنه لا مصلحة شخصية له في تولي الامامة ، حيث إنه مازال يعترف بسيف الثاني اماما شرعيا. غير أنه بعد عام استطاع اقناع القاضي عدي بن سليمان لاعطائه البيعة ، فقام أهل الرستاق ثانية بمعارضة هذا التعيين لتفضيلهم سيفا. ولهذا اتصلوا بعم سيف بلعوب بن ناصر، ليتولى قيادة الامامة نيابة عن ابن أخيه . وبعد فترة قصيرة من الصراع تمت محاصرة يعرب في قلعة نزوى وأجبر على الوصول الى حل وسط مع خصومة ، يترك بموجبه قلعة جبرين خاسرا بذلك مركز سلطته . ووفقا لذلك تمت اعادة انتخاب سيف الثاني اماما للمرة الثانية ،أما بلعوب بن ناصر فقد صار وصيا ونائبا عن الامام في عام 1721. وبسبب كونه وصيا بيده السلطة الحقيقية حاول بلعوب تعزيز سلطته وتوصل الى اتفاق تحالف مع قبيلة بني هناءة ، وهو تحالف اشتركت فيه فيما بعد قبائل أخرى. وبعد شهرين من توليه زمام السلطة بدا بلعوب بن ناصر في مواجهة تحديات خطيرة من جانب محمد بن ناصر القائد الغافري الذي ادعى أن بلعوب قد أهانه . فقام بالاتصال بالقبائل البدوية في شمال عمان منها النعيم وبني تتب وقبائل أخرى. وقد أثمرت اتصالاته مع هذه القبائل في الوصول الى تحالف أيده الامام المخلوع يعرب ، ضد الوصي بلعوب ، وبهذا ظهرت عصبية جديدة داخل الأسرة اليعربية ذاتها.

ان ظهور هذين الحلفين يعني أن المجتمع العماني قد انقسم الى قطبين : القطب الهنائي، أو الهناوية ، تحت قيادة خلف بن مبارك الهنائي، والقطب الغافري تحت قيادة محمد بن ناصر الغافري. ومنذ ذلك الحين أصبح هذان الحلفان يسيطران على الحياة الاجتماعية والسياسية في عمان . وعلى الرغم من أن الحلفين قد يبدوان وكأنهما قائمان على الاختلاف حول دستورية امامة سيف الثاني، فإن كلا من الحلفين كانت له أهدافه الخاصة به ، فحلف كان يسعى الى الغاء العقوبات التي فرضت على قبيلته منذ عهد الامام ناصر بن مرشد الذي صادر بعض ممتلكاتهم ومنعهم من حمل الأسلحة . أما محمد فقد كان يهييء نفسه للوصول الى مقاليد السلطة في عمان .

واذا أمعنا النظر الى ما ذكرنا من حقائق فإنه يتجلى لنا أن آخر عشرين عاما من الدولة اليعربية تتماشى مع الرؤية

الخلدونية ، فظهور الحلف الغافري يظهر على نحو كبير بروز عصبية جديدة داخل الأسرة اليعربية لم تكن غديتها الاساسية هي الوصول الى الملك ، على الرغم من حدوث ذلك لفترة قصيرة ، بل لتقديم العون للعصبية الحاكمة . وكان هذا واضحا في الدور الذي لعبه بنو غافر منذ ظهور الحلفين القبليين حتى الانهيار الأخير للدولة اليعربية في عام 1744. ثم تدهورت العلاقة بين محمد بن ناصر وبلعرب ودخل الاثنان في حرب دموية امتدت رخاها لتشمل كل مناطق عمان . وخلال هذه الحروب كان محمد بن ناصر يحمل معه سيف الثاني أينما ذهب ، مدعيا أن الخلاف ليس الا مع بلعوب وأنه لا يطمح لأي مكسب شخصي في الامامة ، ذلك أنه مازال معترفا بسيف شرعيا، غير أنه بعد عامين من الحرب ، استطاع محمد بن ناصر أن يكسب البيعة فأصبح اماما في أكتوبر 1724. ويرى بعض الباحثين ان العلماء منحوا محمد بن ناصر البيعة تقية خوفا من المزيد من اراقة الدهاء (السالمي 1934، ج 2، 130). غير أن وصول محمد بن ناصر الى السلطة قد عمق الانقسام القبلي ووسع الحرب بين العمانيين . وخلال الحرب قتل الكثير من بينهم محمد بن ناصر وخصمه خلف بن مبارك اللذان قتلا في صحار في مطلع ابريل عام 1728.

وبوصول سيف الثاني الى سن الثامنة عشرة ، استغل بعض مؤيديه فرصة موت محمد بن ناصر فقاموا بانتخاب سيف اماما للمرة الثالثة ، على أساس أنه قد توافر لديه كل شروط الامامة . وفي هذه المرحلة اعتبر سيف نفسه اماما مكتمل الشروط وبدأ عهده بالطلب من العالم الصبحي زيادة دخله الى نفس ما كان يأخذه محمد بن ناصر. غير أن سيف لم يحصل على بغيته على أساس أن أبده واجداده كانوا يحصلون على نفس المبالغ ، وأنه لم يفعل ما يجعله في منزلة أفضل منهم تبرر هذه الزيادة في الراتب (السالمي 1934، ج 2، 134). وعلى الرغم من أن سيف فشل في توسيع رقعة سيطرته على كل أجزاء عمان الا أنه أظهر بعض الاهتمام بأمور التجارة البحرية ، حيث كرر دعوته للانجليز في بومباي للاتجار مع عمان ، واستقبل أيضا مبعوثا فارسيا اريسو 1989، 40). ويبدو أن مثل هذه الاتصالات مع القوى الخارجية قد زادت من هشاشة وضعه المزعزع أصلا، فاتهم بسلوكيات لا تقبلها الرعية ولا تناسب موقعه كإمام (السالمي 1934، ج 2، 139). ولذا فإن حكمه لم يستمر طويلا ، فخلع وعين مكانه بلعوب بن حمير في عام 1732.

وقد رفض سيف قبول هذا الخلع واستمرت سلطته على بعض مناطق البلاد ،وهو ما أدى الى تجدد الحرب بين الحلفين الهندوي والغافري، حيث اعتمد سيف على الحلف الأول بينما اعتمد بلعوب على الثاني. وخلال الحرب اتصل سيف بحاكم سكران لحي يمده بالعون ، وهو أمر يظهر بجلاء ضعف العصبية اليعربية ، فقام حاكم سكران بارسال عدد كبير من العساكر الذين تقدموا الى الظاهرة في غرب عمان .

وبوصولهم واجهتهم قوات بلعوب بن حمير (ابن رزيق 1986، 132) حيث تمكنت قواته من هزيمة الغزاة . وما أن عرف سيف بهز الفشل حتى أرسل الى نادر شاه ، حاكم فارس الجديد، طلبا للهون ،والمدد فاستغل الفرس الفرصة كي يحققوا طموحاتهم القديمة في عمان ، فأرسلوا مباشرة قوة بحرية كبيرة تتكون من ثلاثين سفينة كبيرة وعدد ضخم من الجنود يقودها القائد القوي تقي خان ، وفي عام 1737 نزلت القوات الفارسية في خور فكان حيث اشتركوا مع انصار سيف وتقدموا باتجاه بقية مناطق عمان . وخلال ذلك الغزو الفارسي ارتكب الفرس الكثير من فظيع الأعمال ضد العمانيين وهو ما أدى الى خلاف بين سيف والفرس (سلوت 1993، 291). هنا شعر كل من سيف وخصمه بلعوب بالخطر الفارسي ، فقررا التناهي عن خلافاتهما وتوصلا الى اتفاق رعته قبيلة بني غافر، وهو ما يؤكد دورهم كعصبية جديدة ظهرت لتقديم العون للعصبية الحاكمة ، حسب نظرية ابن خلدون . وأن الاتفاق بين سيف وبلعرب على ان يتنازل الأخير للأول عن منصب الامام ، وهو ما يعني أن سيفا قد استعاد القوة مرة رابعة ، غير أنه من الملاحظ أن هذه الاجراءات قد توصل اليها قادة القبائل دون استشارة العلماء الذين أصبح دورهم هامشيا (السالمي 1934، ج 2، 147). ورغم ذلك فإن الصلح بين سيف وبلعرب قد ساعد العمانيين على اعادة تنظيم قواتهم وساهم في طرد الفرس .

ان سوء تصوف سيف مضافا اليه عدم اقرار العلماء لتنصيبه اماما قد نتج عنهما خلعه من منصب الامامة للمرة الثالثة ، وحل محله امام يعربي اخر يسمى سلطان بن مرشد في مطلع عام 1742. ومرة أخرى قام سيف برفض هذا القرار وطلب من الفرس التدخل للمرة الثانية واعدا اياهم بدفع جزية لهم ، فرد الفرس بإرسال قوة كبيرة نزلت في صحار، وتقدمت حتى مسقط . ولهذا فقد أصدر العلماء فتوى تصادر بموجبها ممتلكات سيف . وحاول الامام الجديد سلطان بن مرشد مواجهة الفرس في مواقع ، مختلفة ، غير أنه جرح ثم توفي في صحار،وبعد أيام من وفاته مات سيف الصغير موتا طبيعيا في قلعة الحزم . وهنا عادت عمان ثانية الى وضع يشبه الوضع الذي ساد قبل دولة اليعاربة ، حيث فقد العمانيون كل أشكال العصبية ، وكان هذا هو النهاية الفعلية لحكم اليعاربة ، وسيطر الفرس على معظم الأراضي العمانية حتى طردوا منها على يد الامام أحمد بن سعيد عام 1748.

خاتمة

إن الدولة اليعربية هي نموذج رائع على تطبيق نظرية ابن خلدون في قيام الدول وانهيارها وكانت القوة المحركة لنشوشها مزيجا من العصبية الدينية والعرقية ، وتوسعت هذه الدولة خارج حدود عمان الجغرافية لمواجهة ظروف اقتصادية . ومثل كل الدول التي درسها ابن خلدون فإن الدولة اليعربية قد مرت بالمراحل الخمس التي وصفها فالمرحلة الأولى بدأت بانتخاب الامام ناصر بن مرشد واستمرت حتى وقت قصير تلي تحرير مسقط في عام 1650. أما المرحلة الثانية فبدأت في أواسط العقد الخامس من القرن السابع عشر ، وفيها تم بناء الدولة على أساس مؤسسي ، وبدأت المرحلة الثالثة في أواخر ثمانينات القرن السابع عشر حين بدأ العمانيون يجنون شمار توسعهم واستمرت حتى بداية القرن الثامن عشر ، حين دخلت الدولة اليعربية المرحلة الرابعة التي يصبح فيها الحاكم أقل طموحا ومغامرة وكانت هذه المرحلة قصيرة زمنيا ، خلفتها المرحلة الخامسة التي ضعفت فيها العصبية ضعفا عظيما، أدى الى هرم الدولة وأمست البلاد فيها ضحية للاحتلال الخارجي الذي أدى الى سقوط دولة اليعاربة .

المراجع

1 - ( 1980) حصاد ندوة الدراسات العمانية . مسقط : وزارة التراث القومي والثقافة .

2- ( 1995) عمان في التاريخ لندن : دار امبيل .

3- ابن خلدون ، عبدالرحمن (1996) المقدمة دمشق شركة ابناء شريف الانصاري للطباعة والنشر والتوزيع .

4 - الجابري ، محمد (1992) العصبية والدولة . بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية .

5- السالمي ، عبدالله ( ) . تحفة الأعيان ، مسقط مكتبة الاستقامة .

6- سلامة ، عسابي (1987)، المجتمع والدولة في المشرق العربي، بيروت : مركز دراسات الوحدة العربية .

7- سلوت ، ب (1993). عرب الخليج . ابوظبي: المركز الثقافي .

8- السيار ، عائشة (1975) . دولة اليعاربة في عمان وشرق افريقيا. بيروت : دار القدس .

9- هنداوي ، حسين (1996). التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيجل . لندن : دار الساقي.

المراجع الأجنبية:

10 . Bhacker, M. (1996). Trade and Empire in Muscat and Zanzibar, London: Routldege.

11 . Ibn Raziq. S. (1993): Imams and Sayyids of Oman, London: Dar Publicatcn Limited.

12 . Khory, P. A.K.J. (1990): Tribes and State Formation in the Middle East, New Jersy: Princetion University Press.

13 . Loriner, J. (19I5): Zazettreer of Persian Gulf, Oman and Central Arabia (vol. 1, part 1). Calcutta Superiuteudent Government Printing.

13 . Miles,(1966): The Countries ,'ind Tribes of the Persian Gulf, London, Frsink Cat? & Co. Ltd.

14 . Risso, P. (1986): Oman and Muscat, New York: St. Martin Press.

15 . Sharriff, A. (1987): Slave, Spice & Ivory, London:

16 . Sirhan , S. (1984): Annals of Oman 11728, New York; the Oleander Press.

17 . Wilkinson, J. (19S7): The Imamate Traditions of Oman, Cambridge Unversity Press.