الاثنين، 27 فبراير 2006

عن الترجمة في عمان

عن الترجمة في عمان

عبدالله الحراصي

رغم أنه لا توجد لدينا وثائق حول الترجمة بين العربية وغيرها قبل الإسلام إلا أن موقع الجزيرة العربية بين حضارات مختلفة، وما يفرضه هذا الموقع من تفاعل ذي أشكال مختلفة مع هذه الحضارات يدلنا على أن الترجمة، الشفوية والتحريرية على السواء، وجدت في الجزيرة العربية ومارسها العرب (في جوانب الوثائق السياسية على أقل تقدير)، كما نفترض كذلك بأن العرب قد مارسوا الترجمة الشفوية، وربما التحريرية كذلك، أثناء احتكاكهم بالأمم الأخرى خارج الجزيرة العربية، وخصوصاً أثناء رحلاتهم التجارية إلى بلدان فارس والهند والمناطق الاخرى في آسيا وأفريقيا واوروبا.

غير أن مجيء الإسلام وانتشاره جعل من أرض الإسلام إمبراطورية شاسعة الأراضي تضم بين حدودها أمماً عديدة ذات لغات مختلفة وتراث حضاري ثري، فكان أن استدعى هذا الثراء الحضاري لهذه الأمم، إضافة إلى شعور العرب أنفسهم بالنقص الثقافي والفكري من جانب وطبيعة متطلبات نمط الحياة الحضرية الجديدة من جانب آخر، بروز نشاط الترجمة عن الأمم الأخرى. وقد تضافرت عوامل عدة لتجعل من نشاط الترجمة فعلاً حضارياً هائلاً لم يشهد له العالم مثيلاً، فالحكام والأمراء (الدولة بالمفهوم الحديث) وقفوا وراء هذا النشاط ووظفوا جميع الموارد لخدمتها، فأرسلوا البعثات لجلب الكتب من الأمم الأخرى، وأسسوا المعاهد المختصة بالعلم والترجمة مثل "بيت الحكمة"، كما أنهم لم يبخلوا على المترجمين بالمال والمكافآت الأخرى نظير فعلهم الحضاري العملاق (فكان حنين بن اسحق، على سبيل المثال، يتقاضى وزن ما يترجمه من كتب ذهباً)، كما أن العوائل الميسورة (مثل بني موسى بن شاكر) مولت كثيراً من مشاريع الترجمة والأنشطة العلمية الأخرى.

وقد تميز هذا العهد الذهبي للترجمة خلال العصر العباسي بسعة الأفق الحضاري فلم يحكر العرب أنفسهم بلغة واحدة يترجمون منها بل ترجم العرب من كل لغات العالم القديم كالاغريقية والفارسية والهندية وغيرها. كما تجلت سعة الأفق الحضاري كذلك في أفق المجالات المعرفية للكتب التي ترجموها، فقد تنوعت فشملت الأدب والفلسفة والطب والرياضيات والهندسة وغيرها من وجوه المعرفة. أما المترجمون أنفسهم فقد غذوا هذا الثراء الحضاري، حيث اشترك في الترجمة مترجمون من مختلف الخلفيات الحضارية من عرب وسريان وصابئة وفرس وغيرهم.

أما إن جئنا إلى تاريخ الترجمة في عمان قبل العصر الحديث فسنجد غياباً شبه تام لأي وثيقة مكتوبة تشير الى الترجمة، غير ان تفاعل العمانيين مع الأمم القريبة منهم والأمم التي تاجروا معها كالهنود والفرس وسكان شرق أفريقيا يشير بطبيعة الحال إلى ضرورة وجود مترجمين بينهم ومتحدثي اللغات الأخرى، ولا يتسلل شك إلى أن بعض هؤلاء المترجمين كانوا من العمانيين أنفسهم. تذكر كتب التاريخ على سبيل المثال أن بعض القبائل الأزدية العربية المهاجرة من اليمن الى عمان دخلت في مفاوضات سياسية وعسكرية مع الفرس الذين كانوا يحتلون بعض مناطق الساحل العماني، وهو ما يعني وجود الترجمة الشفوية والمكتوبة بوجه من الوجوه. وفي العصور الأحدث يظهر المترجمون في بلاطات الأئمة والسلاطين، ويمكن تبين دورهم حين نعلم أن حكام عمان على سبيل المثال وقعوا اتفاقيات سياسية وتجارية مع دول غير عربية كما كانوا يبعثون ويتلقون الرسائل الى حكام الدول الأخرى، وهو ما يفترض وجود مترجمين يقومون بترجمة هذه الاتفاقيات والمراسلات بين اللغة العربية ولغات هذه الدول.

وفي العصر الحديث يظهر أحد أهم المترجمين العمانيين، وهو الأستاذ محمد أمين عبدالله الذي ترجم الى العربية العديد من الكتب التي دونها مؤرخون ورحالة وأطباء غربيين إلى اللغة العربية، وقد نشرت كثير من ترجماته ضمن منشورات وزارة التراث والثقافة ويمكن الاشارة إلى بعضها مثل "رحلة طبيب في الجزيرة العربية" لهاريسون، و"الخليج: بلدانه وقبائله" لمايلز، و"عمان وشرقي أفريقيا" لأحمد المعمري، و"عمان: مسيراً ومصيراً" لروبرت لاندن.

أما في وقتنا الحالي فان المرء يلاحظ تحسن وضع الترجمة كثيراً، و لا يمكن بطبيعة الحال الإحاطة بكل جوانب حاضر الترجمة في عمان في هذه العجالة، ولكن يمكن الاشارة الى النقاط التالية التي تجمل هذا الواقع:

1. ان الترجمة المعاصرة في عمان متعددة الاهتمامات، ويمكن تبين هذا في عناوين الأعمال التي ترجمها المترجمون العمانيون، فقد ترجمت زوينة خلفان كتاباً عن مشاهدة الطيور في عمان، وترجم الدكتور عبدالله الكندي كتاباً عن الاعلام حمل عنوان "إعلام جديد، سياسة جديدة" لجون آلترمان، فيما ترجم هلال الحجري وكاتب هذه السطور بعض الأعمال التي تنتمي إلى أدب الرحلات، وترجم عبدالله حبيب كتاباً عن السينما هو كتاب "ملاحظات في السينماتوغرافيا" لروبير بريسون"، وترجم الدكتور محمد المحروقي السيرة الذاتية لحمد المرجبي المعروف بتيبو تيب، كما أن هناك كثيراً من النصوص التي تنتمي إلى الدراسات المعمارية والأثرية يقوم بترجمتها مترجمون عمانيون لبعض المؤسسات الحكومية العمانية.

2. نمو الاهتمام من قبل مؤسسات التعليم العالي في عمان بالترجمة، فالترجمة جزء أساسي من برامج تعليم اللغة الانجليزية وآدابها في جامعة السلطان قابوس، كما أن الجامعة تطرح برنامج بكالريوس في الترجمة، وقد أعلنت مؤخراً عن برنامج دبلوم عالي/ماجستير في الترجمة كذلك. كما أعلنت جامعات عمانية أخرى مثل جامعة ظفار وجامعة نزوى عن طرح برامج ترجمة بين اللغة العربية وعدد من اللغات الاوروبية.

3. يلاحظ حضور المرأة العمانية المميز في الاهتمام النظري بالترجمة في عمان وفي ممارستها، ويمكن الاستدلال على هذا الحضور بعدد المترجمات اللاتي ينشرن ترجمات في الصحف المحلية (انظر الأسماء النسائية في هذا الملف). وهذه الملاحظة ذات قيمة رئيسة، فحضور المرأة في الترجمة هو من جانب حضور لإبداع وانتاج الجزء المهمش من الانسانية في العادة، كما أن هذا الحضور يكتسب أهمية كبيرة في الحالة العمانية، لأن الترجمة هي نشاط إبداعي في طور النشوء، وهذا الحضور المبكر سيؤثر مستقبلاً بلا شك ليس في عدد الترجمات النسائية فحسب، بل سيكون له تأثير نوعي عميق الأثر على نوع النصوص التي ستترجمها المرأة وكيفية الترجمة ذاتها، وهو ما حدث في تجارب الأمم الأخرى، حيث أثر وجود المرأة المترجمة في طبيعة النصوص التي تختارها للترجمة وكذلك في طبيعة ممارسة الترجمة ذاتها حيث تركز المرأة على حضور الأنثى في النصوص المترجمة وإبراز هذا الحضور أثناء الترجمة، بعكس المترجم الرجل الذي لاحظت بعض الدراسات سعيه من خلال الترجمة إلى التقليل من الحضور الانساني للمرأة. بمعنى آخر يشكل حضور المرأة في الترجمة في عمان، تنظيراً وممارسة، مستوى آخر من مستويات التفاعل الاجتماعي وخصوصاً فيما يخص مواقع القوى والسلطات الاجتماعية.

4. ظهور "مجموعة الترجمة" في جامعة السلطان قابوس، وهي مجموعة، كما تشير سيرتها الذاتية المنشورة في هذا الملف من "شرفات"، تهتم بمختلف أوجه الترجمة، فهي تقوم بدورات لطلبة الجامعة في ميدان الترجمة، ونشر العديد من الترجمات في المجلات والصحف العمانية والعربية، إضافة الى إقامة الندوات السنوية حول الترجمة ضمن فعالية "اسبوع الترجمة". غير أني أود هنا أن أشير الى ميدان تفاعل مهم في حقل الترجمة وهو منتدى مجموعة الترجمة - وهو بحسب علمي من أوائل المنتديات الالكترونية في العالم العربي التتي تتخصص في الترجمة، حيث يناقش الطلبة في هذا المنتدى (الذي يبلغ عدد أعضاءه حتى الآن أكثر من 160 عضواً، وهو منتدى مفتوح للمهتمين بالترجمة بشرط الاشتراك بالأسم الحقيقي) قضايا عديدة ذات علاقة بالترجمة، والنقاش في أغلبه نقاش جاد ورصين، ويمكن للقاريء الاطلاع على هذا المنتدى والمشاركة فيه بفتح الرابط الالكتروني التالي http://www.tarjamahsqu.net/arabic.htm واختيار "المنتديات". ويمكن للمرء أن يستدل على اهتمامات "مجموعة الترجمة" وشمولية النظرة التي تتبناها هذه المجموعة الى الترجمة من خلال النظر الى عنواين أقسام منتدى الترجمة، وهي كما يلي: "المنتدى العام" ويشمل "قسم الاعلانات" و"القسم العام" وقسم "فضاءات الكتابة" أما "منتدى أدوات المترجم" فيحتوي على "قسم الإعداد اللغوي ومصادر المترجم"، ومنتدى دراسات الترجمة يحتوي على "قسم نظريات الترجمة"، ومنتدى "هكذا ترجمت" يشتمل على "قسم الترجمة الأدبية" و"قسم الترجمات الأخرى"، والجزء الخاص بالاقتراحات والمساعدة" يشتمل على "قسم الاقتراحات والاستفسارات".

أخيراً فإن المراقب لوضع الترجمة في عمان لا يمكنه إلا أن يلاحظ ما تشهده هذه الممارسة الابداعية من حركة حقيقية، وهو ما أنتج وضعاً ثقافياً تأكد فيه حضور الترجمة في الوضع الثقافي العماني، مشكلةً عنصراً أساسياً لا يمكن إغفاله وغض النظر عنه وعن قيمته الثقافية العميقة والبعيدة المدى.