الخميس، 17 أبريل 2003

نحو تعظيم الايجابيات

نحو تعظيم الايجابيات

عبدالله الحراصي

ما الذي كان سيكتبه قسطنطين زريق لو كان حيا هذه الايام؟ قسطنطين زريق كاتب عاش عروبته دما يجري في شرايينه وشعورا يلتهب في كل حرف من حروفه، عايش نكبة 1948 من ألفها الملتبسة بالمخاوف والشكوك الى يائها المنهزمة الحزينة، وكتب الكثير عن تلك الفترة الحاسمة من تاريخ العرب، أهمها كتابه "معنى النكبة" الذي صدر في طبعته الاولى في بيروت عام 1984. كان كتابه هذا محاولة منه لتصفية تفكيره في أزمة خانقة "يترتب فيها على كل فرد من أفراد الأمة قسطه من الواجب ونصيبه من التبعة" كما يقول في مقدمته.

لاحظ زريق الانتكاس المعنوي والروحي الذي أصاب العرب في مقتل في عام النكبة، فسعى الى تحليله سائلا عن كنه الداء وطبيعة الدواء، ورأى ان من الواجب، اضافة الى الاقرار بقوة العدو الهائلة، أن نقر بأخطائنا ونتبين مصادر الضعف في كياننا، وان نعرف مدى مسؤوليتنا في هذه الكارثة التي أصابتنا، ويضيف "وإذا كان التهرب من الواقع، وإلقاء العبء على الغير، شرا خطرا في الأيام العادية، فهو في إيام المحن والشدائد أصل العلة ومصدر الفساد. وليس أفضل من هذه الأيام فرصة لمحاسبة النفس، ولاستكشاف مواضع الضعف والعمل على مداواتها، أو البدء بذلك على الأقل".

حلم قسطنطين زريق ان ما حل بفلسطين عام 1948 كان معركة في حرب طويلة الأمد، وان الهزيمة فيها لا تعني بحال خسارة الحرب كلها ولا تعني هزيمة لن تقوم للعرب قائمة بعدها، ولهذا رأى ان على العرب ان يتعلموا من أعدائهم "النظر البعيد والترتيب المحكم والخطة المدبرة، والسعي الحثيث سنوات، بل أجيالا، لتحقيق المطلوب وبلوغ الغاية"، وفي وصفه لحال فكر الشباب العربي آنذاك يصفه بأنه "مضطرب البال، موزع الفكر، مشتت الارادة. اجلس في أي من مجالسه شئت، تر هذا الاضطراب قائما، وتلمس البلبلة الشديدة الأليمة في تعليل الوضع الحاضر، وفي تحري سبل الخلاص".

ما أشبه الليلة بالبارحة!

والحق ان الانسان ليس في حاجة ليقرأ ما كتبه قسطنطين زريق حول نكبة فلسطين ليدرك المأساة وحالة الضياع الحضاري المهول التي يعيشها العرب هذه الايام بعد سقوط بغداد المدينة، وسقوط بغداد الانسان، وحلول حالة من العمى والفوضى لم تحركها غرائز الاجرام في حقيقة أمرها كما يقال لنا (وإلا أي غرائز إجرام لدى طفل لا يتجاوز عمره السنوات الأربع او الخمس يدفع كرسياً أخذه من دائرة حكومية او من مدرسة سيدرس فيها يوما ما؟) بل ان ما حركها هو ضياع البوصلة الحضارية التي تقود الانسان وقت الكوارث والنوازل. لسنا بحاجة لنقرأ قسطنطين زريق لنعرف ما وصل اليه الحال العربي، فعين البصيرة الفطرية تمَكِّن المرء من أن يرى الامور على حقائقها، ولكننا نقرأ قسطنطين زريق لنعرف أمرا واحدا هو انه بعد خمسة وخمسين عاما لم يبق الحال كما هو بل انه تردى في هاوية حضارية أكبر وأعمق مما كان في إيامه، ولنعرف كذلك ان سبل الخلاص التي حلم بها نأت ونأى العرب عنها، وبعد ان كان العرب يعرفون انهم في طور هزيمة فإنهم نأوا حتى عن طور الهزيمة هذا وانتقلوا الى عصر تيه حضاري مهول.

النوازل تأتي وتذهب، ويتجاوز الناس آثارها، الا ان نازلة التيه العربي تبدو نازلة مقيمة لا تود ان تزول. ولن تزول هذه النازلة الا بيد الانسان.

التيه الذي نعيشه جميعا أبرزته وأعطته زخما كارثيا عظيما يوميات الحزن العراقي التي تكتبها الصواريخ وغرائز الفوضى، وأبرزته وأعطته زخما كارثيا كذلك أحلامنا بنصر مخاتل يأتينا من أيام الفتح العربي الاولى وسقوط هذه الاحلام، وهي أحلام وآمال يكشف لنا حتى وجودها ذاته عن هول ما نحن فيه. أقول ان هذه الاحداث ما هي الا تجليات متفجرة للحالة الحضارية العربية، وما ينبغي التشديد عليه هو ان ما يحدث في ميادين السياسة والحروب ليس الا تجليات، كما ذكرت قبل اسبوع، لخطوط انحدار حضاري أخطر في تأثيراتها بعيدة المدى، وهي تجليات لقيم تجعل الانسان العربي متبلد الاحساس أمام التاريخ، فيعمى عن دوره في صنع التاريخ ويتحجر.

هذا هو مربط الفرس. المشكلة ليست في النظم السياسية، ولا في المثقفين ودورهم وصدقهم وكذبهم وحضورهم وغيابهم، ولا في المجتمع نفسه وأمراضه الاجتماعية وأعراضها. المشكلة تكمن في هيمنة قيم سلبية تفقد حساسية الانسان الفرد تجاه وضعه في التاريخ، وتفقد كذلك حساسية الامة العربية تجاه وضعها في التاريخ الحضاري الانساني.

ما الحل؟ السؤال عن طبيعة الحل والمخرج يستلزم تحديد المشكلة، وهنا مربط فرس آخر. فتبسيط الحالات الحضارية التي هي نتاج قيم انهيار تمنع الانسان والامة من حضورهما التاريخي بربطها بسياسي عابر او حالة سياسية عابرة في مقاييس التاريخ أو بأدوار مثقفين ومفكرين او وسائل إعلام زاعقة تبسيط هو ذاته جزء من أوضاع الانهيار. مثل هذه التحليلات التبسيطية تنطلق في أحيان كثيرة من سيادة الثأر الذي يتجلى في إلقاء اللوم، كل اللوم، على طرف واحد، وهو إلقاء يكشف حينما يتم تحليله تحليلا حصيفا عن حالات خلاف انسانية من تدافعات الحياة اليومية الضيقة الأفق، وتخلو في الحقيقة من أي رؤية ذات شأن تضع الاحداث في خط التاريخ الطولي.

ينبغي هنا الاشارة هنا الى ان حقائق التاريخ وحركته لا ترتبط بصدق أحاسيس الانسان ومشاعره، كالشعور الرهيب بالحزن تجاه رؤية طفل مقطوف اليدين، او بالهزيمة المرة بما يشبه العار تجاه رؤية العراق يتداعى ورؤية بغداد بالحال الذي كانت عليه يوم الاربعاء الفائت، ذلك الحال الذي تكثر عليه تسمية حال السقوط. هذا الشعور لا ريب في صدقه وعنفوانه، الا ان رد الفعل هذا لا ينبغي ان يعمي المرء عن الأسباب الأعمق لمآل الحال العربي.

لا ريب ان الكثير من المفكرين العرب شعروا بالخلل وأدركوا الاتجاه الذي تشير اليه بوصلة التاريخ العربي وحللوا أسباب الانهيار الحضاري الذي يعيشه المجتمع العربي، واقترحوا، كل من منظوره، ما رأوه حلولا بعيدة المدى لتجاوز حالة الانهيار هذه، الا انه في وقت مثل هذا يسأل المرء عادة عن الحلول القصيرة المدى، اي ان ما يريده هو حلا خيميائيا، تستحيل به حالة التيه الحضاري العربي الى حالة فضلى يسود فيها وضع الانتاج والعلم وكل مظهر من مظاهر مثالية التاريخ، الا ان التاريخ يبرز لنا ان الطفرات لا تحدث دفعة واحدة، وانما ينبغي ان يقدم لها بمقدمات تتمثل في شكل قيم تحكم سلوك الناس، وتشمل سلوك كل انسان، فحياة المجتمعات وحدة واحدة، ولا يبرز في الميادين السياسية الا تجليات لا يمكن فصلها عن سلوك الانسان الفرد.

ليس هناك مشروع اصلاح قيمي عربي شامل الان، ولكن المخرج من الوضع الحالي يكمن في جانب كبير منه في تعظيم الايجابيات، اي ان نكثر من الظواهر الايجابية ونقلل من السلبيات. ولا ينبغي للعرب في المرحلة الحالية الدخول في سفسطة مفرغة حول كنه ما هو ايجابي وما هو سلبي وحول التباس التخوم الفاصلة بينهما، فرغم صحة هذا نظريا، الا انه في ميدان الواقع يمكن تمييز خيط الحضارة الابيض من خيط الانهيار الاسود، والاعمى فقط هو الذي لا يستطيع رؤية الانهيار الحضاري الذي يمكن اقتفاء آثاره في كل مظاهر الحياة العربية، الفردية والجماعية.

تتعظم الايجابيات حينما تحل قيم انتاج تحكم كل السلوك الانساني كما تتجلى مثلا في إستغلال الوقت وقدرات العقل وإمكانياته والتسامح بين خطوط الفكر والحياة المختلفة وتعايشها، وعدم تسييس ظواهر الحياة وردها فقط الى تدافعات السياسة الفجة. التغيير الشامل للحياة العربية يحتاج الى رؤى شاملة، لكنها ليست بالضرورة رؤى سياسية مباشرة، فقد جرب العرب ما بدا يوما انه تغيير سيقلب موازين حياة العرب المنهارة رأسا على عقب، الا انه تبين ان الامر لا يعدو كونه امعانا في حالة الخراب الحضاري.

أخيرا أعود اليوم لأشدد على أمر ذكرته الاسبوع الماضي، وهو ضرورة التصالح الاجتماعي والسياسي في المجتمع العربي، وضرورة التفاف المجتمع العربي على ذاته بحوار بين عقلائه، وهو حوار ينبغي ان يتجاوز التفاصيل والاحداث، وينبغي ان يتجاوز الثأر والبحث عن من يتحمل الأخطاء، الى مناقشة اتجاهات التاريخ وصنع المستقبل. مثل هذا التصالح والحوار هو احد تجليات تعظيم الايجابيات الذي ينبغي ان يسود. فلنجرب تعظيم الايجابيات.







(نشر هذا المقال في ملحق شرفات ص 10، الأربعاء 16 ابريل 2003)

الجمعة، 11 أبريل 2003

نسأل الله العافية

نسأل الله العافية

عبدالله الحراصي

بدءا لا أود ان اشارك في جوقة قرع الذات وجلدها لكني أرى ان المشهد العربي مذهل في غرابته وغرائبيته، جمع المتناقضات جميعا وآلف بينها، وهو مشهد ديمقراطي، يوفر لكل انسان ان يمارس ما يريد وان يكون ما يريد، فمن أراد الضحك سيجد في حال العرب ما يضحكه بلا توقف، ومن أراد البكاء فلن يجد حالا في الكون بأكمله مثل حال العرب يثير العبرات والبكاء الذي لن يتوقف كذلك، ومن يؤثر الصمت فحسبه أن يتأمل ويتألم ويصمت، ومن أراد ان يتبنى صوت "العقل" ففي حال العرب ما يكفي للمواعظ وأخذ الدروس وإعطائها، أما من يريد ان يرمي العقل وراء ظهره فيمكنه ان يمارس الجنون الى لا نهاياته.

يعيش المجتمع العربي لحظات وجودية صعبة، فهو غارق في وضع حضاري متخلف ينقصه العلم والانتاج والاقتصاد الآمن المتعدد الموارد الذي يمكنه ان يسند تنمية مستديمة، ويغيب عنه الفهم الواعي لما يحدث، وهو غارق كذلك في هزيمة حضارية وصلت الى سويداء القلب وتكاد ان تقضي على ما تبقى من الانسان العربي، وهنا تُطرح رؤيتان إزاء هذا الواقع المتخلف المنهزم، اولاهما تنطلق من القبول به قبولا تسليميا تاما يرفع الانسان العربي من خلاله راية ناصعة البياض في واقع فاحم السواد، وثانيهما تنطلق من مبدأ الثأر، وتقوم على أساس ان هناك عناصرا أكثر أصالة في المجتمع العربي هي التي ينبغي ان تسود كالعنصر القومي او الديني او الطائفي، ولا يمكن لهذه العناصر ان تسود دون أن تتجذر في جوهر حياة هذا المجتمع وأن تتخلص من العناصر الأخرى التي تعتبر أقل أصالة او غير ذات أصالة في المجتمع، وينبغي للعناصر الأساسية في المجتمع العربي، بحسب هذه الرؤية، ان تثأر لكرامتها ولذاتها الجريحة من كل من امتهنها، غير ان الرؤيتين قاصرتان في جوانب كبيرة لعل أهمها انهما لا يستطيعان انقاذ المجتمع العربي مما هو فيه ونقله نقلة حضارية متقدمة عبر نشر قيم انتاج وحضارة لا قيم تسليم او ثأر وتعصب.

يصور الكثير هذه اللحظة من التاريخ العربي على انها لحظة هزيمة ولحظة احباط، وهي كذلك حقا، ولكنها لا ينبغي ان تستمر كذلك، وأول ما ينبغي فعله لتجاوزها هو فهم ما حدث وما يحدث. وهذا الفهم ليس الفهم السطحي المباشر، بتجلياته السياسية الفجة التي تتجلى في الانفعال بالاحداث المتفرقة، بل الفهم العميق للخطوط التي تحكم تلك الاحداث المتفرقة التي يقر الجميع بتخلفهما وانهزاميتها، أي فهم للأسباب الأكثر عمقا التي جعلت من الأحداث التي وقعت وتقع والاوضاع التي سادت وتسود أمرا ممكنا وواقعا مقبولا لا يثير التساؤل العميق. وفي حالة حضور مثل هذا الفهم الأعمق لأسباب ما يحدث فإن المجتمع عندها سيستبدل فهمه المؤقت المباشر للأمور بفهم أفضل حتى للهزيمة الحضارية ذاتها وأسبابها ومداها وأبعادها. هذا الفهم العميق للأمور سيعين في تحديد من الذي هزم المجتمع العربي وكيف ولماذا، فالهزيمة الحضارية ليست هي بطبيعة الحال الهزيمة العسكرية والسياسية، والعدو في حالة الهزيمة الحضارية ليس هو العدو السياسي والعسكري.

وتنقسم القيم التي تحكم سلوك الجماعات الى نوعين رئيسيين (وربما وجدت بينهما تدرجات مختلفة). النوع الاول هو القيم المنتجة الايجابية، اي القيم التي تتمظهر مثلا في الآية القرآنية الكريمة "إقرأ" وسواها من الآيات الكريمة التي تحض على النظر في الكون واستخدام العقل والتسامح مع الذات ومع الاخر. هذه القيم هي التي قادت الازدهار الحضاري الذي ظهر في فترات مختلفة من التاريخ العربي، وكان من أبرز تجلياتها الحياة العلمية والازدهار والتسامح الحضاري كما نجدها في العهد العباسي على وجه الخصوص، وهي نفس القيم التي كانت وراء حركة التأليف والبحث العلمي والترجمة التي أفاد منها الكون بأكمله. أما النوع الثاني من القيم فهي القيم التي تحد من قدرة الانسان على استخدام قدراته، وهي القيم التي تنحو بالانسان الى التقوقع على الذات والى حِدِّية الرؤية وأحاديتها، اي القيم التي تغلق أبواب شرعتها قيم الحضارة المنتجة.

والجانب المتخلف المنهزم من الحالة الحضارية العربية المعاصرة هو نتاج حضور قيم تنتمي الى النوع الثاني، اي قيم التخلف التي تحد من قدرة المجتمع العربي على تجاوز الواقع السلبي. ان الاخطر في أمر قيم التخلف والهزيمة هو انها لا تتسبب في انتاج الواقع المتخلف المنهزم فحسب، بل انها تعمل على نحو يعمي أعين المجتمع من أن ترى ما وصل اليه من تخلف وهزيمة حضارية، فيعيش الناس حياة عادية وكأن كل شيء يسير على ما يرام. هذه القيم تفقد حساسية الانسان تجاه ظروفه وتضرب في الصميم قدراته النقدية في كشف المدى الذي وصل اليه هذا التخلف ومدى الهزيمة الحضاريين.

ومن ابرز تجليات هذا العمى الحضاري رفض المقارنة بين حال العرب وحال الامم المتقدمة، وهو رفض يقوم على رؤية احادية لا ترى الا الذات المتضخمة التي تعتقد انها الافضل والانقى والابلغ والاكثر علما والارفع خلقا، وهي رؤية (او حالة عمى) تمنع الانسان من أن يرى حقيقة أمره، فهو لا يشاهد نفسه على حقيقتها بل انه يرى صورة النفس المثالية، كما انه يرى الاخر كما يريده هو لا كما هو في الواقع والحقيقة، اي انه لا يدرك حقيقة الاخر الذي تقدم علينا تقدما لا يمكن قياسه الا بمقاييس سنين ضوء الحضارات ان جاز التعبير.

إضافة الى ما تلحق مثل هذه القيم بالمجتمع من عمى يمنع هذا المجتمع من ان يرى نفسه ويرى الاخر على حقيقتهما (اي بمقاييس التطور الحضاري للأمم من تعليم وعلم وانتاج وسواها) فإنها تنتج في الان ذاته تيارات فكرية ذات طبيعة هشة وإن علا صوتها، تتطرف حينا في يمينيتها فتقسم الكون الى معسكرين متحاربين ضرورةً وتضع نفسها وهماً في موقع المنتصر النهائي الذي بنصره ينتهي التاريخ، وتتطرف في يساريتها حينا، فتغفل النظر عن عناصر أساسية من عناصر هوية المجتمع العربي.

هذه لحظة هزيمة أجل، ولكن على المجتمع العربي بكل مؤسساته الفكرية والسياسية والاجتماعية ان يتآلف مع نفسه لمناقشة سبل تجاوزها ودراسة أمر المستقبل. ان الأمر المخيف يتمثل في ان من يصرحون بأنهم سيعيدون ترتيب خرائط جغرافيتنا يقرون بأنهم، قبل هذا وذاك، قد عزموا امرهم على تغيير خرائط تفكيرنا، وعلى تحديد من نكون وكيف نكون. ومما يثير الدهشة ان المجتمع العربي لم ينتبه مؤسسيا لهذه الرغبة المصرح بها، والتي تتمظهر بدعوات لتغيير مناهج المدارس والجامعات وتغيير اسس الثقافة وعناصر الدين التي ينشأ عليها الشباب العربي، وهي دعوات يتجاوز تأثيرها البنى السياسية العربية من دول وأحزاب، وحكم ومعارضة، ويمس أسس المجتمع العربي في عناصر بنيته الجوهرية.

ولا ريب ان الهوية تحتوي على عناصر ثابتة واخرى متغيرة، والتغير من طبائع الاشياء، الا ان هذا التغير لن يكون طبيعيا حينما يأتي من الخارج على ظهر دبابة سياسية او دبابة عسكرية كما يحدث الان. وتَدَخُّل القوى السياسية الغربية في الواقع الفكري في المجتمع العربي بفرض تيار علماني يخدم اهداف السياسة الغربية هو أمر ينبغي الانتباه له من قبل نخب المجتمع العربي السياسية والفكرية، فالتغيير الذي يتم بهذه الصورة لن يكون الا تأجيلا لإنفجار كبير، ولخراب حضاري أكبر مما نعيشه الان.

يكمن جزء كبير من الحل لتلافي هذا الانفجار الكبير والخراب الحضاري الأكبر في ان يتصالح المجتمع العربي مع نفسه، وان يتناقش الجميع في امر هذا المستقبل الشديد التعقيد، والمبادرة بطبيعة الحال لا بد ان تأتي ممن يستطيع الدعوة الى مثل هذه المصالحة وهي مؤسسات الدول في المجتمع العربي. تنطلق مثل هذه المصالحة على اساس ان آفاق ما هو قادم تتجاوز كما ذكرت هوامش السياسة الى متن حياة المجتمع، وتتجاوز سطح الاشياء وأعراضها الى أعماقها وجواهرها. ما هو قادم هو رغبة في تغيير المجتمع العربي وهويته الى مجتمع يشكل بحسب رغبات الاخرين ومصالحهم، لا بحسب ما يحتاجه المجتمع نفسه حسب عناصر وجوده الجوهرية وبما يفيده في رؤيته للمستقبل.

ولا بد في مثل هذا الحوار والمصالحة ان يعطي كل طرف في المجتمع العربي الأمان للأطراف الاخرى، وان يجبّ الواقع الحالي ما قبله، فينطلق الجميع في نقاش وتدارس لفهم القيم السلبية التي قادت المجتمع العربي الى ما هو فيه من تأخر حضاري عظيم. ما يحدث الان لا ينبغي ان يفتح باب الثأر الداخلي ومحاسبة طرف او آخر على أخطاء الماضي، فما يجري وما هو قادم يتجاوز كل ذلك، ويتجاوز القائم من انقسامات فئات المجتمع ونخبه، ويتجاوز آليات صراع وتآلف القوى القديمة. ما يحدث الان بمنزلة "النازلة"، وفي أوقات النوازل والنوائب ينبغي الترفع عن ترهات تفاعلات الاحداث البسيطة وتفاصيلها الى المبادرة الى فهم ما يقع وتلافي تطوره الى ما هو أخطر وأصعب (يقول ابن منظور في "لسان العرب": النازلة الشديدة تنزل بالقوم وجمعها النزال المحكم والنازلة الشدة من شدائد الدهر تنزل بالناس، نسأل الله العافية).

الثلاثاء، 1 أبريل 2003

من الهيمنة الخفية إلى «التدافع الواعي»: نحو رؤية لغوية نقدية عربية

من الهيمنة الخفية إلى «التدافع الواعي»
نحو رؤية لغوية نقدية عربية


عبدالله الحراصي


تسعى هذه الورقة الى تحقيق هدفين أساسيين, أولهما إلقاء الضوء على بعض المفاهيم الأساسية في الدراسات النقدية اللغوية الغربية وثانيهما محاولة تقديم أطروحة تسعى لتعزيز رؤية لغوية نقدية عربية تقوم على الأسس الفكرية التي قامت عليها النظرية النقدية الغربية, أي تعزيز الوعي بالسلطة وأنماط الهيمنة والاخضاع وما يرتبط بها من تجارب ومفاهيم اجتماعية, وآليات عمل السلطة من خلال اللغة وفيها, ولكن بمنظور يجعل نصب عينيه الانطلاق من تجارب الحياة الاجتماعية العربية التي تختلف جذريا عن التجارب التي مر بها المجتمع الغربي. ولتحقيق هذين الهدفين فإن هذه الدراسة ستنقسم الى قسمين رئيسيين, يتناول القسم الأول منها التجربة النقدية اللغوية الغربية, من خلال إلقاء الضوء على الأسس الفلسفية التي تقوم عليها هذه التجربة وأهم مفاهيمها ومناهجها والأهداف التي تسعى الى تحقيقها. فسيتناول القسم تطور النظرية النقدية الغربية التي انطلقت من الماركسية الى مدرسة فرانكفورت وصولا الى النظريات النقدية اللغوية. بعد هذا سيقدم هذا القسم أهم أهداف النظرية النقدية الغربية ومنطلقاتها الانسانية, ثم يتعرض لبعض المفاهيم الأساسية في هذه النظرية كمفهوم «الوضع البديهي» وقضية القوة/السلطة ومفهوم النقد نفسه, ثم يتبع هذا نموذج على التحليل النقدي للغة مستمد من تحليلات نورمان فيركلاف لطبيعة علاقة الخطاب بالقوى الاجتماعية حيث تكون هذه القوى حاضرة دائما, اما في الخطاب نفسه او بتأثيرها على الوضع الاجتماعي الذي ينشأ فيه او لأجله الخطاب.

أما القسم الثاني فسيتناول بعض مظاهر الرؤية النقدية اللغوية إنطلاقا من الإطار النقدي ذاته, ومن قراءة بعض ملامح حياة المجتمع العربي المعاشة فعليا من جانب وما تعرضت له دراسات اجتماعية عربية من جانب آخر. سيبتدئ هذا القسم بالحديث عن الاطار المؤسسي للرؤية النقدية اللغوية المقترحة حيث يركز على دور الجامعات الاجتماعي, ثم يتعرض على نحو موجز لبعض ملامح إشكاليات الدراسة اللغوية العربية الحالية التي تخلو من الأبعاد النقدية اللغوية في أغلبها. بعد هذا سيقدم هذا القسم بعضا من الملامح المفترضة لهذا الاطار المقترح للنقد اللغوي هي, أولا, اعتبار النقد رؤية جديدة في المجتمع العربي تضاف الى الرؤى الاجتماعية الموجودة, وثانيا ضرورة إعادة تعريف السياسي ومواضع الهيمنة في المجتمع العربي, وثالثا أشكلة الواقع العربي المعاش إنطلاقا من عناصر هذا الواقع, وضرورة فهم عميق للمجتمع العربي رابعا, والموقع غير السياسي المباشر للنقد خامسا, وسادسا ان حضور النقد نفسه في الحياة العربية هو تغيير اجتماعي في حد ذاته. بعد هذه الملامح سيتحدث عن المجالات التي يمكن إجراء دراسات نقدية لغوية عليها, ويمثل على ذلك بثلاثة مجالات هي الخطاب الديني, ووضع الانثى في الأمثال, والأبعاد الاجتماعية للإنترنت في المجتمع العربي. وخلاصة هذا القسم هي حديث عن الهدف المبتغى لهذا النقد, حيث سيجد القارئ محاولة لتطوير مفهوم لمرحلة ما بعد النقد تسعى هذه الورقة الى تسميتها بوضع «التدافع الواعي».

1. النقد اللغوي الغربي

1-1: الأسس النظرية للدراسات النقدية اللغوية الغربية

تطورت الدراسات النقدية للغة من مجموعة من الاطر الفلسفية كان على رأسها الفلسفة الماركسية التي رأت وجود جدلية صراعية تاريخية بين الاطراف الاضعف اجتماعيا, العمال أساسا, والاطراف الاقوى والتي كانت في الغالب القوى الارستقراطية. ويرى البعض أن الماركسية الغربية تحديدا هي الاساس التي قام عليه التحليل النقدي اللغة, ذلك ان الماركسية الغربية, وعلى عكس الماركسيات الاخرى التي اعطت الدور الاساس للأسس الاقتصادية للصراع, قد تمحورت حول دور الثقافة والايديولوجيا في تحديد اشكال العلاقات الاجتماعية وانماط صراع القوى. وقد تجلت هذه الرؤية اساسا في تحليلات كل من غرامشي والثوسر وفوكو وغيرهم. فقد تحدث غرامشي على سبيل المثال عن مفهوم الهيمنة الذي يقوم على اساس فرض الطبقات المهيمنة على الغالبية وقبول الوضع القائم الذي تهيمن عليه هذه الطبقات. وهذه الهيمنة لا تتم الا من خلال الايديولوجيا التي هي منظومة فكرية تحدد البنى والممارسات الاجتماعية التي تسود مجتمعا من المجتمعات والتي تجعل من هيمنة القوى الرأسمالية وانماط العلاقات التي تفرضها امرا عاديا وطبيعيا لا يثير التساؤل. اما التوسر فقد اوضح ان الايديولوجيا ليست فقط منظومة الافكار وانما ترتبط جذريا بالممارسات المادية في المؤسسات الاجتماعية.

أما عند فوكو فالسلطة ليست عنصرا تمتلكه جماعة من الناس تقوم بقمع الآخرين بل انها ظاهرة تعمل في كل البنية الاجتماعية, وهي ليست قوة الدولة او المؤسسات الاخرى كالمؤسسة الدينية مثلا بل انها «تعدد علاقات التأثير التي تلازم المجال التي توجد فيه» (Foucault 1991: 92). والقوة لديه «ليست شيئا يكتسب او يستولى عليه او يشترك فيه, اي انها ليست شيئا يمسك به المرء او يدعه يبتعد عنه, بل انها تمارس من مواقع لا حصر لها, في تفاعل العلاقات غير المتساوية والمتحركة». كذلك فليس للقوة الاجتماعية موضع محدد فلا جدوى من البحث عنها في موضع ما يصلح ان تكون فيه, بل انها فاعلة في كل مكان في الحياة الاجتماعية, وهي ليست خارج اطار العلاقات الاخرى (كعلاقات التعليم او الجنس) بل انها جزء منها لا ينفصم, فحيثما غابت المساواة وجدت السلطة. يضيف فوكو الى ذلك ان لا مفر من وجود السلطة والقوة الاجتماعية, فلا يوجد هناك مواقع اجتماعية خارج القوة, ولا يمكن لأي امرئ ان يدعي انه في موضع «الحقيقة», حيث يقول فوكو:

إن الحقيقة ليست خارج السلطة, ولا تعوزها السلطة, ... ان الحقيقة هي شيء يوجد في العالم, ولا تنتج الا بسبب اشكال متعددة من الإكراه. كما انها تسبب آثارا متكررة من آثار السلطة. ولكل مجتمع منظومة الحقيقة الخاصة به, اي [ممارسة] «السياسة العامة» الخاصة بالحقيقة (Foucault 1980: 131)

الامر الاخر المرتبط بالقوة في المجتمع هو ان القوة لابد ان تلازمها المقاومة دائما, فحيثما وجدت السلطة وجدت المقاومة, اضافة الى ذلك فالسلطة ليست قمعية فقط بل انها منتجة, وكما يقول فوكو فإنها ستكون «أمرا هشا لو كان القمع هو وظيفتها اليتيمة» (Foucault 1980: 59), وهذه نقطة غاية في الأهمية, فالقضية كما يشير بينيكوك (Penny coot 2001: 92) ليست إن بعض الناس أقوياء (اي ان لديهم القوة) ولهذا فإن لديهم القدرة على التأثير في المعرفة, بل ان كلا من القوة والمعرفة يفترضان بعضهما بعضا. يقول فوكو:

ينبغي علينا وللأبد ان نتوقف عن وصف آثار السلطة بعبارات سلبية: كالقول ان السلطة «تقصي», وانها «تقمع» وانها «تتحكم في المعلومات» وانها «ترتدي قناعا» وانها «تخفي». إن الحقيقة هي ان السلطة منتجة, فهي تنتج الواقع (Foucault 1979: 491)

انبثقت عن الماركسية مدرسة فلسفية اجتماعية تسمى مدرسة فرانكفورت, وقد تطورت هذه المدرسة في معهد البحث الاجتماعي بفرانكفورت في ألمانيا بعد الحرب العالمية الاولى في فترة تميزت بزيادة الانتاج ونمو وسائل الاعلام والصناعات الترفيهية, وعاش مفكروها تجربة استخدام النازية والاتحاد السوفييتي الثقافة سلاحا سياسيا. ومن أبرز مفكري هذه المدرسة أدورنو وهوركهايمر وولتر بنيامين وإريخ فروم وهربرت ماركيوز ويورجين هابرماس. وقد انطلقت هذه المدرسة من فكر ماركس, وشاركه المفكرون فيها بعض مفاهيم فكرة المادية التاريخية, الا ان الهدف الاساسي الذي انطلقت اليه هذه المدرسة كان توسيع إطار النقد الماركسي ليشمل مجالات في الحياة الاجتماعية لم تشملها الدراسات الماركسية التي ركزت على الطبقات الاجتماعية وتفاعلات الإخضاع-الخضوع فيها, لتدرس قضايا مثل أثر السلطة على اللاوعي الجماعي وأنماط حضور الهيمنة السياسية في الظواهر الاجتماعية التي لا تبدو فيها هذه الهيمنة جلية او تلك التي يعتقد ان الهيمنة غائبة تماما فيها, ومن أمثلة ذلك حضور الهيمنة في وسائل الاعلام الرأسمالية, التي عززت هيمنتها بنشر أشكال ثقافية عميقة تغيب العقل النقدي للجمهور, وهي في هذا تختلف عن الدور التاريخي الذي قام به الفن عموما بإعتباره أمرا مدهشا ذا أثر جمالي عميق على الجمهور.

1-2: منطلقات النقد

إن النظرية النقدية تنطلق من أن ثمة مشكلة في مواضع في حياة المجتمع لا يرى فيها الآخرون مشكلة على الاطلاق. يقول مارك بوستر Marc Poster «ان النظرية النقدية تنطلق من افتراض مفاده اننا نعيش وسط عالم من الألم, وانه يمكن القيام بالكثير لرفع هذا الألم وإن للنظرية دورا حاسما تقوم به في هذه العملية» (Poster 1989: 3, in Pennycook 2001: 6).

إن النظرية النقدية تبحث من هذا المنظور عن مواضع الألم الاجتماعي التي يشعر بها الباحث ولا يراها عادة غيره, رغم معايشة الاخرين بطبيعة الحال لضروب الالم مع بقاء عدم قدرتهم على كشف كنهه وأسبابه. ان النظرية النقدية تهدف اذن الى البحث عن الاشكالي فيما لا يبدو اشكاليا, وكشف هذه المواضع الذي تقوم به النظرية النقدية هو بذاته كشف تاريخي. اي انه في صميم حياة المجتمع, حيث تغدو الممارسة النقدية ممارسة اجتماعية تقوم بأدوار ترتبط بمواضيع دراستها, فدراسة وضع اشكالي اجتماعي تسعى الى تعديل هذا الوضع وليس الى الكشف البريء المنبت. ان النقد الاجتماعي الذي يتحدث عنه هذا المقال هو سعي دائم الى تغيير اجتماعي كما سنرى لاحقا.

ويذكر بينيكوك في كتابه «اللسانيات التطبيقية النقدية» قصة طريفة تدل على اهداف مدرسة فرانكفورت, فقد زار هابرماس وهو أحد أبرز المنظرين النقديين هربرت ماركيوز, وهو سلفه في النظرية النقدية ومؤلف كتب نقدية بارزة مثل كتاب One Dimensional Man)) الانسان ذو البعد الواحد», وكان ذلك قبيل احتفال ماركيوز بعيد ميلاده الثمانين, حيث تناقش الاثنان مطولا عن شرح الأساس المعياري للنظرية النقدية, وبعد عامين زار هابرماس ماركيوز في وحدة العناية المركزة في احد المستشفيات, وحينها عاد ماركيوز الى حوارهما الذي دار قبل سنتين وقال لهابرماس «انظر, انني اعلم أساس الحكم القيمي الذي نتبناه- انه يكمن في الرحمة والرأفة compassion, اي مواساتنا الاخرين في آلامهم» (Habermas 1985: 77).

1-3 أهداف النقد

ان ممارسة النقد في مجتمع من المجتمعات يضع الباحث في لب القضية الاجتماعية, فالنقد يلامس عصب القوى الاجتماعية وتفاعلاتها, ويدخل ويتدخل في هذه التفاعلات طرفا مشاركا أساسيا يمثل الوعي البحثي. ومن منطلق الوعي بهذا الدخول والتدخل فإن على النقد اللغوي نفسه ان يحدد أهدافه من عملية النقد هذه. والحقيقة ان النقد اللغوي قد تعرض لهجوم عنيف من قبل كثير من الباحثين الذي تقع أطرهم النظرية خارج النقد الاجتماعي, ويقوم هذا الهجوم على أن النقد اللغوي يقدم صورة سوداوية عن اللغة ولا يرى فيها الا هيمنة وخضوعا وإخضاعا, وإن هذا النقد يتم بلا هدف علمي حقيقي, الا ان بعض الباحثين النقديين اللغويين الغربيين قد تصدوا للرد على هذا الطرح الذي يشكك في موضوعية أهداف هذا النقد وفائدته الاجتماعية, فيقول فيركلاف في كتابه «اللغة والقوة»:

ان الهدف الأكثر عملية هو المساعدة بزيادة الوعي باللغة والسلطة, وخصوصا كيفية مساهمة اللغة في إخضاع البعض لهيمنة البعض الآخر. وإن أخذنا تركيزي على الايديولوجيا فإن هذا يعني مساعدة الناس على رؤية مدى قيام لغتهم على افتراضات مسلم بها والسبل التي تتشكل بها هذه الافتراضات المسلم بها ايديولوجيا من خلال علاقات القوة. وعلى الرغم من انني سأرسم صورة محزنة بعض الشيء للغة التي يزداد استخدامها في الهيمنة والاضطهاد الا انني أتمنى ان يوازن هذه الصورة المحزنة ايماني بقدرة بني البشر على تغيير ما صنعه بني البشر, فالمقاومة والرفض ليسا ممكنين فحسب بل انهما يحدثان دائما, الا ان فعالية المقاومة وتحقيق التغيير يعتمدان على تطوير الناس لوعي نقدي بالهيمنة وأشكالها, بدلا من تجربة هذه الهيمنة والعيش فيها. 4) (Fairclough 1989:

ففيركلاف يستخدم مفاهيم لم يألفها البحث العلمي كأهداف للممارسة البحثية مثل «تقديم العون» و؛مساعدة الناس» والرغبة في عالم أفضل من خلال إبراز ما لا يبرزه البحث العلمي الاجتماعي عادة. ونجد نفس أفكار هذه المنافحة عند بينيكوك عن «المستقبلات الفضلى» (والمستقبلات هي جمع مستقبل), ويشير الى ان بعض الممارسات النقدية قد سعت الى تجاوز الاتهام بالسوداوية في رؤية العلاقات الاجتماعية من خلال تقديم رؤى مثالية تتمثل في أشكال مغايرة للواقع المعاش الذي تنتقده هذه الدراسات, ويتم هذا بالتركيز على ما يقدمه هذا الوعي النقدي من إمكانيات تغييرية للواقع. الا ان بينيكوك يعتقد ان هذه الاهداف تحمل أصداء التكلف والمبالغة التي طرحتها الحداثة الغربية, ويضيف:

ربما يقدم مفهوم المستقبلات الفضلى preferred futures نظرة جماعية وأضيق مدى بعض الشيء عن الهدف الذي نبتغي الوصول اليه. الا ان هذه المستقبلات الفضلى يجب ان تقوم على حجج أخلاقية تدافع عن السبب الذي يجعل الامكانيات البديلة أفضل ]من الواقع الموجود.[ ولهذا السبب فإن الاخلاق يجب ان تكون لبنة أساسية في بناء اللسانيات التطبيقية النقدية. (Pennycook 2001: 8)

على الرغم من التباين الجلي بين الهدف المتمثل في تعزيز وعي الناس بواقعهم والسعي الى تغييره من خلال تعريفهم بأنماط السلطات وآليات عملها من خلال اللغة (كما هو عند فيركلاف مثلا) والهدف الأعم الذي لا يتحدث عن واقع مباشر بل عن البحث عن أشكال مستقبل أفضل من الواقع الحالي حسب معايير أخلاقية (كما هو عند بينيكوك) الا ان الاثنين ينطلقان من منطلق واحد هو إشكالية الواقع الاجتماعي الذي تخفي فيه السلطات نفسها وحضور آليات قمعها وهيمنتها وإخضاعها للناس, وضرورة إبراز هذا الواقع المختل والذي يعززه فقدان الدراسات النقدية عنه من خلال حضور هذه الدراسات وإلتزامها الاجتماعي. وكما ان لا خلاف حول نقطة المنطلق, اي الوضع الاجتماعي الاشكالي المختل, فإن الخلاف على الهدف ليس خلافا جذريا بل هو في مدى إمكانية التحقيق فحسب, فالرأيان يسعيان الى مستقبل أفضل يقوم على الايمان بأن الانسان لديه قدرات يعي بها نفسه ومجتمعه من جانب, وقدرات تمكنه من خلال هذا الوعي من ان يغير هذا الواقع الى واقع أفضل تكون فيه السلطات والقوى الاجتماعية بارزة لدى أفراد المجتمع بفضل الدراسات النقدية.

1-4: «الوضع المألوف البديهي» وأشكلة المسلمات

تقوم الدراسات النقدية على ان الظواهر المألوفة البديهية في الحياة الاجتماعية والتي لا تستوقف أحدا من الناس في العادة تختزن في حقيقة الأمر الكثير من أنماط الهيمنة الاجتماعية وتخفي الكثير من أنماط الإخضاع والخضوع الاجتماعيين. وإزاء هذا فإنه ينبغي على البحث العلمي التشكك إزاء أي وضع اجتماعي مقبول وغير اشكالي في السطح, وهذا التشكك يقوم على نزع هذه الالفة لإبراز المسكوت عنه. وينبغي هنا إلقاء الضوء على مفهومين أساسيين في منهج التحليل النقدي للغة هما مفهوم «الألفة» او «الوضع المألوف البديهي» common sense ومفهوم «نزع الألفة» defamiliarization او ما يسميه بعض الباحثين بـ«أشكلة المسلمات» Problematizing givens.

مفهوم «الوضع المألوف البديهي»

يكون الانسان كائنا طبيعيا في مجتمع من المجتمعات حينما تكون ممارساته الاجتماعية ضمن توقعات غيره من افراد ذلك المجتمع, وهنا فإن الانسان الطبيعي هو ذلك الانسان الذي لا يلاحظه الاخرون لأنه يتصرف بحسب المعايير التي ينتظرها الناس منه ولا يخالفها بوجه من الوجوه. وفي حالة اللغة فإن الانسان العادي هو ذلك الانسان الذي لا يقول الا ما يتوقعه الاخرون منه وبالطريقة التي يتوقعون منه استخدامها, اي ان ما يقوله لا يصطدم مع افتراضاتهم المسبقة حول انتاج النصوص في المجتمع الذي يعيش فيه. ان هذا الوضع العادي هو الذي تسميه النظرية النقدية «الوضع المألوف البديهي».

كان المفكر الايطالي انطونيو غرامشي من أوائل من تعرض لقضية الأوضاع المألوفة, حيث تتحكم في السلوك البشري فلسفة خفية ضمنية يتقبلها الناس عموما وتشكل خلفية للسلوك. ان «الأوضاع المألوفة» ذات ارتباط قوي بالايديولوجيا والسلطة في المجتمع, حيث انها تعزز من العلاقات المختلة التوازن في المجتمع. والايديولوجيا حاضرة دائما في كل ممارسة اجتماعية ولهذا لا يمكن الفصل بين سلوك ايديولوجي الطابع وآخر منزوع الايديولوجيا وانما هناك درجات خضوع للايديولوجيا في كل سلوك بشري.

ويشير فاندايك إلى ان آراء غرامشي حول الايديولوجيا هي أحد المصادر الفكرية التي نبع منها مفهوم «الوضع البديهي»:

ما ان تقبل جماعات ويقبل أفراد ايديولوجيا مهيمنة بإعتبارها تعبيرا عن أهدافهم ورغباتهم ومصالحهم حتى تتحول الايديولوجيات الى معتقدات يتم التسليم بها وتصبح وضعا مألوفا. وتكون الهيمنة الايديولوجية «كاملة» حينما لا تملك الجماعات المهيمن عليها القدرة على التمييز بين مصالحها ومواقفها الخاصة بها ومصالح ومواقف الجماعات المهيمنة. (van Dijk 1998: 102)

إن فكرة الأوضاع المألوفة الخالية من أي أثر للإكراه وحقيقتها الايديولوجية الموغلة في تفاعل القوى أدركها ابن خلدون في حديثه عن تقليد المغلوب لغالبه حيث يقول في الفصل الثالث والعشرين من المقدمة ان «المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده والسبب في ذلك أن النفس أبدا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وفر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب», ان ما يتحدث عنه ابن خلدون هنا هو ضرب من تطبيع الهيمنة شبيه بما تتحدث عنه النظرية النقدية, حيث يغدو سلوك الطرف الأقوى «طبيعيا» لا يثير تساؤل الشخص الخاضع لهذه الهيمنة, ويتم هذا في مستويات فردية (كما يتأثر الابن بالأب) ومستويات أكبر كتأثر الرعية بالحاكم او السلطة وكحالة الاندلس التي أشار اليها ابن خلدون.

مفهوم نزع الألفة وأشكلة المسلمات

يقترح دين (Dean 1994) مفهوما يسميه «أشكلة المسلمات» Problematizing givens وهذه الممارسة نقدية لأنها «ليست على استعداد لأن تقبل العناصر المسلم بها في واقعنا, والتفسيرات «الرسمية» التي تفسر الكيفية التي جعلتنا على النح-و ال-ذي نح-ن علي-ه» (Dean 1994: 4, in Pennycook 2001: 7). ومعنى هذا إثارة الاسئلة حول الامور المسلم بها والمفترضة والتي لا تثار حولها الأسئلة بعد أن أصبحت أمورا طبيعية مألوفة في الحياة الاجتماعية. ومفهوم «أشكلة الواقع» قريب من مفاهيم أخرى كمفهوم defamiliarization أي «نزع الألفة» الذي تحدث عنه فاولر وحدد معناه بأنه «استخدام استراتيجية ما لتدفعنا الى ان نرى, وأن نكون نقديين» (Fowler 1996: 57).

1-5 ما هي القوة/السلطة?

القوة هي القدرة على التأثير في عنصر او أكثر من عناصر محيط اجتماعي معين, والقوة ترتبط بذلك بمفهوم «السياسي» الا ان مفهوم «السياسي» لا يراد به فحسب الظواهر السياسية المألوفة كالدولة والصراع السياسي والانقلابات والحروب وسواها, بل ان السياسي يوجد في كل مناحي حياة الانسان وهو يمتد ليشمل كل ما له أثر على الانسان, لأن معنى الأثر والتأثير هو إعمال سلطة ما لقوتها في سلوك الآخرين. ان وصف فعل ما بأنه فعل سياسي إذن لا ينحصر بأفعال الجماعة من الناس الذين يطلق عليها اصطلاحا بالسياسيين, اي الافراد الذين يدخلون في تفاعل القوة التي يعرفها المجتمع بأنها سياسية, بل انه يمتد ليشمل الافعال التي تبدو نائية عن السياسة التقليدية كعلاقة الطبيب بالمريض وعلاقة المدرس بالتلميذ, وعلاقة الأب او الأم بأبنائهم وبناتهم.

1-6: ما هو النقد?

ولابد لأي نظرية ان تحدد مصطلحاتها ومفاهيمها الأساسية تحديدا يختلف عما يقدمه الفهم العام غير البحثي لهذه المصطلحات والمفاهيم, فقد يستخدم الفهم العام مصطلحات تستخدمها نظرية من النظريات الا ان استخدام أي نظرية رصينة لمصطلح ما لابد ان يقوم على اسس واضحة محددة ولأهداف واضحة محددة كذلك, وهو بخلاف الاستخدام العام للمصطلحات الذي يتأثر بعناصر اجتماعية تختلف عن العناصر المؤثرة في البحث العلمي ومناهجه. ومن أمثلة هذه المصطلحات مصطلح «النقد» الذي يشكل أحد أعمدة النظرية النقدية اللغوية. ينبغي هنا التمييز بين ثلاثة استخدامات لهذا المصطلح:

(1) النقد في الفهم العام: كثيرا ما تشيع كلمة «النقد» في الفهم العام وفي الخطاب العام لتعني ابراز مثالب ظاهرة من الظواهر في المجتمع, وهو إبراز لا يخفي, حينما يتم وضعه تحت الدراسة الواعية, انغماسه المباشر في تفاعلات قوى اجتماعية, فالنقد الذي يوجه مثلا أعضاء في برلمان معين لممارسة مؤسسة ما يعني ان خطاب هؤلاء الاعضاء يتكون من عناصر تقدم للناس على انها تكشف الفجوة بين ما ينبغي ان يكون عليه واقع اجتماعي محدد (ولنقل على سبيل المثال الاستخدام الامثل للمال العام) والواقع الذي يتميز ببنى وتفاعلات عناصر تبتعد عن هذا المثال (اي حينما يكشف هؤلاء الاعضاء مثلا ما يعدونه «إهدارا للمال العام»). إن هذا النقد لا يمكن اعتباره نقدا اجتماعيا بل انه نقد مجتمعي, اي انه يحدث داخل المجتمع ومن قبل جماعات هي في لب التفاعل داخل المجتمع وليست معنية بأطر نظرية تسندها لرؤية ما تتجاوزه الفجوات الجالبة للنقد هذه بين ما يعتبر مثالا وما يقدم بإعتباره واقعا, فالقضايا الاجتماعية تطرح في مستوياتها السفلى والصغيرة ولأهداف قصيرة المدى في العادة كتغيير مسؤول او سياسة ما وما شابهها من آثار.

(2) النقد في الدراسات الأدبية: تستخدم كلمة «النقد» في هذه الحالة لتحليل نص أدبي او مجموعة من النصوص الأدبية بهدف يتعلق بعناصر النصوص الأدبية كإبراز ناحية جمالية معينة ضمن نظرية أدبية او رؤى شعرية معينة. ويمكن التمثيل على هذه بالدراسات النقدية التي تتعرض لشعراء او روائيين او سواهم من منتجي النصوص الأدبية, وقد تتجاوز النصوص لدراسة ظواهر أدبية معينة. والملاحظ في هذا الاطار ان كثيرا من النقد العربي يخلو هو الاخر من أطر نظرية وأهداف منهجية واضحة, وكثير منه لا يبتعد عن سعي لتأطير كتابي لإنطباع يشعر به كاتب هذا النقد تجاه نص او ظاهرة أدبية محددة. كما ان هناك مثلبة أكبر تتعلق بطبيعة النقد الأدبي ذاته تتمثل في ان هذا النقد, في الأغلب, يشبه الدراسات اللغوية التقليدية التي تتعامل مع وحدات لغوية صغرى, حيث انه يتعامل مع النصوص كوحدات صغرى منبتة من واقعها الاجتماعي الأكبر وتفاعلات القوى الاجتماعية وعلاقات الاخضاع-الخضوع فيه. فالنصوص يتم تقديمها بإعتبارها فاعلة فعالية فردية في إطار الجمالية والشعرية ولا يتم تجاوز ذلك لتشكيل أبعاد هذه الجمالية والشعرية اجتماعيا.

(3) النقد في النظرية النقدية: النقد هنا ليس انتقادا, اي كشف مثالب شخص او جماعة اجتماعية على مستوى التفاعلات الاجتماعية الصغرى, وليس تحليلا لنصوص لكشف حضور او غياب جماليتها, لكنه سعي بحثي يسعى جهده لكشف الارتباط الجوهري بين الاستخدام اللغوي (انتاج النصوص اللغوية واستهلاكها) وظواهر اجتماعية كبرى كالهيمنة الاجتماعية والسلطة وفقدان المساواة في المجتمع وغيرها من القضايا ذات العلاقة بالاختلال غير الواعي الناتج عن بنية السلطة وتفاعلاتها في مجتمع ما. ومن أهم ما يدرسه هذا النقد كيفية استخدام اللغة لتعزيز سلطة مجموعة اجتماعية ما على نحو يثبت هذا الاختلال في تفاعلات السلطة الاجتماعية, وبهذا فإن آلية النقد الاساسية هي الربط بين الوحدات الصغرى (اللغة بمستوياتها المتعددة من الكلمة الى النص الى الخطاب) بالوحدات الكبرى في المجتمع (الجماعات ذات القوة الاجتماعية وتلك المهيمن عليها والمجموعات التي ترفض هذه الهيمنة وتقابلها بمقاومة من خلال اللغة).

1-7: نموذج على النقد اللغوي:

التحليل النقدي للخطاب

يميز فيركلاف (Fairclough 1989) بين بعدين من أبعاد علاقة السلطة باللغة, السلطة الموجودة في الخطاب والسلطة المتخفية خلف الخطاب.

السلطة في الخطاب

يمكن في هذه الحالة للباحث النقدي اللغوي ان يحلل عناصر النص الذي يدرسه في مستويات اللغة المختلفة ليبحث عن مواضع حضور السلطة الاجتماعية في هذه العناصر. ويضرب فيركلاف مثالا على حضور السلطة في الخطاب في تحليل لحوار دار بين استاذ طب وأحد طلبة الطب المتدربين اثناء زيارة وحدة المواليد الخد ج في احد المستشفيات, وهو حوار يتميز بمقاطعة الطبيب لطالب الطب أثناء محاولته الحديث, ويفسر فيركلاف هذه المقاطعة بأنها لا تنبع من رغبة في الهيمنة على مجرى الحديث بل في الهيمنة على مساهمة الطالب في الحوار. وإضافة الى المقاطعة فإن هناك أمورا اخرى تدل على ممارسة السلطة الاجتماعية في الحوار, فالكلمات التي كان يقولها الاستاذ للطالب لتشجيعه مثل كلمة «حسن جدا» very good «كلامك مضبوط» thats right (وتماثلها في اللهجات العربية كلمات مثل «شاطر» و»ممتاز» وغيرها) تدل على غياب التساوي في هذا الحوار, حيث ان الطبيب لم يكن ليجرؤ على استخدام هذه الكلمات في حديث مع شخص يعتبره مساويا له او أقوى منه إجتماعيا.

ان معنى ان يكون الخطاب حاملا لقوة او سلطة اجتماعية هو ان يتمكن المشاركون الأقوياء في هذا الخطاب من التحكم في ما يقوله المشاركون غير الاقوياء وفي تقييد قدرتهم على استخدام اللغة لكبح هذا التحكم. وأنواع الكبح اللغوي تشمل في رأي فيركلاف:

(1) المضمون (اي مضمون ما يقال في النصوص)

(2) طبيعة العلاقات بين الافراد المشتركين في الخطاب

(3) المواقع التي يموضع كل منهم نفسه فيها (Fairclough 1989: 46).

فالطالب في المثال المشار إليه آنفا محدود فيما يقوله من مضمون لغوي, حيث انه مطالب ان يقوم بفحص طبي حسب نظام معروف سلفا, فهو يمارس علاقات مهنية مع المريض ولكن علاقة خضوع أمام الطبيب الاستاذ, ويمارس دور الطبيب المستقبلي إضافة الى دور الطالب. ولهذا المضمون والعلاقات والمواقع دور أساسي فيما يقال لغويا.

كما يمكن رؤية حضور السلطة في الخطاب حينما يكون الفرد ضعيفا لا يتحدث لغة الشخص الأقوى منه في موقف يهيمن عليه الشخص الأقوى اجتماعيا, وتتجلى أبرز أمثلة هذا الضرب من حضور السلطة في الخطاب في حالات تسمى لقاءات «حراسة البوابات» gatekeeping encounters (كحالات مقابلات المتقدمين للوظائف الذي ينتمون الى جماعات إثنية تختلف عن الأغلبية الثقافية), ويشير فيركلاف الى ان أفراد الطبقة الوسطى من البيض هم «حراس البوابات» في مقابلات التقدم للوظائف في بريطانيا.(74) وتفترض الجماعة المهيمنة في هذه الحالات ان المتقدم للوظيفة يعلم بأساليب ممارسة المقابلات التي حددتها الجماعة الأقوى اجتماعيا, «ولهذا ففي حالة ان قدم المتقدم للوظيفة ما يعد اجابة هزيلة او ضعيفة او غير ذات علاقة بالحديث فإنه من الأرجح ان يتم اعتبارها دلالة على فقدانه المعرفة او التجربة اللازمة, وعلى عدم تعاونه وغيرها من دلائل فقدان الكفاءة, ويندر ان يفهم من مثل هذه الاجابات إمكانية وجود سوء في التواصل مع المتقدم نتيجة للإختلافات في التقاليد الخطابية» (84). ويحلل فيركلاف مثالا على ذلك من مقابلة لوظيفة موظف مكتبة مع احد الافراد الذي ينتمون الى أقلية ثقافية امريكية:

الموظف: ما الذي يعجبك في المكتبة?

المتقدم للوظيفة: الذي يعجبني في المكتبة من ناحية الكتب? اما من ناحية المبنى بأكمله?

الموظف: هل هناك اي نقطة تريد ان ...

المتقدم للوظيفة: آه, كتب الاطفال, لأن لدي طفل, والاطفال ... تعرف, هناك كتب كثيرة, تعرف, كتب تعجبهم وتعجبني انا أيضا

يعلق فيركلاف على هذا الحوار بالقول ان لغة المتقدم للوظيفة صحيحة نحويا (في النص الانجليزي) ولهذا فإن الموظف تجاهل ان سوء التواصل مع المتقدم قد ينجم عن وضع ثقافي مختلف. حيث فشل المتقدم في فهم ما يقصده الموظف على النحو الذي يتوقعه الموظف الذي كان يقصد أمورا مهنية وليست شخصية كما فسرها المتقدم. والسلطة الاجتماعية حاضرة في الخطاب هنا أيضا, فليس هناك اي سبب جوهري يمنع المتقدم للوظيفة من الحديث عن ارتباط بين رؤيتهم للوظيفة واهتماماتهم الشخصية, وان ما كان يتوقعه الموظف ليس الا نتاج ثقافة معينة لا يشاركه اياها المتقدم للوظيفة. ان طبيعة الخطاب هنا تكشف عن هيمنة للبيض في أمريكا على الاقليات العرقية كالآسيويين والسود وهو نوع من العنصرية المؤسسية .institutionalized racism

والخطاب ميدان للهيمنة في النصوص المكتوبة كذلك, وهو ما نجده في حالة النصوص الاعلامية التي تخفي في العادة أنماط الهيمنة الموجودة فيها. وكتاب النصوص الاعلامية يخاطبون جمهورا واسعا من الناس ولهذا فإنهم يضعون في أذهانهم متلقيا مثاليا لنصوصهم. وعادة ما تمارس وسائل الاعلام تأثيرها على نحو ممنهج حيث تكرر الاخبار على نحو يحدد طبيعة ما يتلقاه المجتمع من رؤى حول الاحداث من وسائل إعلام. تكمن الهيمنة في النصوص الاعلامية في ان لدى منتجي النصوص الاطار المؤسسي لانتاج الخطاب وهم الذين يمتلكون حقوق انتاج الخطاب, ولهذا فإنهم يتحكمون في ما ينشر وما لا ينشر, وفي كيفية عرض الاحداث. كما ان مصادر الاخبار تكون في العادة من الاطراف الاقوى في المجتمع كالسياسيين والرأسماليين, ويندر ان يؤخذ الخبر من جماعات ضعيفة اجتماعيا كالطبقات المتدنية في وضعها الاجتماعي او المالي كالفقراء او العاطلين عن العمل.

السلطة خلف الخطاب

يقول فيركلاف ان فكرة «السلطة خلف الخطاب» تعني ان كل النظام الاجتماعي للخطاب يعامل كوحدة واحدة ويعد بأكمله تأثيرا خفيا من تأثيرات السلطة. ويناقش فيركلاف بعدا واحدا من أبعاد حضور السلطة خلف الخطاب هو ب عد توحيد اللغة standardization حين يتم التعامل مع إحدى اللهجات بإعتبارها اللهجة المعيارية او بإعتبارها لغة قومية وهو ما حدث بالنسبة للغة الانجليزية, وهذه العملية ذات ابعاد اقتصادية اجتماعية, فاللغة القياسية ضرورة اقتصادية لأنها تطور الاتصال بين الافراد المشتركين في النشاط الاقتصادي الذي يتمكنون بإستخدام هذه اللغة من التفاهم, كما ان لها ضرورة سياسية حيث ان لها دورا أساسيا في تأسيس الامم والشعوب, وخصوصا نمط الدولة-الامة.

وإضافة الى هذا الشكل من حضور السلطة خلف الخطاب فإن فيركلاف يشير الى شكل آخر هو الوصول الى الخطاب, ويشير الى ان ما يسمى بالكلمة الحرة free speech ليس الا خرافة, ويضرب مثلا على ذلك امكانية الوصول الى الخطاب في الطقوس الدينية في الكنائس حيث لا يمكن ان يرأس قداسا في كنيسة الا القسيس, وهو نوع من حكر الوصول الى الخطاب بالنسبة لآخرين, بل انه لا يمكن لأي شخص ان يكون قسيسا الا اذا مر بمرحلة انتقاء صارمة يتم البحث فيها عمن تنطبق عليه الشروط كأن يكون مؤمنا كفؤا لديه مؤهل أكاديمي مناسب, إضافة الى الأمانة والاخلاص والفضيلة.

ومن الكوابح الاخرى التي تمنع البعض من الوصول الى الخطاب كابح الرسميات formality, ورسمية الخطاب سمة لازمة في كثير من المواقف الاجتماعية والخطابية وخصوصا تلك التي تتطلب الهيبة, والتي تضيق امكانية الوصول اليها بالنسبة لعامة الناس. والرسمية, كما يقول فيركلاف, عامل فاعل في منع الكثيرين من الناس من الوصول الى الخطاب لأنها تفرض كثيرا من الشروط الخطابية التي تختلف كثيرا عن الخطاب العادي, والقدرة على تحقيق هذه الشروط ليست مقسمة على نحو عادل بين الناس. ويضيف فيركلاف:

فيما يتعلق بالمضمون فإن الخطاب في الموقف الرسمي يخضع لكوابح استثنائية على الموضوع وأهميته وفي انماط التفاعل المعتادة الثابتة. اما فيما يتعلق بالفاعلين فإن الهويات الاجتماعية للمؤهلين لإتخاذ مواقع فاعلة في خطابات المواقف الرسمية يتم تحديدها على نحو أكثر صرامة من المعتاد, وعلى اساس مواقع الافراد ومنزلاتهم العامة, كما هي حالة الكوابح التي أشير اليها حول من يسمح له ان يرأس قداسا في طقس ديني. وفيما يتعلق بالعلاقات فإن المواقف الرسمية تتميز بتوجه استثنائي تجاه وبصناعة الموقع (الاجتماعي) والمنزلة و؛المظهر الخارجي». فالقوة والمسافة الاجتماعية معلنان, ولهذا فإن هناك نزعة قوية ناحية اللطف politeness الذي يقوم على ان ادراك التمايزات بين قوى الافراد ودرجات المسافة الاجتماعية وهلم جرا, ويستهدف من هذا اللطف اعادة انتاج أوضاع القوى هذه بدون أي تغيير. (Fairclough 1989: 66)

ان فيركلاف يلخص في التحليل السابق ما قدمه كثير من الدراسات النقدية اللغوية حول اللغة والسلطة, فيمكن للمحلل النقدي اللغوي ان يبحث عن آثار القوى الاجتماعية في نص من النصوص, مكتوبا كان ام محكيا, ويمكنه ان يرى من خلال هذا التحليل ان هناك كوابح تحد من الخطاب من ناحية المضمون حيث لا يسمح لكل من يريد ان يقول شيئا ان يقوله كما يريده لأن هناك قوة أقوى تمنع ذلك المضمون, كما يمكن رؤية مواقع المشاركين في الخطاب في خارطة القوى الاجتماعية من خلال النصوص إضافة الى ما تحمله تلك النصوص من دلائل لغوية على طبيعة العلاقة غير المتساوية بينهم. كما ان الهيمنة قد تكون حاضرة ليس في الخطاب نفسه بل خلفه, اي ان الوضع الاجتماعي الذي يظهر فيه او لأجله النص يحد بأكمله من إنتاج خطابات أخرى تباين الخطابات ذات السلطة, ففي حالة اللغة العربية مثلا, لا يمكن لمن لا يستطيع الحديث باللغة الفصحى مثلا (كأن يكون فلاحا من قرية عمانية لم يتعلم القراءة او الكتابة) ان يستضاف في برنامج حواري في وسيلة إعلام مرئية او مسموعة, رغم إمكانية مساهمته الفعالة في موضوع الحوار, وذلك لهيمنة الفصحى, أضف الى ذلك ان آليات اختيار منتجي الخطاب في بعض المواضع تحد من الذين «لا تنطبق عليه الشروط» من القدرة على انتاجه, ولهذا فإن الخطاب الذي يظهر للعلن للناس, إضافة الى حضور السلطة في عناصره, يخفي الهيمنة التي منعت آخرين من انتاج خطاباتهم الموازية له. ان الايديولوجيا التي تشكل القوى الاجتماعية سواء في الخطاب ام خلفه هي قضية أساسية في النظرية النقدية اللغوية وهو ما سيتعرض له القسم التالي.

2: نحو رؤية نقدية لغوية عربية

2-1: الإطار المؤسسي للنقد في المجتمع العربي

تعرض بعض الباحثين لأهمية دور المؤسسات في تعزيز الوعي النقدي بحضور السلطات في الحياة الاجتماعية على وجه العموم وتفاعل السلطة-اللغة على وجه الخصوص, فقد شكا كل من تشولياراكي وفيركلاف (Chouliaraki and Fairclough 1999: 8) من تحول خطير تعيشه الجامعات في بريطانيا والدنمارك ينتقل بها من وضعها الذي عاشته طويلا كمؤسسات عامة تهتم بالشؤون العامة وتتميز بالحرية في ممارساتها العلمية بما فيها الممارسة النقدية للقوى الاجتماعية الى وضع مؤسسات السوق التي تتأثر بما يتأثر به السوق من عناصر العرض والطلب وتفاعلاته ذات الطابع الإقتصادي أساسا. وعلى الرغم من اعتراف تشولياراكي وفيركلاف بتأثر الجامعات بالمؤثرات الاقتصادية الا انهما يؤكدان على رفضهما إضعاف دور الجامعات وجعلها أداة بيد أصحاب النفوذ الاقتصادي. كما يشيران الى عامل آخر وهو ان دخول الجامعات المعترك الاقتصادي يؤدي كذلك الى بتر علاقة الجامعات بالمجتمع وتفاعلاته وصراعاته خارج الاطر الاقتصادية. ان النقد الاجتماعي الذي تقوده الجامعات ينبغي الا يكون سجينا داخل أسوار الجامعات فحسب بل ان من الواجب انطلاقه نحو المجتمع حيث انه يتأثر أيما تأثر بالواقع الاجتماعي وتفاعلاته. ان النقد لابد ان يكون مسايرا او تابعا زمنيا لدراسات اجتماعية, ومثل هذا الوعي النقدي لا يمكنه ان ينمو, بحسب الظروف الاجتماعية الحالية, الا في الجامعات العربية, وهذا يثير قضية جوهرية حول دور الأكاديمي العربي ورؤيته لمحيطه الاجتماعي ورؤيته لدوره في هذا المحيط.

ان تعزيز مكانة النقد الاجتماعي في الجامعات العربية أمر دونه مصاعب جمة, ليس أقلها غياب الوعي النقدي أصلا. تتميز الجامعات العربية بغياب البحث العلمي الاجتماعي ذي الصبغة النقدية (هذا اذا تم تجاوز غياب البحث الاجتماعي أصلا حين يقارن نتاج الجامعات العربية بنتاج غيرها من الجامعات), فالبحث الموجود ذو صبغة تقبلية لأوضاع المجتمعات العربية, ويتميز بقبوله لحضور القوى الاجتماعية, وهو قبول غير واع بل انه قبول الجاهل اجتماعيا. ان معنى هذا ان السلطات الاجتماعية العربية قد نجحت الى حد كبير في التأثير الاجتماعي الى حد ان الجامعات, وهي التي يفترض ان تكون مراكز البحث الرئيسية في المجتمع العربي (اي المراكز التي تثير الاسئلة), غدت مغيبة عن التفاعل الحقيقي مع المجتمع, تبحث, حينما تبحث, في قضايا سكونية وبمناهج سكونية. ومرد ذلك, اضافة الى الجهل النظري, البعد عن مواطن الشبهة النقدية, وهو أمر برغم سلبيته الا ان المرء ينبغي ان يشدد على جوانبه الايجابية. ان البعد عن مواطن الشبهة النقدية يفترض وعيا انطباعيا قبل-بحثي ناقد, الا انه خاضع خضوعا تاما للقوى الاجتماعية, ولن يتحول الى وعي نقدي اجتماعي الا اذا تحول هذا الوعي الانطباعي قبل البحثي الى وعي بحثي نصي, اي ان يتحول الانطباع الناقد الى خطاب يرى تفاعلات عناصر المجتمع ويتأثر بها ويؤثر فيها.

إضافة الى غياب الوعي النقدي او حضور الانطباع النقدي قبل البحثي فقد ظهرت بعض المحاولات البحثية في (او على يد من ينتمون الى) بعض الجامعات العربية, الا انها محاولات تتسم بسمات تحد من قدرتها على الدخول الجاد والواعي في معترك التفاعل الاجتماعي وكشف حضور السلطة في ثنايا حياة المجتمع, ومن أمثلة هذه النماذج كتاب عبدالله الغذامي «النقد الثقافي» وهو كتاب ينبغي التوقف عنده لما يحمله من طروحات كبيرة تقترب من افكار النظرية النقدية.

أول ما ينبغي قوله عن هذا الكتاب هو غياب المرجعيات النظرية النقدية فيه, فنقده لما يسميه النسق ينطلق من ان هذا النسق يناقض «العقلانية» حيث يتكرر في الكتاب انتقاد محدد للبلاغة التقليدية وهو انها تغيب العقل (انظر الغذامي 2000:82), ونجد ايضا ان الغذامي ينتقد أدونيس لأن لديه «عداء خاصا, وهو عداء نسقي, لكل ما هو منطقي وعقلاني»(281).

كما نجد الغذامي الاخلاقي في حربه على «العيوب» النسقية. واستخدام كلمة «العيوب» يحيل الى خلفية نظرية تفترض السلامة الاخلاقية والثقافية, فما المقصود بالعيوب? كيف يمكن تسمية او وصف ظاهرة معينة بأنها «عيب» نسقي? ما يمكن قوله هنا هو ان استخدام الغذامي لمصطلح «العيب» (هذا اذا تم تجاوز الشحنة الاخلاقية التي يحملها) استخدام تنقصه الدقة الى حد كبير, كما هو الحال في الاقتباس التالي من مقدمة الكتاب: «لقد آن الاوان لأن نبحث في العيوب النسقية للشخصية العربية المتشعرنة»(7). ان استخدام العيوب النسقية هنا غير دقيق, فإن كان المقصود بالعيوب هو تلك الظواهر التي تعتبر نتائج طبيعية لخطاب ما في «نسق» ما, إن وجد هذا الخطاب والنسق, لما كانت تلك الظواهر «عيوبا» بل انها دلائل على نجاح النسق والخطاب. ان مصطلح «العيوب النسقية» يفترض ان النسق الموجود غير منسجم في ذاته وغير مترابط كما تظهره بعض ظواهر خلل النسق (لا الخلل بالمفهوم الاخلاقي الذي ينظر الى النسق من الخارج), وهو ما لا يوجد في تحليل الغذامي, فتحليله للامثلة المقدمة على «العيوب» النسقية, ومن خلال النتائج المنطقية لرؤيته النقدية, نجد ان ما اسماه عيوبا هي في واقع المقام نتائج طبيعية للنسق لا عيوب فيه.

إن تورط الغذامي الاخلاقي في مفهوم كمفهوم «العيوب النسقية» هذا مرده عدم تماسك الاطار النظري الذي ينطلق منه في جانب, وعدم تماسك رؤيته ووسائل تحليله للمجال الذي ينتقده في الجانب الاخر. فالاطار النظري الذي ينطلق منه لا يقوم على وجود رؤية متماسكة تلم شعث كل النظرات والافكار التي تطرحها فكرة النقد الثقافي. فمنطلقات الغذامي منطلقات أخلاقية غائمة, وسياسية شعبية بل وتصل حد التناقض (كما يتبين من المثال الذي ضربه على الطاغية وإغفاله النظر عما هو اقرب اليه من حبل الوريد من تحالف السياسي القبلي والسياسي الديني), وفكرية غير واضحة (عقلانية لا توجد في الكتاب بأكمله كلمة واحدة تشرحها).

إن الممارسة النقدية للمجتمع هي رد على نزع التاريخ عن ظواهر هذا المجتمع, حيث يقوم النقد بتعزيز حضور عناصر التاريخ, اي السلطة والمصالح والاستغلال والاخضاع والخضوع كما تتجلى حقيقة في الممارسات الاجتماعية كما ترى من إطار نقدي, اما في كتاب الغذامي فنجد تحليلا غير تاريخي على الاطلاق يعتمد على تحليل لا يستقرئ النصوص استقراء يتجاوز بناها الدلالية السطحية, مع بعض الانطباعات النظرية التي تستخدم كمقدمات لنتائج يحيط بها الشك كما يتجلى في حديثه عن تغير أبي جعفر المنصور ببيت شعر:

والامر لا يتوقف عند حدود الاعطيات بل يتجاوز الى ما هو أخطر, حينما يتدخل الشعر في التأثير على سلوكيات الممدوحين, وهناك في هذا الامر حكاية معبرة وذات دلالة نسقية, يرويها المسعودي في مروج الذهب عن عيسى بن علي الذي ذكر ان ابا جعفر المنصور كان يشاورهم في جميع أمره حتى امتدحه ابراهيم بن هرمة في قصيدة قال فيها:

إذا ما اراد الامر ناجى ضميره

فناجى ضميرا غير مختلف العقل

ولم يشرك الأذنين في سر امره

اذا انتفضت بالاصبعين قوى الحبل

تغير المنصور من رجل يستشير في كل أمره الى رجل مستبد ومطلق, غيره بيت من الشعر ....(156).

والغذامي هنا يصل الى نتيجة «تغير المنصور» وما ساير هذا التغير من تغير سياسي اجتماعي في آلية عمل الدولة بتحولها من «المشاورة» الى الهيمنة المباشرة (الطغيان), وهي نتيجة ما كان للغذامي ان يصل اليها لو انه انطلق من اطر نقدية واضحة تدرك تعقيد عملية التغيير الاجتماعي والسياسي, وتدرس تجليات تفاعل القوى حتى في الظواهر التي يبدو فيها الوضع مثاليا (كسياسة المنصور الداخلية قبل ان يسمع قصيدة ابراهيم بن هرمة), فمشاورة المنصور للناس «في جميع أمره» تشكل بذاتها موضوعا بحاجة الى التحليل النقدي لإظهار وضع القوى الاجتماعية فيها وتفاعل هذه القوى.

إن مبعث القلق إضافة الى عدم قيام الطرح والتحليل على أسس نظرية واضحة في ممارسة تدعي النقدية هو ان الباحث يقوم بتحليلات هي تحليلات من تحليلات المجال العام مستخدما المفاهيم العامة (خارج أطر البحث المنهجي الصارم), في طرحها وفي لغتها, كما في التالي:

ومن غير العجب ان نجد هذا المعنى النسقي يظل يتكرر في الخطاب الاعلامي المعاصر, وبمجرد ما يغضب زعيم على آخر تتوالى اللعنات على بلد الاخر وقومه وتاريخهم, كل ذلك لغضبة صارت تسمى في ثقافتنا بالغضبة المضرية.

إن تحليلا مثل هذا ليس تحليلا نقديا, بل انه في حقيقة الامر انعكاس لخطابات اجتماعية تنطلق من منطلقات غير بحثية كالتعجب الانطباعي من الامور (»من غير العجب ان ... «) الذي لا يرى في العمليات الاجتماعية والسياسية الا ظواهر شخصية نفسية (؛يغضب زعيم على آخر») ويسيء فهم السلوك الاجتماعي ويفهمه فهما عواميا (؛تتوالى اللعنات على ...») وهو فهم غير تاريخي يخلو في إطلاق مصطلحات وإدراك مفاهيمه من المنهجية الواضحة (»صارت تسمى في ثقافتنا بالغضبة المضرية»).

ينبغي التأكيد هنا على ان هذا الضرب من النقد الاجتماعي هو خطر على المجتمع العربي, لأمور عدة أهمها غياب المرجعية النظرية الواضحة وهو غياب يتمثل في التقلب بين العقلانية والديمقراطية وغيرها من مفاهيم غير مفسرة تفسيرا ناجحا في هذا الكتاب. ان كتاب الغذامي, وغيره من الكتب والدراسات التي تمتلئ بها وبآثارها خلايا الحياة العربية, لا يشكل في حقيقة الامر دراسة نقدية جادة لثقافة المجتمع العربي, بل انه في جوانب كثيرة يعمل على نحو نظري وتحليلي يعزز القوى الاجتماعية الموجودة وآليات تفاعلها.

2-2: إشكاليات الدراسات اللغوية العربية

تتميز الدراسات اللغوية العربية في أغلبها بتواصلها مع التراث اللغوي العربي الذي يتميز بالوصف البنيوي للوحدات اللغوية وعدم ربط هذه الوحدات بالتفاعلات الاجتماعية الكبرى في المجتمع العربي. وكنموذج على ذلك سيقدم المثال التالي تحليلا لنموذج مستمد من «موسوعة النحو والصرف والاعراب» التي أعدها اميل بديع يعقوب (يعقوب 1988):

نحن: ضمير رفع منفصل للمتكلم الجمع, نحو: «نحن جنود شجعان», أو للمفرد المعظم نفسه, أو المتكلم باسم جماعته, نحو: «نحن الكتاب نحب الحق»(672).

نجد هنا مثلا وصفا لإستخدام كلمة نحن يساوي بين ثلاثة استخدامات هي (1) المتكلم الجمع, و(2) المفرد المعظم نفسه, و(3) المتكلم باسم جماعته, وهو وصف لا يتجاوز ما يراه الواصف من الاستخدامات الثلاثة على مستوى الاستخدام اللغوي ولا يتجاوز هذا ليناقش بنية المجتمع وعلاقة هذه الاستخدامات الثلاثة بقضايا كبرى في المجتمع والإخضاع الاجتماعي الذي يخفيه الاستخدامان الثاني والثالث على وجه الخصوص, فـ«المفرد المعظم لنفسه» ليس وصفا لأمر محايد اجتماعيا بل انه يصف قضية أساسية من قضايا السلطة في المجتمع, فتعظيم النفس لا بد ان يكون في سياق اجتماعي, والتعظيم هنا يعني ابراز فرد معين وتعزيز قوته الاجتماعية بحيث يكون حديثه عن ذاته يتجاوز ذاته وتكون ذاته شاملة لمجموع اجتماعي, اي ان هناك هيمنة اجتماعية خفية تفترض استخدام «نحن» تمارس ضد جماعة اجتماعية قبلت هذا الاخضاع او ان لم تقبله, فإنها لا تقاومه او ان مقاومتها لم تكن بالقوة الاجتماعية التي تمنع تعظيم النفس المتجلي في «نحن» هذا, والامر ينسحب أيضا على استخدام «نحن» باسم الجماعة, فالحديث بـ«اسم جماعة» يفترض آليات هيمنة اجتماعية تتمثل أولا في قبول الجماعة لكونها جماعة أصلا بالشكل الذي يتم تقديمها به من خلال الضمير «نحن», وثانيا قبولها هذا التمثيل الذي يجعل شخصا ما يتحدث باسمها.

ان التحليل البسيط الذي تقدمه اللسانيات العربية التقليدية اذا ينقصه الكثير من الأطر النظرية التي يمكن لهذه اللسانيات بها ان ترى جوانب أخرى من جوانب استخدام اللغة تتجاوز بنية الوحدة اللغوية الصغرى (مثل «نحن») الى وحدات اكبر تتعلق بالقوة الاجتماعية والهيمنة وأنماط الاخضاع والخضوع.

تتميز اللسانيات التقليدية كذلك بأنها تفتقد الى النظر الى سياق الاشياء وتاريخيتها, وهذا ما لا يمكن رؤيته الا بالنقد الاجتماعي, فأمثلة ألفناها مثل «جاء زيد» و؛ذهب عمرو» تضيء الطبيعة التركيبية النحوية للبنى اللغوية الصغرى (الفعل والفاعل), الا انها في الان ذاته متعالية على التاريخ, فهي أمثلة طويلة الأجل ولم تزل, هي او مشابهاتها, منذ التطورات المبكرة في الدراسات النحوية العربية, وهي أمثلة لا تتعامل مع بشر حقيقيين في سياق تاريخي حقيقي. ان الرؤية النقدية ستكشف الكثير فيما يتعلق بآليات الهيمنة التي تخفيها هذه الامثلة المألوفة, فهي مثلا تعزز هيمنة الذكر اجتماعيا بغياب الانثى فيها, فالانثى لا تستدعى للتمثيل على ظواهر نحوية عامة, فيما ان الفاعلة (مصطلح «الفاعل» يفترض الذكر دائما) في المثلين قد تكون أنثى ويمكن استخدام مثال مثل «جاءت سعاد» للتمثيل على ما يشمل الذكر والأنثى, الا الهيمنة الذكرية اجتماعيا أثرت في رؤية النحو لموضوعاته ومناهجه فخضع لنمط السلطة الذكرية اجتماعيا. اضف الى ذلك ان الافعال المستخدمة في مثل هذه الامثلة هي افعال غير تاريخية ولا ترتبط بأية عملية اجتماعية كبرى فلا نجد أمثلة مألوفة في النحو العربي مثل «ثار زيد» او «خضع عمرو لقوة زيد» او سواها من الأمثلة التي تعزز الوعي الاجتماعي بالسلطة وأفعالها وآليات ممارسة هذه الافعال.

2-3: نحو رؤية نقدية لغوية عربية:

ليس المقصود من إضافة الصفة «عربية» الى «رؤية نقدية لغوية» ان الافكار والمناهج التي تقوم عليها هذه الرؤية ذات جوهر يرتبط بالحياة العربية, بل نعني إطارا نظريا يمكن البدء في تطبيقه لدراسة اللغة في الواقع العربي المعاصر, ومن اليقيني ان هذا الاطار يتغير بإستمرار بحسب ما تستكشفه الممارسات النقدية من مواضع جديدة يمكن دراستها او مناهج أصلح لتحقيق أهداف هذه الممارسات النقدية.

النقد كرؤية جديدة في المجتمع العربي

يشير حليم بركات(2000) الى أربع رؤى او تصورات بديلة للواقع العربي هي رؤية الانتماءات الخاصة التي تخدم العناصر الصغرى في المجتمع العربي كالقبيلة او الطائفة او العرق ولا ترى, وتقوم هذه الرؤية على «اعتبار الوضع القائم واقعا شرعيا مستمدا من طبيعة التكون الاجتماعي التعددي والاتساع الجغرافي والمصالح المتنافرة للوطن العربي»(139) اما الرؤية الثانية فهي الرؤية التوفيقية التي تهادن أنماط القوى الاجتماعية الموجودة في المجتمع العربي, والرؤية الثالثة هي الرؤية الدينية الاصولية وهي رؤية تفرض انماط حياة ماضية على واقع يختلف جذريا عن الماضي, وهي رؤية مغرقة في سلطويتها وأنماط هيمنتها اللغوية كما سنشير لاحقا, اما الرؤية الرابعة التي يشير اليها حليم بركات فهي الرؤية القومية التقدمية, وهي رؤية خليط من اليسار التقليدي الحالم بالتغيير نحو مجتمع عربي موحد غير طبقي يخلو من الاستبداد.

ان كل هذه الرؤى للمجتمع العربي هي رؤى سياسية مباشرة, فالاولى تعتمد على بقاء بعض الوحدات الاجتماعية الطبقية او الطائفية على حساب الوحدات الاخرى, اما الثانية فسكونية غير تغييرية تستفيد من أنماط السلطات الاجتماعية القائمة في المجتمع العربي, اما الثالثة فهي رؤية تقوم على تفسير معين للنصوص الدينية تفسيرا يخفي وراءه السعي الى الهيمنة الاجتماعية, فيما ان الرؤية الاخيرة التي يؤيدها حليم بركات فتقوم على رؤية ماركسية تقليدية لا ترى في أنماط الهيمنة الا تلك التي توجد بين الطبقات الاجتماعية. ان سياسة هذه الرؤى تعني انها توجد في ظروف سياسية متوترة وتهدف لا الى مستقبل عربي افضل بل يهدف كل منها الى وضع تهيمن عليه المجموعة التي تتبنى كل رؤية من هذه الرؤى على المجتمع.

إن ما ينقص الرؤى الاربع المطروحة هو البعد النقدي المنبت تماما من السعي المباشر للوصول الى السلطة, ذلك البعد الذي يمارس السياسة الاجتماعية لا كلاعب مباشر بطروحات سياسية مباشرة, بل كمعين نحو تغيير اجتماعي ليس له صورة سياسية موحدة (سواء أكانت موجودة ام يتم السعي اليها) بل يهدف الى وضع اجتماعي قيمي أفضل يعرف الضعيف اجتماعيا فيه الآليات الاجتماعية واللغوية تحديدا التي جعلته في وضعه ذلك.

إعادة تعريف السياسي

ومواضع الهيمنة في المجتمع العربي

ان فائدة الدراسات النقدية اللغوية تكمن في انها تتجاوز الرؤى الطبقية التقليدية في انها تبحث عن آليات الهيمنة في مواضع من الحياة الاجتماعية كانت مغفلة من الدراسة النقدية كالعلاقات البسيطة بين الافراد (المدرس-التلميذ, الطبيب-المريض, الأب-الابن) ثم العلاقات بين الفرد والجماعات الوسيطة وهيمنة بنية الجماعة الوسيطة (كالقبيلة والطائفة) في الخطاب المستخدم وصولا الى المستويات السياسية المباشرة الأعلى كالدولة ونظم الحكم وسواها.

أشكلة الواقع العربي المعاش

إنطلاقا من عناصر هذا الواقع

تنطلق الرؤية النقدية اللغوية العربية المقترحة من أشكلة الواقع, ويمكن أشكلة الواقع العربي لأنه أولا إشكالي في المستوى الافتراضي, لا يختلف عن المجتمعات الاخرى في حضور القوى الاجتماعية وآلياتها في الهيمنة والإخضاع, إضافة الى ان الواقع العربي إشكالي لأن المؤشرات الموجودة على التوترات الاجتماعية كالاحتقان الاجتماعي والسياسي في العالم العربي جلية جدا ولا يحتاج إثبات وجودها الى عناء نظري وتحليلي كبير. كما ان هناك تجليات لإشكالية صراع سلطات على المستويات الكبرى والصغرى, فالمجتمع العربي يحتوي على خطابات داخلة في لب الصراع الاجتماعي: الخطابات الاجتماعية المسيطرة والخطاب الاسلامي المناويء. أضف الى ذلك ان غياب الطرح النقدي الجاد يطرح تساؤلا حول إمكانية وجود تحالف أكثر عمقا بين الخطابات المسيطرة والخطاب الاسلامي المناويء, فالتفاعل بين خطاب السلطة والخطاب الديني ليس تفاعلا صداميا (رغم تجليات الصدام الدامية أحيانا كما في حالة الجزائر) الا انه تفاعل سكوني يبقي على الاثنين في هيمنة اجتماعية بما يتبعها من مظاهر خطابية. أضف الى ذلك ان في المجتمع العربي خطابات محدودة المجال توحي بالصدام الاجتماعي كخطاب تحرير المرأة والخطابات المدافعة عن بعض الاعراق كالبربر وسواهم وغيرها من الخطابات.

إن كل المؤشرات تدل على واقع اشكالي متخلف, وهنا يلج الفرق بين أهداف النظرية النقدية الغربية والرؤية النقدية العربية, فالنظرية الغربية تنطلق من رؤية الظلم الاجتماعي في منجزات اجتماعية كبيرة ما زال المجتمع العربي لم يصل الى أبسطها. اما المجتمع العربي فنظام السلطة فيه غير مدروس ولم يتعرض لهزات عنيفة, بل ان انماط السلطة التقليدية (كالحكم الوراثي) قد عادت الى انظمة تعادي ظاهريا نظام السلطة التقليدية. ودراسة اللغة والخطاب في مثل هذه الحالات ملح وضروري هنا لكشف الفجوة الجلية أصلا بين ما يقال وما يحدث. ان هذا يتطلب قبل تحليل النصوص المفردة تطوير رؤية تفسر الوظائف التي تؤديها اللغة في المجتمع العربي في تعزيز الهيمنة وفقدان التوازن الاجتماعي.

ضرورة الفهم العميق للمجتمع العربي

لابد لإنجاح الممارسة النقدية العربية من دراسات اجتماعية وصفية عميقة تعتمد عليها الدراسات النقدية, فلا يمكن للباحث الناقد ان يكتشف مواضع الهيمنة الاجتماعية لغويا ان لم يكن لديه فهم رصين لطبيعة السياق الاجتماعي الذي وجد فيه النص. وفهم المجتمع العربي ينبغي ان يقوم على فهم لعناصره وتفاعلها, وعناصر هذا المجتمع وأنماط تفاعل عناصره تختلف إختلافا جذريا عن حال المجتمعات الاخرى. وقد أوضح كثير من الدراسات الاجتماعية التي حللت المجتمع العربي تعقيده الشديد, وهو تآلف تناقضات عديدة, الا ان الاستبداد سمة تبرز في كثير من عناصره وتفاعلها, وهو يعاني من فقدان استقلاله وتبعيته الشديدة للنظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي, وهي تبعية لم تنتج عنها أنماط اجتماعية حياتية جديدة بل انها عززت من آليات الاستبداد والهيمنة الموجودين أصلا, كما هو حال الطبيعة البطركية الأبوية للمجتمع. ان الهيمنة التي توجد في المجتمع العربي «شرسة ويصعب اختراقها وكسرها» (بركات 2000: 24) وهو وضع يفرض ضرورة الاستعجال في الدراسات النقدية عموما ودراسة اللغة كفاعل رئيسي في آليات الهيمنة خصوصا.

كما ينبغي (واقولها على سبيل الاقتراح لا على سبيل الطرح المعياري) ان يفهم الباحث العربي سياق بحثه فهما يتجاوز السطح ويغوص الى عمق نمط السلطة العربية, فهي سلطة متجذرة وعميقة الى حد كبير. ان نمط السلطة في المجتمع العربي (بمستوياتها الكبرى المتمثلة في خطاب الدول وخطاب الاسلام المناوئ المتحالف, والمستويات الصغرى المتمثلة في خطابات جماعات مقصاة اجتماعيا كالمرأة والطوائف والاعراق المقصاة, اضافة الى تجليات تأثير القوى الاجتماعية في التفاعلات بين الفاعلين اجتماعيا في المجالات التأثيرية المحدودة كالمدرسة والمسجد وغيرها) لم يتأثر بإنقلابات هائلة شهدها العالم كغياب الشيوعية والعولمة وسواها. ان معنى هذا, اضافة الى وبناء على بقاء النظم الاجتماعية العربية, ان على الباحث العربي ألا يدخل كلاعب مباشر في تفاعلات القوى في المجتمع العربي, فهذه التفاعلات التي تقودها السلطات الموجودة قد شكلت تجربة تستطيع بيسر امتصاص النقد السياسي والاجتماعي المألوف. ان رؤية البحث النقدي ذاته كخطاب تغييري في السياق الاجتماعي يعني إن عليه ان يطور رؤى نظرية ومناهج تحليلية تعزز وظيفة المقاومة النقدية ولكن بطرق إبداعية لم يعرفها نمط السلطة العربية العميق الجذور. لقد أعلنت بعض الرؤى الثوروية العربية فشلها بسبب ما يبدو من فقدان فهمها لطبيعة السلطة العربية, كالحداثة التي دعا اليها مفكرون كأدونيس وأقماره الفكرية والتي أعلنت رفع رايتها البيضاء أمام خطاب القوى القائمة وأمام الخطاب الاسلامي المناويء-المتحالف.

كما ان على الخطاب النقدي العربي في عملية أشكلة الواقع ألا يتورط بما يقدمه هذا الواقع من بنى ظاهرية بل ان عليه ان ينزع الألفة التي يشعر بها حتى إزاء ما يعتقد انه سلطات قائمة, فمن البين في بعض الحالات ان السلطات التي يبدو انها سلطات مؤسسات غير تقليدية كمؤسسة الدولة الحديثة هي في حقيقة الامر قناع تختفي تحته السلطات القبلية والدينية التقليدية. ان علي النقد كذلك ان يدرس التاريخ في كل حالة عربية لتستكشف الوسيلة الأنجع للنقد.

الموقع غير السياسي المباشر

للدراسات النقدية العربية

على الرغم من اليقين حول فشل التجارب النقدية السابقة في الحياة العربية, الا انني لا استطيع ان أضع يدي على مخطط يمكن ان اقترحه هنا لتغيير الوضع, ولإحداث صدع في جدار وضع القوى في المجتمع العربي. ان هذا الامر يتطلب في رأيي إتخاذ موقف لا يدخل في وضع السياسة المباشرة بل يعتمد على البحث النقدي القائم على مناهج نقدية حديثة تسندها دراسات اجتماعية معمقة. كذلك على النقد اللغوي العربي ان يراعي انه رؤية بحثية وليس نظرية في السياسة المباشرة ولهذا فإن على البحث النقدي الا يتميز بالحدة التي تتمظهر مثلا في خطابات الجماعات المقصاة اجتماعيا كالمرأة والطبقات الاجتماعية المهيمن عليها وسواها, فهو خطاب بحثي أولا وأخيرا ويجب ألا يبتعد به هدفه الذي يتشابه مع خطابات الجماعات المقصاة اجتماعيا عن وعيه بأنه يشارك في الوضع الاجتماعي بالبحث لا بالسياسة المباشرة.

حضور النقد تغيير في ذاته

أشير كذلك الى ان على الباحث العربي ألا يستعجل التغيير الاجتماعي للظواهر محل دراسته, فالتغيير الاجتماعي بطيء عادة والتغيرات السريعة لا تبقى في العادة لأجل طويل لأنها محصلة وضع سياسي وليس تلازما بين حركة بحث نقدي ووضع اجتماعي متأثر بهذا البحث. ان وجود عملية الممارسة النقدية للغة والخطاب هو في حد ذاته تقدم مهم في التفاعل الاجتماعي. اعني ان على النقد العربي ألا يشغل نفسه مباشرة بغياب م ث ل اجتماعية او السعي الصريح نحو تحقيق منتج مثالي (كحرية الصحافة مثلا), بل ان عليه ان يدرك ان حضور النقد العلمي الطابع في حد ذاته مهم في ذاته.

أخيرا أشير الى أمر يرتبط بهذه النقطة, وهو أن تبادر الرؤية النقدية اللغوية العربية الى ترجمة ما كتبه الباحثون النقاد الغربيون من دراسات حول اللغة وعلاقتها بالسلطة والتفاعل بين القوى في المجتمع, وترجمة كتب النظرية النقدية عموما والنقد اللغوي على وجه الخصوص هي شكل من أشكال الممارسة النقدية, حيث انه ادخال الى الوضع الثقافي العربي لأفكار ستساهم لاريب في تغيير المجتمع العربي الى وضع أفضل من الوضع الذي يعيشه الان. ان مثل هذه الترجمة تشكل تحديا للنظام المعرفي السكوني, في أغلبه, الذي تآلفت معه القوى العربية واستمدت, في جوانب كبيرة من مظاهرها, قوة تبقيها في مواضع السلطة وتكبح العناصر الاجتماعية الاخرى من مقاومتها. ومن الأمثلة على الدراسات الأساسية في النقد اللغوي الغربي التي ينبغي ترجمتها دراسات فيركلاف في التحليل النقدي للخطاب (Fairclough 1989, 1992, 1995), ودراسات فان دايك العديدة حول حضور العنصرية في الخطاب(van Dijk 1987, 1991, 1993, 1998), وكتاب فاولر (Fowler 1996), وغيرها من الكتب التي تحلل حالات محددة من التفاعل بين اللغة والقوى الاجتماعية.

2-4: بعض مجالات الدراسة النقدية اللغوية العربية

لم يحظ البعد اللغوي في الدراسات الاجتماعية بتحليل عميق يبين حضور القوى الاجتماعية في اللغة وخلفها, ولهذا السبب فإن المجال العربي يعد كنزا عظيما للدراسات النقدية اللغوية. يمكن القول انطلاقا من هذا انه لا توجد ناحية من نواحي استخدام اللغة والخطاب وغيابهما في بعض المواضع الا وتكون ميدانا للقوى الاجتماعية وهيمنتها وآليات إخضاعها للعناصر الاجتماعية الاخرى التي تتميز بموقعها الأضعف اجتماعيا. سأتحدث فيما يلي عن ثلاثة من المجالات التي يمكن للدراسة النقدية ان تقدم فيها الكثير لتبيين وضع القوى الاجتماعية في المجتمع العربي.

الخطاب الديني

يمثل الخطاب الديني مجالا خصبا للبحث النقدي اللغوي, فالدين عنصر أساسي في بنية المجتمع العربي, وهو عنصر أساسي من عناصر التفاعلات الداخلية داخل هذا المجتمع, بل انه كما تبين في الفترة الاخيرة التي تلت أحداث 11 سبتمبر 1002 انه عنصر أساسي في تفاعل المجتمع العربي مع المجتمعات الأخرى. والدين في العالم العربي ليس أمرا شخصيا يختاره الفرد العربي ان اراد, ويتركه ان شاء, بل انه ظاهرة لها أبعاد اجتماعية مهمة, ولهذا فإن الخطاب الديني, أي اللغة التي يدخل الدين عنصرا جوهريا فيها لها سياقا و/أو مضمونا, ينبغي ان يدرس بتعمق من أكثر من زاوية لعل أهمها هو حضور القوى الاجتماعية في الخطاب الديني وحضورها خلفه.

يمكن تحليل حضور الهيمنة الاجتماعية في الخطاب الديني بدراسة نصوص مكتوبة او محكية يقوم الباحث فيها بتحليل دور العلاقات الاجتماعية في تحديد او كبح مضامين معينة, وفي تحديد او كبح علاقات معينة ومواقع اجتماعية معينة لبعض الافراد والجماعات. ويمكن مثلا طرح بعض الاسئلة حول المضمون والعلاقات ومواقع الافراد:

) المضمون: ما هو مضمون ما يطرحه الخطاب الديني? هل لما يقوله هذا الخطاب إفتراض تسليمي بقوى اجتماعية موجودة (السلطة السياسية, أو السلطة الدينية او الذكور إزاء الاناث مثلا), او تبرير لوجود قوى اجتماعية معينة? هل هناك محاولة من هذا الخطاب لكبح قوى اجتماعية تسعى للتغيير الاجتماعي وتغيير نسق تفاعل القوى في المجتمع الذي انتج فيه و/او له النص?

) العلاقات: ما هي طبيعة العلاقات بين الافراد او الجماعات ذات العلاقة بهذا النص? هل العلاقة علاقة تفاعل ام انها علاقة أمرية فحسب?

) الموقع: ما هي الادوار التي يؤديها الاشخاص الفاعلون في هذا الخطاب? هل لهذه المواقع علاقة بالقوى الاجتماعية? كيف تعزز هذه الأدوار نمط علاقات القوى الموجودة?

ينبغي هنا تعزيز الوعي الذي يميز بين الدين كسعي نحو المطلق يتجاوز الزمان والمكان, وتجلياته في التاريخ, وهذه التجليات الخاضعة لمقتضيات الحياة البشرية للخطاب الديني هي التي ينبغي ان تكون هدفا للدراسة النقدية للغة. ان الهدف من نقد الخطاب الديني يجب ألا يكون التشكيك في معتقدات الناس الفردية وأنماط الايمان الذي يرونه مناسبا لهم من أجل خلاص معين أيا كانت رؤيتهم لطبيعة هذا الخلاص الفردي, ولكن توفير ما يكفيهم من المعرفة ليتمكنوا من رؤية المواضع التي يتم بها اخضاعهم والسيطرة على أفكارهم وخطاباتهم. ان اعادة الخطاب الديني الى التاريخ ينبغي ان يكون هدفا أساسا لنقد الخطاب العربي.

كذلك يمكن دراسة آثار هيمنة القوى الاجتماعية خلف الخطاب واللغة, بدراسة الاوضاع التي يتم استخدام الخطاب فيها, والشروط الاجتماعية والمؤسسية التي تسمح لأفراد او لجماعة من الوصول الى هذا الخطاب, اضافة الى تلك الاوضاع الاجتماعية التي تمنع أفرادا او جماعة من انتاج نصوص تنتمي الى هذا الخطاب. الخطاب الديني الاسلامي مثلا له أبعاد تتعلق بوضع المرأة الاجتماعي, ولهذا تظل المرأة خارج دائرة انتاج هذا الخطاب, فلا يمكن على سبيل المثال للمرأة (واقعيا ان لم يكن شرعيا) ان تكون خطيبا لخطبة الجمعة او العيد مثلا, ولا يمكنها في العادة ان تؤدي وظيفة انتاج نصوص الفتوى, بينما توجد نساء يمارسن وظيفة الوعظ. وهذا وضع يثير تساؤلات حول ارتباط هذه الاطر المؤسسية بوضع المرأة الاجتماعي, فالخطابة وانتاج نصوص الفتوى هما وظيفتان اجتماعيتان يفترضان ممارسة قوة اجتماعية خطابية على مستقبلي النصوص الدينية, فيما تشكل وظيفة الوعظ حينما تمارسها المرأة تأكيدا على دورها المحدود خطابيا حيث انه محدود التأثير من ناحية الجمهور الذي هو في الأغلب من النساء, وهو محدود أيضا لأن مضمونه في العادة يتعلق بالمرأة وطرحه يركز على تعزيز نفس آليات التفاعل الاجتماعي القائم حول وضع القوى بين الرجل والمرأة في المجتمع العربي.

المرأة في الامثال

الامثال تعد أحد المجالات التي يمكن من خلالها دراسة أوضاع القوى الاجتماعية. والامثال هي نصوص طويلة الأجل يتوارثها المجتمع من جيل الى آخر, وبقاؤها يعني نقديا ان هناك اوضاعا اجتماعية ثابتة يستعان بالأمثال لتبريرها. وقد حاولت في دراسة لم تنشر (الحراصي, دراسة لم تنشر) ان احلل وضع الأنثى كما تعرضه الأمثال العمانية, وقد وجدت ان أغلب الامثال العمانية التي تتعرض للأنثى هي أمثال تعزز قوة الذكر اجتماعيا وتحول الانثى الى أداة منفعية يستفيد منها الوضع الاجتماعي السائد. وقد حاولت في هذه الدراسة ان أركز بالتحديد على دور الاستعارة ليس في تشكيل صورة الانثى في هذه الامثال (حول الاستعارة انظر الحراصي: 2002), بل دورها في تشكيل هوية الانثى ذاتها والوظائف الاجتماعية المتاحة أمامها, ومن أبرز ما وجدته ان الأمثال العمانية تستخدم استعارات تحول المرأة الى وسيلة تسهل حياة المجتمع, وان وجودها ليس وجودا فرديا يعزز قوتها إزاء قوة الرجل. وفي دراسة مصادر هذه الاستعارات وجدت ان كثيرا منها يأتي من الحياة الحيوانية, حيث تربط المرأة بالحيوان كما هو في المثل القائل «عليك بالبنت المطيعة والدابة السريعة والارض الوسيعة», حيث تتساوى البنت مع الدابة (الحيوان المستأنس المستخدم للتنقل) والارض المستخدمة للبناء او للزراعة, فالمرأة المثالية هي تلك التي تطيع زوجها, وطاعة الزوج تعني الخضوع لسلطة الذكر, وحيث ان الذكر هو المسيطر, وحيث انه ينتقي من النساء ما يخضع لسلطته ولا يهددها فإن ذلك يعني ايضا اقصاء كل امرأة تبدو عليها سيماء المقاومة الاجتماعية والخطابية لتكون زوجة له. كما ان هذا المثل ينزع صفة الانسانية عن المرأة بجعلها احدى الوسائل التي تحسن وضع حياة الرجل, كالحيوان السريع وكالارض الواسعة, وان العلاقة بالمرأة لا تتجاوز علاقة المنفعة فحسب.

تتجلى نفس الرؤية التي تربط المرأة بالحيوان المستغل أيضا في المثل الذي يقول «ثوره من بقرته, وبيداره من حرمته», وهذا المثل يعكس سعي الفلاح العماني الى الاكتفاء الذاتي في فلاحة الارض, حيث يتم انتاج كل شيء داخل البيت دون الاستعانة بشيء او بشخص من خارجه, فالثور الذي يستخدمه الفلاح في حراثة الارض يأتي من البقرة التي يمتلكها, كما ان الزوجة تنتج «بيداره», والبيدار هو الرجل الذي يستأجره صاحب مزرعة او حقل لسقي الاشجار. وهكذا فإن وجود المرأة هو وجود أداتي منفعي. ويقترب من هذا المفهوم المثل القائل «الحرمة خصفة» الذي يعتبر المرأة «حاوية» تحمل الطفل الى حين ولادته, ويستخدم على سبيل الاستعارة صورة مألوفة محليا للحاوية وهي صورة الخصفة التي هي وعاء يصنع من «خوص» النخيل يحفظ فيه التمر عادة.

وقد تكون مصادر الاستعارات من التجارب الاجتماعية التي يعيشها المجتمع, ومن هذه التجارب تجربة «هوش بالنص» (الهوش هي الحيوانات المستأنسة كالماعز والأغنام) التي استثمرت في أحد الامثال لوصف البنات «البنات هوش بالنص». في هذه التجربة يشترك شخصان في شاة مثلا حيث يشتريانها معا, ويتم بالتساوي تقاسم قيمة بيعها ان هما قررا بيعها بعد حين, او لحمها ان ذبحاها. واسقاط هذه التجربة على رؤية المجتمع للبنت يحمل مستتبعات عديدة, منها ان (1) ان لا وجود للمرأة في ذاتها مطلقا, بل انها دائما ما تكون تابعة دائما, و(2) انها دائما غرض لمستفيد.

لا ريب ان هناك أمثالا اخرى تحمل رؤى مختلفة عن الانثى, فتقدر الانثى ودورها الاجتماعي, وان هذه الامثال التي ناقشناها لا تعكس بالضرورة مثلا اجتماعية او دينية, الا ان وجود الامثال الأكثر ايجابية في التعامل مع الانثى لا يعني ان الامثال أعلاه لا تحط من وضع المرأة الاجتماعي وموقعها إزاء الرجل, وتحدد أنماط علاقة بين الذكر والانثى غير متساوية تعيد تشكيل صورة المرأة ووظائفها الاجتماعية من منظور ذكوري سلطوي.

الانترنت ودورها في

تثبيت/تغيير تفاعل القوى الاجتماعية

لا ريب ان الانترنت قد أثرت في عمق الحياة البشرية من حيث انها تشكل المرة الاولى التي يتمكن فيها كل انسان (لديه خط هاتف واشتراك انترنت بطبيعة الحال) من الوصول الى المعلومات اينما كان مصدرها, وهو مجال خصب للدراسات النقدية اللغوية من أكثر من زاوية:

* الوصول الى الخطاب: ان اعتبار الى مواقع الانترنت بإعتبارها نصوصا يعني من الممكن إجراء دراسات نقدية لإمكانيات الوصول الى هذه النصوص في الدول العربية, وهذا لا يمكن ان يتم الا بدراسة شروط استخدام الانترنت عربيا, ودراسة واقعية للمواقع التي تمنعها مؤسسات توفير الانترنت. أضف الى ذلك يمكن دراسة شروط انتاج نصوص الانترنت التي تشترطها مؤسسات توفير مواقع الانترنت.

* «حرية» الانترنت: وفرت الانترنت مجالا لكثير من منتجي النصوص الذين منعهم الوضع الاجتماعي العربي السابق على الانترنت من انتاج او اشاعة نصوصهم وخطاباتهم, وهنا يمكن دراسة هذه النصوص المقموعة سابقا, وتتبع حضور القوى الاجتماعية فيها, خصوصا بعد ان تمكنت منتجوها من الوصول الى وضع انتاج النصوص والخطابات, وطبيعة تلقى المجموعات الاخرى لهذه النصوص والخطابات وتفاعلها معها. يمكن مثلا دراسة المنتديات العربية, أي حلقات النقاش المفتوحة, والتي تتميز بأن كل من يريد ان يسجل فيها يستطيع التسجيل والمساهمة في انتاج نصه وإشاعته (رغم الشروط والظروف التي تحد من انتاج النصوص احيانا), وهو وضع يكسر الوضع التقليدي الذي كان يحد من امكانية افراد ومجموعات معينة من انتاج نصوصها. كذلك يمكن دراسة مضامين هذه الخطابات, وطبيعة الحوارات الموجودة في هذه المنتديات, وعلاقتها بالقوى الاجتماعية الموجودة.

* طبيعة نصوص الانترنت: يمكن للباحثين النقديين دراسة ما أدت اليه الانترنت من أنماط نصوص لم تكن موجودة مسبقا, كأنواع المواقع الالكترونية ذاتها, ومضامينها والعلاقات التي تفرضها. ويمكن الاشارة هنا مثلا الى ما يسمى «النص المفرع» hypertext حيث يرتبط النص المكتوب برموز اخرى كالصور والاصوات بما يسمح لمستخدمه ان يتجول في الترابطات الموجودة في النص دون الالتزام بإتباع ترتيب الموضوعات المطروحة فيه (انظر الخطيب: 1996). إضافة الى هذا فقد أدخلت الحاسوب والانترنت تجربة ومفهوم المكتبة الالكترونية حيث توفر الانترنت عددا لا يحصى من الكتب التي يستطيع ايا كان فتحها من أي موقع في العالم كتجربة مكتبة الوراق (www.alwaraq.com) على سبيل المثال. وهنا فإنه يمكن للباحث اللغوي النقدي ان يدرس استغلال القوى الاجتماعية لأنماط النصوص الجديدة لتعزيز وضعها الاجتماعي, وأنواع المقاومة الاجتماعية بتجلياتها النصية الانترنتية.

) البريد الالكتروني: يعد البريد الإلكتروني مجالا لدراسات نقدية لغوية تتناول شتى مظاهره, كدراسة اساليب كتابة الرسائل الإلكترونية, وعلاقة هذه الرسائل بالاوضاع الاجتماعية, كعلاقتها برسمية مواقف انتاج الخطاب على سبيل المثال.

حاولت في هذا القسم إذن إبراز ثلاثة من الجوانب التي يمكن للدراسات النقدية اللغوية العربية تقصيها بحثيا, وقد بينت ان تحليل هذه الجوانب قد يظهر آليات تفاعل القوى في اللغة على نحو لا يبرز دون هذه الدراسات. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو «وماذا بعد?», اما سؤال هدف الرؤية النقدية (اللغوية تحديدا) في حالة تحققها, وهو سؤال أسعى الى الاجابة على بعض جوانبه من خلال وضع حياتي اجتماعية يمكن ان يعيشه المجتمع العربي, ثمرة للدراسات النقدية, هو ما اسميه بوضع «التدافع الواعي».

2-6:أما بعد: من الهيمنة الخفية الى؛التدافع الواعي»

طرحت النظريات الغربية أهدافا للنظرية النقدية الغربية تتمثل في تعزيز الوعي الاجتماعي لأجل رفع نير الظلم عن المظلومين بإبراز آليات الهيمنة لغويا كما هو عند فيركلاف مثلا, وفي السعي الى مستقبل أفضل او مستقبلات فضلى كما هو عند بينيكوك, وأهداف مثل هذه هي بطبيعة الحال ما يطمح اليه اي تحليل ملتزم أخلاقيا وسياسيا في الوضع الإجتماعي. الا ان هذه الاهداف هي اهداف مفتوحة النهاية وينبغي النظر اليها على انها مكونة من مراحل متعددة, وتسمية هذه المراحل لا يمكن ان تتم حاليا لأن المرحلة التالية لأي مرحلة تاريخية لا يمكن توقعها في حالة وضع ليس له سابقة تاريخية كحالة النقد اللغوي للغة والقوى الاجتماعية في المجتمع العربي. الا انه يمكن استشراف حالة نجاح هذا النقد ليصل الى وضع يشعر فيه الانسان بآليات استغلاله لغويا, وهذه المرحلة هي ما أود اطلق عليها وضع «التدافع الواعي».

هنا يفهم «التدافع» بإعتباره تفاعلا بين عناصر المجتمع بما فيه من علاقات تأثير وتأثر, وهو ما يحل محل علاقات الإخضاع-الخضوع في المرحلة الحالية. النقد عموما ينبغي ان يصل بالمجتمع الى وضع تكون علاقات القوى فيه علاقات ديالكتيكية واعية بنفسها وبطبيعتها وبالعناصر المكون لتفاعلاتها. ومفهوم «التدافع الواعي», فيما أرى, هو مفهوم مثالي لوصف هذه الحالة وصفا محايدا, فهو ليس مفهوما سكونيا بل انه حركي دائما وتفاعلي (بعكس مفهوم الإخضاع الذي يماثل «الدفع»), وهو كذلك مفهوم يخلو من الانغماس المباشر في السياسة كمفاهيم الهيمنة والسلطة وسواها, وهي مفاهيم لازمة طبعا لفهم الواقع الاجتماعي ما قبل النقدي, والمقصود بـ«ما قبل النقدي» هو الوضع قبل ان ينجح النقد في إرساء الوعي بالقوى الاجتماعية وطبيعتها.

المراجع العربية

الحراصي, عبدالله (2002). دراسات في الاستعارة المفهومية. مسقط: مؤسسة عمان للصحافة والأنباء والنشر والاعلان.

الحراصي, عبدالله (دراسة لم تنشر). «الانثى في الامثال العمانية مع تركيز على دور الاستعارة».

الخطيب, حسام (1996). الأدب والتكنولوجيا وجسر النص المفرع. دمشق: المكتب العربي لتنسيق الترجمة والنشر.

الغذامي, عبدالله (2000). النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية. الدار البيضاء وبيروت: المركز الثقافي العربي.

بركات, حليم (2000). المجتمع العربي في القرن العشرين. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.

يعقوب, اميل بديع (2000). موسوعة النحو والصرف والاعراب. بيروت: دار العلم للملايين.

غير العربية

N. (1999) Discourse in Late Modernit Fairclough, L. and Chouliaraki,

Rethinking Critical Discourse Analysis. Edinburgh: Edinburgh University Press.

M. (1994). Critical and Effective Histories: Foucault Dean,

Methods and Historical Sociology. London: Routledge.

N. (1989) Language and Power. London: Longman. Fairclough,

N. (1992) Discourse and Social Change. Cambridge: Polity Press. Fairclough,

N. (1995) Critical Discourse Awareness. London: Longman. Fairclough,

(1997) Critical Discourse Analysis Wodak N. and R. Fairclough,

in T. A. van Dijk (ed), Discourse as Social Interaction (Discourse

Studies: A Multidisciplilnary Introduction, Volume 2).

London/Thousand Oaks/New Delhi: Sage Publications, pp.258-284.

M. (1979) Discipline and Punish: The Birth of the Foucault,

Prison. New York: Vintage.

M. (1980) Power/Knowledge: Selected Interviews Foucault,

and Other Writings, 1972-1977. New York: Pantheon.

M. (1991) Remarks on Marx. New York: Semiotext(e). Foucault,

J. (1985) Psychic Thermidor and the Rebirth Habermas,

. of Rebellious Subjectivity In R. Bernstein (Ed.), Habermas

and Modernity (pp. 67-77). Cambridge, MA: MIT Press.

Alastair (2001) Critical Applied Linguistics. New Pennycook,

Jersey and London: Lawrence Erlbaum Associates, Publishers.

M. (1989). Critical Theory and Poststructuralism: In Poster,

Search for a Context. Ithaca, NY: Cornell University Press.

T. (1987). Communicating Racism. London: Sage. Van Dijk,

, T. (1991). Racism and the Press. London: Routledge.Van Dijk

T. (1993). Discourse and Elite Racism. London: Sage. Van Dijk,

T. (1998) Ideology. London: SAGE Publications. Van Dijk,