يمكن لمن أراد قراءة النص الانجليزي هنا.
أقدم ترجمة لهذا المقال.
فضيلة القبر
مارك توين
ترجمة: عبدالله الحراصي
لقاطني القبور ميزة لا يبزهم فيها أي إنسان حيّ، ألا وهي ميزة حرية الكلمة. وإن تحرينا الحقيقة فان الأحياء يحظون بهذه الميزة أيضاً، غير أنها ليست عندهم إلا محض أمر شكلي فارغ من مضمونه، حيث أنهم يعرفون بأنها لا يمكن أن تعدّ رأسمال حقيقي. ولأنها ميزة نشطة فإنها في منزلة ميزة القتل: أي لا نمارسها إلا إن قبلنا على أنفسنا تحمل العواقب. والقتل محرَّمٌ شكلاً ومضموناً، أما حرية الكلمة فإنها ممنوحة شكلاً غير أنها محرمة مضموناً. وكلا القتل وحرية الكلمة جريمتان، وهما من مستقبحات الأفعال عند الأمم المتحضرة. يواجه القتل بالعقوبة أحياناً، أما حرية
الكلمة فان العقوبة لها بالمرصاد دائماً – وأعني أن العقوبة تنتظرها "حينما" ترتكب، وأقول "حينما" لأن ارتكابها أمرٌ نادرٌ على وجه العموم، فمقابل ما يزيد عن خمسة آلاف جريمة قتل لا تجد إلا حالة حرية كلمة واحدة (مستنكرة). وهناك مبرر لهذه الندرة، وهو أن ثمنها غالٍ يفوق الاحتمال، ذلك أن حرية الكلمة قد تقضي على عمل الإنسان، وربما أفقدته أصدقاءه، وجلبت له المهانة والمسبة من السابلة والدهماء، وربما تسببت هذه الكلمة الحرّة في أن ينبذ الناس أسرته التي لا جريرة لها فيما فعل، ويمسي بيته معزولاً مقاطعاً لا يزوره أحد.
إن الرأي الحرّ المخالف للآراء السائدة في السياسة أو الدين يعيش مكنوناً في قلب كل إنسان ولا يباح به، وتوجد في أفئدة كثير من الناس العديد من هذه الآراء الحرة المخالفة وليس مجرد رأي واحد فقط. والقاعدة هي أنه كلما ازداد ذكاء المرء وحدة ذهنه، ازداد ما يخبئه فؤاده الكتوم من هذا النوع من الآراء التي لا يذيع بها لأحد. ولا يوجد على ظهر البسيطة إنسانٌ، حتى أنا وأنت أيها القاريء، لا يحمل معتقداً عزيزاً مضمراً خفياً تمنعه الآراء العامة من أن يتفوه به. إننا نكتم رأياً ما في بعض الأحيان لأسباب لا تعيبنا، بل لأن هذا الكتمان يجلب لنا الفائدة، غير أن الغالب هو أننا نكتم رأينا الذي يخالف الرأي العام لأنه لا يمكننا تحمل الثمن المرير الذي يتوجب علينا أن ندفعه إن نحن صدعنا به وأشهرناه على الملأ، فليس منا من يحب أن يمسي مكروهاً منبوذاً يتجنبه الناس.
والنتيجة الطبيعية لهذه الظروف هي أننا، بوعي أو بدون وعي، نجعل مسعانا كي يكون رأينا متناغماً ومنسجماً مع رأي جيرتنا ومن حولنا، وضمان موافقتهم على ما نقول، أعظم من مسعانا في تفحص الآراء بالبحث والتنقيب في صحتها وسلامتها. إن هذه العادة تؤدي بشكل طبيعي إلى نتيجة أخرى، وهي أن الرأي العام الذي يولد ويترعرع بحسب هذا النهج ليس رأياً على وجه الإطلاق، بل ما هو إلا مسايسة، فليس فيه حظ من العمق، كما أنه يخلو من المباديء، وليس أهلاً لأي أحترام.
وحينما يهبّ على الناس مشروع سياسي جديد تماماً لم تتم تجربته من قبل تجدهم مندهشين قلقين مضطربين خائفين، ويظلون لبعض الوقت صماً بكماً متحرزين منه ولا يتبنونه. والغالبية العظمى منهم لا يدرسون العقيدة الجديدة ولا يتخذون موقفاً بشأنها، بل إنهم ينتظرون الكفة الراجحة التي ستميل إليها الغالبية. فلم تجد الاضطرابات المعادية للعبودية حينما بدأت قبل ثلاثة أرباع قرن مضت من يتعاطف معها. وكانت استجابة الإعلام والمنابر، بل استجابة جميع الناس تقريباً، فاترة غير مكترثة. وكان منبع هذا هو الخوف، أي الخوف من أن يصرّح المرء بحقيقة أفكاره فيصبح
مستهجناً. لم يكن منبع الخوف هو الإقرار بالرقّ أو غياب الرحمة بالعبيد، فكل الولايات، مثل ولاية فرجينيا ومثلي، ليست استثناءا لهذه القاعدة، غير أننا انضوينا تحت لواء الكونفدرالية (1) ليس لأننا أردنا ذلك، فنحن لم نرد ذلك، بل لأننا أردنا أن نسبح مع التيار. إن هذا بجلاء هو قانون الطبيعة، وليس في مقدورنا سوى الاذعان له طائعين.
إن الرغبة في السباحة مع التيار هي التي تصنع الأحزاب السياسية الناجحة. وليس هناك باعث أسمى يدعو للإنضمام إلى حزب من الأحزاب عند غالبية الناس أكبر من أن آباءهم كانوا أعضاء في ذلك الحزب. إن المواطن العادي ليس دارساً لعقائد الأحزاب، وهو على حق في ذلك، ففهم تلك العقائد أمرٌ يستعصي على فهم ذلك المواطن، ويستعصي على فهمي أنا أيضاً. فإن طلبت منه أن يشرح، بتفاصيل مفهومة، السبب الذي جعله يفضل رأيا ما على رأي آخر فيما يتعلق بمعايير العملة، فإن مسعاه في هذا الشرح سيكون مخجلاً. والامر نفسه ينسحب على قضية التعرفة الجمركية، وينسحب كذلك على أي عقيدة سياسية كبيرة أخرى، فكل العقائد السياسية الضخمة تغص بالمشاكل الصعبة، وهي المشاكل التي تفوق كثيراً المستوى الذي يمكن أن يصل إليه المواطن العادي. وهذا ليس من غريب الأمور، فهذه المواضيع تقع كذلك فوق مستوى العقول الكبرى في البلاد، فبعد كل الضوضاء وكل الحديث، لم يثبت قط أن أي عقيدة من العقائد السياسية المطروحة هي العقيدة الصحيحة والفضلى.
حينما ينضم انسانٌ لحزب ما فإنه يبقى فيه في الغالب، فإن غير رأيه (أعني مشاعره، أعني أحاسيسه) فإنه سيظل على الأرجح في ذلك الحزب، فأصدقاؤه في ذلك الحزب، وسيُبقي على إحساسه المخالف لنفسه، وسيتحدث برأي يرفضه في قرارة نفسه. وبحسب هذه الشروط فقط يكون بامكانه أن يمارس ميزة حرية الكلمة الأمريكية، ولكن ليس بحسب أية شروط أخرى. إن مثل هؤلاء البائسين سيئي الحظ موجودون في الحزبين، ولكن ليس في مقدورنا تخمين عددهم. ولهذا السبب فاننا لا نستطيع أبداً معرفة الحزب الذي فاز بالأغلبية في الانتخابات في الحقيقة.
إن حرية الكلمة هي ميزة لا يحظى بها إلا الموتى، يحتكرونها ولا يشاركههم فيها أحد، فالموتى يستطيعون أن يقولوا وبصدق وأمانة ما يدور في أذهانهم دون أن يؤذوا أحداً. ونحن نستجيب بالرحمة لما يقوله الموتى: ربما لا نقرّ ما يقولونه، غير أننا لا نشتمهم ولا نسبّهم، لمعرفتنا بأنهم لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم الآن. لعمري ما الذي سيقوله الموتى لو تكلموا! ان الناس سيكتشفون أن الراحل كان يحمل آراءً تخالف ما كان يصرح به في حياته، وأنه بسبب الخوف أو الحكمة المدروسة أو الاحجام عن التسبب في جرح الأصدقاء فقد احتفظ لنفسه ببعض الآراء التي لم يشكّ بها عالمُه الصغير، وحملها معه غير محرفّة ولا مغيّرة إلى قبره، وهذا سيدفع الأحياء إلى إدراك جارح ومؤنِّب بحقيقة أنهم أيضاً قد شربوا من نفس الكأس: إنهم سيدركون في أعمق أعماقهم بأنهم وكل الناس معهم، ليسوا في الواقع على ما يبدون عليه في الظاهر – ومن المحال أن يكونوا.
ليس منا من لا يرغب في إظهار أسراره هذه، غير أننا لا نستطيع فعل ذلك في حياتنا، فلم لا نفعل ذلك من قبورنا، ونكسب بذا السعادة والرضى؟ لم لا نضع هذه الأمور في مذكراتنا، بدلا من أن نعزلها من كتابتنا ومن أن نتجنبها؟ لم لا ندونها ونترك مذكراتنا لأصدقائنا ليقرأها من يأتي من بعدنا؟ فحرية الكلمة فضيلة مرغوبة. لقد شعرت بهذا في لندن قبل خمس سنوات حين تعرض أنصار البوور (2)، وهم رجال محترمون، دافعون للضرائب ومواطنون صالحون، ويستحقون التمسك بآرائهم مثل غيرهم من المواطنين، لهجوم الغوغاء على اجتماعاتهم، وأُعتدي على متحدثيهم وطردوا من المنابر من قبل مواطنين آخرين اختلفوا معهم في الرأي. شعرت بهذا في أمريكا حينما هاجم الغوغاء اجتماعاتنا واعتدوا بالضرب على المتحدثين. وأشعر بهذا بوجه الخصوص كل اسبوع أو اسبوعين حينما أود نشر شيء ينصحني عقلي بوجوب عدم نشره. وفي بعض الأحيان تكون مشاعري في قمة الهيجان والاشتعال إلى حد أنني أتناول القلم وأسكب تلك المشاعر على ورقة حتى لا أحترق في داخلي. ثم يضيع كل ذلك الحبر والجهد، والسبب هو أنني لا أستطيع نشر ما كتبت. لقد انتهيت للتو من كتابة مقالة من هذا النوع، وقد أشعرتني بالرضا التام. إن روحي ترفرف بالسعادة حينما أقرأها، بل أنني أجلّ وأستحسن المتاعب التي ستسببها لي ولأسرتي. سوف أخلفها من بعدي، وسوف أنطق بها من قبري. إن هناك حرية الكلمة، ولا مشاكل لأسرتي.
إيضاحات المترجم
(1) الكونفدرالية التي يشير إليها مارك توين هنا هي الحكومة التي شكلتها إحدى عشر ولاية أمريكية في الجنوب الأمريكي عقب انفصالها عن الولايات المتحدة الامريكية في عامي 1860-1861، وهي الحكومة التي حاربت الحكومة الاتحادية في الحرب الأهلية الأمريكية وانهزمت في ربيع 1865. وكان ما يجمع هذه الولايات هو قناعتها بنمط حياتها القائم على الرق واستخدام الرقيق في المزارع. وقد انضمت ولاية فرجينيا للكونفدرالية في عام 1861.
(2) البوور Boer هم الفلاحون الهولنديون الأصل الذي استقروا في جنوب أفريقيا في القرنين الثامن والتاسع عشر، وقد غادر بعضهم مستوطنة الكيب ليشكلوا ما عرف بجمهوريات البوور في الجزء الشمالي والشرقي من جنوب أفريقيا هرباً من الحكم البريطاني ومن الحروب التي استعرب بين الاستعمار البريطاني والقبائل الأصلية في التخوم الشرقية للمنطقة.
"وحينما يهبّ على الناس مشروع سياسي جديد تماماً لم تتم تجربته من ذي قبل تجدهم مندهشين قلقين مضطربين خائفين، ويظلون لبعض الوقت صماً بكماً متحرزين منه ولا يتبنونه."
ردحذفGreat
هذا يشرح الكثير عن علاقتنا بالجديد ربما ..
للقبر أكثر من فضيلة، أهمها:
ردحذف- كان اختيارا موفقا للحراصي
- وللاستراحة من المستبدين.
- وقد يكون فرصة لدخول الموسوعة العمانية.
خميس العدوي
معزوفة رائعة تلك التي أهديتها لنا ولصباحنا المكرور. شكراً لك أيها "الحر" لأنك قدمت لنا "فضيلة القبر"
ردحذفسعيد سلطان الهاشمي
إنتقاء جميل لأدب كثر فيه التشويش
ردحذفشكرا عبدالله
تمنياتي لك بالنوفيق
خالد
تترجم فضيلة القبر يادكتور ثم تقول: الموت لا يحتاج أن نتدرب عليه؟!!!!
ردحذف"أن نتفلسف هو أن نتدرب على الموت"