الأحد، 22 نوفمبر 2009

.....



الجمعة، 20 نوفمبر 2009

زمان البلاستيك في صور جديدة لكريس جوردان

نشرت سابقاً صورة ألتقطها كريس جوردان لصغير قطرس مات بسبب امتلاء معدته بالمنتجات البلاستيكية التي تلوث المحيط الهادئ الذي يعد مزبلة للتلوث البلاستيكي.
أنشر هنا صوراً أخرى ألتقطها كريس جوردان تكشف عن ذات الكارثة،
نقلاً عن موقعه. يؤكد جوردان صحة هذه الصور وأنه في عملية توثيق ظاهرة التلوث الخطيرة هذه لم يتم التلاعب بأي قطعة بلاستيك بتحريكها من مكانها أو وضعها عمداً أو ترتيبها أو تغييرها بأي شكل من الأشكال.



















الاثنين، 16 نوفمبر 2009

زمان البلاستيك





الصورة أعلاه لصغير طائر قطرس "أطعمه" والداه بعض المنتجات البلاستيكية من المحيط الهادئ الملوث. عشرات الألوف من هذه الطيور تموت في كل عام لأنها "تقتات" على هذه المنتجات البلاستيكية فتحسبها طعاماً تأكله أو تحمله لكتاكيتها في الأعشاش، فتموت بسبب الجوع والسمّ والاختناق.

المصوّر الذي التقط هذه الصورة في جزيرة ميدواي المرجانية Midway Atoll (التي تقع في شمال المحيط الهادئ بالقرب من ارخبيل هاواي) هو كريس جوردان Chris Jordan، وقد نشرت في أكثر من صحيفة منها The Daily Telegraph الأسترالية وThe New York Review of Books عدد 19 نوفمبر 2009.

الصورة تكفي لسرد قصة الحياة في زمان البلاستيك.

الاثنين، 9 نوفمبر 2009

يوميات صينية



الصين، نهاية أكتوبر- بداية نوفمبر 2009

عبدالله الحراصي



الساعة التاسعة والنصف صباحاً (الثلاثاء 27 أكتوبر 2009). مطار بكين.

ها أنا أضع قدمي الأولى في "الأنبوب" الذي ينقلني من الطائرة الى قاعة مطار بكين. وعلى عكس ما قال أرمسترونج حين وضع قدمه على أرض القمر "هذه خطوة عادية لإنسان، ولكنها قفزة عظيمة للإنسانية"، كانت خطوتي عادية في ميزان خطوات الإنسانية، فالملايين يضعون أقدامهم في بكين في كل يوم، ولكنها خطوة عظيمة بالنسبة لي، وهي خطوة طالما تمنيتها، ليس شغفاً ببكين التي أتذكر اسمها متردداً في الراديو أيام الطفولة في السبعينات، والتي فهمت في الثمانينات انها كانت تصول بماويتها في العالم كله مساهمة بمقدار ضخم من الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وبحرب باردة أخرى بين الشيوعية السوفيتية والشيوعية الصينية.

ليست هذه بكين التي كنت أتمنى أن أراها، فلا ناقة لي ولا جمل بماو ولا بفكره اعتناقاً، بل ولا حتى فهماً تاماً، ولكن بكين التي كنت أتمنى رؤيتها هي عاصمة الصين المعاصرة: صين الانفتاح الاقتصادي المهول والانتاج الذي لا يحده حدود. صين المليار والثلاثمائة مليون نسمة. صين الصناعات التي تصول في العالم وتجول لا رادّ لها راكبة على صهوة حصان الرأسمالية الغربي نفسه. صين الاستثمارات التي تستطيع، إن أرادت، أن تهز الاقتصاديات الغربية. الصين التي قال عنها نابليون "انها مارد نائم فلا توقظوه، فإنه إن استيقظ فسيهز العالم". صين المنتجات الجيدة وصين المنتجات المقلدة. صين ميدان تيانامان وصين الاستعراض الضخم بالعيد الستين. صين كونفوشيوس. صين الطاوية. صين الحروف العربية في لغة الاوغور التركوية. صين "التفاح" الأبيض اللذيذ. صين السفر إلى مدن الصين لاستيراد الأثاث ومستلزمات البيوت الجديدة بأثمان رخيصة. صين الشركات التي تعمل في مختلف بقاع العالم، ومنها عمان. صين المحطة التلفازية الصينية باللغة العربية. صين الصاروخ الذي طار الى الفضاء مهشماً حقد الحاقدين.

باختصار كنت أتمنى أن أرى بكين، عاصمة زاهرة من عواصم تمكين الإنسان، بعيداً عن قوميته وإيديولوجيته.

قبل أن أركب الطائرة من أبو ظبي مررت بمكتبة صغيرة في المطار اشتريت منها كتاباً سياحياً عن الصين لأقرأ قليلاً عن المدن والمواقع التي وضعت لنا في جدول الزيارة للصين. أقول "وضعت لنا" لأنني سافرت بمعية الصديق الدكتور محمد بن سعد المقدم الأستاذ بجامعة السلطان قابوس مشكلين، هو وأنا، وفد عمان في ملتقى مسؤولي روابط الصداقة الصينية العربية. وقد عقد ضمن إطار جمعيات الصداقة العربية مع الصين مؤتمران، أحدهما في الخرطوم عام 2006 والآخر في دمشق عام 2008، أما ملتقانا هذا فيهدف لمناقشة تطورات جمعيات الصداقة الصينية العربية والإعداد للملتقى القادم في طرابلس الغرب الليبية عام 2010.

في المكتبة في مطار أبو ظبي رأيت كتاباً عن أحد كبار مسؤولي الصين المعاصرين باللغة الانجليزية فرغبت في شراءه وقراءته غير أن أبا سعد (الدكتور المقدم) نصحني بألا أشتريه لأن في غلافه الأخير صورة شهيرة لأحد الشباب المحتجين يقف أمام دبابة ضمن أحداث ميدان تيانانمان عام 1989. كان رأيه أن الكتاب قد يثير حفيظة التفتيش في المطار فيما لو لاحظوه، وربما قد يقود الى سين وجيم لا داعي لها، خصوصاً ونحن في مهمة صداقة. والصينيون خبراء في معرفة الصديق من العدو، لذا فلا داعي لأن نجعل الأمر يختلط في أذهانهم، وحيث أنه لا منزلة بين منزلتين هنا فأنني إن حملت هذا الكتاب سأكون في خانة غير خانة الصديق بكل تأكيد.

أثار رأيه هذا في ذهني بعض الأفكار، فلماذا أذهب إلى بلد يحكر القراءة ويحدد للناس ما يقرأون؟ لماذا أذهب، صديقاً، إلى بلد يحرم الإنسان من أن يقرأ ما يشاء، ومن يحدد للإنسان ما يقرأ لا ريب أنه يحدد له ما يكتب (أو على الأقل ما لا يكتب)؟ تركت الكتاب وقلت لنفسي أنني سأشتريه في درب العودة من بكين إلى مسقط، ولأترك وساوسي حول حرية الكلمة، فلماذا أنا حانق إن كنت سأقرأ الكتاب في نهاية المطاف. لأترك أمر الصين للصينيين، فهم أولى ببلادهم.

كان أول ما قابلنا بعد دخولنا قاعة المطار لوحة بلغات عديدة من بينها العربية حول مرض H1N1 (أو مرض أنفلونزا الخنازير)، ترشد الشخص الواصل الى المطار من بلاد أخرى بما ينبغي أن يفعله في حالة شعوره بأعراض هذا المرض. كما تطلب منه أن يملئ استمارة عن وضعه الصحي، وأن يعبر بوابة كاشفة لحرارة الجسد. عبرت البوابة وكنت طبيعياً. ها قد عبرت البوابة الأولى إلى بكين إذاً، وها هي البوابة الثانية: مسؤولو الجوازات. أخذت الموظفة جوازي بكل تهذيب ومودة وفوقهما ابتسامة جميلة، وتفحصته. نظرت اليّ، ثم نظرت إلى الجواز. كانت الصورة بالجواز بالزيّ العماني فيما كنت لابساً قميصاً وبنطلوناً حتى لا ألفت الأنظار، حيث يقال أن الصينيين "حشريون" ويندهشون من الغريب، فلعمري ما الذي سيفعلوه لو رأوا جسداً بشرياً يمشي في مطار عاصمتهم بثوب أبيض من أسفل رقبته إلى أخمص قدميه، ويزيد على هذا عمامة تعلو رأسه؟

أثار التباين بيني كما في الصورة وكما في الحقيقة الماثلة أمام ناظريها اهتمامها، وأظن أنه كان اهتماماً شخصياً وليس مهنياً، حيث جلبت جهازاً مكبراً للصور وأخذت تتفحص منطقة العينين والأنف والفم في الصورة وتقارنها بما عليه في الحقيقة، ورغم أن الجواز عمره تسع سنوات إلا أن معالم وجهي لم تتغير كثيراً. ابتسمت في وجهي وختمت على الجواز وقال لي "welcome in Beijing" قلت لها "cheche" والتي تعني "شكراً" بالصينية حسبما قرأت في الكتاب السياحي الذي اشتريته من أبو ظبي. كنت أحسب أنني سأتجه إلى قاعة استلام الحقائب إلا أنني فوجئت بعد عبوري لبوابة الجوازات أنني في محطة قطار. تساءلت "أين أنا؟ ما الذي يحدث هنا؟"، إلا أن أبا سعد بادر شارحاً بأن المطار ضخم إلى درجة أنه يستحيل عبور مناطقه المختلفة مشياً ولا حتى باستخدام الممشى المتحرك لذا ينبغي على الانسان أن يركب القطار حتى يصل الى مكان استلام الحقائب، وهذا ما فعلنا، فأخذنا حقائبنا ثم خرجنا الى القاعة الخارجية في المطار. كان هنا "ماجد" في انتظارنا. وماجد هو أسم أحد مسؤولي رابطة الصداقة الصينية العربية، والمعروف عن الصينين الدارسين للعربية أنهم يتسمون بأسم عربي يرافقهم أثناء الدراسة وأثناء العمل، ويصبح أسمهم الوظيفي إن شئت، ولا يتم استخدام الاسم الصيني في الاجتماعات والتعاملات مع العرب إلا نادراً. كان ماجد يحمل لوحة باللغة العربية كتب عليه "رابطة الصداقة الصينية العربية: د محمد المقدم و د عبدالله الحراصي".

رحب بنا ماجد ترحيباً حارّاً. أخبرنا أننا أول وفد عربي يصل الى بكين ضمن ملتقانا، ثم أخذنا الى الحافلة التي كانت متوقفة في طابق آخر في المطار. في الطريق وأثناء النزول بالمصعد كنت أظن بأن السيارات التي سأراها في مرآب السيارات ستكون صينية مائة بالمائة، انطلاقاً من الصراع التجاري الذي دائماً ما يهيمن على ذكر الصين في الأخبار الاقتصادية، إلا انني فوجئت بأن أغلب السيارات كانت من "ماركات" شهيرة، فهذه تويوتا وتلك فوكس ويجن وتلك بي أم دبليو ... الخ من السيارات التي نعرفها في بلادنا. سألت ماجد عن السرّ فقال لي ان كثيراً من شركات السيارات المعروفة لها مصانع في الصين، لذا فبرغم ان تلك السيارات من شركات غير صينية إلا أنها مع ذلك "صنعت في الصين". إنها العولمة الاقتصادية، والصين إذاً تحسن استخدامها، فهي لا تحرم نفسها من السيارات العالمية ولا تغلق بابها أمامها، ولكنها تصنعها محليّاً. الصين تطوع الرأسمالية لصالحها هنا، ولا ريب أن الشركات من جانبها تربح إذ أن العمالة الصينية رخيصة مقارنة بالعمالة اليابانية أو الغربية.

في الطريق من المطار إلى فندق بارك بلازا Park Plaza الذي سيقطن فيه أعضاء الوفد العربي كانت عيني ترغب في ملاحظة كل شيء، وكان الأكثر بروزاً هو تلك العمارات المتراوحة الأطوال التي تنبت مثل الفطر، حيث يخيّل اليك أن مارداً عظيماً ينفخ من تحت الأرض فتظهر فقاعات الأرض على شكل عمارات في كل مكان. ها هي عمارة هنا. وهناك واحدة. وهناك أخرى تنبثق من تحت الأرض للتو. هناك عمارة ما تزال حفرة لم تظهر للسطح. وهناك ناطحة سحاب. و و و ...

كان ماجدٌ في غاية الود والتهذيب حيث أخذ يحدثنا عن حبه للعرب ولبلاد العرب، وكان يجيب عن التساؤلات التي كنت أطرحها، والتي يطرحها عادة الغريب فيحسبها "ابن البلد" أمراً عادياً لا يثير التساؤل، وإن كان يستحق التساؤل فاجابته يعرفها الجميع من أهل البلاد. الجميع طبعاً يعرف الاجابة عن التساؤلات البسيطة، إلا الغريب الذي يأتي إلى بلد للمرة الأولى. تساؤلات مثل التي كنت أطرحها على ماجد لم تكن تتعلق بالصين فحسب، بل عن معرفتي أنا بالصين. فما تشاهده في الصين يتلخص في أمرين يمكنك أن تعرفهما بمتابعة شؤون الصين وأخبارها هما: السياسة والاقتصاد.

وصلنا الفندق، وذهبنا الى الغرف المخصصة. على الطاولة في الغرفة كان هناك لويحة صغيرة تدل على توفر الانترنت المجاني للضيوف. فتحت حاسوبي الدفتي للنظر الى البريد الالكتروني، وكانت هناك رسالة وصلتني من صديق تشير إلى مقال في إحدى المدونات الأجنبية. ضغطت على الزرّ فلم يفتح. قمت بتنشيط refresh الصفحة أكثر من مرّة دون جدوى. أدركت أن هناك خطأ ما لكني لم أتبينه في البدء، إلى أن بعثني رابط في رسالة أخرى إلى موقع 4shared لحفظ الوثائق وتنزيلها، ولكن، كما في المرّة الأولى، يشير الحاسوب إلى وجود مشكلة تمنعه من عرض الموقع. أخذت أجرب، youtube ثم scribd ثم بعض المدونات الأخرى، والنتيجة ذاتها، فأدركت حينها أن كل هذه المواقع ممنوعة في الصين. كان هذا ضرباً غريباً من ضروب الإستقبال في الصين. مع كل الانفتاح الصيني إلا أنه "انفتاح محسوب" كما يقولون، فهناك مواقع مفتوحة وهناك مواقع مغلقة. تذكرت حينها أن الصين أغلقت موقع google للبحث في بيانات الانترنت ولم تفتحه إلا بعد اتفاق وافقت فيه شركة جوجل على عدم عرض المواقع التي تراها الحكومة الصينية غير مرغوبة لأسباب تعلمها هي وخضعت لها الشركة الأمريكية.

وبعد راحة في الغرف رأينا أن نقوم بما يفعله الزوار عادة، وهو المشي بالقرب من الفندق. وهي حالة يكذب عليك من يقول لك أنه لم يمرّ بها. أُشَبِّه مثل هذه الحالة بالرضيع الذي يبدأ الحبو. يحبو قليلاً قليلاً بعيداً عن أمه. يحبو خطوة فيلتفت اليها. يعود. يحبو حبوتين فيلتفت الى أمه ثانية. تبتسم له الأم فيحبو أكثر فأكثر. لكنه دائماً يعود لأمه/مركزه لتلقي الحنان والحضن والابتسامة. في زيارة المدن الغريبة يحدث الأمر نفسه للزائر فيبدأ حبوه بالخروج من باب الفندق، يتأمل الخارج، ثم يسارع إلى الداخل مرة أخرى مع شعور بانتصار بسيط أنه بدأ "يتوغل" في المدينة. ثم يخرج فيمشي لمسافة أكبر ويعود الى فندقه. ثم أكثر، ثم عودة الى فندقه الذي يتحول ليكون وطنه. الغربة غريبة حقاً والشعور بالوطن غريب كذلك، فبرغم ان الفندق يقع في المدينة الغريبة التي يزورها الغريب إلا أنه يشكل له الوطن في الجغرافيا الجديدة. يخرج من الفندق فيعود اليه فرحاً مشتاقاً كأنه يعود إلى حيث ولدته أمه.



ستاربكس



عموماً فعلت كل هذه الطقوس. خرجت في البدء إلى خارج الفندق. تأملت المكان. أمام الفندق مباشرة كان هناك مقهى "ستاربكس". يا للسعادة، "ستاربكس" هنا. تكاد تحتضنه، كأنه أبن أمك. أليس هو شقيق ستاربكس في ستي سنتر مسقط؟ إذا هو وجه من وجوه الوطن. انقسم الوطن في غربتي قسمين. الفندق الذي يمثل الأم الذي حبوت من بين يديها، و"ستاربكس" الذي كان "أحد الأقارب" العزيزين، بمعزّة شقيقه المسقطي عندي. فرحت برؤية "ستاربكس" وذهبت لأتأمل فيه. الكراسي تشبه الكراسي عندنا. ستاربكس هنا مكتوب بالصينية بالاضافة الى كتابته الشهيرة بالانجليزية. ورمزه الدائري هو هو: تلك الدائرة بفتاة في المركز متوجة بتاج به نجمة.

عدت الى بهو الفندق لأجد أبا سعد هناك ينتظرني. أخبرته أن "ستاربكس" أمام الفندق، كأني أقول له أنني بالصدفة التقيت بابن عمي في بكين. لم يهتم كثيراً فقد زار بكين مرتين من قبل، وربما لم يكن ستاربكس يمثل له شيئاً، خصوصاً أنه درس في أمريكا، وستاربكسه الأصلي ليس الموجود في ستي سنتر مسقط بل في أمريكا. معنى هذا أن أبا سعد يلتقي بعائلة ستاربكس دائماً ولا تستوقفه أبداً.

في البهو رأيت ماجد ثانية ولكنه كان يحدث أحداً في هاتفه النقال. كان صوته مرتفعاً مما مكنني من أن أسترق سمعاً لم يقصد منه أن يكون خفيّا في الأصل، ذلك أن الصينيين مثل العرب لا يخفتون أصواتهم. تجدهم يرفعون أصواتهم في كل مكان. عموماً سمعته يتحدث بالعربية فيقول أكثر من مرّة "حسناً أنا فهمت أنك في المطار الآن، ولكنك لم تخبرني بأنك ستصل في هذا الوقت. أنا رتبت موضوع وصولك واستقبالك غداً كما وصلني". فهمت عندها أن المتحدث على الطرف الآخر كان أحد أعضاء الوفود العرب، وأنه غيّر موعد رحلته دون أن يبلغ الهيئة المنظمة عن ذلك التغيير. الإنسان كائن عجيب، فهو يظن أنه مركز الكون جميعاً، وهذا في حد ذاته ليس أمراً إشكالياً، ولكن الإشكال يقع حين تفترض أنك مركز الآخرين، فصديقنا العربي هذا غيّر موعد وصوله وظنّ بأن العالَم الصيني سيكون في انتظار القرارات التي سيجود بها ذهنه، وأن هذا العالم سيترك كل أعماله وارتباطاته في انتظاره، فربما سيأتي في أي طائرة ستحط في بكين.



المطعم الملكي



تركنا ماجد مع العربي الذي هبط بكين في غير أوانه وخرجنا من الفندق. هذه المرّة تحركنا إلى ما هو أبعد من "ستاربكس". مشينا في رصيف مشاة يوازي الشارع الرئيسي القريب من الفندق. على اليمين واليسار كانت هناك عمارات ضخمة. كلمات بالصينية وبالانجليزية تتوج هذه العمارات تشير إلى أن هذه منطقة تجارية رئيسية في بكّين. وكالات سيارات لامبرجيني ورولز رويس. فنادق مثل النوفوتيل وريجنت وغيرها من سلاسل الفنادق العالمية. أسماء تردّني إلى مسقط والى بكّين ثانية. فندقنا إذا ليس في ضواحي بكّين بل في مركزها التجاري. على يميننا رأينا أثناء مشينا محلا لبيع الشاي الصيني وهو جزء من سلسلة معروفة ببيع الشاي الصيني كما يقول الكتاب التقديمي السياحي عن الصين الذي اشتريته من أبو ظبي. وهنا هو مطعم رويال (أو "المطعم الملكي") Royal Restaurant. توقفت أمام هذا المطعم الذي كتب تحت اسمه انه مطعم صيني. تساءلت عن السبب الذي جعل الصين الشيوعية تبقي على اسم يشير إلى الملكية رغم زوال صين الأباطرة والملوك. ولكن استخدام "رويال" (أو "الملكي") شائع في العالم للدلالة على رُقِيّ ما يقدم لك من خدمة في محلّ ما تذكيراً بالملوك رغم الثورات التي قامت ضدهم في العديد من بقاع العالم. لم أعرف إن كانت الصين هنا تحنّ عبر عنوان مطعم إلى ماضٍ ملوكي أمبراطوري، أم أنه ليس إلا محض وسيلة من وسائل الرأسمالية الصينية. أين الشيوعية إذاً إن كانت الصين تعتز بتاريخها الملكي وتسمي محالّها بما يشير إلى ذلك الماضي؟

في الطريق أيضاً أستوقفني منظر متسولة جالسة على قارعة الشارع مع طفلة لا تتجاوز الثالثة من العمر، وهي تمد يدها وتنادي عليك بالصينية. في مثل هذه الحالات لا تعد اللغة إلا عاملاً ثانوياً فالهيئة، هيئة المتسولة وهيئتك أنت، تكشف أنها تطلب منك بعض المال لتأكل منه وتطعم منه ابنتها. ولكن مرّة أخرى، أولا تكون هذه خدعة أخرى من خدع الرأسمالية؟ اعني حيث تحول التسول إلى مؤسسة رأسمالية ناجحة تدر الملايين، فبدلاً من أن يتعب الإنسان نفسه في العمل والكدح فما عليه إلا أن يجلس ويمد يده، ويكشف للمارّ عن أمر يثير الاستعطاف مثل طفل صغير أو عاهة مزمنة.

تجاوزنا المتسولة في زمان الصين الشيوع-رأسمالية دون أن نعطيها شيئاً، فالتجارب تشير إلى أن مثل هذه الحالات ليست إلا ما يظهر من جبل جليدي ضخم من الأموال، حيث ظهر أن كثيراً من المتسولين هم من الأثرياء ويمتلكون الملايين والعقارات العديدة. ينبغي الحذر إذاً، ثم إنك إن آثرت أن تغمض عينك عن الإمكانات الرأسمالية لهؤلاء المتسولين فإن هناك العشرات منهم لك بالمرصاد، وإن لم تكن تراهم، فهم يهبّون إليك ما أن تجود باليسير على أحدهم، وتجد نفسك في ورطة لا تستطيع منها فكاكاً إلا "بالسيف والتعب" كما نقول في عمان.

بعد ذلك مشينا لبعض المسافة ولكن قطع سيرنا نداء نسائي يأتينا من خلفنا، فتوقفنا ورأينا امرأة تمشي هرولة لنا وتقول بالانجليزية "من أين أنتم؟" فقلنا لها أننا من بلاد المغرب، ففي الغربة لا ينبغي عليك أن تقدم أي معلومة تكشف عن أمر من أمورك الخصوصية لغريب لا تعرفه. قالت أنها تتحدث الفرنسية مثلما يتحدث كثير من سكان المغرب، غير أننا إزاء هذه الورطة مضينا في الحديث بالانجليزية حتى لا ينكشف جهلنا بالفرنسية. قالت "هلا دعوتموني لفنجان قهوة؟". أدركنا حينها إن فنجان القهوة ليس إلا ستاراً لعالم لا نعرفه، وربما هو عالم نعرف عنه ولا نريد دخوله. اعتذرنا لها بانشغالنا فابتعدت عنها وهي تتحدث بالصينية بكلمات لا نفهمها ولكن لا شك أنها ليست كلمات تتمنى بها الخير لي ولأبي سعد.

ثم رأينا ثلاثة أشخاص بقبعات بيضاء مثل التي يرتديها بعض مسلمي الهند حين يذهبون الى المساجد. كانت ملامح وجوههم مختلفة تماماً عن الصينيين الذين ينتمي أغلبهم لقومية الهان. اقتربوا منا ثم قالوا "ألابو؟" (حيث تنطق اللام مثل نطقها في كلمة "الله") والتي فهمت من خلالها أنهم يسألوننا إن كنا عرباً فأشرنا بالايجاب. قالوا بالعربية "السلام عليكم" ثم فهمنا منهم أنهم من قومية الإيغور المسلمة في غرب الصين، وهي قومية تنتمي إلى الجنس التركي وتتحدث بلهجة من لهجات اللغة التركية الأم.

ما أكثر المطاعم التي مررنا بها! وكانت غالبيتها مطاعم صينية، تحيط بأبوابها الكرات الحمراء الصينية الشهيرة التي يعتقد الصينيون أنها تجلب الحظ واليُمن والسعادة. أمام أحد المطاعم نادى علينا شاب باللغة الانجليزية وسألنا إن كنّا نريد أن نرى لوحات فنية حيث أن لديه معرض هنا، وبعد موافقتنا أدخلنا إلى أحد المطاعم فقلنا له إننا لا نريد أن نأكل، غير أنه قال لنا أنه فنان تشكيلي ولديه لوحات يدعونا لأن نراها في معرضه في الطابق الأسفل. تبعناه في درج ضيق انتهى بنا الى مطعم، غير أنه طلب منا أن نتبعه فتجاوزنا قاعة المطعم إلى رواق ثم أدخلنا الى غريفة صغيرة بها بالفعل بعض اللوحات التشكيلية. أخذ يشرح لنا عن الفن التشكيلي الصيني، فقال أنه يسمى بالتجريد الصيني، ويعتمد في الغالب على رسم المناظر الطبيعية كالأشجار والزهور والأنهار. أخبرنا أنه يريدنا أن نشتري بعض لوحاته إن أردنا فقلنا له أننا إن وجدنا متسعاً من الوقت فسنعود اليه.

عدنا بعدها إلى الفندق لألتقي بأحد أعضاء الوفود العربية كنت قد التقيت به في مؤتمر جمعيات الصداقة العربية الصينية العام الفائت 2008 في دمشق، حيث مشينا معاً هناك في دمشق وزرنا بعض الجوامع القديمة ومررنا على نهر بردى الذي لم يكن سوى مجرى ليس فيه سوى "غيز" صغير من الماء فانفجرنا ضاحكين مندهشين، فقد كنا نعتقد أن بردى نهر كبير يفيض بالمياه كما هو في قصائد الشعراء العرب المعاصرين مثل نزار قباني، وفي أغاني فيروز. ما أن رآني هذا الصديق حتى هجمت علينا ذكريات دمشق الجميلة، وما يميزه عن كثير من أعضاء الوفود العربية أنه يتحدث الصينية بطلاقة فقد درس لسنوات عديدة في الصين، ويعمل طبيباً في مركز للوخز بالأبر الصينية في بلاده.

بعد العشاء خرجنا أنا والدكتور المقدم مع طبيب الوخز بالأبر للمشي حول الفندق: حبوة جديدة ربما لمسافة أطول هذه المرة. بين كل دقيقة وأخرى من مشينا كان هناك رجال ونساء صينيون يقولون لنا بانجليزية مكسرة "مساج جيرل، مساج جيرل، يو وانت؟ فري تشيب" massage girl, massage girl, you want? very cheap. سألت صديقنا العربي عمّا يقصدون فقال أنهم يدعوننا الى الجلوس مع فتيات صينيات والشرب معهن مع الحصول على خدمة التدليك، ومثل الفتاة التي دعتني مع أبي سعد للقهوة، فهم يدعوننا لعوالم ليست عوالمنا. أثار هذا المنظر اشمئزازي فلم أكن أدرك حتى الآن مدى فداحة انفتاح الصين والاتجار بكل شيء. "كل شيء" لم يكن يتعدى عندي المصنوعات من ملابس وسيارات ولعب أطفال وأطعمة، أما هذا الشكل من "المناداة" فهو أمر صادم في الصين التي تفاخر بعراقتها وحضارتها الراسخة القائمة على المبادئ الأخلاقية التي عززها المفكرون والفلاسفة المختلفون مثل كونفوشيوس وغيره. ولكنها الرأسمالية مرّة أخرى: كل شيء قابل للبيع وللشراء، ولا شك أنه كما أن هناك عرض فالطلب موجود. وإن نظرنا للموضوع من منظور آخر فربما لا يمثل ما نراه شيئاً حين نضع في اعتبارنا شعب الصيني الذي يبلغ ملياراً وثلاثمائة نسمة.

الأربعاء 28 أكتوبر 2009

اليوم الثاني لم يشهد شيئاً جديداً فقد كان يوم وصول بقية أعضاء الوفود العربية، ولم نفعل فيه شيء سوى الذهاب أنا وأبو سعد مشياً وبعد نحو نصف كيلومتر من الفندق إذا بنا في سوق تجاري كبير اسمه شارع وانجفو، عرفت فيما بعد أنه من أشهر أسواق الصين الحديثة.

شارع وانجفو

ومعنى شارع وانجفو كما عرفت لاحقاً من ماجد "شارع الأمير والبئر" فقد كان الشارع يطل على منزل أحد الأمراء مع وجود بئر قريبة منه. دخلنا الشارع/السوق الذي خلا من الأمير وبئره، وكان أول ما واجهنا مكتبة للغات الأجنبية تحتوي على كتب باللغة الانجليزية. تحتوي المكتبة على ترجمة انجليزية لأمهات الكتب الصينية وحول تاريخ الصين وفلسفتها. كما كانت هناك أيضاً أقسام للآداب والعلوم الاجتماعية باللغة الانجليزية. غير أن المكتبة لم تخلو من السوق الصيني فهي مفتوحة على محل لبيع الهدايا والملابس يتكون من عدة طوابق. كنت أتوقع أن مكتبة باللغات الأجنبية ستكون أكبر من هذا (مكتبة بوردرز في ستي سنتر مسقط ربما تبلغ عشرة أضعاف تلك المكتبة البكينية)، خصوصاً أن بكين الآن محجة للكثيرين من مختلف بقاع العالم، غير أن وجودها، برغم صغر حجمها، ربما هو نفسه مظهر كبير على انفتاح الصين بعد عصور من الانغلاق.

المركز التجاري الاسلامي ببكين

المطعم الاسلامي

مشينا في السوق وكانت كثير من المحلات هي نفسها الموجودة في أسواق العالم الحديثة من الماركات العالمية، غير أن السوق كانت تحتوي كذلك على الكثير من المحلات والمطاعم الصينية الطابق، وما لفت نظري وجود قبة في أحد العمارات في السوق وحينما رأسي لأتأمل فيها، فهي تشبه قباب المساجد لدينا، رأيت كتابة باللغة العربية "المركز التجاري الإسلامي ببكين"، وفي السوق أيضاً وجدنا مطعماً إسلامياً. مشينا فلاقينا مكتبة أخرى ولكن باللغة الصينية هذه المرّة اسمها "مكتبة وانجفو"، وهي مكتبة ضخمة للغاية تتكون من عدد كبير من الطوابق يفوق السبعة، كلها باللغة الصينية ما عدا جزء بسيط باللغة الانجليزية يتكون من روايات عن الصين إضافة الى كتب الكلاسيكيات المنشورة باللغة الانجليزية. والصينيون يملأون المكتبة في كل أقسامها.

الخميس 29 أكتوبر 2009

هذا اليوم هو يوم اجتماعنا بالجانب الصيني صباحاً.

لفت انتباهي أمر لاحظته من قبل، وهو أن بعض المشاركين يطلبون التصوير وهم ممسكون بمكبر الصوت. كنت قد رأيت مثل هذا في اجتماع عربي سابق حضرته، حيث طلب أحد أعضاء الوفود من المصور بعد أنفض سامر الاجتماع أن يلتقط له صورة وهو على المنصة الرئيسة رافعاً يده وفاتحاً فاه وكأنه يلقي خطبة حماسية. هذه المرة كان الأمر أسهل حيث اكتفى الذي يطلب التصوير بمسك مكبر الصوت دون أن يفتح فمه. والأمر غريب في الحالتين: أن تصور ممسكاً مكبر الصوت فاتحاً فمك دون أن تقول شيئاً، وأن تصور ممسكاً مكبر الصوت وفمك مغلق!!

على العشاء كانت تنتظرنا عزومة في أحد أكبر فنادق بكين. ذهبنا في الحافلة، وكان في الكرسي بجنبي أحد أعضاء الوفود العربية يتحدث عن الصين في الستينات حين زارها، حيث قال بأنه لم تكن توجد سيارات خاصة أبداً، وأن الشوارع التي نراها الآن والعدد الهائل من السيارات لم يكن حتى لأقصى درجات التخيّل والتأمل أن تصل إليه. في تلك الفترة، قالَ، لم تكن توجد سيارات إلا سيارات الدولة، وسيارات السفارات الأجنبية.

وصلنا الفندق. حضر العزومة من الجانب العربي أعضاء الوفود ومن الجانب الصيني تيمور دواماتي الذي كان نائباً لرئيس البرلمان الصيني، وينتمي لإقليم الاوغور المسلم، وعدد من السفراء الصينيين الذين عملوا في الدول العربية، وبعض من لهم اهتمام بالعالم العربي، إضافة إلى عدد من السفراء والدبلوماسيين العرب. القى دواماتي خطبة رحب بها بالمشاركين العرب وتمنى تطوير العلاقات العربية الصينية، كما ألقى رئيس الوفد العربي خطبة تشكر الصين على الاستضافة. بعدها كان العشاء على أنغام غناء ورقص صيني تقليدي، وكان ما لفتني أغنية صينية بألحان قريبة من الألحان الهندية، ولم يكن بالقرب مني من أستطيع أن أسأله عن المقاطعة التي يمثلها ذلك الغناء. في العشاء التقينا بدبلوماسي يعمل في إحدى السفارات العربية في بكين. كان لطيفاً مبتسماً ضاحكاً على غير ما يسلك الدبلوماسيون الذين يمتلئون بشعور تمثيل بلدانهم فيجعلهم حساسون للكلام والحديث المفتوح، لأنهم يشعرون بأن "كل كلمة محسوبة" وقد يفهم كلامهم الشخصي على أنهم يمثل رأياً أو موقفاً لبلادهم. وعالم الدبلوماسيين الذين قُدِّرَ لي أن ألتقيهم عجيب، فهم يلتقون بعلية القوم، ويتعاملون أحياناً مع قضايا مهمة وخطيرة في بعض الأحيان، مما يخلق لديهم شعوراً بأنهم "ملكيين" بشكل من الأشكال، في حديثهم، وفي زيهم، ومشيتهم. غير أن هذا الدبلوماسي كان مختلفاً ولم يجعلني أشعر قط أنه دبلوماسي، مما سيبقيه في منزلة خاصة في ذاكرتي الصينية.

وفي ذات الطاولة كان هناك دبلوماسي شاب من إحدى الدول الخليجية بدأ عمله في بكين قبل شهرين فقط. تحدثت معه وكان إنساناً رائعاً وعميقاً في تحليله ورؤاه. سألته عن الطعام فقال بأنها مشكلة في بكين، حيث أن أغلب اللحم الموجود في المحلات غير إسلامي، حيث لا تستخدم الطريقة الإسلامية الشرعية في الذبح، كما أن بقية الأطعمة غير اللحمية مخلوطة أيضاً بعناصر من لحم الخنزير مثل زيت شحم الخنزير، وأخبرني أيضاً أنه يذهب إلى منطقة نائية بعض الشيء فيها مسلم يقوم بالذبح الإسلامي، ولكنه، أي الدبلوماسي، يحمل معه دائماً سكيناً خاصاً بذبيحته ويطلب من ذلك المسلم ألا يستخدم سكينه، لأن ذلك المسلم الذي يذبح بحسب الطريقة الإسلامية، يذبح أيضاً الكلاب أيضاً التي يقبل الصينيون على أكل لحومها وخصوصاً في فصل الشتاء حيث يعتقدون بأنها تجلب الدفء للجسم.

الجمعة 30 أكتوبر 2009

اليوم معنا موعد مهم مع سور الصين. ذلك السور الذي سمعنا به منذ الطفولة، والذي يداعب مشاعرنا، وأعيننا حين نراه على المنتجات الصينية، ونسرح معه بعيداً. موضع السور الذي نحن في طريقنا إلى زيارته يقع على بعد نحو 90 كيلومتراً عن قلب بكين. في الطريق كان أحد أعضاء الوفود العربية الذي عمل دبلوماسياً لبلاده في الصين في السبعينات يصف لي أحوال الصين في تلك الفترة التي كانت فيها الصين في قمة ثوريتها. كانت الدولة قد فرضت على الناس حتى الزيّ الذي يرتدونه (قميص أبيض مع بنطلون أزرق في الغالب)، وكانت البلاد متخلفة للغاية، والحكومة تمنع منعاً تاماً أي تواصل بين الصينيين والأجانب أياً كانوا، والأمر ينسحب أيضاً على الأجانب الذين لم يكن يسمح لهم بالتواصل مع الصينيين، فقد كان هؤلاء الأجانب محجوزين في منطقة دبلوماسية مسوّرة بها مقارّ السفارات ومساكن موظفيها وأسرهم ولا يدخلها سوى الصينيون الذين يعملون في بعض هذه السفارات. وحتى هؤلاء فقد كانت الدولة هي التي تعيّنهم لهذه السفارات، ولم يكن يسمح لأي دولة أن توظف صينياً واحداً بل اثنين على الأقل بحيث يراقب كلٌ منهم الآخر. الأمر يصدق أيضاً على كل من يقدم خدمة تحتاجها السفارة، فلا بد من شخصين من الصينيين على الأقل، حتى لو كان المطلوب سباكاً على سبيل المثال. ويمنع هؤلاء الصينيون من تلقي أي هدايا، وحدث ذات مرّة أن رئيس دولة الشخص الذي كان يحدثني زار الصين، فأمر ببعض الهدايا البسيطة للموظفين الصينيين في السفارة. تردد أولئك الموظفون في أخذها في البداية ثم أخذوها على مضض، غير أنهم في اليوم التالي أعادوها والخوف ظاهر على وجوههم حيث طلبت منهم الدولة إعادتها إلى السفارة. وبعد احتجاج السفارة قررت وزارة الخارجية الصينية أخذ تلك الهدايا بنفسها والتصرف فيها، كي لا يقال أنها ردّت هدايا الرئيس العربي.

أخبرني عن قصص أخرى عجيبة تكشف عن إنغلاق الصينيين لفترة طويلة على أنفسهم، فحين تذهب أسرة أحد الدبلوماسيين مثلاً إلى حديقة الحيوان أو مكانٍ عامٍ تتحول تلك الأسرة إلى فرجة حيث يتجمهر حولهم الصينيون محدقين في أشكالهم وفي كل تصرف يقومون به.

وصلنا إلى سور الصين أخيراً. كان مهيباً بالفعل. كانت هناك أعداد ضخمة من السواح. الأمر الرئيس الذي لاحظته هنا هو تلك المجموعات السياحية الصينية التي تأتي من كل مناطق الصين. كان من بينها مثلاً مجموعة قادمة من إقليم الإيغور المسلم. كان هناك أعداد من السواح الإيرانيين أيضاً. في أنحاء مباني بوابة السور التي وقفنا عندها كانت هناك أعداد من التماثيل والتي بدت لي أنها من بين التماثيل الطينية التي اكتشفت في عام 1974 في شرق مدينة شيان Xi'an من قبل مجموعة من الفلاحين الذين كانوا يحفرون بئراً فعثروا على جيش من تماثيل الجنود بالحجم الحقيقي للإنسان، وقد ظل هذا الجيش مدفوناً تحت الأرض لأكثر من ألفين سنة.

وسور الصين رمز عظمة الصين وروحها الدفاعية المسالمة، هكذا يقول الصينيون، وهو رمز مهيب حتى أن ماوتسي تونج قال "من لم يصعد السور ليس رجلاً حقيقياً". يسمي الصينيون سورهم العظيم "تشانجتشينج"، وقد تم تشييده قبل أكثر من 2000 عام في فترة أسرة قين (221-207 قبل الميلاد) في عهد موحد الصين الامبراطور قين شي هوانج، وقد أضافت الأسرة المتعاقبة على حكم الصين أجزاء أخرى من السور. وإضافة إلى مهمته الدفاعية فقد كان للسور فائدة أخرى وهي أنه أصبح الطريق الوحيد للنقل بين المناطق الجبلية التي يسير فيها، كما أن أبراجه العديدة كانت تستخدم لنقل أنباء تحركات الأعداء إلى العاصمة من خلال الدخان الناتج من حرق روث الذئاب.

بعد صعود جزء من السور نزلنا الى الحافلة التي ستعيدنا الى وسط بكين. في الطريق كان بالقرب مني نفس الدبلوماسي العربي الذي أخبرني عن أعاجيب الصينيين في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين. هذه المرّة لم يكن الحديث عن تلك الأعاجيب بل أخبرني بأن هذا البناء المهيب لا يمكن أن يكون من بناء البشر. كان يسأل: كيف يمكن لبشر أن يبنوا كل هذا الصرح العظيم الممتد؟ كيف يمكن لهم أن يصعدوا الى قمم الجبال لبناءه؟ من أين أتوا بالتراب كي يبنوه؟ استغربت كثيراً من تساؤلاته، فقصة بناء السور ثابتة تاريخياً وتوجد تفاصيل تاريخية لكثير من مراحل بناءه وإعادة بناءه وترميمه. حين سألته عن من يكون الذي بناه قال بأنه لا شك بأنه خلقٌ آخر من مخلوقات الله، وأضاف بأن السور قد يكون هو السد المقصود في الآية القرآنية في سورة الكهف "قالوا يا ذا القرنين ان يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض. فهل نجعل لك خرجا على ان تجعل بيننا وبينهم سدا". سألته "بهذا المنطق فكل الصروح العظيمة من بناء مخلوقات غير بشرية"، فقال "لا شك في ذلك. فعل البشر محدود وقدرتهم محدودة". سألته عن رأيه في الإهرامات مثلاً فقال إن من المستحيل أن البشر هم الذين بنوها وحركوا تلك الصخور الضخمة لبناء الإهرامات. بعد سماعي لتلك الآراء آثرت الصمت حتى لا أزعجه وما يعتقده، فتجربتي تقول بأن الصدام مع شخص ينطلق من معتقدات وليس من استنتاجات منطقية هو صِدام يولد صدامات شخصية وفكرية لا جدوى منها، فلا الشخص الذي تحدثه سيقتنع، لأنه ينطلق من معتقدات إيمانية حول قدرات البشر وقدرات من يعتقد بوجودهم من غير البشر، كما أنك، في سعيك لإقناعه بما تراه صائباً، تزعجه فيبدأ التوتر الشخصي بينك وبينه.

عموماً انطلقنا إذاً من سور الصين إلى محطتنا التالية التي كانت استاد "عش الطائر" الضخم الذي أقيمت فيه الألعاب الأولمبية عام 2008. ما أزال أتذكر روعة حفل الافتتاح والذي كان، مثل بقية الاحتفالات الصينية، مؤشراً دولياً أكثر منه محلياً يخبر الآخرين بأن الصين هنا في القمة، وهي هنا لتبقى. هذا الاستاد الرياضي مهيب بالفعل وقد شيد على شكل عش طائر، فخارجه ليس جداراً أصماً بل تداخل يذكرك بالقش والأغصان التي تستخدمها الطيور في بناء أعشاشها.

استاد "عش الطائر"



بعد ذلك كانت محطتنا الأخيرة لذلك اليوم في سوق الحرير.

بوابة سوق الحرير، تتوجها عبارة "أعلى جودة، وأفضل قيمة"

وهذا السوق ليس إسماً على مسمى مثل سور الصين العظيم، فهو سوق شعبي ضخم مكون من ستة طوابق تضم المئات إن لم يكن الآلاف من الأكشاك الصغيرة، ويمكنك أن تشتري فيه ليس الحرير فقط بل كل ما يمكن أن تتخيله من بضائع منزلية مثل الملابس والمجوهرات والحقائب وألعاب الأطفال والالكترونيات. في مثل هذه الأسواق الشعبية ينصح السائح في الصين بأن يفاصل على البضاعة وألا يقبل ما يعرضه عليه البائع، ومن الطبيعي أن لدي خبرة في عمان في "المجادلة" فالأهل دائماً يوصون أبناءهم بها "عن يضحكوا عليهم البياعين العيايير"، غير أن خبرتي تقول بأن المفاصلة يمكنها أن تسعفك بتخفيض لا يزيد على 10 % من السعر المعروض وربما أكثر قليلاً ولكن أن يصل التخفيض إلى 90% من السعر المعروض فهذا لا يحدث إلا في الصين! هذه هي النصيحة إذا: إن عرض عليك في الصين شيء بمبلغ فمباشرة إذهب إلى عشره واعرضه على البائع. لا تتنازل عن سعرك. البائع الصيني يأكلك بكلامه ولا يدعك تتحدث، فما عليك إلا أن تصر على كلامك وإن أصر على رفضه فغادر محله مباشرة، عندها ستجده يناديك بحيث يوصل السعر الى منطقة الوسط بين سعره وعرضك، ثم ما يلبث أن ينزل إلى السعر الذي تعرضه. يحدث التخفيض لأسباب عدة منها أن السعر الحقيقي يقل كثيراً عن العشر الذي عرضته، وإلا فلن يستفيد البائع ولا المحل شيئاً، وثانياً لأن الثقافة الصينية تفرض على البائع أن يقوم بكل جهده لإقناع الزبون حيث أن تحوّل الزبون إلى بائع آخر يعد دليل فشل الإقناع والتجارة عند البائع.

ما أذهلني هنا بالإضافة إلى التخفيض المهول هو صراخ البائعين في وجه المشترين، ومحاولة إقناعهم بالقوة، نعم بالقوة حيث ما يلبث البائع أو البائعة حتى يقوم بمسك ذراعك بقوة لإقناعك بالشراء، وكذلك الشتائم التي توجه لك إن رفضت ما يعرض. عليك ألا تغضب فما يحدث ليس إلا تفاوض يقبله المجتمع الصيني من أجل الوصول إلى سعر يقبله الطرفان. مررت بأحد محلات بيع الحرير، والذي لا يعني بالضرورة أنه حرير حقيقي، فطلبت مني بائعة شابة أن أشتري منها قطعة حريرية فرفضت السعر الذي عرضته في البداية فقالت لي غاضبة "سوف أذبحك! نحن بنات الصين نذبح! سوف أقطعك إرباً وأضعك في الشنطة التي تحملها على ظهرك". بطبيعة الحال كل هذا تفاوض به نوع من المزاح الصيني الذي عليك أن تتعود عليه وإلا فلا تزر الأسواق الشعبية الصينية، وإن كنت تظن بأن صاحب المحل سوف يستقبلك بالورود ويحدثك بالمودة ويودعك بالاحترام فأنت بلا شك في المكان الخاطيء.

السبت 31 أكتوبر 2009

في الساعة السابعة صباحاً أنطلقنا إلى مطار بكين كي نسافر جوّا الى مدينة جينان في محافظة شاندونج التي تقع في شرق الصين. في الحافلة كان يجلس جنبي أحد ممثلي البلاد العربية كان سفيراً لبلاده في عدة دول منها الصين. حدثني عن إعجابه بالتاريخ البحري العماني وارتباط العمانيين بأفريقيا قبل ظهور الدعوات الحديثة للأرتباط العربي بأفريقيا، كما تحدث بمودة عن بعض الدبلوماسيين الذي كانوا يمثلون بعض دول شرق أفريقيا في الدول التي عمل دبلوماسياً وسفيراً لبلاده فيها ثم التقى بها مرّة أخرى ليكونوا سفراء لعمان بعد أن عادوا من شرق أفريقيا إلى عمان.

بعد أن حطت الطائرة في مدينة جينان وجدنا في استقبالنا أمينة الصداقة الصينية الشعبية مع دول العالم في شاندونج، فرحبت بنا، وقالت بأن المطر لم يهطل على المدينة منذ فترة وأن أعضاء الوفد العربي مباركون حين حلّوا قوفو فقد جاءوا معهم بالمطر الغزير. أعجبني هذا الربط بين زيارة الوفد والمطر واستغربت من فرحة هذه المدينة به، وهو ما ذكرني بدعاء الشعراء العرب بنزول المطر على بلاد من يحبّون. ثم تركت أمر الإرشاد لنا لفتاة أسمها "لي". تتحدث لي بانجليزية مفهومة، حيث أنها درست اللغة الانجليزية في الصين وفي كاليفورنيا الأمريكية لعدد من الشهور. أخبرتنا لي بأن مقاطعة شاندونج هي مركز مسابقة الرياضة الصينية لعام 2009 ولهذا فقد أعدوا استاداً كبيراً على شكل زهرة لوتس التي هي شعار المدينة. هذه المدينة هي مدينة الزهور في الصين، فأينما حولت ناظريك تجد الزهور بمختلف أشكالها وتشكيلاتها.

أشكال من الزهور

أخذنا في حافلة إلى فندق شاندونج وهو من أرقى الفنادق التي رأيتها، ثم بعد فترة راحة لنحو نصف ساعة كان علينا القيام بزيارة إلى إحدى حدائق المدينة الغنّاء بالزهور وبالجمال الطبيعي في كل أشكاله واسمها حديقة نبع باوتو Baotu Spring Park. عند بوابة الحديقة كانت هناك العديد من أشكال الحيوانات التي تم إعدادها كلها بالزهور. كانت الحديقة مليئة بالناس ومعظمهم من الصين. قبل نزولنا من الحافلة نبهتنا لي إلى أن أهل هذه المدينة طيبون للغاية غير أنهم لم يحتكوا كثيراً بالغرباء لذا فان علينا أن لا ننزعج حين يحاولون أن يتحدثوا معنا أو أنهم يتابعونا بنظرهم. وكان كلامها صحيحاً فما أكثر الصينيين الذين استوقفونا في الحديثة ليأخذوا صوراً معنا ويسألوننا من أين البلاد نحن. مرّ بنا شاب يمشي مع فتاة صينية من أجمل من خلق الله من جنس النساء، فسأله أحدنا عنها فقال بأنها زوجته، فطلب منه صاحبنا أن يخبرها بأنها جميلة. حدث الشاب الصيني الحسناء الصينية فضحكت مع دلع صيني هادئ.

في معبد طاوي في مدينة جينان

بعد الحديقة ذهبنا إلى حديقة أخرى ولكنها ليست حديقة زهور بل حديقة تطل على بحيرة كبيرة واسمها حديقة بحيرة دامنج Daming Lake Park. دعينا للركوب في مركب يطوف بنا في ضفاف البحيرة الجميلة ثم اخذنا المركب إلى جزيرة في وسط البحيرة، بها بعض المرافق، واخبرتنا لي أن رؤساء الصين يأتون ويرتاحون هنا لبعض الوقت. في تلك الجزيرة أخذنا إلى معبد من معابد الديانة الطاوية، حيث كان هناك تمثال أحد القديسين وتماثيل للشياطين. التقانا هنا أيضاً بعض الصينيين الذين كانوا يتوددون لنا بالحديث وبإظهار المودة وبالترحيب بنا في مدينتهم جينان ومقاطعة شاندونج.

في المساء كانت ينتظرنا اجتماع مع سوي كويتشين نائب رئيس برلمان الشعب في مقاطعة شاندونج حيث ألقى كلمة ترحيبية بنا وأعرب عن رغبته في تطوير العلاقات العربية الصينية، ثم ألقى رئيس الوفد العربي كلمة شكره فيها. كما تحدث الدكتور محمد المقدم عن شكرنا لكرم الضيافة في شاندونج وعن العلاقات العربية، وخصوصاً العمانية، مع الصين وأبعادها التاريخية وضرورة تعزيزها من أجل المستقبل.

انتقلنا بعدها إلى قاعة طعام ضخمة مهيبة كانت حافلة بضروب الأكل الصينية التي لا عد لها ولا حصر، وطبعاً كان البط على رأسها، فالصينيون مولوعون بأكل البط. لم يعكر مزاجي في جلسة العشاء الجميلة هذه سوى ان بعض أعضاء الوفود العربية "أخذوا" معهم، دون استئذان، عصي الطعام الصينية الجميلة الخاصة بالمطعم على سبيل التذكار كما قالوا.

الأحد 1 نوفمبر 2009

تحركنا من جينان صباحاً متجهين إلى بلدة قوفو الصغيرة والتي تتبع أيضاً مقاطعة شاندونج وتبعد عن جينان ساعتين بالحافلة. كان الطريق جميلاً ولكن الملاحظة الكبرى هي أغلب السيارات التي قابلناها في الطريق كانت من الشاحنات المليئة بالمنتجات الصناعية التي تنتجها المقاطعة. عند العاشرة والنصف وصلنا بلدة قوفو، بلاد كونفوشيوس، فوجدنا في انتظارنا أحد مسؤوليها.

مقبرة آل كونفوشيوس

ضريح كونفوشيوس



لم نذهب إلى الفندق مباشرة بل ذهبنا أولاً إلى مقبرة كونفوشيوس وهي مقبرة أثرية مهمة، ففيها ضريح كونفوشيوس نفسه، كما أنها تضم الالاف من قبور أفراد أسرته الذين يحملون لقب كونج، حيث يحق لكل من ينتمي إلى تلك العائلة أن يدفن في هذه المقبرة. سألت لي عن عدد القبور هنا فقالت أن العدد يتجاوز 120 ألف وهو عدد يزيد كثيراً عن عدد الأشجار الضخمة التي تغطي المقبرة والتي يبلغ عددها نحو 100 ألف شجرة. ومثل كل الأماكن السياحية في الصين فإن المقبرة كانت مليئة بالسياح الصينيين الذي قدموا من أقاصي الصين لزيارة بلدة فيلسوفهم ورمزهم الفكري الذي أسس الديانة/الفلسفة الكونفوشيوسية.

بعد ذلك أخذنا إلى مطعم في فندق أسمه My Hotel حيث رحبت بنا بلدة قوفو من خلال بعض ممثليها، وأدت بعض الفتيات بعض الغناء الصيني، وعقب ذلك توجهت الحافلة إلى الفندق الذي سنقضي فيه ليلتنا في قوفو واسمه فندق قويلي Queli Hotel حيث أسترحنا لعشرين دقيقة، غادرنا بعدها إلى معبد كونفوشيوس وقصر أسرة كونفوشيوس.

مطعم إسلامي



ومن الأمور التي لفتت أنتباهي أنه بالقرب من بوابة الخروج لقصر كونفوشيوس كان هناك مطعم مسلم، حيث كتب عليه بالعربية "مطعم مسلمان" مع البسملة في لوحة أخرى، مكتوبة بالخط العربي المستخدم في أراضي المسلمين في غرب الصين. دخلت المطعم فلم أجد ما يميزه عن المطاعم الصينية الأخرى أبداً إلا لوحة بها الآية "إن ينصركم الله فلا غالب لكم" وتحتها ما بدا لي أنه ترجمة لها بالصينية. تساءلت في نفسي إن كان تعليق هذه الآية بالتحديد مجرد مصادفة أم أنه يعبر عن توق المسلمين في الصين للإنفصال عن الصين.

رجعنا إلى الفندق حيث كانت تنتظرنا وجبة عشاء مع مساعدة عمدة البلدة التي كانت في غاية اللطف والود، حيث ألقت كلمة رحبت فيها بالوفد العربي، وأشارت إلى تشابه التعاليم الكونفوشيوسية والإسلامية، وأن مثل هذه التعاليم التي تدعو للتسامح والسلم تشكل أرضية قوية لتعزيز العلاقات الصينية العربية، وبعد الكلمة بدأ العشاء الصيني المتنوع مصحوباً بغناء ورقص وأداء موسيقي أدته فرقة صينية من بلدة قوفو.

بعد العشاء قررت أنا وأبو سعد أن نمشي في السوق التجاري في البلدة، ولم أجد في حياتي طيبة وترحيباً مثل ما وجدته هنا فأينما ذهبت يسلمون عليك ويرحبون بك ويسألونك عن بلادك بانجليزية مفهومة، وربما استوقفك زائر من بلاد أخرى ليعبر لك عن إعجابه بهذه البلدة الطيبة. ومن لا يفهم الانجليزية يكتفي بالتلويح بيده مرحباً ومتحدثاً بالصينية، وبرغم أنك لا تفهم ما يقول بالتحديد إلا أنك لا تستطيع إلا تفهم ما تحمله كلماتهم من ترحيب ودفء وحميمية.

بدأ المطر ينزل بقوة فرجعنا إلى الفندق ثانية. دخلت أحد المقاهي بحثاً عن دفء شاي صيني أخضر أحضرته نادلة شابة. رغبت أن "أسولف" مع تلك النادلة فسألتها "أصحيح أن المسموح طفل واحد فقط؟" فقالت "نعم"، فقلت "هل هذا أمر طيب؟" فقال "هذه سياسة الدولة"، قلت "ما رأيكِ؟" قالت "لا أعرف". أستغربت من عدم رغبتها في الحديث عن الدولة التي تفرض سياسة الطفل الواحد والتي، كما أعرف، يعترض ويحتال عليها الكثيرون الذين يرون فيها ظلماً إنسانياً كبيراً، خصوصاً حين يكون ذلك الطفل بنتاً، حيث أن الصينيون يفضلون الولد على البنت وهو، مثلما هو الحال مع شعوب كثيرة، أمر متوارث من ثقافتهم الزراعية حيث يستطيع الولد أن يعمل في الفلاحة وفي إطعام أبويه على عكس البنت التي ستتزوج وربما تغادر بعيداً الى بلدة أخرى.

فتاة من آل بيت كونفوشيوس

بعد كوب الشاي الأخضر تركت المقهى ودخلت محل بيع الهدايا في الفندق، وبعد حوار مع إحدى الفتيات، أخبرتني إنها تنتمي إلى أسرة كونج، بمعنى أنها من "أشراف" الصين أو من آل بيت كونفشيوس. تركت تلك "الشريفة" تتفاوض مع أحد الزبائن على سعر قطعة حرير جميلة، وعدت إلى غرفتي.

الأثنين 2 نوفمبر 2009

غادرنا الفندق صباحاً عائدين إلى مدينة جينان. في الطريق دارت بين أعضاء الوفود أحاديث كثيرة حول أمور عديدة كان أغلبها مقارنات بين الصين والعالم العربي، إن جازت المقارنات. ومثلما يحدث دائماً في مثل هذه التجمعات يكون هناك شخص تنبع منها الطرائف والنكت التي يهتز لها جميع من في الحافلة ضحكاً.

مررنا في الطريق باحدى المدن الجامعية في ضواحي جينان، وهي مدينة ضخمة تتكون من عدد كبير من الكليات مثل كلية الصناعات الصغيرة وكلية الفنون وكلية الزراعة وكلية للطب الصيني وغيرها من الكليات.

بعد الغداء في أحد الفنادق الجميلة ذهبنا لزيارة معرض مفتوح للزهور يمثل كل انحاء الصين وبعض دول العالم. لاحظت من خلال الأعلام المرتفعة أمام المعرض وجود علم إسرائيل وغياب أي علم عربي، وهو مظهر آخر على حضور اسرائيل في أغلب الأنشطة الدولية في الصين، وهو يتوازى مع ارتباط اسرائيل الدائم بالقوى الدولية العظمى في العالم وتهيئة لعلاقة قوية حين تكون الصين قوة أعظم مما هي عليه في الوقت الحالي. وبدا لي أن حضور العلم الاسرائيلي وغياب العلم العربي في أقاصي الصين يلخص مستقبل علاقات الصين مع المنطقة العربية، خصوصاً في عصر "الانفتاح" الصيني الذي يبدو أنه سينأى صوب المصالح مبتعداً عن شعارات إيديولوجيا العدالة الدولية.

بعد ذلك المعرض اتجهنا الى مطار شاندونج، وكان توديعاً كبيراً من قبل مسؤولي جينان حيث ودعتنا أمينة الصداقة الصينية الشعبية مع دول العالم في شاندونج في قاعة كبار الشخصيات في المطار، مما أثار ارتياحاً لدى الوفد العربي، خصوصاً أولئك الذين اعترضوا على ورضخوا للتفتيش الأمني الدقيق في مطار بكين أثناء قدمونا الى شاندونج. وصلنا بكين وذهبنا إلى نفس الفندق الذي كنا قد سكنا فيه قبل ذهابنا إلى جينان.

الثلاثاء 3 نوفمبر 2009

انطلقنا صباحاً بالحافلة لنشارك في حفل افتتاح معرض بكين لمعدات البناء. في الطريق الى المعرض الذي أخذ نحو ساعتين لاحظت العمارات التي تنبت في كل مكان على مدى النظر على يمين الشارع وعلى يساره. عمارات شاهقة هي وحدها الكفيلة بامتصاص أكبر عدد من السكان الذين تحتشد بهم بكّين، والذين برغم عدد السكان المهول فانك لا تراهم يشكلون زحاماً أبداً، كما أنه بسبب تخطيط الشوارع وتوسع المدينة الأفقي وهندسة مرافقها جغرافياً فانك لا تجد إلا القليل من الزحام في أوقات الذروة. على وجه العموم وصلنا المعرض حيث وجدنا ضيوفاً من كل مناطق العالم جاءوا ليحضروا هذا المعرض. يتخصص المعرض في معدات البناء، حيث تجد كل ما يمكن لخيالك أن يتخيله من معدات البناء الصغيرة منها والضخمة والمهولة الضخامة والارتفاع. كل ذلك مع "صنع في الصين".

ضيف شرف حفل الافتتاح كان تيمور دواماتي الذي يبدو أنه بسبب حبه للعرب أراد أن يكرم الوفد العربي فاستقبلونا في المعرض باعتبارنا من كبار الشخصيات الدولية، ثم ذهبنا للغداء مع دواماتي في قاعة جميلة من قاعات ذلك المعرض الضخم.

الأمر الوحيد الذي أزعجني في زيارة المعرض كان مطوية عن المعرض باللغة العربية، ويبدو أن من كتبها بالعربية أو ترجمها إليها مبتدئ للغاية فجاءت هذه المطوية كارثة لغوية. عنوان المعرض كما يظهر في المطوية "الدورة العاشرة للمعرض الدوليين لمعدات وآلات البناء ببكين"، وفي الصفحات الداخلية نجد معلومات لا يمكن فهمها مثل "جميع الزوار الذين الدخول www.e-bices.org وسجل زوار في التسجيل قبل أيلول/سبتمبر 20th تتمتع بالخدمات من BICES:

  • جمع بطاقات مجانية وأدلة زائر في مرحلة ما قبل l التسجيل
  • بدون خط في انتظار القبولl"

توقفت متأملاً أمر هذه المطوية، فلا شك أنها كارثة على مستوى اللغة، ولكنها عكست لي جانباً من الصين المعاصرة. لست اعتذارياً عن الصين ولكني أحاول أن أرى الأمر من منظور أعلى ومن منظور يُحضِر الزمن إلى الموضوع: المعرض الصيني يحاول على الأقل التواصل مع الزبائن العرب للمعرض، وربما أخطأ هنا في محاولته، والخطأ والتصويب هو أحد مميزات التجربة الصينية المعاصرة، ولا شك بأن الصينيين سيتعلمون من هذه العثرة اللغوية لتقديم منتج لغوي عربي أفضل في المستقبل.

بعدها انطلقنا الى جامعة بكين للدراسات الدولية حيث توجد كلية لتدريس اللغة العربية. تقع هذه الجامعة بالقرب من جامعة أخرى تدرس فيها العربية أيضاً هي جامعة بكين للدراسات الأجنبية.

آسيا



في الطريق أشارت إليّ آسيا )مرافقة الوفد، وهي طالبة تدرس العربية في جامعة بكين للدراسات الأجنبية) أن أنظر إلى إحدى العمارات هناك. قالت لي "هل ترى تلك العمارة والكتابة الحمراء في أعلاها". نظرت الى العمارة التي تقصدها ولم أر سوى حروف بالصينية، فأخبرتني أن المكتوب هو "مركز عُمان". سألتها عن صاحب العمارة أو عن سبب تسميتها بذلك الأسم فردت بأنها لا تعرف.

"مركز عمان" في بكين



ما أن وصلنا الجامعة حتى وجدنا في استقبالنا ما لم نكن نتخيله. الطلبة الصينيون الدارسون للعربية مصطفون يحمل كل منهم باقة ورد ضخمة لكل منا. كان في الاستقبال أيضاً رئيس الجامعة زو لي Zhou Lie الذي يتحدث العربية بطلاقة العالم المتبحر فيها. دخلنا إحدى قاعات الجامعة حيث كان هناك عدد كبير من الطلبة الذين يدرسون اللغة العربية مع أساتذتهم (كان من بينهم أ. ليو هوي الذي يحمل الأسم العربي "يسري" وهو نائب عميد كلية اللغة العربية). وألقى رئيس الجامعة خطبة ترحيبية باللغة العربية استخدم فيها كل ما يمكنك أن تتخيله من أشكال البيان العربي، مرحباً بنا "في بلادنا الصين".

بعد خطبته ترك المجال للطلبة كي يتحاوروا مع أعضاء الوفود. أجبت بنفسي على بعض تساؤلاتهم، فقد سأل أحدهم عن ما تشترك فيه الثقافة العربية والصينية فقلت له أنهما يشتركان في تاريخ عميق من العلاقات، وخصوصاً في الجزء الشرقي من العالم العربي الذي كانت سفنه، وخصوصاً العمانية، تتاجر مع الصين منذ أقدم الأزمان، فقد كشف علم الآثار عن الكثير من المنتجات الصينية من خزف وغيره في عدد من المواقع العمانية. كان هناك سؤال من طالب آخر عن كيفية تعلم اللهجات العربية في الصين فنصحته أن يتابع بعض التلفزات العربية من خلال الأقمار الصناعية، وخصوصاً تلك القنوات التي تبث مسلسلات أو أفلام باللهجات العربية، إضافة إلى احتكاكه بالعرب وزيارة الدول العربية إن أمكن. علّق رئيس الجامعة على سؤال الطالب ناصحاً إياه أن يركز جهده على اللغة العربية الفصحى وأن يطلب من يحدثه من العرب أن يتحدث بها وأن يخبر العربي إن أصر على استخدام اللهجة على أن الفصحى "هي لغة القرآن وهي ما يوحِّد العرب".

بعدها ألقى أربعة من الطلبة المتعلمين للعربية قصيدة "لا أنت أنت ولا الزمان هو الزمان" لفاروق جويدة، وأعقبت هذا الإلقاء أغنية أداها طالب وطالبة للفنانة العربية المعروفة مريام فارس وهي أغنيتها المعروفة "أنا والشوق". كان أداء الفتاة رائعاً ولافتاً للجميع في غناءها وفي أداء شكل من أشكال الرقص الشرقي مع الأغنية.





كانت القصيدة والأغنية دليلين على سعي الطلبة المتعلمين للعربية لإجادة العربية ليس المكتوبة فقط بل حتى المغناة، وهو ما يعني تواصلهم مع الثقافة العربية التراثية والمعاصرة. والحقيقة أن أداءهم كان بديعاً خصوصاً حينما تعلم أنهم لم يسبق لهم قط زيارة أي دولة عربية، بل تعلموا هذه اللغة الغريبة عليهم في الصين فقط.

بعد هذه الجلسة الجميلة مع الطلبة ذهبنا الى مأدبة عشاء على شرف الوفد العربي أقامها رئيس الجامعة الذي ألقى خطبة قال فيها بأن جسمه عربي فقد شرب من ماء العرب وأكل من أكل العرب، وفي روحه تراث العرب. كان من بين حضور المأدبة الاستاذ محمد عبدالعزيز الصاوي وهو مدرِّس مصري يدرس في كلية اللغة العربية، وقد حدثنا الأستاذ الصاوي عن اهتمام الصين باللغة العربية وتدريسها بالصين وأخبرنا أن هناك 24 قسماً جامعياً تدرس اللغة العربية في الصين. دار نقاش حول تدريس الصينية في العالم العربي ومقارنة بمصير خريجي اللغة العربية في الصين الذين يصبحون دبلوماسيين وسفراء في الدول العربية أما خريج اللغة الصينية في العالم العربي ففي كثير من الأحيان لا يجد وظيفة أبداً. ودار حوار أيضاً عن غياب المترجمين من اللغة الصينية إلى اللغة العربية، وأن معظم الكتب الصينية التي تترجم إلى اللغة العربية تمرّ بلغة وسيطة هي الانجليزية في الغالب.

الأربعاء 4 نوفمبر 2009

هذا اليوم يخلو من أي برنامج مرتب سوى زيارة المدينة المحرمة، والتي يقصد بها القصر الأمبراطوري. وقد سميت بالمدينة المحرمة لأنه كان يحرم على المواطن الصيني الدخول إليها، وكما يقول أحد الأدلة السياحية عن هذا المَعلَم فقد كان الدخول إلى المدينة المحرمة يكلف الإنسان حياته، أما الآن فلا يكلف إلا مبلغاً زهيداً من المال تدفعه فتتجول بين جنبات هذه المدينة الامبراطورية التي كانت حكراً على الأباطرة وأسرهم وكبار رجال حكوماتهم.

مررنا أولاً بميدان تيانانمين الشهير، وقد سمي هذا الميدان بهذا الأسم لأنه يقع بالقرب من بوابة تيانانمين (أي "بوابة السلام السماوي") وهي البوابة التي تفصل الميدان عن المدينة المحرمة، وقد بنيت هذه البوابة عام 1417 في عصر أسرة منج. ومن تاريخ البوابة أن القوات البريطانية والفرنسية التي احتلت بكين في عام 1860 كادت أن تحرق البوابة مع القصر الامبراطوري بأكمله غير أنها عدلت عن هذا واكتفت بإحراق قصر آخر من القصور الامبراطورية هو القصر الصيفي القديم.

ذاعت شهرت ميدان تيانانمين على المستوى العالمي في عام 1989 حينما قتلت القوات الصينية المئات من الطلبة القادمين من بكين ومن شانغهاي وناننج وشيان وغيرها من مدن الصين للاحتجاج على الحكومة الشيوعية، آملين في انهيارها بعد انهيار كثير من دول المعسكر الشيوعي الشرقي. وقد كانت شرارة الاحتجاج قد انطلقت حين أراد الطلبة إقامة شعائر الحزن على وفاة أحد محاربي الفساد ومؤيدي الديمقراطية في الصين وهو هو ياوبانج فتجمع نحو مليون شخص في الميدان في الليلة التي سبقت يوم جنازته. وقد استمر الاعتصام في الميدان من يوم وفاة هو الى يوم 4 يونيو حين تدخل الجيش الصيني لفض الاعتصامات والاحتجاجات مما أدى إلى مقتل ما يقدر بنحو 400 شخص.

سألت آسيا عن انطباعها عمّا حدث في هذا المكان فقالت بأن الإعلام الصيني لا يتحدث عن الموضوع كثيراً وأن معظم الشباب لا يعرفون عنه. ثم أضافت بأن هناك دعوات من أجل الديمقراطية ومحاربة الفساد غير أن الناس يفضلون التحرك نحو الديمقراطية بخطى مدروسة فالشعب الصيني يزيد على المليار نسمة، وأي تحرك غير محسوب قد يؤدي إلى كوارث لا يمكن التحكم فيها. ثم أضافت "أريد أن أزور الدولَ العربيةَ كي أرى الحياة هناك"، غير أن أحد المشاركين العرب "أصلح" لها لغتها العربية فنصحها بضرورة كسر كلمة "العربية" وليس فتحها. كان رأيه أن "العربية" مضاف إليه، غير أن آسيا الصينية أعطت صديقنا العربي هذا درساً في قواعد العربية وفي تبعية الصفة للموصوف وبأن الصحيح نتيجة لذلك هو "العربيةَ" (بالفتح) وليس "العربيةِ" بالكسر لأن "الدولَ" مفعول به، و"العربية" صفة تتبع الموصوف في الإعراب. حلّ الصمت بين الوفد العربي. صمت متعدد المعاني.

ها أنا أمشي الآن في ميدان تاريخي شهد أحداثاً عدة، ومآسٍ كبيرة، وصراعات تداخل فيها المحلي الصيني مع الصراعات الدولية بين الشرق والغرب وانهيار المنظومة الشرقية. تنتاب الإنسان في مثل هذه الأماكن التاريخية مشاعر متضاربة. كيف لك أن تقرأ تاريخ المكان؟ أكان إزهاق أرواح؟ أم كان وقوفاً صينياً مجيداً في وجه الغرب ممثلاً في بعض المغرر بهم من شبابه؟ أياً كان الأمر فقد وقع في هذا الميدان خطب عظيم، كعظمة كل شيء في الصين، من تاريخها إلى سورها إلى مدينتها المحرمة.



عبرنا في الميدان بقاعة الشعب الشهيرة وبضريح ماوتسي تونج الذي يعرض فيه جثمانه (توفي عام 1976).

ها نحن أمام جدار البوابة الأولى للمدينة المحرمة، والتي تشتهر في الزمن المعاصر بصورة ضخمة لماوتسي تونج. تبلغ مساحة المدينة المحرمة 720 ألف متر مربع وتحتوي على ما يزيد على 950 مبنى، وقد بدأ بناء هذه المدينة عام 1406 وانتهى 1420م، وشارك فيه ما يزيد على مليون شخص.

لن أطيل في وصف المدينة المحرمة ومن يريد الاستزادة يمكنه الذهاب إلى الموقع التالي: http://en.wikipedia.org/wiki/Forbidden_City

أعلام السياحة الرأسمالية

كان لي عدة ملاحظات في هذه المدينة المحرمة، أولها يتعلق بتغير الأعلام، فبينما الأعلام الحمراء الشيوعية ترفرف في البوابة الأولى أعلى صورة ماوتسي تونج تجد هنا العديد من الأعلام الملونة ولكنها ليس أعلام الجنود بل أعلام المرشدين السياحيين الذي يحملون أعلامهم كي يتعرف عليهم أفراد مجموعاتهم السياحية وسط الزحام.

السياحة الرأسمالية تدب بمختلف ألوانها.



أما ما أستغربت منه والذي لا يمكن فهمه إلا في سياق انفتاح الصين على العالم من جانب، والأمركة المعولمة من جانب آخر هو أنني لاحظت حينما كنت أقرأ اللوحات الإرشادية لبعض القصور والآثار في المدينة المحرمة وجود عبارة في آخر إحدى اللوحات تقول "made possible by the American Express Company" بمعنى أن اللوحات تمت برعاية شركة أمريكان إكسبرس الشهيرة. استغربت من الدلالة الرمزية لحضور الشركة الأمريكية التي يبدو أنها قامت بإعداد هذه اللوحات الإرشادية، وبقبول الصينيين هذه العبارة. تساءلت: أهي رسالة أمريكا للصينيين تقول بأنني حاضرة في قدس أقداس تاريخكم وهو المدينة الأمبراطورية؟ أم أنه دليل على تغير أحوال الصين وحراكها نحو الرأسمالية غير المبالية بالتاريخ وبدلالات الرموز؟



اللوحة مع العبارة الرمزية الأمريكية

قلت في نفسي لأنظر إن كانت العبارة موجودة في اللوحات الأخرى فإذا بها هناك، ولكن يبدو أن هناك من الصينيين، أو من غيرهم، من انتبه أن تغير أحوال التاريخ لا ينبغي أن يتم بالطريقة التي ترغب فيها أمريكا، وربما بعض الصين المعاصرة، فقام بوضع شريط لاصق يخفي تلك العبارة الرمزية، ولكن يبدو إن التاريخ المتأرجح ما يزال يتأرجح بشدة، فالعبارة وإن تمت تغطيتها إلا أنه يمكن قراءتها بوضوح من تحت الشريط اللاصق.

عبارة العون الأمريكي وقد أزيلت بشريط لاصق في لوحات أخرى

حضور أمريكي ظاهر وخفي ومخفي. هذه هي الصين (أو لنقل هذه هي "بعض" الصين) في زمانها الجديد.

خرجنا من التاريخ الامبراطوري الملتبس الذي يبتدى بجدران من التاريخ مع صورة ماوتسي تونج مع قصور مهيبة مع حضور أمريكي رمزي لا تخفى دلالاته. في الخارج كان هناك كثير من الباعة المتجولين والذي يبيعونك كثيراً من الهدايا مثل الكتب التذكارية عن الموقع وعن المواقع الأخرى في الصين وبكين تحديداً، ومثل الشنط، وساعات رولكس المزيفة التي يمكنك أن تشتريها هنا بما لا يزيد عن نصف ريال عماني. ترى ما الذي كان سيفعله أباطرة الصين العظام لو قدر لعرشهم وبأسهم الشديد أن يعود ثانية في زماننا هذا؟

الخميس 5 نوفمبر 2009

هذا يوم سفرنا إذاً. لقد اشترينا ما فيه الكفاية من الهدايا أو "الشفايا" بحسب لهجة داخل عمان. المشكلة في رحلة التسوق في بكين، وربما في الصين بأكملها، أنك تصبح أسير رغبة عارمة في شراء كل شيء، فالبضائع العادية رخيصة رخص التراب مقارنة بأسعارها في عمان كما ذكرت في حديثي عن سوق الحرير. عموماً عقدنا عزمنا، أنا وأبو سعد، على الذهاب مرّة أخرى إلى سوق وانجفو، حيث اشتريت من أحد المحال بعض هدايا الأطفال. حين دفعت قيمة الهدايا، التي لم تتجاوز 300 يواناً أخبرتني البائعة بأنني قد حصلت على هدية وأن عليّ أن أذهب لاستلامها في الطابق الثالث. ذهبت على الفور، فضولاً لمعرفة الهدية الموعودة، وليس فرحاً بها، وما أن أعطيت وصولات المشتريات لموظفة هناك حتى أعطتني صحناً صغيراً به خرزات بيضاء اللون، وطلبت مني أن آخذ واحدة منها. قلت لها "هل هذه هي الهدية؟"، فأشارت بالايجاب. كنت مندهشاً للغاية فالخرزة الهدية خرزة عادية "ولا تسوى بيسة حليانة"، سألتها إن كان من الممكن أن تحتفظ بها لنفسها فقالت "لا إنها هديتك". استغربت لإصرارها على أن تلك الخرزة هي هدية، ولم يكن أمامي إلا الإذعان واستلام الهدية الصينية. في طريق نزولي أدركت أن تلك الهدية ليست إلا شركاً ذكياً من قبل المحل كي أمر عبر الطابقين الثاني والثالث فربما أقرر أن أشتري شيئاً من البضائع المعروضة هناك ومنها سيوف صينية تقليدية ولوحات تشكيلية ومنحوتات من اليشب والرخام. رغم جَمَال تلك البضائع إلا أن حنقي من أمر الهدية جعلني لا ألتفت لنداءات الباعة هناك.

نزلت وخرجنا أنا وأبو سعد من المحل وقررنا أن نمشي قليلاً في هذا الشارع التجاري. مررنا بصيدلية فأخبرت أبا سعد أنني أرغب في دخولها لرؤية الأدوية الصينية. دخلت الصيدلية التي كانت مليئة فعلاً بالأدوية الشعبية الصينية من أعشاب وعظام حيوانات وأشياء لا أعرفها وما استوقفني كان وجود حصان البحر المجفف وشيئاً يشبه قرون الفلفل المجفف ولكنه ترابي اللون. خرجنا من الصيدلية ومشينا قليلاً ثم قررنا الذهاب إلى الفندق لإعداد حقائبنا. في الطريق مررنا بكشك يبيع المجلات والجرائد اشتريت منه جريدة China Daily. حين وصلت غرفتي في الفندق بدأت في قراءة الجريدة. كنت أريد أن أعرف ما يشغل الصين في يوم مغادرتنا كما تقدمه الصفحة الأولى من الجريدة. أمريكا أمريكا أمريكا ولا غيرها، هي ما يشغل الصين. كانت معظم الأخبار لها علاقة بالأمريكان على نحو أو آخر، وبتسللهم الخفي أو الظاهر القادم على صهوة الرأسمالية إلى الصين، صين الانفتاح على المجهول. الخبر الرئيس يقول "الحكومة تشتري تذكرة لديزني شانغهاي" ويتعلق بمشروع افتتاح مدينة ديزني في شانغهاي الذي سيكون ثمرة تعاون بين الشركة الأمريكية وشركاء صينيين. الصين إذا توافق على رمز آخر من رموز العولمة الأمريكية، ولكن هذه المرّة أمركة تتعلق بأجيال الصين القادمة التي ستجد حتماً ما يمتعها في الترفيه الأمريكي. وكما تشير الجريدة فان مدينة ديزني شانغهاي ستكون ثاني مدينة ديزني في الصين بعد ديزني هونج كونج، والصين بطبيعة الحال بلاد ضخمة تستوعب عشرات من مدن ألعاب ديزني.

الخبر الآخر ذو العلاقة بأمريكا كان يتعلق بالكتاب الذي نشره أخ للرئيس الأمريكي باراك أوباما يعيش في مدينة شينزين في مقاطعة دواندونج. الكتاب لا يرتبط بعلاقة أمريكا بالصين مباشرة ولكن احتفاء الصحافة الصينية به يصب في نفس الاتجاه نحو أمريكا وتتبع أخبارها، خصوصاً حين يكون مصدر تلك الأخبار هو الصين مثل خبر أخ أوباما هذا.

كان هناك خبر كبير آخر يتعلق بالاقتصاد الصيني، ومصدره البنك الدولي الذي أعلن يوم الأربعاء 4 نوفمبر 2009 عن أن الأقتصاد الصيني في طريقه لتجاوز آثار الأزمة المالية، فقد رفع البنك الدولي من توقعه لنسبة النمو في الصين في هذا العام من 7.2% إلى 8.4%، وقد كان البنك الدولي يتوقع نسبة نمو أسوأ للصين لا تتجاوز 6.5% غير أن الاقتصاد الصيني أثبت أنه أقوى كثيراً من توقعات البنك الدولي المبدئية، أما في عام 2010 فيتوقع البنك استمرار النمو ليصل الى 8.7%.

ومن الأخبار التي نشرتها الصحيفة في صفحتها الأولى خبر عودة مزيد من الأطفال المسروقين إلى أهاليهم (سرقة الأطفال والاتجار بالبشر ظاهرة منتشرة في الصين)، حيث تقول مقدمة الخبر "بالنسبة لجو جينلونج الذي يبلغ من العمر 11 عاماً فان عودته الى والديه البيولوجيين [أي الحقيقيين وليس اللذين تبنوه] بعد خمس سنوات من سرقته منهم يعني بأنه قد حصل على فرصة ليبدأ الاستمتاع بالحياة".

ها قد حلّت الساعة الرابعة وهي موعد ذهابنا الى المطار. بعثت رسالة إلى آسيا أشكرها فيها على لطفها وطيبتها وجهدها الكبير الذي بذلته معنا. نزلت الى البهو وأنهيت مع ماجد إجراءات الخروج من الفندق، وهكذا فعل أبو سعد، ثم غادرنا في سيارة تقودها أمرأة. في الطريق تبادلنا الأحاديث مع ماجد، فسألته عن راتب خريج الجامعة في الصين فقال أن الأمر يختلف من مقاطعة لأخرى بحسب الإمكانيات الأقتصادية للمقاطعات، ولكن في بكين فأن معدل راتب الخريج الجامعي يبلغ نحو 3000 يوان أي ما يساوي نحو 170 ريالاً عمانياً. سألته إن كان هذا المبلغ كافياً للحياة فأجاب بأنه كافٍ لحياة جيدة يمكن بها العيش الطيب واستئجار شقة، ولكن شراء شقة بهذا المبلغ يتجاوز حتى الأحلام فسعر الشقق خيالي بالنسبة للموظف خريج الجامعة.

تحدث ماجد كذلك عن زياراته لكوريا، فهو يقطن في مقاطعة قريبة من كوريا، وقال بأن الصينية كانت هي اللغة الرسمية هناك، غير أن الكوريين طوروا لغتهم واعتمدوها لغة رسمية لتعزيز استقلالهم عن الصين، ولكنه بابتسامة قال بأن الكوريين يعلمون الصينية في مدارسهم، ويعلمون أطفالهم الآلاف من رموز الكتابة الصينية، ليس حباً في الصين، ولكن لقراءة تاريخهم وتراثهم المكتوب بالصينية. ثم انتقل الحديث عن الطعام الصيني، فأشار أبو سعد إلى زيارة قام بها إلى الصين مع أحد المسؤولين العمانيين الذي علّق أثناء وليمة صينية أعدت على شرفه بالقول "ترى ما هو الطعام الذي سنقدمه لهم حين يردون الزيارة في عمان؟" في إشارة إلى فقر المطبخ العماني، وأخبرنا ماجد بأن هناك ما لا يقل عن عشرة آلاف من الأطعمة الصينية، وأن طعام كل منطقة يختلف عن طعام المناطق الأخرى وهو ما زاد من ثراء المطبخ الصيني، وما جعله منتشراً في العالم بأكمله.

وصلنا المطار، وبعد أن أدخلنا شنطنا ودعنا ماجد عند نقطة الجوازات. رن هاتفي فرأيت أن المتصل كان آسيا. رددت عليها فسألتني بلهفة "أين أنت؟"، فقلت لها "في المطار، وقد ودعنا ماجد قبل قليل"، فقالت "لقد قلت لي قبل يومين أنك تنسى، ولكني لم أتخيل أنك ستنسى محفظتك في الفندق". عجباً!! لقد فتشت غرفتي ثلاث مرات قبل مغادرتي، ولم يكن في الغرفة شيئاً من ممتلكاتي. سألتها "وما الحلّ الآن؟"، فقالت "لا أدري، فقد أتصل بي موظف الفندق الآن وأخبرني بذلك، وأنا الآن في الجامعة". قلت لها بأنني سأتصل بها بعد لحظات فقد حلّ دوري عند موظف الجوازات. بعد ختم الجوازات جاء دور التفتيش الأمني، وهو تفتيش دقيق يمكنه أن يكشف حتى الجني الذي يلبس قبعة الإخفاء. عموماً ليس لدي ما أخفيه، فأدخلت شنطتي في جهاز التفتيش. مررت بالبوابة الألكترونية ولم يطلب الموظف تفتيشي ولكن الموظف الموجود عند جهاز تفتيش الشنط قال لي بأن هناك سوائل في شنطتي، ويحظر حمل السوائل إلى داخل الطائرة. كنت متأكداً بأني لا أحمل أي سائل في شنطتي، فقد انتبهت الى هذا حين كنت أعد شنطتي، بل أن قنينة العطر التي جئت بها من مسقط في حقيبة يدي وضعتها في الحقيبة الكبيرة لأني توقعت مثل هذا التشدد الأمني. بيقين الواثق فتحت الشنطة فأشار موظف التفتيش إلى ثلاث "فأرات" حاسوب جميلة لحواسيب الأطفال كان بها بالفعل سائل يكبر الرسوم التي توجد في الفأرة ويمنحها ألقاً وجمالاً مختلفاً. قلت له بأنها فأرات حواسيب وليست قناني سوائل. سألته عن كيفية التصرف في مثل هذا الحالات فرد عليّ ليس بالكلام بل بالفعل، حيث تناول الفأرات ورماها في صندوق بجانبه فيه كثير من سوائل المسافرين وأغلبه قناني عطر وغيره. سألته إن كان من الممكن أن يأخذوا الفأرات إلى موظفة الطيران الذي أسافر عليه، فلم يكن رده عليّ غير "نو نو نو". كان هناك رجل إنجليزي بجنبي فقال لي "لو توسلت له حتى الغد فلن يفعل لك شيئاً. الأفضل لك أن تنسى أمر فأراتك وتمضي" ولسان حاله يقول "الله يعوضك عن تلك الفأرات الجميلة". لم أقرر أن أترك الأمر فلم يكن الأمر بيدي أبداً، فمشيت مخلفاً الفأرات ورجل التفتيش، وأنا أقول مواسياً نفسي "ليس بالفأرات الصينية وحدها يعيش الإنسان!!!".

بعد ذلك رتبت مع اللجنة المنظمة للملتقى أمر إرسال المحفظة إلى عمان (وهو ما حدث إذ وصلتني في يوم وصولي إلى عمان عن طريق أحد الأخوة العمانيين القادمين من بكين إلى مسقط عبر رحلة طيران بعد رحلتنا).

في الطريق إلى الطائرة مررنا بعدد من محلات الـ duty free أو البضائع المعفية من الجمارك، وكانت أسعارها ملتهبة، فمرآة البنات التي اشتريتها بعشرة يوانات صباح اليوم كانت تباع هناك بـ 190 يواناً.

في الطائرة، قرأت إحدى الجرائد العربية وكان بها خبر لافت عن الصين التي سنغادرها بعد قليل، وكان عنوان الخبر "الصين الثانية عالمياً في البحث العلمي"، ويقول الخبر الذي كتبته وكالة رويترز "كشف تقرير أصدرته طومسون رويترز أمس الأول أن الصين ستتفوق على الولايات المتحدة وأوروبا واليابان في البحث العلمي خلال القرن المقبل. وذكر التقرير أن الباحثين الصينيين أنتجوا أبحاثاً علمية تزيد عن مثلي ما كانوا ينتجونه في السابق وأن بكين الآن في المرتبة الثانية من حيث عدد الأبحاث بعد واشنطن"، ويضيف الخبر "ونشر الباحثون الصينيون 20 ألف بحث في 1998. وقفر الرقم إلى 112 ألفاً في 2008 لتتفوق الصين على اليابان وبريطانيا وألمانيا من حيث الانتاج السنوي". مرحباً بالزمان الصيني.

بعدها غيرت توقيت ساعتي إلى الزمان العماني، فأنا عائد إلى مسقط.

وصلنا مسقط نحو الرابعة والنصف فجر الجمعة 6 نوفمبر 2009.

صباح الخير يا بلادي