الثلاثاء، 11 مارس 2003

مرحبا ب"التسامح" قيمة وممارسة

مرحبا ب"التسامح" قيمة وممارسة

عبدالله الحراصي

حينما يعمى العقل والقلب، ولا يرى المرء الا نفسه، ويعتقد انه هو مركز الكون او الكون كله، يغيب التسامح. وحينما لا يعتقد هذا المرء ان من حق الاخر ان يعيش كما هو، او كما يريد ان يكون، منطلقا من فلسفة حياة او رؤية مغايرة، يغيب التسامح. وحينما ترى جماعة ما او طائفة ما انها الحق او ممثلة للحق تمثيلا لا يشاركها اياه جماعة او طائفة أخرى يغيب التسامح. ولا يحضر التسامح الا حينما يدرك المرء ان الحياة تتسع للجميع، وأن من حق الآخرين ان يعيشوا وأن يفكروا وأن يكتبوا حياة وفكرا وكتابة تختلف عما هو لديه. كما لا يحضر التسامح الا حينما يحل العقل وصوته، مهما هدأ هذا الصوت وتمهل في طرح رؤاه، ولا يحضر الا حينما تغيب الأصوات التي تريد هيمنة وتسلطاً على غيرها من الأصوات. التسامح لا يحضر الا حينما يغيب نقيضه، وهو صوت العنف والرفض وأقصاء الآخر أو الآخرين.

تجيء مجلة "التسامح" الصادرة عن وزارة الاوقاف والشؤون الدينية لتكون تمثيلا فكريا لواقع المجتمع المتسامح الذي عاشته عمان وما زالت تعيشه في تجل متنوع رائع مدهش في ديمومته برغم تدافعات التاريخ الداخلي والخارجي، ولتكون تعزيزا لفضيلة عشناها طويلا ونعيشها حاضرا، الا اننا كذلك نرى بعض النزعات نحو اقصاءها كقيمة أساسية من قيم المجتمع وتفاعل عناصره، وكقيمة أساسية من قيم حياة الفكر وثراء تنوعه وتنوع ثراءه. ومجلة "التسامح" من هذا المنظور هي رد للأمور الى طبائعها المتسامحة، ورفض لعنف الفكر وما يتبعه من عنف السلاح بأنواعه.

تأتي مجلة "التسامح" لتضع يدها في يد حركة الفكر الجاد في عمان والعالم العربي، فبرغم زخم ما ينشر كماً تأتي "التسامح" لتنحاز للكيف، وبرغم ما ينشر صراخا وايديولوجية تأتي "التسامح" لتنحاز للهدوء وإعمال العقل وتعايش الوعي بأشكاله، وبرغم دعوات تقسيم الذات والكون تقسيما حديا الى "نحن" و"هم"، وفسطاطنا وفسطاطهم، ودارنا ودارهم، تأتي "التسامح" لتعزز خلع نظارة الثنائيات ورؤية الوحدة في التنوع والتنوع في الوحدة، ورؤية التنوع والاختلاف حين وحيث يوجد هذا التنوع والاختلاف.

تصدر مجلة "التسامح" عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في سلطنة عمان، وهي وزارة لا يخامر أحد شك في ممارستها للتسامح قيمة وممارسة، وهو تسامح ينبغي الإشادة به وشكرهم عليه، فسلسلة الندوات والمحاضرات التي تنظمها هذه الوزارة في جامع السلطان قابوس الأكبر، والتي استضافت فيها بعض كبار العلماء والباحثين، هي مما يستحق الثناء عليه وتعزيزه قيمة وممارسة. القيمة هي السماح للآخر البعيد عنا والذي يقضي عمره في دراستنا والتنقيب في أعماق فكرنا ومجتمعنا لأن يقول صوته هنا في العالم العربي والاسلامي لا بين جدران قاعات الدرس او المؤتمر في الغرب فحسب، والقيمة تكمن أيضا في السماح لآذاننا وتمرينها على سماع صوت هذا الآخر بيننا هنا لا هناك، فالآخر الذي يدرسنا ويكتب عنا هو نحن الغائبة والمغيبة في كثير من الأحيان، اضافة الى كونه الآخر الذي ربط نفسه معنا برباط الفكر ورباط الانسانية.

لقد استضافت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية مؤخرا أثنين من أهم من درسنا في ألمانيا هما أنجيليكا نويفرت وشتيفان فلت. تحدثت نويفرت عن علاقة النص المقدس بالتاريخ، وعن برنامج بحثي ألماني يسعى الى دراسة التأويل في اليهودية والمسيحية والاسلام وآفاق هذا المشروع، كما تحدث شتيفان فلت عن ترجمات القرآن الكريم الى اللغة الالمانية ومصاعب ترجمة النص المقدس الذي يتميز بطبائع لغوية وثقافية تكاد لا توجد في غيره الى لغة تختلف غاية الاختلاف عن زمان ومكان نشؤه وتطوره، وتحدث في محاضرته الثانية عن الحوار بين الحضارات وضرورة تعزيزه وسبل تحقيقه. مثل هذه المحاضرات هي ترسيخ للحوار وللتسامح مع الآخر ومع الذات، وهي بشرى خير ودعوة لمستقبل عربي وأسلامي أكثر وعيا، مستقبل يقوم على ادراك ان الانغلاق بفنونه المختلفة، وعلى رأسها الانغلاق الفكري، قد قاد المجتمع العربي والاسلامي الى نهايات مسدودة مع الذات ومع الآخرين. تأتي مجلة التسامح في هذا الاطار لتوسع وتوثق وتساهم في صناعة وصياغة هذا المستقبل.

يقول مستشار المجلة خليل الشيخ ان من ابرز دوافع إصدار هذه المجلة القناعة بأن الفكر الاسلامي "يحتاج الى مزيد من المنابر الفكرية الراقية، التي تصنع مساحة حرة للكتابة الجادة، البعيدة عن التجريح والابتذال والإسفاف، وتسهم في ترسيخ الوعي الفكري لدى القاريء، وتعيد الأمل الى المسار الحضاري لهذه الأمة الذي غدا مسكوناً باليأس والأحباط، وتسهم في إزالة العوائق التي تكبل الفكر، وتعطل الاجتهاد، بعيدا عن الخطاب الحماسي وبلاغته وما يتحلى به من وثوقية قاطعة"، كما يقول ان خطاب مجلة "التسامح" هو "خطاب الرؤية المتوازنة على شتى الصعد العلمية والاجتماعية والسياسية، التي تتجاوز الخطابات التي تلوذ بالماضي، أو تهرب الى المستقبل، وتفضي في النهاية الى القفز على الواقع وتجاهل ما ينطوي عليه من مشكلات".

مرحبا بمجلة "التسامح" قيمة وممارسة، ومرحبا بمجلة "التسامح" حضنا للفكر المتنوع الواعي البعيد عن الأحادية والحدية وبلاغة الوثوقية القاطعة، وشكرا يا وزارة الأوقاف والشؤون الدينية.

الاثنين، 10 مارس 2003

حول الحرب والانسان 3 (ولفرد أوين: الحرب والموت)

حول الحرب والانسان (3)

ولفرد أوين: الحرب والموت



عبدالله الحراصي



"سمي الانسان إنسانا لأنه ينسى"، لن يصدق هذا كما يصدق في الحديث عن الحرب. ما أشد ما ينسى الانسان أهوال الحرب وما تقدمه لأهلها، منتصرين ومهزومين، من مصائب وآلام لها بداية تبدو معروفة لمن يتخذ قرار الحرب أو يجد نفسه طرفا فيها، كالدفاع عن المصالح او الدفاع عن الاوطان ورد كيد العدو الصائل، ولا تعرف النهاية لها طريقا. الحروب، من هذا المنظور، هي صراع الانسان مع أخيه الانسان في ميدان العبث، صراع بلا هدف جلي، فلو كانت الحروب تحل مشكلة لما تواترت، واحدة تلي الاخرى، وكأن السلم ليس الا هدنة بين لحظات العبث والجنون البشريين. أكتب هذا ونحن جميعا نعيش لحظات حرب مجنونة أتت على الأخضر واليابس من روح الانسان وكرامته، وأتت على كثير ممن كانوا أحياء ينبضون قبل اسبوعين من هذا اليوم من جنود الطرفين ومن المدنيين الذين عجلت بأرواحهم الى الآخرة أسلحة تنبض نظافة وتطورا كما يقال لنا.

الحرب من الخارج هي صراع يحمل لافتات الكرامة والمجد المؤثل والموت الرخيص من أجل أوطان عزيزة، ولكن الحرب من الداخل هي، كما سنرى في شعر ولفرد اوين، قتل الانسان للإنسان، القتل الرخيص حيث يتصارع الجند ويموتون، هي لحظات تستحيل فيها تلك اللافتات التي يرفعها السياسيون وأصحاب المصالح الى عبث عظيم. في الحرب لا تموت الغواصات ولا الطائرات، لا تموت صواريخ توماهوك او باتريوت (التي تعني "الوطني")، لا تموت دبابات تشالنجر (التي تعني "المتحدي") ولا مروحيات أباتشي، ولا تموت الخنادق ولا البنادق. الذي يموت هو الانسان، والذي يتألم هو الانسان، ولكن الانسان ينسى ولهذا سمي إنسانا.

ملحمة العبث العظيم التي نسميها الحرب هي موضوع رئيس في الشعر العالمي، ويعد ولفرد أوين أشهر الشعراء الانجليز الذين كتبوا عن الحرب، وتتميز قصائد اوين بأنها تبتعد عن تمجيد الوطن وبث الحماسة في قلوب المحاربين، بل ان قصائده تتمحور حول ما تخلفه الحروب من دمار وقتل وتعذيب للإنسان. في الحرب العالمية الاولى قرر أوين التطوع في القتال مع القوات البريطانية فكانت أول مشاركة له هي معركة سومي عام 1917، الا انه مرض وهو على خط الجبهة فآثر قادته نقله الى مستشفي في ادنبرة في اسكتلندة، ومن حسن طالعه انه التقى هناك بشاعر آخر اشتهر بقصائده الرائعة عن الحرب هو الشاعر سجفرد ساسون الذي كان قد نشر للتو أول مجموعة له من قصائد الحرب، فكان لهذه القصائد أثر عظيم في نفسية أوين وفي شعره، فأنبثق شعرا وكتب قصائدا عن الحرب لم يكتب مثلها من قبل. عاش أوين في المستشفى فترة هي إمتداد في اللاوعي لما رآه في الحروب، فكانت الحرب تحاصره في منامه كوابيسا رهيبة وتسربت الى قصائده التي إمتلأت بصور الأعين المغمضة وأفواه الجحيم. ولعل المفارقة هي اوين رجع الى الجبهة مرة أخرى في اغسطس 1918 ليلقى الموت قبل اسبوع من تاريخ 11 نوفمبر 1918 الذي يعد آخر يوم في تاريخ الحرب العالمية الأولى.

قمت بترجمة قصيدتين من أشهر قصائد أوين حول الحرب هما "نشيد لشباب هالك" و"ما أعذبه وما أصدقه" يوضحان رؤية أوين للدمار الذي تخلفه الحروب حيث صور القتلى الذين يموتون في سياق عبثي وحيث الألم الذي يحل بالانسان نتيجة للحرب.

نشيد لشباب هالك

تصف هذه القصيدة قتلى الحرب من الجنود الانجليز الذين قضوا في احدى معارك الحرب العالمية الاولى، ويقارن بين مراسم الجنازة التقليدية في الكنيسة والمراسم التي تقوم بها آلات الحرب لهم وحزن أسرهم والطبيعة.



أي نواقيس رحيل ستقرع لمن هلكوا كالقطيع؟

- ما هناك الا هدير غضب المدافع الرهيب

طقطقة البنادق السريعة المبقبقة

هي التي تتمتم بصلوات جنازتهم.

زمان الخديعة قد ولى، فلا صلوات ولا نواقيس

ولن ينوح عليهم وينتحب سوى الجوقات:

الجوقات المعتوهة المجلجلة في القذائف المنتحبة

والأبواق التي تلتمسهم من نواحي انجلترة المكلومة.

أي شموع ستحمل لتعجيل رحيلهم؟

ليس في أيدي الفتيان، بل في أعينهم

سيلمع وميض الوداع المقدس،

وستغطي حواجب الفتيات الشاحبة نعوشهم،

وستكون رقة الأفئدة الصبورة زهورهم،

وسيسدل كل غسق بطيء الستار عليهم.



ما أعذبه وما أصدقه

رغم شهرة قصيدة "نشيد لشباب هالك" الا ان القصيدة التي نالت القدر المعلى في شعر الحرب المكتوب باللغة الانجليزية تلك التي تحمل عنوانا باللغة اللاتينية هو "Dulce Et Decorum Est" والذي يعني "ما أعذبه وما أصدقه"، وهو عنوان مستمد من مقولة لاتينية يعود أصلها الى احدى قصائد الشاعر هوراس التي يقول فيها "الموت فداءا للوطن، ما أعذبه وما أصدقه"، وهي مقولة تدل على استعداد الانسان للموت واستعذابه له حينما يكون فداء للوطن، الا ان أوين يستخدمها لا ليؤكد عليها وإنما ليمعن في إظهار الوجه الخفي لها حيث يكمن القتل والدمار، والقصيدة إصابة احد الجنود بالغاز السام أثناء احدى معارك الحرب العالمية الاولى ومقتله.



محدودبي الظهر، كشحاذين مسنين يأنون تحت وطأة أحمال ثقيلة

مصطكي الركب، نسعل كالعرافات، مشينا، نلعن قدرنا ونحن نخوض الوحل

الى ان عدنا أدراجنا على أنوار القذائف المشعة،

ونحو مخيم استراحتنا النائي أخذنا نمشي مجهدين.

سار الرجال نائمين، وقد فقد الكثير أحذيتهم،

الا انهم ترنحوا يعرجون للأمام، منتعلين الدم. مضى الجميع، كسحاء، عمي،

أسكرهم النصب، لم يسمعوا حتى نعيق

القذائف المنهكة التي لا تقوى على الوصول اليهم.

الغاز! الغاز! أهرعوا ايها الشباب! – في نشوة التخبط

يرتدون أقنعة الغاز في اللحظة الأخيرة،

لكن ثمة من يصرخ ويتعثر،

يتخبط كمن أصابه الحريق او الكلس القاتل

حلت العتمة. يبدو عبر نظارة القناع الضبابية الخضراء والضوء الأخضر الغائم

كأنه غارق في لجة بحر أخضر، رأيته يغرق.

في كل أحلامي، أمام عيني العاجزتين،

ما زال يغطس نحوي، يجرجر، يختنق، يغرق.

ان قُدِّرَ لك في حلم خانق ان تمشي

خلف العربة التي قذفناه فيها،

وان ترى العينين البيضاوين يتقلبان في وجهه،

وجهه المتدلي كشيطان سئم من الشرور.

ان قدرت ان تسمع، في كل نزع، الدم

يتفجر متغرغرا من رئتيه اللتين يطفحان بالزبد،

القذر كالسرطان، المر كعشب مجتر،

إن قدر لك هذا، فإنك يا صاح لن تمجد

أمام أطفالك المتعطشين لكرامة بائسة

تلك الاكذوبة الكبرى:

" الموت فداءا للوطن

ما أعذبه وما أصدقه"

الاثنين، 3 مارس 2003

عن الحرب والإنسان 2: الموت والخذلان في الشعر العربي

الموت والخذلان في الشعر العربي

كتب عبدالله الحراصي

الحرب حالة قتال عظيمة يعيشها الانسان، وليس لتجربة الحرب وجه واحد بل ان وجوهها متعددة، ولهذا فإن قاريء الشعر العربي سيجد ان كثيرا منه يتعرض لهذه التجربة المتأزمة. في هذا المقال سأعرض لتأثير هذه التجربة على بعض الشعراء العرب وسأركز على جانبين هما السعي وراء الموت في الحروب والشعور بالخذلان من نصرة من ترجو منه النصرة كما يتبين في بعض ابيات الشعر العربي.

لم تكن الحرب في الشعر العربي مرادفة للموت والدمار كما يبرز في الشعر العالمي الحديث، وخصوصا بعد تجارب الحروب العالمية، بل انها مرادفة للحياة من أكثر من وجه، فالمقاتل في الحرب يدافع عن حياته وعن حياة اسرته وقومه وهذا ما يجعله يستبسل في الحرب دفاعا عن شرف الحياة.

ومن زاوية أخرى فإن الحياة الكريمة كانت دائما هي مراد الانسان، وفي مثل هذه الحالة فضل كثير من الشعراء الموت على ان يعيشوا حياة الذل.

وهذا ما أدى الى وضع غريب في ظاهره، يوثقه الشعر العربي، وهو حب الموت في الحروب.

نجد هذا مثلا عند عروة بن الورد الذي يرد على سليمى التي تحاوله ثنيه عن المشاركة في الحرب بقوله:

أرى أم حسان الغداة تلومني = تخوّفني الأعداء والنفس أخوف
تقول سليمى لو أقمت لسرّنا = ولم تدر أني للمقام أطوّف
لعلّ الذي خوفتنا من أمامنا = يصادفه في أهله المتخلف

فسليمى تحاول ان تخوف عروة بإبراز قوة الاعداء واستحالة انتصاره عليهم وإحتمال ان يلقى مصرعه في الحرب الا انه يرد عليها ردا يكشف عن رؤية عميقة حول الحياة والموت لها وجهان،

وجهها الاول هو انه يحارب لا من أجل الموت بل من أجل إبقاء الحياة، فهو يطوف ليس من أجل الذهاب النهائي عنها بل من أجل المقام،

والوجه الثاني هو ان الموت آت لمحالة لجميع بني البشر، وهكذا فإن الذي كانت تخوفه منه ربما يصادفه من يتخلف عن الحرب في بيته وبين أهله.

ونفس الفكرة التي يطرحها عروة نجدها عند الحصين بن الحمام المري وهو شاعر جاهلي:

تأخرت استبقي الحياة فلم اجد = لنفسي حياة مثل أن اتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمي كلومنا = ولكن على اقدامنا تقطر الدما
نفلق هاما من رجال اعزة = علينا وهم كانوا اعق وأظلما

ويشير البيت الثاني الى إصرار الشاعر وجماعته على الحرب وعدم فراره من ساحة المعركة بحيث يهاجمون من خلفهم بل انهم يثبتون فيقطر الدم على أقدامهم وليس على أعقابهم (أي مؤخرة أقدامهم).

ومن أجمل أبيات حب الموت وتفضيله على طول الحياة الذليلة قول السموأل بن عاديا الذي عاش قبل الاسلام:

وإنا لقوم ما نرى القتل سُبة = إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا = وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد في فراشه = ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظبات نفوسنا =وليس على غير الظبات تسيل

(والظبات جمع ظبة وتعني حد السيف).

ومن تجارب الحرب التي دونها الأدب العربي تجربة الخذلان ممن يعتقد فيه النصرة، والخذلان منقصة كبيرة عند العرب الذين يعدون 'الخاذل أخو القاتل كما يقول حسان بن ثابت.

ومن الشعراء الذي يبرزون في ذاكرة المرء حينما يذكر الخذلان شاعر جاهلي اسمه قُريظ بن أنيف وينتمي الى بني تميم، وملخص أمره ان أفرادا من بني شيبان هاجموه واستولوا على ثلاثين بعيرا كان يملكها، فأستنجد بقبيلته غير انه لم يجد منهم سوى الخذلان فما كان أمامه الا ان يستنجد ببني مازن الذين لبوا طلبه فهاجموا بني شيبان واستولوا على مائة بعير منهم وسلموها الى قريظ، فكتب قصيدة رائعة يقص فيها قصته ويهجو فيها قبيلته التي لم تهب لنجدته، يتخيل في مطلعها انه لو كان من بني مازن لما تجرأ بنو شيبان على استباحة إبله:

لو كنت من مازن لم تستبح إبلي = بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

ثم يمضي في وصف بني مازن وصفا يظهر شجاعتهم وبأسهم في نصرة الضعيف منهم، وعدم مطالبة هذا الضعيف بالدليل على صدق ما يقول:

قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم = طاروا اليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم = في النائبات على ما قال برهانا

بعدها يأخذ قريظ في مقارنة حال بني مازن بحال قبيلته بني تميم، فيصفهم وصفا قد يستحسن في بعض الأحيان لكنه نقيصة في أوقات الحرب وحينما تحين لحظة القتال، وهو إنهم، إن استخدمنا الالفاظ المستخدمة في ايامنا هذه، جماعة مسالمة لا يعرف الشر اليهم طريقا، فيقول:

لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب = ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة = ومن إساءة أهل السوء إحسانا


وهنا تنبغي الاشارة الى ان الشاعر، وإن كان في أقصى درجات غيظه وحنقه على قبيلته التي لم تنجده في وقت الشدة، لا ينسى ان يشيد بأنهم من ذوي الحسب، وكأنه يقول انهم ليسوا أقل درجة في المعايير القبلية من بني مازن الا انهم مصيبتهم تتمثل في تحبيذهم الدائم للسلم، وهم يعفون عمن يهينهم ويحسنون الى من يسيء إليهم.

الحرب حدث رهيب كبير، وكما رأينا في أبيات قريظ بن أنيف فإن تجربة الحرب قد تبتديء حتى في غيابها حيث يفترض ان توجد، وهي تجربة رآها الشعراء العرب وجها من وجوه الحياة وطرقها وليس وجها للموت واستدعائه وهو ما برز في أبيات عروة والحصين والسموأل.

الأحد، 2 مارس 2003

حول الحرب والإنسان 1: فلسفة الحرب

حول الحرب والإنسان (1)

فلسفة الحرب

عبدالله الحراصي

الآن ونحن على شفا الحرب، يركز الكثير منا على طبيعتها السياسية والعسكرية المباشرة، ولا تأتي على ذهن أغلبنا أبعادها الفلسفية والأخلاقية، وهو ما سأحاول ان أتناوله في هذا المقال الذي هو، في مجمله، عرض تلخيصي لدراسة كتبها بعنوان "فلسفة الحرب" ألكس موسلي وهو استاذ جامعي بجامعة إيفانزفل في لنكولنشر في انجلترة، ظهرت في "موسوعة الفلسفة على الانترنت" (http://www.utm.edu/research/iep/w/war.htm).

أول ما ينبغي التطرق اليه في اي حديث عن الحرب هو تعريف الحرب ذاتها، ففيما تتفق القواميس اللغوية على ان الحرب هي حالة صراع مسلح بين طرفين، هما دولتين في الأغلب (أو بأن الحرب، كما يقول "لسان العرب"، هي نقيض السلم)، نجد ان المفكرين قد اختلفوا في تعريفها. واختلاف المفكرين هذا مرده بطبيعة الحال اختلاف الرؤى الفلسفية والفكرية التي تحكم هذه الرؤى، اي ان لكل مفكر افتراضات فلسفية او فكرية راسخة ومسَلَّم بها، وليس تعريف الحرب لديه سوى إنعكاس لتلك الافتراضات. يعرف شيشرون الحرب بأنها "الكفاح بإستخدام القوة"، أما المفكر توماس هوبز فيرى الحرب بإعتبارها "حالة يمكن ان تظل موجودة وإن توقفت عملياتها [اي العمليات الحربية]"، وعند دينيس ديديروت "هي تشنج عنيف يحل بالجسم السياسي"، وهنا لا يمكننا ان نغفل التعريف الشهير لكارل فون كلاوسوتز الذي يعدها "استمرار للسياسة بإستخدام وسائل أخرى"، وهي "عمل من أعمال العنف يرمي الى إجبار عدونا على تنفيذ إرادتنا". ان لكل من هذه التعريفات، كما لاحظ موسلي، خصائصه التي تميزه عن غيره وله نقاط ضعفه وقوته، غير ان كل منها نتاج لمواقف فلسفية واسعة.

وهناك أكثر من أتجاه في تحديد كنه الحرب، ويمكن تمييز مدرستين اثنتين، أولهما مدرسة العقلانية السياسية والثانية مدرسة يمكن تسميتها بـ"المدرسة الصراعية الطبيعية". ترى مدرسة العقلانية السياسية ان الحرب حالة يحكمها النظام تقوم بها الدول ولها بدايات معلنة ونهايات متوقعة، ويتصارع فيها خصماء محددون، والحرب من هذا المنظور هي الحرب كما يفهمها العامة من الناس، اي تلك التي تشمل أحداثا مثل شن الغارات وردها، وحصار الأعداء وغيرها. وبحسب هذه المدرسة فإن الحرب ينبغي ان تقوم بين دولتين، وإلا فإنها لن تكون حربا. الحرب كما يقول جان جاك روسو في كتابه ذائع الصيت "العقد الاجتماعي" هي حالة "علاقة، ليس بين رجل وآخر، بل بين دولة ودولة أخرى"، وهذا التعريف يحصر الأطراف المشتركة في الحروب في الدول، ولهذا فإن هذه المدرسة لا ترى في الصراعات المسلحة بين الكيانات السياسية السابقة للدولة، كالقبائل على سبيل المثال، حروبا، كما ان أي نشاط عنيف تقوم به جماعات ضد دولة ما لا يعد حربا.

أما المدرسة الأخرى فتختلف فلسفيا عن هذه النظرية السياسية المحضة، ذلك أنها تحاول ان تربط مظاهر الحرب الواضحة، كشن الغارات والحصار واستخدام الاسلحة الكيماوية او النووية مثلا، بعمليات ميتافيزيقية عليا، فترى إن الحرب هي الأمر الطبيعي في الكون بأكمله وأن تجليات الصراع توجد في كل مظاهر تفاعلات عناصر الكون. ومن أبرز ممثلي هذه المدرسة الفيلسوفان هيراقليطس وهيجل اللذان يعتقدان أن أي تغيير مهما كان نوعه (ويشمل هذا التغييرات الاجتماعية والاجتماعية والاقتصادية وحتى المادية) لا يحدث الا بعد حدوث صراع عنيف، فيقول هيراقليطس الذي أثر كثيرا في رؤى هيجل حول التاريخ ان "الحرب هي الأب الذي تخرج من صلبه كل الاشياء"، ويقول فولتير ان "المجاعة والطاعون والحرب هي أشهر ثلاثة أشياء تكون هذا العالم البائس ... وكل الحيوانات هي في حالة صراع مستديم مع بعضها البعض ... والجو والارض والماء تمثل ميادين الدمار".

وكما تختلف محاولات تعريف الحرب تختلف كذلك محاولات المفكرين في فهم أسبابها، وفي هذا يمكن الاشارة الى مدرستين ظهرا في الغرب (ويمكن بطبيعة الحال رؤيتهما بجلاء في الفكر العربي الاسلامي)، هما مدرسة التخيير ومدرسة التسيير. ترى الاولى ان الانسان هو نفسه الذي يفعل ما يفعل، وهو المسؤول عن أفعاله تلك وعن عواقبها، أما الثانية فترى ان ليس للإنسان يد فيما يحدث في الكون، وكل أحداث الكون إنما هي أمور كانت ستقع حتما وليس للإنسان قوة يستطيع بها تغيير مسار أي حدث بل انه منفذ لحتمية كبرى.

فيما يتعلق بالحرب ترى مدرسة التسيير ان ليس للإنسان أي دور في ظهور الحرب، فهي قدر حتمي ليس منه مفر، وينقسم من يعتقدون بهذا الرأي الى أكثر من تيار، أبرزهم يؤمن بالحتمية التامة، اي ان الانسان منفذ بطريقة آلية وليس له من أمره شيئا على وجه الاطلاق، وهنا فإن دور الانسان هو دور سلبي تماما، حيث لا يمكنه فعل اي شيء بإرادته الواعية، ذلك ان كل ما يفعله مهما حاول فعل اي شيء انما ينظر اليه بإعتباره جزءا من القدر لا فعلا حرا، ويرى تيار حتمي اخر ان الحرب أمر حتمي مقدر أجل، ولكن للإنسان ان يقوم ببعض الامور التي، وإن فشلت في رد قدر الحرب على عقبيه، يمكنها التخفيف من آثار الحرب التدميرية، وهي كما يقول موسلي، شبيهة بدور المريض الذي لا يستطيع رد الامراض المقدرة عليه الا انه يستطيع الأخذ ببعض الأسباب التي تقلل من أخطار الامراض كالأدوية التي تعالج ذلك المرض، وهي أشبه بالعمود المعلق عموديا في البنايات الشاهقة بهدف منع الصواعق، فبركزه في هذه البنايات يمكن ان يمنع الصواعق ويقلل من إمكانيات تدميرها، وإن كان لا يستطيع القضاء على كل صواعق الكون.

أما الذين يرون بالتخيير فيقولون ان الحرب هي من صنع الانسان، وهو المسؤول الأول والأخير عنها، والسعي الى ربطها بقوى حتمية قدرية ليس الا تهربا من حمل هذه المسؤولية. وضمن مدرسة التخيير ذاتها يوجد كذلك اكثر من تيار تتباين فيما بينها حول فهمها لكنه اختيار الانسان ومسؤوليته، وهذا يعني ان قضية الحرب تتحول من قضية حتمية ذات ابعاد أخلاقية إلى قضية سياسية محضة، حيث تظهر أسئلة في مجتمعات الحروب عن الأشخاص المحددين المتسببين في الحرب ودورهم في النصر او الهزيمة ومعاقبتهم على أفعالهم هذه، كما تظهر أسئلة عن شرعية شن الحرب، فإن كان الانسان مخيَّر فمن الذي يملك الشرعية للتخلي عن السلم وشن الحرب؟ ولماذا؟، كما ان هناك اسئلة تثار حول علاقة النخب السياسية، وهي القادرة على اتخاذ قرارات الحرب، بالشعوب، فهل هذه النخب تهيمن على الشعوب وتأخذهم حيثما تريد بما يحقق مصالحها (اي مصالح النخبة) ام انها في الحقيقة ممثلة للشعوب، وقراراتها فيما يتعلق بالحرب هي قرارات تصدر بالتالي عن الشعب وليس عن جماعات منبتة عنهم.

وضمن مدرسة التسيير والحتمية توجد، كما يذكر موسلي، ثلاث رؤى أساسية تتعرض للأسباب غير السياسية للحروب, وتربط كل رؤية الحرب بأمر ميتافيزيقي ليس له ارتباط مباشر بالسياسة وتفاعلاتها. الرؤية الاولى هي التي ترى في الحرب نتاج لأسباب بيولوجية (تتعلق بجسم الانسان)، فيرى البعض ان الأصل في الانسان ان يمارس العنف مع أخيه الانسان، وانه يميل للتوسع ولزيادة ما يملكه على حساب الآخرين دائما، وأن هذه النزعات متأصلة في جوهره كإنسان، وقد تعززت هذه الرؤى الميتافيزيقية ببعض التفسيرات التي يقدمها بعض علماء الجينات الذين يرون ان هناك جينات في الانسان يمكن ان تعزى اليها الحرب. غير ان هناك اختلافات حول امكانية التحكم في هذه النزعات والأسباب المتأصلة فيرى البعض، كوليم جيمز مثلا، انه يمكن تحويل وجهة نزعات الحرب في الانسان الى جهات غير صراعية، اي تحويل طاقته تلك الى أهداف تعمل من أجل تثبيت السلم الانساني، فيما يرى آخرون (مثل كونراد لورينز) انه لا يمكن التحكم في هذه النزعات وان هناك خوف من ان الانسان سيدمر نفسه خصوصا حينما توجد في يديه أسلحة فتاكة ذات تأثير تدميري عظيم، فيما ترى مجموعة ثالثة من المفكرين (مثل ريتشارد داوكنز) ان عملية التطور الطبيعي ستنجح في النهاية في خلق نوازع سلام تحل محل نوازع الحرب.

أما الرؤية التسييرية الثانية فترى ان أسباب الحرب لا تتعلق بجسم الانسان ومكوناته بل بالمؤسسات الثقافية الموجودة في مجتمع ما. الحرب من هذا المنظور هي قدر ثقافي، اي نتاج لرؤى ثقافية تؤمن بها بعض المجتمعات، وليست الحروب المفردة الا نتاج لتلك القيم الثقافية المتوارثة، وهنا يختفي دور الانسان الواعي، ذلك ان الانسان بإعتباره جزءا من الثقافة لا يرى الحرب الا من خلال المنظار الثقافي الذي يتوسط بين عينه وظواهر الكون. وهنا تثار بعض الأسئلة المتعلقة بالحرب والسلام، فلماذا حل السلام بين القبائل المتحاربة في انجلترة فيما استمرت الحرب في ايرلندا الشمالية ويوغسلافيا وغيرها؟

الرؤية الثالثة المتعلقة بالحتمية تربط بين أسباب الحروب والعقل، فإعلان الحرب هو نتاج لعقل الانسان (او لغياب هذا العقل)، ويرى بعض انصار هذه الرؤية ان الانسان لو لم يكن يتميز بملكة العقل لما توصل الى انه يستطيع ان يحقق مصالحه بإنتهاج سبيل الحرب بل ظل الانسان كائنا مسالما أبدا، ويرى آخرون العكس، ان العقل هو الذي يمكن الانسان من تجاوز نزعات الحرب والصراع وإبقاء السلام حالة دائمة. من يرى بأن الحرب هي غياب للعقل يعكسون ما قاله أفلاطون عن الحرب " الحروب والثورات والمعارك سببها البسيط والوحيد هو الجسد ورغباته"، اي ان الحرب هي علامة على اختلال التوازن بين العقل والجسد بإنتصار الثاني على الأول، وهنا تنبغي الاشارة الى ما كتبه ديستوفسكي في رواية "الاخوة كارامازوف" حيث قال "يوجد بطبيعة الحال في كل انسان حيوان متخفي هو حيوان الغضب، حيوان حرارة الشهوة وصرخات الضحية المعذبة، حيوان مخالفة القوانين الذي تحرر من عقاله".

يشير موسلى الى ان لكل من هذه الرؤى جانب من الصحة ولا ينبغي حصر أسباب الحرب في واحد منها فهذا تبسيط للأمور، بل انها مجتمعة تعمل على ظهور الحرب بين البشر، ويشير الى ان أمر أسباب الحرب يرتبط بقضية فلسفية كبيرة هي علاقة الطبيعة الانسانية بالحرب، وهنا اختلف الفلاسفة في تحديد طبيعة الانسان، فيرى هوبز ان لا بد من وجود سلطة كبيرة في المجتمع توقف نزعة الانسان نحو العنف والحروب فيقول في كتابه الشهير "ليفياثان" "خلال الزمن الذي يعيش فيه الناس دون سلطة تجعلهم يعيشون تحت سيف الخوف فإنهم يعيشون الوضع الذي يعرف بالحرب، ومثل هذه الحرب يشنها كل انسان ضد كل انسان"، وقد تأثر بهوبز فلاسفة آخرون كثر في فهمهم للحرب، فلوك يرفض رؤية هوبز التي لا ترى في الحياة الانسانية الا نزعات التدمير المتأصلة الا انه يقبل رغم ذلك انه سيكون هناك دائما من سيسعى الى إستغلال غياب السلطة والقوانين في المجتمع، أما روسو فيرى عكس ما رآه هوبز، فالأصل عند روسو ان الانسان كائن سلمي، الا انه حينما يحلل العلاقات الدولية يرى ان على الدول ان تكون نشيطة (اي عدوانية) وإلا ستنهار وتضمحل، ومعنى هذا ان الحرب أمر حتمي لا يرد، والسعي الى ايقافها أمر لا طائل منه في العلاقات الدولية. اما عمانويل كانط فيرى ان الحرب تساعد على تحضر الانسان وإحلال السلام، وان العقل ليس وحده الذي يعين الانسان على احلال السلام بل ان لتجربة الحرب دور كبير في هذا، الا ان كانط، كما يشير موسلي، يحمل ايضا نظرة تشاؤمية للإنسان حيث يقول "يبدو ان الحرب متأصلة في الطبيعة الانسانية، وتعتبر أمرا شريفا يسعى اليه الانسان نتيجة لعشقه للكرامة بدون ان يكون للإنسان [في الحرب] اي نزعات أنانية".

وقد تعرضت فلسفة الاخلاق للحرب فظهر مفهوم "الحرب العادلة" الذي ترفع كشعار يبرر شن كيان ما حرب على كيان آخر، الا ان هذا المفهوم يثير أسئلة فلسفية ليس لها اجابة واضحة (هل الشعوب مسؤولة اخلاقيا عن الحروب التي تشترك فيها دولها، ام ان المسؤولية تنحصر على الدول؟، هل الجيوش والعساكر هم أشخاص صالحون أخلاقيا؟ هل يتحمل المواطن العادي وزر حروب تشنها دولته؟). ينقسم الناس هنا الى معسكرين، معسكر السلميين الذين يرى بعضهم ان لا مبرر على الاطلاق يسمح للإنسان ان يشن حربا على اخيه الانسان، ويرى بعضهم الاخر ان الحرب هي الحل الأخير ويجب ان تستنفذ كل الخيارات الاخرى قبل ان تشن الحرب، وترى طائفة أخرى منهم ان الحرب شر لكن لا بد منها أحيانا من أجل تعزيز السلم وحمايته وتأمينه. المعسكر الثاني هو معسكر يعطي الحرب مبررات أخلاقية غير احلال السلام، مثل الدفاع عن الأوطان، وتوسيع أراضي البلاد بإحتلال أراضي الاخرين، أو من أجل أهداف تتعلق بمثل مثل الكرامة والشرف.

يشير موسلي كذلك الى نوعين من الحروب: الحرب المطلقة والحرب التامة. تصف الحرب المطلقة إستغلال كل موارد المجتمع وتستخدم كل المواطنين في العمل الحربي، أما الحرب التامة فتشير الى غياب اي رادع في الحرب ذاتها، حيث تطلق يد العدو على كل هدف بشري او غيره يمكن مهاجمته. في كلتي الحالتين تظهر بعض الأسئلة الفلسفية مثل المسؤولية الاخلاقية والسياسية، كتبرير ضم المدنيين الذي لا علاقة لهم بالحرب اضافة الى الاطفال والمعوقين والجرحى وغيرهم ممن لا يقوى على الحرب، فيرى من يعتقد بالحرب المطلقة ان على جميع افراد المجتمع واجب الدفاع عنه، وان من لا يستطيع عليه واجب مطلق يتمثل في مساعدة من يستطيع، وهنا تظهر كذلك العقوبات التي يجازى بها كل من يتخلى عن هذا الواجب من منطلق الضمير على سبيل المثال. وهناك قضايا شبيهة تتعلق بمناصري الحرب التامة الذين لا يرتدعون عن مهاجمة المسالمين ممن لا يشتركون في الحرب من النساء والاطفال مثلا، اضافة الى مهاجمة الآثار التاريخية في بلاد العدو، وتقوم هذه الرؤية على انه كلما عظمت الاخطار التي تواجه الجسم السياسي كلما ضعفت الكوابح الاخلاقية تدريجيا كما يقول مايكل ولزر في كتابه "الحروب العادلة وغير العادلة".