الأربعاء، 1 يوليو 1998

نظرات جديدة في الاستعارة والترجمة

نظرات جديدة في الاستعارة والترجمة


عبدالله الحراصي
(كاتب واستاذ مساعد بجامعة السلطان قابوس، سلطنة عمان)


تعتبر مسالة الاستعارة من أهم المسائل التي شغلت الترجمة بجناحيها النظري والتطبيقي. وقد ظهرت المسالة في ميدان البحث اللساني الحديث 1976 حينما نشر مناحيم داجوت دراسته المشهورة "هل يمكن ترجمة الاستعارة؟", في مجلة Babel المعنية بقضايا الترجمة. وقد لاقت هذه الدراسة العديد من ردود الفعل من قبل كثير من الباحثين في حقل الترجمة وعلى رأسهم بيتر نيومارك وكرستين ميسون، وتوالت الدراسات في هذا المجال لتصبح موضوعا بدأت بوادر تشعبه في الظهور وخصوصا في ضوء الدراسات الحديثة في الاستعارة التي تتعامل مع الاستعارة من منظور "المعتاد" وليس "الشذوذ"، وفي ضوء الدراسات الحديثة في علوم اللسانيات الأخرى كعلم اللغة الاجتماعي وتحليل النص والخطاب واللسانيات النقدية التي أظهرت مجتمعة دورا أساسيا للاستعارة في السلوك اللغوي لدى البشر بجميع لغاتهم.

إن هدفنا الأساسي في هذا المقال هو استعراض بعض الآراء الحديثة في موضوع «ترجمة الاستعارة» ساعين من خلال هذا الاستعراض الى تبيان ربط هذه الآراء بالتطورات في دراسات الاستعارة والتطورات في حقول اللسانيات الأخرى، وسنقتصر في استعراضنا هذا على بعض الدراسات التي ظهرت في عقد التسعينات فقط، ويعكس هذا الانتقاء سعينا نحو ابراز ما استجد من آراء واطروحات في الموضوع. ولكننا نرى أنه ينبغي علينا قبل أن نعرض لهذه الدراسات أن نقدم استعراضا موجزا للخلفية النظرية في موضوع الترجمة والاستعارة، ذلك أن معظم الدراسات الحديثة ترتبط ارتباطا عضويا بما سبقها من دراسات تأسيسية للموضوع.

ظهرت قضية مشكلة الاستعارة في الترجمة في ميدان البحث الحديث على يد داجوت كما أشرنا في بداية هذا المقال (1). ونظرية داجوت في ترجمة الاستعارة تعتمد أساسا على منظوره لماهية

الاستعارة والتي هي في نظره كسر للحواجز الدلالية للكلمات، أي أنه قصر الاستعارة على ما يسميه كثير من الباحثين بـ«الاستعارة الأصيلة» (أو ما سماه الامام عبدالقاهر الجرجاني بالاستعارة المفيدة). فقد ربط داجوت بين الاستعارة وبين وقع الاستعارة في نفس القاريء، أو ما يسمى بالتأثير الجمالي لتلك الاستعارة حيث يشعر القاريء من خلال هذا الربط غير المسبوق لدلالتي المستعار والمستعار له بأنه أمام رؤية جديدة لم يتعرض لها من قبل مما ينتج نوعا من التقبل الجمالي لهذا الكسر لقوانين الدلالة اللغوية. أما فيما يتعلق بالترجمة فالأمر ينقسم الى قسمين. الأول يرتبط بما يجب على المترجم فعله. وهنا يرى داجوت أن على مترجم النص الأدبي مهمة أساسية تتمثل في محاولة اعادة انتاج النص في اللغة المترجم اليها على نحو يمكن القاريء في اللغة المترجم اليها من الوصول الى نفس المشاعر الجمالية التي يثيرها النص في القاريء باللغة الأصلية. وهذا يفترض أن داجوت يعمل ما يسمى بالتقابل الدايناميكي dynarnic equivalence الذي طوره يوجين نايدا U. Nida في العديد من دراساته في الترجمة ويفترض هذا المفهوم أن على المترجم أن يقوم بإنتاج مقابل للنص الأصلي في لغة الترجمة بحيث يكون هذا المقابل قادرا على خلق استجابة مشابهة لتلك الاستجابة التي ابداها قاريء النص في لغته الأصلية.

أما الأمر الثاني المهم في رؤية داجوت لترجمة الاستعارة فيتعلق بالمشاكل التي تقابل المترجم حينما يواجه استعارة تستعصي على "الترجمة الحرفية". وهنا يطرح داجوت رأيا القائل بأن ترجمة الاستعارة (أي على نحو يتم به خلق تأثير جمالي مشابه) تعتمد على مدى اشتراك لغة الاصل ولغة الترجمة في الجوانب الدلالية والثقافية المشكلة للاستعارة، وهذا يعني أن عدم اشتراك اللغتين في هذه الجوانب يقود الى وضع يسمى في دراسات الترجمة بعدم قابلية الترجمة Untranslatability أي استحالة الترجمة عمليا.

دراسات التسعينات

ويمكن القول على وجه العموم أن معظم دراسات هذا العقد في الترجمة والاستعارة مازالت ترتكز على دراسة داجوت المشار اليها لكنها تحاول فيما نرى اعتبار تركيزه على الجوانب الثقافية والدلالية المشكلة للاستعارة جانبا واحدا فقط من بين جوانب عدة يجب تحليلها ووضعها في الحسبان. وهنا فإننا سنعرض لست دراسات تناولت الموضوع على نحو مباشر كما يلي:

1- محمد مناصير: ترجمة الاستعارات والعبارات المسكوكة العربية.

2- ألت كروجر: ترجمة الاستعارات في الروايات السردية.

3- فيفن لوكس: الاستعارة وترجمتها.

4- ماري يونج: ترجمة الاستعارة الشعرية.

5- تيريزا دوبرزنسكا: ترجمة الاستعارة مشكلة المعنى.

6- جوديون تروي: المنهج الوصفي.

1- محمد مناصير: التركيز على الجوانب الثقافية

والدراسة الأولى التي سنتعرض لها في هذا المقال ظهرت في عام 1992 وتحمل عنوان «الاستعارات والعبارات المسكوكة العربية في الترجمة، وكاتبها محمد مناصير ونشرت في العدد الثالث من المجلد السابع والثلاثين من مجلة «ميتا» المتخصصة في قضايا الترجمة. ويعرف مناصير الاستعارات بكونها تعبيرات محددة تمد قيمها الدلالية خارج مجالها الدلالي الواضح». ويرى أن الاستعارات والعبارات المسكوكة متشابهان لأن كليهما يعتمد على الاستخدام المجازي للغة، ولذا فهما معضلتان يواجهان المترجم.

ولأن كاتب النص الأصلي يستغل امكانيات لغته وثقافته في النص وخصوصا في الصور والدلالات المجازية يتحول هذا الاستغلال الى معضلة أمام المترجم، مما يجعل مناصير يتساءل عن المخرج. وهنا يستعرض رأي البعض الذي يرى بأن الاستعارة وسيلة كونية أي تشترك فيها كل اللغات والثقافات ولذا فإن من الواجب ترجمتها حرفيا بينما يرى آخرون أن الترجمة الحرفية تؤدي الى نتائج خالية من أي معنى، ولذا يرى نايدا مثلا أن الاستعارة يجب ترجمتها كـ «غير استعارة». هنا ينصح مناصير مترجم النص العربي بدراسة امكانية تقبل اللغة المترجم اليها للصورة الثقافية التي تحملها الاستعارة.

ويعتمد نجاح ترجمة الاستعارة عند مناصير على معرفتنا بالعالم وباللغة المترجم اليها، حيث إن الترجمة الحرفية قد لا تنتج ترجمة مقبولة في كثير من الحالات. وهنا يطرح مناصير عاملا مهما في ترجمة الاستعارة وهو العامل التواصلي أي المحافظة فقط على سمة النص التواصلية وتستوجب هذه سمتين يجب أن يتحلى بهما المترجم وهما المرونة والحساسية بحيث يكون مرنا في تعامله مع اللغة وحساسا بتأثير ترجمته على القاريء في اللغة المترجم اليها.

ويضرب مناصير بعض الأمثلة على ملاحظاته حول ترجمة الاستعارة مثل:

«تجري الاستعدادات على قدم وساق»

فترجمتها الى الانجليزية حرفيا ستنتج جملة خالية من المعنى ويجب انتاج ترجمة تكون مقبولة من القاريء الانجليزي دونما الاشارة الى القدم والساق اللتين لا يوجد لهما مقابل مجازي في اللغة الانجليزية.

ومن الأمثلة الأخرى:

«قتل الموضوع بحثا»

التي لا يفترض أن تحمل ترجمته صورة القتل وانما تكتفي بمعنى الاستعارة مثلما في «درس الموضوع دراسة موسعة».

أما الاستعارات ذات الكلمة الواحدة فيعتقد مناصير بأنها أسهل ترجمة مثل:

«حبل التفكير»

التي يمكن ترجمتها الى الانجليزية أمثل:

thread of thought

ويلاحظ مناصير أن الصحف العربية مثلها مثل جميع الصحف في كل اللغات تستغل امكانيات الاستعارة لأجل الاثارة مثل:

«اشتعلت الجبهة من جديد في الخليج»

التي يمكن ترجمتها كما يلي:

in the Gulf, the fronts are ablaze once more

ويناقش مناصير درجات قابلية ترجمة الاستعارات العربية الى اللغة الانجليزية. فيرى أن اللغة العربية تتميز بمرونتها ويتقبلها للصور من اللغات الاجنبية. وكثير من الكتاب العرب يستخدمون الكثير من الاستعارات ذات المصدر الانجليزي والفرنسي، وبرغم ذلك يشكك مناصير في وجود تقابل تام بين الاستعارات الموجودة في كل من العربية واللغات الأخرى كالانجليزية مثل

"الزيارة أذابت الجليد في العلاقات بين الجانبين"

فالاستعارة في الأصل انجليزية

to break the ice

أي «يكسر الثلج»

إلا أن العربية تقبلت نفس الصورة تقريبا مع بعض التغيير حيث إن الحياة العربية أكثر تعودا على «إذابة الجليد» وليس "كسر الثلج".

وتلخيصا يرى مناصير أن درجة قابلية ترجمة الاستعارة تعتمد أساسا على أهمية الاستعارة في نقل معنى النص. وهنا نلاحظ أن هذه النتيجة مهمة جدا. فعلى الرغم من أن مناصير لم يطور هذا الرأي ولم يحاول التدليل عليه بالأمثلة الا أننا نرى أن هذه الملاحظة تتجاوز مستوى التقابل البسيط الذي يفترض أن الترجمة تنجح اذا استطعنا ايجاد مقابل للاستعارة في اللغة المترجم اليها. فالسمة النصية قد تفتح الباب أمام تقنيات جديدة تعتمد النص كمقياس يقوم عليه مفهوم التقابل في ترجمة الاستعارة.

2- ألت كروجر: المجال الكوني (النصي) للاستعارة الروائية

والدراسة الثانية التي سنستعرضها هي "ترجمة الاستعارات في الروايات السردية" من تأليف ألت كروجر من جامعة جنوب افريقيا في جنوب افريقيا. وتقوم فكرة الدراسة عي وجوب اعطاء الاهتمام بالترابط العضوي بين المكونات داخل النص الواحد، وهذه السمة مهمة جدا في حالة الاستعارة التي تشكل أداة تبنى بها الشخصية في العمل الروائي. فإن فشل المترجم في هذا فإن شخصيات العمل المترجم لن تكون صورة حقيقية لشخصيات العمل الروائي الاصلي، وبذا تتأثر الرواية المترجمة بأكملها.

والاستعارات التي تستخدمها ألت كروجر في دراستها هي تقنيات مستخدمة في بناء شخصيات رواية كتبت باللغة الافريكانية Fiela se kind لمؤلفها دالين ماتثي Dalence Matthee المنشورة عام 1985 وقد ترجمتها الى اللغة الانجليزية المؤلفة نفسها لتصبر Fiela's Child أو (طفل فايلا). وترجمة الاستعارات الروائية من منظور كروجر يجب أن يسبقها تحليل عميق وفهم للنص الروائي بأكمله، خصوصا الانماط البنيوية لسردية الرواية، وهنا تحاول كروجر طوير نفس الفكرة التي أشار اليها مناصير في دراسته الآنفة الذكر. حيث ترى كروجر أن على المترجم أن يتعامل مع التعابير الاستعارية من منظور النص بأكمله وباعتبارها وسيلة ترتبط بعلاقات عضوية مع تقنيات النص الروائي ومكوناته الاخري التي تحدد بناء الشخصية الروائية. ولهذا تقرر المؤلفة دراسة مقارنة تحاول من خلالها معرفة ما اذا كانت ترجمة ماتثي المؤلف -المترجم قد انتجت وصفا أمينا للشخصيات كما هي في النص الأصلي.

ومن أجل دراسة الاستعارة في الترجمة تفترض كروجر ضرورة الاستعانة بنظريات الاستعارة وخصوصا نظرية التفاعل التي طورها جراب Grabe في دراسة بعنوان «السمات المحلية والكونية لعمليات التفاعل في الاستعارة الشعرية» التي نشرها في دورية Poetics عام 1984وفي كتابه «الاستعارة والتفسير» المنشور عام 1985. وهنا ترى كروجر أن من الضروري دراسة الجوانب «الكونية » أي النصانية للاستعارة وليس فقط جوانبها «المحلية» أو النحوية. والفرق بين الاثنين أن النظرة الكونية للاستعارة تأخذ في عين الاعتبار ليس فقط السمات النحوية التي تميز الاستعارة المفردة وانما اعتبار الاستعارة جزءا تتداخل أجزاؤه وترتبط ببعضها مشكلة الكل النصي. والرواية محل الدراسة فإن بناء الشخصية يعتمد على التفاعل الكوني (النصي) بين الاستعارات التي تعكس بيئة النص أو سياقه المتموضع في الحقل والغابة والبحر. ولعل كروجر تشير الى ما أسماه محمد خطابي بالتعالق الاستعاري في النص بحيث تشكل الاستعارات جزءا مهما من أدوات الارتباط النص.

وترى كروجر فرقا بين الاستعارات التي تبدو متشابهة كالاستعارة الميتة كقولنا “Man is a wolf" أو (الانسان ذئب) والاستعارة الأدبية الموجودة في الاستعارة “Fiela is an animal” أو (فايلا حيوان) لأن الثانية مرتبطة ارتباطا تفاعليا بالاستعارات الأخرى في نموذج حياة الريف والحقول بهدف بناء شخصية فايلا كامرأة ريفية، ويمكن التدليل على سمتي المحلية والكونية في الاستعارة من خلال تحليل الاستعارة التالية التي تصف فايلا بطلة الرواية:

Hulle het jou klaar hokgeiaag, Fiela Komotie (p.48)

التي يمكن ترجمتها كما يلي:

لقد طاردوك الى القفص

فبالاضافة الى سماتها الداخلية كاستعارة منفردة فإن هذه الاستعارة ترتبط ارتباطا وثيقا بالاستعارات الأخرى في النص مشكلة الشخصية الروائية. فجميع الاستعارات تبني شخصية فايلا كامرأة فقدت السيطرة على مجريات حياتها وان الآخرين يتحكمون فيها، فتصفها استمارة أخرى بأنها "مثل حيوان أخرس اقتيد الى القفص، تشعر فايلا ان باب القفص قد أغلق وراءها". ولهذا تشعر بأن انسانيتها انتهكت وهذا ما يفسر وجود هذا الكم من الاستعارات الحيوانية مثل «لقد أدركت فايلا ما كانت تشعر به أمها حينما حلق الصقر فوقها ولم يكن أمامها من مأوى تطلق ساقيها اليه».

وعموما ترى كروجر أن الاستعارات التي تستخدمها الرواية تستلهم حياة الحقل مصدرا لها مشكلة شخصية فايلا كفلاحة وامرأة ريفية بسيطة لكنها أبية لا تنقصها الكبرياء، ولأنها غير متعلمة فإن حديثها يأتي بسيطا يعكس البيئة التي نشأت وتعيش فيها.

وترى كروجر أن التحدي الذي يواجه المترجم هو الابقاء على ذات الترابط العضوي (أو التعالق الاستعاري كما يسميه محمد خطابي) بين الشخصيات وحديثها والبيئة التي تجد نفسها فيها وتعكسها في حديثها.

فقد ترجمت الاستعارة الآنفة الذكر الى اللغة الانجليزية بالصيغة التالية:

They have you cornered you already, Fiela Komoetie, she told herself.

التي قد يكون مقابلها الحرفي في اللغة العربية التالي:

"قالت لنفسها: لقد طوقوك يا فايلا كوموتي"

وكما ذكرنا سابقا فإن صورة «القفص» و "الحيوان" جزء من تشكيل شخصية فايلا، ولهذا فإن المترجم بترجمته صورة الحيوان الموضوع في القفص الى صورة «طوقوك» قد أضاع بنموذج حياة الريف التي حاول الراوية خلقها في النص الأصلي متجاهلا بذلك دور تلك الاستعارات في بناء شخصية فايلا كفلاحة بسيطة. وبكلمة أخرى فعل الرغم من أن صورة «التطويق» تعكس دلالة قريبة من الدلالات التي تعكسها صورة الحيوان الموضوع في القفص (دلالة فقدان الحيلة على فعل شيء) إلا أن الايحاءات المتعلقة بانتهاك انسانيتها ويعدم احترام كبريائها كإنسانة قد تم تجاملها من قبل المترجم. وهذا التجاهل كان من الممكن حله لو أن المترجم أبقى على نفس صورة «القفص» و«الحيوان المطارد».

ونفس المشكلة تظهر في ترجمة الاستعارة التالية:

Hulle was haar aan die vaskeer

والتي تقابل حرفيا في العربية:

مثل حيوان اخرس سيق الى القفص

فقد ترجمت في اللغة الانجليزية الى:

They were driving her into a corner

والتي تقابل في العربية:

كانوا يحاصرونها

فقد تجاهلت هذه الترجمة صورة الحيوان المطارد الى القفص، وهذا التجاهل ذو أهمية لأن هذه الصورة ترتبط عضويا في السياق الكوني النصاني، لأنها تساعد في بناء شخصية فايلا كامرأة أفقدت انسانيتها وتحولت الى حيوان. ومما تأسف له كروجر أن معظم الاستعارات قد تم تغيير صورتها في الترجمة أو أنها قد حولت الى المعنى دون الاحتفاظ بالصورة الأصلية ذات الأهمية في بناء الشخصية الروائية. فالاستعارات التي تنطق بها فايلا في الترجمة الانجليزية لا تعكس أي شيء عن بيئة النص وأهمية تلك البيئة في بناء الشخصية الروائية، وهذا الفشل يوجد أيضا في الاستعارات التي تأتي على لسان الشخصيات الأخرى في الرواية. وتخلص دراسة كروجر الى حقيقة مفادها أن الترجمة "الخاطئة" للاستعارة قد يكون لها عواقب دلالية وتواصلية تتجاوز الاستعارة المفردة لتمس بعض أركان العمل الأدبي كبناء الشخصية في الرواية وهذا ما يؤثر على تقبل القاريء للعمل الروائي المترجم ونجاح هذه الترجمة.

والنتيجة التي توصلت اليها كروجر مهمة جدا ويجب على منظري الترجمة تطويرها من حيث دراسة روايات أخرى من لغات أخرى كاللغة العربية التي تنقصها مثل هذه الدراسات إضافة الى دراسة أنواع أدبية أخرى غير الرواية كالشعر والمسرح حيث قد تظهر عوامل أخرى تنبع من خصوصية بنية النص الشعري أو المسرحي لها تأثير مهم في تعامل المترجم مع الاستعارة، اضافة الى الجانب النظري فإن هذه النتيجة ذات أهمية بالنسبة للمترجمين أنفسهم بحيث لا يعفون بالتعامل مع الظاهرة اللغوية كالاستعارة في ذاتها وانما بربطها بالمستويات الأخرى من التعبير اللغوي كالنص وبنيته الكبرى. وهنا نشير الى عبرة أخرى نستفيدها من دراسة كروجر وتتعلق بالعلاقة بين المترجم والمؤلف فهناك اعتقاد سائد أن افضل مترجم للنص (الأدبي خصوصا) هو مؤلفه ذاته ان تمكن من لغة الترجمة، وهو ما أظهرت هذه الدراسة عدم صحته من خلال دراسة الكيفية التي ترجمت بها الاستعارة وتجامل (أو جهل) المؤلف. المترجم للارتباط العضوي في النص.

3- فيفين لوكس: عودة الى الاستعارة المفردة

والدراسة الثالثة التي سنستعرضها هنا هي لنيفين لوكس E. Vivienne Lux عنوان "الاستعارة وترجمتها" والقاها في مؤتمر FIT الدولي للترجمة الذي انعقد في مدينة برايتون البريطانية في الفترة من 6- 13 من أغسطس من عام 1993 تحت شعار "الترجمة: الحلقة الحيوية" Translation- the Vital Link وتنقسم دراسة لوكس الى خمسة أقسام. يناقش القسم الاول من الدراسة تعريف مصطلح Metaphor يقابله مفهوم «الاستعارة» في اللغة العربية. ويرى أن هذه الكلمة مستمدة من الكلمة الاغريقية metaphora المكونة من شقين: Meta الذي يعني "فوق" وpherein الذي يعني "يحمل" وبذا فإن الدلالة الاصلية لكلمة metaphor هي دلالة استعارية في ذاتها كما يقول لوكس. وفي القسم الثاني من الدراسة يناقش لوكس الكيفية التي تجعل من الاستعارة أمرا أساسيا في الفكر واللغة حيث ان الاستعارة تسوغ القدرة الادراكية للمتحدثين وهي أيضا مصدر تتجدد به اللغة بسبب ربط الكلمات بدلالات جديدة لم ترتبط بها من قبل. أما في القسم الثالث فيحاول لوكس الاجابة على تساؤل حول سبب كون الاستعارة مشكلة مركزية في الترجمة. والمشكلة في رأيه تكمن في أن الاستعارة غامضة طبعها وتحمل في العادة استخداما ابداعيا شخصيا للغة يرتبط في العادة بثقافة اللغة التي انتجت فيها الاستعارة. ثم يتساءل في القسم الرابع حول تطور الرؤية المعاصرة للاستعارة، فيستعرض آراء الكلاسيكيين مثل أرسطو ورأيه الشهير في الاستعارة الذي ينزلها منزلة عليا بحيث تكون "رمز العبقرية" مرورا بالقرون الوسطى والرومانتيكيين الذين اعتبروا الاستعارة وسيلة لاكتشاف العالم وأهميتها التخيلية والعاطفية، بحيث اعتبروها مركز اهتمامهم، حتى العصر الحديث وريتشاردز الذي اعتبر أن اللغة والاستعارة خصوصا هي مصدر وجود الحقيقة (أي الفكر يعتمد على اللغة)، ولاكوف وجونسون اللذان شككا في وجود مفاهيم إدراكية ذات طبيعة غير استعارية.

وفي القسم الأخير من دراسة لوكس القصيرة يتناول كيفية ترجمة الاستعارة، ويحدد حديثه بالاستعارة الأصيلة في النصوص الأدبية وغير الأدبية. فيرى أن من الصعوبة تعريف الاستعارة الأصيلة لأن ما هو استعارة أصيلة اليوم قد يصبح تعبيرا مستهلكا بعد أن يتكرر استخدامه وتلوكا الألسن. ويرى لوكس أن القانون الذي يمكن للمترجم اعماله في ترجمة الاستعارة هو «كلما ابتعد النص الأصلي من الاستخدام العادي وكلما ازدادت اهمية النص، استوجب انتاج ترجمة قريبة من الأصل. كذلك تظهر الاستعارات في النصوص غير الأدبية كالنصوص الاقتصادية كما في الصحافة المختصة في الأمور الاقتصادية. وتظهر مشكلة الترجمة حينما يكون مفهوم معين مفعل في الاستعارة ذو خصوصية محلية وتكون مرتبطة بثقافة لغة الأصل. كما تظهر الاستعارة المستمدة من الأدب في النصوص غير الأدبية كايحاء أدبي لتشكيل وسيلة مختصرة لتلخيص وضع معقد. ويعتمد هذا على اعتقاد مسبق مفاده أن فهم الاستعارة لن يصعب على القاريء وهذا ما يسبب مشكلة حينما تترجم الاستعارة الى لغة أخرى.

يخلص لوكس في دراسته الى حقيقة مفادها أن كل حالة استعارة يجب دراستها على نحو منفرد في سياقها الخاص بها، وان كل ما يمكن للمترجم فعله يتمثل في أن يكون على بينة من أنه قد أخذ كل العوامل في حسبانه ووزنها بحرص قبل أن يصل الى قراره في شأن ترجمتها.

ومن الجلي أن دراسة لوكس تضيء بعض جوانب مسألة الاستعارة والترجمة لكن النتيجة التي توصلت اليها تثير بعض التساؤل. فقولا أن كل استعارة يجب أن تدرس منفصلة في سياقها الخاص يثير تساؤلين مهمين في رأينا. يتمثل التساؤل الأول حول سمة من سمات البحث العلمي النظري. فالنظرية كما هو معروف لدى جل الباحثين في كل الحقول تتعلق بالمشترك والعام وليس بالاستثنائي. أي أن كل نظرية يجب أن تسعي الى كشف القوانين العامة التي تحكم الأشياء، وهذا يتناقض مع رأي لوكس في التعامل مع كل استعارة على حدة. إن هذا الرأي يفترض أنه لا توجد قـوانين عامة تنظم مسألة الترجمة والاستعارة وأن الأمر محض حالة فردية خاصة بكل استعارة. (2)

أما التساؤل الثاني فيتمثل في المستويات العليا للاستعارة. فلوكس يتعامل مع الاستعارة المفردة وبذا يقع في نفس مشكلة الدراسات الأول كما أشرنا سابقا، حيث اشارت الدراسات الحديثة مثل دراسة كروجر السابقة الذكر ان الاستعارة تقع في فضاء النص الموجودة فيه وان التعامل معها يجب أن يكون في إطار يضعها في ترابط عضوي ومتفاعل مع العناصر الأخرى في النص ذاته. اضافة الى أن الاستعارة ترتبط تناميا باستعارات أخرى خارج إطار النص كما أشرنا في دراسة سابقة لنا.(3)

4- ماري يونج: ترجمة الاستعارة الشعرية والانساق المتعددة

والدراسة التالية التي سنتعرض لها هي رسالة دكتوراة في الموضوع تحت عنوان «ترجمة الاستعارة الشعرية: استكشافات في عمليات الترجمة » من اعداد ماري مان _ يي فونج، وقد قدمتها الباحثة في عام 1994 في جامعة ورك البريطانية. والدراسة كما يشير العنوان تتعلق بالاستعارة الشعرية والعوامل المؤثرة في ترجمتها. وترى فونج ان الاستعارة تتكون من عناصر لغوية وغير لغوية. فالاستعارة فيما هي تعبير عن تصور ذهني تكون مرتبطة ارتباطا وثيقا بنظام اللغة الأصلية. والتجربة الحياتية المستمدة منها الاستعارة مرتبطة أيضا بالنظم الاجتماعية. الثقافية اضافة الى النظام الأدبي في اللغة الأصلية. ويتم تقبل الاستعارة من قبل قارئها في لغتها الأصلية من خلال التقبل الذهني لها إضافة الى قدرة هذا القاريء اللغوية والثقافية. ويعتمد تفسير الاستعارة على تعرض القاريء اضافة الى تطور المجتمع الذي يعيش فيه. وتلعب العوامل الشخصية مثل المهارة اللغوية والأدبية والتجربة الحياتية دورا مهما في تفسير الاستعارة اضافة الى العوامل العامة التي تحكم تقبل المجتمع باسره لهذه الاستعارة.

أما في شأن الترجمة فتقول يونج في قسم بعنوان Translataibility أو "قابلية الترجمة" ان القابلية المطلقة للترجمة أو عدمها محكوم بـ "البيئة التاريخية والاجتماعية للاداء الحقيقي، حيث إن عددا من العوامل مثل التعرض الشخص للمترجم، واتجاه مرحلة تطور اللغة المترجم اليها وثقافتها والاتصال بين النظم المتعددة polysystems للغة الأصلية ولغة الترجمة لها تأثير حاسم في قابلية الترجمة" (ص 288: ترجمتنا) وهنا تتفق الباحثة مع ارمين بول فرانك Armin Paul Frank الذي يرى أن "قابلية الترجمة مفهوم تاريخي: وهو مفهوم نسبي للترجمات التي انتجت في الواقع".

وترى فونج إن ما يحدد قابلية الترجمة هو ما اذا كانت الاستعارة المترجمة تحقق المتطلبات الكونية في النص الأدبي، أي أنها تقيم علاقات مناسبة في كل المستويات المهمة في النص الأدبي المترجم. ومن خلال الأمثلة التي درستها الباحثة تخلص الى نتيجة مفادها ان الاستعارات تغدو قابلة للترجمة حينما تتشابه المفاهيم الاستعارية الاساسية في النظم الثقافية واللغوية في لغة الأصل ولغة الترجمة. أما فقدان القابلية للترجمة فيحدث حينما يفشل المترجم في تجاوز العقبات والقيود التي تفرضها عليه النظم المختلفة المتعلقة بالاستعارة، وهكذا كلما قلت تلك القيود زادت قابلية الترجمة والعكس صحيح.

وتناقش فونج جانبا مهما من جوانب قضية ترجمة الاستعارة وهو ترجمة الاستعارات الابداعية الأصيلة (novel metaphors) رأي الباحث الألماني كلوفر Kloephfer الذي رأى انه كلما زادت أصالة الاستعارة وقيمتها الابداعية زادت قابليتها للترجمة الحرفية (أي نقل الصورة الموجودة في اللغة الأصلية). وهنا ترى فونج ان دراستها قد توصلت الى نتيجة مغايرة فقابلية الترجمة في رأيها لا تعتمد على "حداثة" الاستعارة واصالتها وانما على القيود التي تفرضها الاستعارة وامكانية تجاوز هذه القيود. وان الاستعارة الحديثة المرتبطة بابداع لغوي صعبة الترجمة.

وتتوصل فونج الى نتيجة يجب التوقف عندها وهي انه رغم امكانية الترجمة الحرفية للاستعارة (أي نقل الصورة الأصلية كما هي الى لغة الترجمة) فإن ذلك لا يعني ان الاستعارة سيكون لها نفس الفضاء اللغوي والثقافي كما هو في لغة الأصل وذلك انطلاقا من مفهوم تعدد النظم الذي أشرنا اليه سابقا. فالنظم لا محالة تكون مختلفة بين لغة الأصل ولغة الترجمة، وهذا يستدعي أن أي ترجمة لأي استعارة يستحيل أن تكون مساوية تماما للاستعارة الأصلية. (طور الفكرة.)

وبتلخيص ترى فونج أن ترجمة الاستعارة الشعرية تتجاوز الترجمة بمعناها البسيط المتصل في ايجاد مقابل لغوي للاستعارة الموجودة في الترجمة حيث إن هذا رهن بوجود نفس المستويات اللغوية والثقافية. بل إن حتى الحفاظ على نفس الصورة لا يعني نجاح الترجمة لأن الصورة في لغة الأصل مرتبطة بنظم ومستويات لغوية ونصية وثقافية قد لا توجد في لغة الترجمة.

نشير هنا الى أن دراسة فونج مهمة جدا نتيجة لاعتمادها على المنهج الوصفي البنيوي الذي يتعامل مع الاستعارة في جميع المستويات المرتبطة بها سواء كانت على المستوى اللفظي أو الدلالي أو النحوي أو النصي أو الثقافي أو اللغوي العام. ونستطيع مطمئنين القول إن دراسة فونج تتجاوز أهميتها الاطار الذي وضعته الباحثة نفسها، فرغم تركيز الدراسة على مفهوم قابلية الترجمة translatability إلا أن ما توصلت اليه الدراسة يتجاوز هذا المفهوم كثيرا حيث يتعامل مع القضية من منظور وصفي يأخذ في الحسبان جميع العوامل المؤثرة في عملية الترجمة وليس في "قابلية الترجمة" فقط وهذا ما يمكن اعتباره نموذجا لما يدعو اليه الباحث المعروف توري كما سنشير لاحقا حينما نستعرض أحدى دراساته الأخيرة في هذا المجال.

5- تيريزا دوبرزنسكا: التركيز على ايحاءات الدلالة

الدراسة التي سنستعرضها الآن هي دراسة تيريزا دوبرزنسكا Teressa Dobrzynska تحمل عنوان «ترجمة الاستعارة: مشاكل المعنى» والتي نشرت في عام 1995 في دورية البراجماتية في مجلدها الرابع والعشرين. وكما يتضح جليا من عنوان الدراسة فهي بعكس الدراسات السابقة تركز على مستوى الدلالة من قضية ترجمة الاستعارة.

وترى دوبرزنسكا باديء ذي بدء ان الاستعارة تعتبر نموذجا على كل ما تمر به الاشارة اللغوية بشتى أنواعها حينما يتم استخدامها في الخطاب. بمعنى "انه يمكن التعامل مع الاستعارة على أنها تمثل تعقيد التواصل اللغوي بأكمله" (ص 595) غير أنها مع ذلك تقول ان مشاكل الاستعارة يمكن رؤيتها أقصى وضوحا وتحديدها حينما يراد ترجمة التعبير الاستعاري، أي حينما يراد التعبير عن المعنى في لغة أخرى، حيث تعني اللغة الأخرى خلفية ثقافية أخرى ونظاما قيما مختلفا لدى مستمعين أو قراء آخرين.

وتفرق دوبرزنسكا بين التعبير الاستعاري والتعابير الخالية من المعنى بسبب ان التعبير الاستعاري هو كسر "مقصود" للحدود الدلالية في حين أن التعابير الخالية من المعنى غير قابلة للتأويل بعكس التعابير الاستعارية. فالاستعارة ذات معنى بالرغم من أن هذا المعنى يتجاوز التقاليد الدلالية في اللغة. والاستعارة (الحية) تختلف أيضا من منظور دوبرزنسكا عما يعرف بالاستعارات الميتة التي لا يشعر فيها القاريء بالصورة المجازية.

وتقول دوبرزنسكا ان دراسة الاستعارة ه توفر فرصة ممتازة لتفحص أفضل للفرق بين المعنى غير المتغير في لغة معينة والذي هو موضوع علم الدلالة، في جانب، والعناصر المقابلة المتعلقة بـ "معرفة العالم" التي ترتبط بالبراجماتية في الجانب الآخر" (ص 596). وهنا تربط دوبرزنسكا الاستعارات بالارتباطات والايحاءات الملازمة للفظ كسمة أساسية في الاستعارة. حيث إن "الايحاءات اللفظية" جزء من تمكن المتحدث أو الكاتب وهكذا فهي أمر مشترك لدى جميع المتحدثين المتمكنين في أي لغة، وهذا ما يفسر التلازم بين معنى الاستعارات كما انتجها المتحدث أو الكاتب والمعنى الذي يصل اليه أو يفسره المستمع أو القاريء ورغم ذلك يظل معنى الاستعارة مفتوحا لأكثر من تفسير واحد.

إلا أن بعض الاستعارات تظل أسهل تفسيرا من غيرها وهذا يعود في رأي دوبرزنسكا الى "المعرفة المشتركة" بين الكاتب أو المتحدث والقاريء أو السامع، فكلما كبرت مساحة المعرفة المشتركة بينهما سهل الوصول الى معنى الاستعارة أما اذا ضاقت مساحة هذه المعرفة الى حد انها تتحول الى محض افتراض فيصعب الوصول الى معنى الاستعارة.

وفي رأي دوبرزنسكا فإن صعوبة تفسير الاستعارة تتجل أكبر ما تتجل ني حالة الترجمة حيث تتجاوز الاستعارة حدود مجتمع متميز بثقافة معينة، وتنتج الصعوبة هنا من حقيقة ان الكاتب أو المتحدث ليس لديه الا معرفة غامضة بسيطة حول الحقول الدلالية الايمائية لدى القاريء أو السامع. وتظهر المشكلة أيضا حينما تقوم الدلالة الاستعارية من ارتباطات مسكوكة من النوع الايمائي اللفظي، حيث تكون هذه الايحاءات معروفة لدى متحدثي لغة الأصل لكنها لا توجد لدى متحدثي اللغات الأخرى. فما الحل في مثل هذه الحالات حينما تعجز الترجمة عن نقل الاستعارة من لغة الى أخرى جراء الاختلافات في الحقول الدلالية بين كل من الكاتب والقاريء وبين لغة الأصل واللغة المترجم اليها؟

ترى دوبرزنسكا أن على المترجم أن يختار خيارا واحدا من بين ثلاثة خيارات. أول هذه الخيارات هو أن يختار المترجم المقابل الدقيق للاستعارة الأصلية (استعارة ï استعارة)، أو ان يستخدم عبارة استعارية تحمل معنى العبارة الاستعارية نفسه (استعارة 1 ï استعارة 2)، أو انه يحل محل الاستعارة مقابلا تفسيريا حرفيا (استعارة ï شرح). وهنا ترى دوبرزنسكا أن "اختيار التكتيكات الترجمية يجب أن يعتمد على نوع النص المترجم والوظيفة التي يفترض ان يؤديها لجمهوره الجديد في سياقها التواصلي الجديد" (ص 599)، مع ملاحظة ان الطريقة الأول لا يمكن اعتبارها افضل الطرق حيث قد ينتج عنها استعارة غير ذات معنى في اللغة المترجم اليها النص، إلا اذا اشتركت اللغتان في ايحاءات الألفاظ.

6- جوديون توري: ضرورة المنهج الوصفي

الملاحظات الاخيرة في الاستعارة والترجمة التي سنتعرض لها هذا المقال هي لباحث جوديون توري وابداها في كتابه "Desciptine Tramslation Studies and Beyond" أو (الدراسات او صفية في الترجمة وما بعدها). فيتحدث في الفصل الثالث والذي يحمل عنوان "تشكيل منهج لدراسات الترجمة" عن فرق بين موقفين متضادين في دراسة الترجمة هماالموقف التوقعي "المستقبلي" (prospective) والموقف الارجاعي "الماضوي" (retrospective) ويمثل على هذا الفرق بالنظرة لدى كل منهما للاستعارة "لأنها قد قدمت في العادة على أنها ضرب من الامتحان النهائي لنظرية الترجمة" (ص81).

ويلاحظ توري أن طبيعة الاستعارة كمشكلة في دراسات الترجمة قد تم تأسيسها من زاوية "النص الأصلي" باعتبار ان الاستعارات مواد من النص الأصلي يجب أن يبقى عليها في النص المترجم. وتقوم هذه الرؤية على معايير لغوية كما هي عند نيومارك وداجوت، ومعايير نصية ولغوية معا كما هو عند آخرين.

وهنا ينتقد توري الدراسات السابقة انها تعاملت مع الاستعارات المفردة بدلا من أن تتعامل مع "كل منظم". اما بالنسبة للتعميمات التي توصل اليها الباحثون السابقون (مثل الحلول التي طرحتها دوبرزنسكا في الدراسة التي عرضناها سابقا) فلا تعكس أبدا الانتظامات (regularities)الموجودة في الاستعارات التي تعرضت لها الدراسات السابقة، فعل عكس ذلك تم التعامل مع الاستعارات من خلال «فلتر» مسبق يحدد الجيد والسيىء في ترجمة الاستعارة، وهذا في رأي توري هو الذي جعل الباحث في موقع الـ "أكثر معرفة وعلما" بشأن الاستعارة والترجمة من المترجم الذي درسه هذا البحث. ويلاحظ توري انه من النادر ان تم التركيز على الحلول «كما هي موجودة في الواقع» دون تحديد معايير مسبقة واحكام تقييمية مسبقة. ولم يحدث مطلقا أن تعامل الباحثون السابقون مع الاستعارة من منظور ما قام به المترجمون من اخلالات للاستعارات الموجودة في اللغة الأصلية.

ويلاحظ توري أيضا أن الاخلالات التي أسسها الباحثون السابقون في مسالة ترجمة الاستعارة يمكن تقسيمها الى ثلاثة أنواع كما يلي:

1- الاستعارة الى الاستعارة "نفسها"

2- الاستعارة الى استعارة "مختلفة"

3- الاستعارة الى لا استعارة

ويتجاهل الباحثون احتمالا آخر ينبع من الرؤية القائمة على النص الأصلي وهي:

4- الاستعارة الى الصفر

(أي الحذف الكامل للاستعارة وعدم الابقاء على شيء منها في النص الأصلي).

وهذا التجاهل لا ينبع في رأي توري بسبب انه غير محتمل أو غير موجود في الترجمة الواقعية بل لأن الباحثين يرفضون اعطاء شرعية لحذف الاستعارة كلية، الا في حالة الاستعارات غير المهمة أو تلك الموجودة في النصوص غير المهمة.

ويرى توري أنه حتى حينما نقيم آراءنا على أساس النص الأصلي فلا يوجد ما يضمن ان وجود استعارة في النص الأصلي يوجب التعامل معها كوحدة واحدة سواء أكان من خلال ترجمتها باستعارة كما في الحلين ( 1) و (2)، او بحل غير استعاري كما في (3)، أو حتى بعدم ترجمتها على الاطلاق مثلما هو الحال في الحل الذي يقترحه توري ( 4).

أما دراسة الترجمة من منظور النص المترجم فقد تؤتي بثمار مختلفة في ميدان دراسات الترجمة، ففيما يتعلق بالاستعارة الموجودة في النص المترجم وليست تلك الموجودة في النص الأصلي،أي منظور الحل الموجود الذي اتخذه المترجم وليس على أساس المشكلة كما هو منظور النص الأصلي، وهنا يقترح توري حالتين كما يلي:

5- لا استعارة الى استعارة

6- الصفر الى استعارة

ويرى توري أن المنظور الأشمل للترجمة، أي من منظور النص الأصلي والنص المترجم معا، يؤدي الى الأخذ بعين الاعتبار ظاهرة «التعويض» في الترجمة وهو ما كان سيستحيل على دراسات الترجمة ملاحظته لو كانت الاحتمالات الأربعة هي فقط التي يسمح بها في النظام الوصفي للترجمة. ويضيف توري ان الاحتمالين الأخيرين ( 4) و( 5) قد يثيران افتراضات تفسيرية أخرى، فقد يلاحظ أن بعض الاستعارات الأصلية يقل استخدامها في لغة الترجمة، ليس بسبب الصعوبات الناتجة عن اللغة الأصلية أو الفروقات بين لغة الأصل ولغة الترجمة فقط، بل بسبب عوامل مرتبطة بالنص المترجم ذاته.

خلاصة

نخلص من الاستقراء السابق لبعض الدراسات التي ظهرت في عقد التسعينات الى الاستنتاجات التالية:

1- يلاحظ من خلال استعراضنا السابق أن الدراسات في موضوع الاستعارة والترجمة قد تجاوزت محدودية الدراسات المبكرة في الموضوع. ومعنى هذا أن الدراسات المبكرة مثل دراسة داجوت (1976) ونيومارك (1980) قد تمحورت حول الاستعارات المفردة، أي رؤية الموضوع من خلال امكانية ترجمة الاستعارة المفردة المنفصلة عن مستويات السياق العليا كالنص والسياق الثقافي الأكبر والعوامل المؤثرة على الترجمة مثل العامل اللغوي والعامل الثقافي اللذين تحدث عنهما داجوت، والعامل الكوني الذي اقترحه نيومارك. أما دراسات التسعينات فحاولت الخروج من مطب الاستعارة المفردة فحاولت توسيع دائرة الاستعارة لتشمل الجغرافيا النصانية التي توجد فيها الاستعارة. فإشارة مناصير الى وظيفة الاستعارة في تكوين معنى النص، وتركيز كروجر على المستوى "الكوني" أي النص للاستعارة، والمستويات الكبرى التي تحدثت عنها فونج كلها تدل على تحرك نحو تجاوز التعامل مع الاستعارة كوحدة منفصلة عن المستويات الأخرى باتجاه الاهتمام بالمستويات العليا للاستعارة. وهنا نشير الى أن الدراسات في الموضوع في مرحلة تحول، وان التعامل الأشمل مع الاستعارة لم يظهر في رأينا حتى الآن، والدليل على ذلك وجود بعض الدراسات التي مازالت ترى أن على المترجم أن يتعامل مع كل استعارة على حدة مثلما يرى لوكس مثلا، وتمحور دوبرزنسكا حول المفهوم القديم للايحاءات التي تستثمرها الاستعارة في النص.

2- نرى أن هنالك مدى يمكن للباحث في الموضوع أن يصل اليه مستغلا ما يوجد حاليا من تطورات سواء في مجال الاستعارة أو المجالات الأخرى كلسانيات الخطاب واللسانيات الادراكية ودراسات الترجمة ذاتها. فإذا كانت الدراسات في الموضوع قد تحركت فعلا إلا أن هذه الحركة ليست فيما نرى بالمستوى الذي بالامكان الوصول اليه. واستطيع أن أشير هنا الى بعض التطورات في بعض الميادين التي يمكن للدراسات حول الاستعارة والترجمة الافادة منها:

- دراسات الاستعارة: النظرية المعاصرة للاستعارة كما طورها لاكون وجونسون وترنر (3) التي ترى ان الاستعارة عملية ذهنية وأن ما نتعارف عليه بالاستعارة ليس إلا تعبيرا لغويا عن الاستعارة الذهنية. وهنا يمكن لدراسات الترجمة ان ترى كيف يمكن التعامل مع الاستعارة الذهنية من منظور الترجمة. بمعنى ان كانت الاستعارة أمرا ذهنيا وان اللغة ليست الا تعبيرا عن الذهن، فكيف يمكن أولا تحديد مشكلة الاستعارة في الترجمة، وكيف يتعامل المترجمون مع الاستعارة، أي هل تنتقل عبر الاستعارة مفاهيم ذهنية من لغة معينة الى لغة أخرى، أم أن الترجمة ليست إلا عملية احلال لتعابير لغوية موجودة ومتقبلة في لغة الترجمة بمعنى هل الترجمة ذهنية أم لغوية فقط ؟

- دراسات الترجمة: تطورت نظرية الترجمة في العقدين الأخيرين تطورا كبيرا يمكن الافادة منه في المباحث التي تتعرض للترجمة والاستعارة، فدعوة توري الى المنهج الوصفي في غاية الأهمية في هذا المجال. كذلك فإن دعوة كثير من الباحثين وخصوصا الالمان منهم الى الاهتمام بغرض الترجمة مهم جدا، حيث يمكن للباحث مثلا أن يدرس الاستعارة وارتباطاتها وعلائقها في النص الأصلي، ويقارن ذلك بوضع الاستعارة في النص المترجم، باعتبار الأخير نصا قائما في ذاته له مبررات وجود تختلف عن مبررات النص الأصلي في لغته الأصلية، ويمكن التركيز هنا على التفاعل بين غرض الترجمة ووضع الاستعارة فيها. كذلك يمكن للباحث أن يستفيد من تطور آخر في دراسات الترجمة وهو النظر الى الترجمة من ناحية ايديولوجية، من حيث ارتباط وضع الترجمة في ثقافة معينة بالوضع العام في تلك الثقافة، حين يستخدم النص المترجم لأغراض لا ترتبط بالترجمة ذاتها بل بالوضع الاجتماعي ومصالح المجموعات المختلفة في تلك الثقافة.

الهوامش:

1- طبعا هذا لا يعني ان داجوت هو أول من كتب في هذا الموضوع، حيث سبقه الناقد العربي عبدالقادر الجرجاني الذي اشار الى الاستعارة في الترجمة في كتابه "اسرار البلاغة".

2- انظر العدد الثالث من مجلة «نزوى».

3- انظر كتاب جورج لاكوف ومارك جونسون «الاستعارات التي نحيا بها» وكتاب "نساء ونار واشياء خطيرة" لجورج لاكوف.