الأربعاء، 27 مايو 2009

وقفات حول مقال خميس العدوي "أنساق البراجماتية"





وقفات حول مقال خميس العدوي "أنساق البراجماتية"

عبدالله الحراصي

في مقاله الذي نشره في ملحق شرفات بتاريخ 6 مايو 2009 يفرق الأستاذ خميس العدوي بين نسقين رئيسين من أنساق البرجماتية هما (1) النسق الشعبي و(2) النسق الفلسفي. أما النسق الشعبي فيقول بأن على الإنسان أن يسعى وراء مصلحته وما يراه نافعاً له بعيداً عن أية ضوابط أخلاقية أو اجتماعية أو سواها من أشكال الضوابط التي تحد من التمحور على المصلحة الفردية، وهي ضوابط تسعى في الغالب نحو المنفعة الجمعية أو أنها تسعى لضبط المنفعة الشخصية وفق مثال أعلى، ديني أو فلسفي أو مجتمعي أو سواها من المُثل. أما النسق الفلسفي فيشير به الاستاذ العدوي إلى الفلسفة البراجماتية (الذرائعية)، وهي بحسب تقديم العدوي "تحمل مضامين الممايزة بين الأفكار المنبنية على الحقائق الكونية بما فيها الخُلُق والمُثُل، وبين الأفكار المنبنية على المنافع والفوائد بغض النظر عن خيرها وشرها، وأن حركة الحياة لا تحفل إلا بالأخيرة، فمتى ما وجد في رحم الحقيقة ما هو نافع كان ينبغي أن يصار إليه ولو تعارض مع الفضائل، وإلا ترك لأجل المنفعة".

قدم العدوي هذين النسقين لهدف مهم في بناء مقاله وهو أن يمايز بينهما وبين أطروحة مقاله حول برجماتية الأفكار، ويسعى إلى تحديد مقصده بالكلمتين المفتاحيتين فالبرجماتية تعني النفعية، أما الفكرة فتشمل "أي فكرة بدون استثناء، وبغض النظر عن صاحبها، وعن المكان والزمان اللذين تعمل فيهما". يقدم المقال إذا أطروحة يمكن اختصارها في أن كل فكرة تحمل عنصراً جوهرياً فيها هو المنفعة. ويشرح الأستاذ خميس العدوي مقصده بالمنفعة فيقول بأنها "لا تتعلق بجانب دون آخر" فهي تشمل كل أنواع المنافع الاقتصادية والاجتماعية والنفسية والفكرية، وكل ما يمكن تخيله من منافع حتى الوهمية منها. ويشير إلى فرق بين أطروحته حول شمولية منفعية الأفكار والمنفعية التي تقدمها الفلسفة البرجماتية التي، بحسبه، لا تضم "إلا ما هو عملي وفوري وفيزيقي محسوس، فهي فلسفياً انتقائية واختيارية متحيزة".

بعد هذا يتحدث عن انتشار الأفكار، ويدحض رأي من يقول بأن الأفكار تذيع بين الناس لأجل قوتها وصدقها وحجتها، بل أن الصحيح هو أن "ما يؤهلها لذلك هو برجماتيتها", أما اختفاء الأفكار وظهور أفكار أخرى فكل ذلك مرده المنفعة، فبقاء الفكرة مظهر لبقاء منفعتها أما ضمور تلك الفكرة فيعكس ضمور منفعتها، والقانون الذي يضعه العدوي هو أن "ضعف الفكرة من ضعف منفعتها أصلاً، وضعف المنفعة مؤذن بزوال الفكرة"، ولربما بقت الفكرة في مكان واختفت من آخر في ذات الزمان بحسب قانون المنفعة. وإن وجَدتَ من يبرر ظهور فكرة أو انحسار أخرى لأسباب تتعلق بوجود أو غياب صدق الفكرة وقوتها وحجتها فهو واقع في خطأ عظيم وتبريراته "لا تحكي الحقيقة كما هي، إذ التبرير هو الآخر مجرد فكرة برجماتية".

كما أن الأفكار "لا تموت موتاً نهائياً، بل تنقسم لتعود أجزاؤها إلى التزاوج بشكل آخر تنظمه المنفعة في دورة برجماتية جديدة"، أما من يسوّق لفكرة على أساس منفعتها للناس وضرر غيابها فهو يستخدم فكرة برجماتية ليبرر وجود تلك الفكرة، وهذا بحسب العدوي ينقل الانسان "من فكرة برجماتية إلى فكرة برجماتية أخرى، في جدل برجماتي لا ينتهي". أما إن فشل التسويق ولم تنفع الدعاية فذلك لأنهما وقعا "في أرض لا تنتفع بالفكرة"، أما انتشارها فيعكس الرغبة في المنفعة التي تحملها الفكرة. وهناك أمر آخر يتعلق بمنفعية الأفكار وهو أنه ما من فكرة تنتشر لخيرية أو شرية ذاتية، أو لخيرية الانسان والمجتمع أو شريتهما، فنفع الفكرة وضررها "بحسب المحل الذي توجد فيه"، وإن وجد الضرر فليس على الإنسان أن ييأس فلعل في الضرر لذة "مما يجعلها نافعة من جهة اللذة".

ويشير العدوي إلى أمر مهم وهو ضرورة الفصل بين صراع الأفراد بالأفكار وصراع الأفكار التي تدور بين الأفراد، فالأول فيه "شر وبيل" أما الثاني فهو "خير جزيل"، وتصارع الأفكار في حقيقة الأمر هو تصارع المنافع الكامنة فيها. وأخيراً يشير إلى أن الايديولوجيا تعسّر من رؤية منفعية الأفكار وهذا يستلزم خلع "نظارات الايديولوجيا جانباً مهما كان زجاجها كريماً واطارها غالياً"، وينهي المقال بأن "الايديولوجيا هي نفسها مجموعة أفكار، فهي إذا غائصة في النفعية".

أطلت في عرض مقال الأستاذ خميس العدوي لأعطي للقارئ صورة واضحة عن أطروحته في هذا المقال تمكن من فهم أفكاره فهماً عادِلاً. على وجه العموم يطرح مقال العدوي موضوعاً غاية في الأهمية وهو موضوع الأفكار، ولأن العدوي كان شمولياً في أطروحته فأن أمر هذه الأطروحة لا بد وأن يكون محور اهتمام الكثيرين، كلٌّ من زاويته، أو لنستخدم لغة العدوي، كلُّ بحسب منفعته. سوف يكون مقالي هذا مبنياً على جملة من الوقفات النقدية حول أطروحة مقال العدوي، وهنا أشير بأنني لا أنطلق من فلسفة أو فكرة محددة أخرى، بحيث أقيس بناءً عليها أطروحة العدوي، اللهم سوى من منفعة واحدة هي السعي نحو الفهم البسيط المنتظم الممنهج لأطروحته بحثاً عن وضوح عناصر تلك الأطروحة وتتبعاً لتناغمها الداخلي وتماسكها ونظمها الفكري.

أولى الوقفات تتعلق بعنوان المقال، فالمقال يحمل عنوان "أنساق البرجماتية"، وبغض النظر عن أمر تعريف مصطلح "النسق" وهو أمر سنعود اليه لاحقاً، إلا أن المقال لا يتعرض إلا لنسقين من تلك الأنساق هما النسق الشعبي والنسق الفلسفي، أما بقية المقال فطرح لفكرة العدوي حول منفعية الأفكار، وأرى أنه لو كان العدوي قد عنون مقاله بعنوان يقدم أطروحته بشكل أنفع مثل "منفعية الأفكار" لتماسك العنوان مع بقية المقال على نحو يفوق ترابط المقال مع العنوان الحالي "أنساق البرجماتية".

الوقفة الثانية تتعلق بأفق الأطروحة وضيق مقام مقال العدوي، فأطروحة تتعلق بمثل هذا الموضوع، وبعمومية ضخمة كما هي في المقال، لا يمكن أن يشملها مقال من صفحة ونصف في ملحق بحجم التابلويد في ملحق شرفات، بل أن مثل هذه الفكرة تتطلب سلسلة من المقالات بل كتاباً أو أكثر من كتاب حتى تتضح الأطروحة بشكل أفضل يعكس ما يريده العدوي. ولم يفت هذا الأمر كاتبنا حيث أشار إلى أن بحث كل أوجه "قانون الفكرة" في مقالة واحدة "يستغرق طويلاً، كما أن تداخل الأوجه يربك عرض القانون في مقالة كهذه"، ورغم مسعى التوضيح هنا إلا أنني في واقع الأمر لم أفهم هذا الاستدراك التقديمي، ذلك أن الكاتب يدرك ما بين يديه من موضوع عظيم، ويدرك أنه يستغرق طويلاً (رغم عدم فهم التام لمعنى الاستغراق الطويل)، فما الضير في أخذ الوقت والحيز من المجال في صيغ أخرى غير المقال في صفحة ونصف من شرفات؟ ثم ما معنى أن تداخل الأوجه يربك عرض القانون في مقالة كهذه؟

والحقيقة أنني بقدر ما أفهم أن موضوعاً مثل ما يسميه العدوي "قانون الأفكار" هو موضوع جليل يتطلب الكثير من القول والحيز الكتابي والنشري إلا أنني أجد أن مقال "أنساق البرجماتية" قد أتى على كل شيء من أطروحة العدوي التي ملخصها أن المنفعة هي قانون الأفكار. وبقدر رغبتي في معرفة المزيد إلا أنني أفهم أيضاً أن أي كتابة أخرى للعدوي حول هذا الأمر لن تكون إلا تفصيلاً وشرحاً لأطروحته المقدمة في هذا المقال، إلا إن كان يقصد بمصطلح "قانون الأفكار" شيئاً آخر غير الذي أفهمه وقدمه مقتضباً في هذا المقال.

تتعلق الوقفة الثالثة بشمولية الأطروحة. الحق أقول أنني شعرت برهبة حينما قرأت المقال: هل العدوي جادّ فيما يقول؟ أهو فعلاً يبحث عن "قانون للأفكار"، أعني القانون الأم الذي سوف يفسر منشأ كل فكرة ومسيرها ومصيرها؟ هذا أمر جلل ومرتقى صعب، ولست هنا في معرض التشكيك في المقدرة، ولكن في معرض التنبيه إلى ضرورة التأني في الفكر وفي الطرح وعدم تهجم الأمور، رغم إغراء مثل هذه المواضيع، وإغراء إمكانية استخدام بعض المفاهيم العمومية مثل المنفعة. ثم أن هذا موضوع قد كتب عنه الكثيرون وظهرت لأجله فلسفات ومدارس ضخمة، لم تقل أيها بحسب علمي أنها سوف تطرح "قانون الأفكار" بهذه الصورة التعميمية والحاسمة في آن. وليسمح لي الأستاذ العدوي أن أقول أن موضوعاً مثل هذا لا يمكن أن يُقَدَّم بطروحات عمومية، ولن أقول تبسيطية، لا تحمل جديداً عميقاً يستوقف الفكر والمفكِّر. فلنتواضع في الفكر، ونتأمل، ونتمهل، في الفكر عموماً، وفي القضايا الجليلة على وجه الخصوص.

كيف ذلك، وهذه الوقفة الرابعة، ونحن إزاء مقال لا يفسّر لنا مصطلحاته الرئيسة، أعني البرجماتية والفكرة ذاتها. ودعك من التعريف الذي قدمه العدوي في المقال، فتعريفه دائري لا يوصلك إلى شيء، فالمنفعة هي كل منفعة ("سائر المنافع") والفكرة هي كل فكرة ("الأفكار قاطبة"). هنا موضع ربكة وضعف في المقال، فالعدوي لا يحدد مصطلحاته تحديداً دقيقاً يليق بعظم الموضوع بل يتكئ على الفهم الشائع لهذه المصطلحات، ولا يفارقه. ففي مقال يسعى لأن يطرح قانون الأفكار (أو "ما يشبه القانون" بحسب ما يقول) وهو قانون النفعية لا يوجد حتى مثال واحد على فكرة واحدة، ولا يوجد حتى مثال واحد على منفعة واحدة محددة (ودعك من التعميم حول المنافع الاجتماعية والاقتصادية ... الخ). حدد لي تعريفاً لمصطلح الفكرة وتعريفاً لمصطلح المنفعة واضرب لي مثالاً بل أمثلة حتى أفهمك وحتى أستطيع مناقشتك حول أطروحتك. والأمر ينسحب على مصطلح آخر هو "النسق" فما المقصود به؟ حيث نجده في غير موضع في المقال مثل "النسق الشعبي" و"النسق الفلسفي" دون شرح لمفهومه. وارتباطاً بقضية التعريف والتحديد، فإذا كان العدوي يرفض الفلسفة البرجماتية، وإذا كان يقصد بالبرجماتية معنى النفعية، فلماذا يورط أطروحته بالاضطراب نتيجة لاستخدامه مصطلح البرجماتية الذي يرتبط تلقائياً بالفلسفة البرجماتية الذرائعية، ولماذا لا يكتفي بمصطلح "المنفعة" العربي الذي يخلو من الاشارة الايحائية إلى الفلسفة البرجماتية؟

الوقفة الخامسة تتعلق بتقديم العدوي للفلسفة البرجماتية. أقول أولاً أنني لا أنطلق من البرجماتية هنا ولكن لا ينبغي أن يجرمنك شنآن البرجماتيين على ألا تعدل، والعدل هنا يتمثل في طرح رؤاهم طرحاً وافياً يعكس ما قالوه كما قالوه، لماذا؟ أولاً إحقاقاً للعدل الفكري، وثانياً لأن العدوي بنى فكرته حول منفعية الأفكار بناء على رفضه للفلسفة البرجماتية لأنها تنطلق من المنفعة المحسوسة والمادية والفورية، وهو في هذا لا يذكر لنا فيلسوفاً برجماتياً واحداً ولا اقتباساً واحداً من نص فلسفي برجماتي، وفي هذا ظلمٌ للقوم، وخطأ معرفي ينبغي تصحيحه. تقول الفلسفة البرجماتية بأن المعنى والحقيقة يكمنان، لا في المنفعة الفورية المادية المحسوسة كما يقدمها العدوي، بل في الاثار الواقعية والعملية لهما. وقد أتت البرجماتية رداً على الفلسفات المثالية التي تضع صحة الأشياء ومعناها وحقيقتها في المستوى الميتافيزيقي، حيث تقول البرجماتية بأن الأفكار ينبغي أن تقاس بحسب آثارها العملية، غير أن هذه الآثار العملية ليست مادية بالضرورة، فهناك الآثار والمنافع النفسية والاجتماعية وسواها (ويمكن لمن يريد الاستزادة حول هذا قراءة كتابات تشارلز ساندرز برس ووليم جيمس وغيرهم من فلاسفة البرجماتية).

الوقفة السادسة تتمحور حول منهج عمل أطروحة منفعية الأفكار، فالعدوي كما رأينا يقول بأن كل الأفكار فيها منفعة وأن الضعف أو القوة يكونان بحسب ضعف وقوة المنفعة، وأن الخير والشر في الأفكار بحسب المنفعة، وكذلك، وهنا الأخطر والأكثر خطلاً، فأنك إن رفضت فكرة فانك ترفضها لأن فكرة أخرى ذات منفعة هي التي تدفعك، وإن بررت فشل فكرة فان تبريرك هو الآخر فكرة بها منفعة. وحين يكون هناك ضرر من فكرة فهناك منفعة لها في مكان آخر، بل حتى فيها، ففي الضرر لذّة واللذة منفعة. والايديولوجيا أياً كان نوعها غائصة في المنفعة، والانسان مركب كثيف من البرجماتية. يا الهي! لا فرار، شرِّق، غرِّب، اذهب حيثما تشاء، افعل ما تشاء، ستجد المنفعة، وإن لم تجدها وتحاصر العدوي فسيقول لك "يا لك من أحمق! في حصارك إياي منفعة لك، وربما حتى لي أنا!".

هكذا إذا وفي غياب التحديد الاصطلاحي التعريفي وفي غياب تام للتمثيل وفي لا نهائية الاطروحة (ستجد المنفعة في كل فكرة عند كل انسان هو في ذاته جملة من المنافع) نقع في هذا الوضع المرتبك فكرياً، والذي لا يعني سوى أن العدوي في واقع المقام لا يقول شيئاً على وجه الاطلاق. أبداً. هنا أستدعي قول الفيلسوف كارل بوبر الذي قال بأن النظرية التي تفسر كل شيء لا تفسر شيئاً. كيف؟ لأنها غير قابلة للفحص والتمحيص، ولأنها غير قابلة للتخطئة. ولأنها غير متناهية التعميم.

في مثل هذه الطروحات أنت مدعو لا لتقتنع بالفكرة المطروحة بل لتعتنقها لأنها تمثل "الحقيقة"، وإن اعتنقتها وآمنت بها فسترى كل الكون بحسبها. وهنا مكمن الخطر. وهو خطر ايديولوجي تحققت ملامحه بالفعل في مقال العدوي حيث نجد العديد من التعابير التي توحي بالقطعية الايمانية لا بالتأمل والجدل الفكري. لنتأمل مثلاً في قطعية "حقيقة" الأفكار التي تنتشر تجلياتها في مقال العدوي، ويعني بها أن المنفعة جزء جوهري في الأفكار وهي "ليست شيئاً مضافاً إلى الفكرة، بل هي لحمتها الغائرة في نسيجها"، وهي "خاصية في الفكرة ذاتها". العدوي ينطلق من أنه قد حسم أمر "حقيقة الفكرة" تماماً، وهو في مقاله يفترض امتلاكه تلك الحقيقة أما من يختلفون معه فهم "بعض الحالمين" الذين يحملون تصورات لذيذة لكنها لا تمت إلى "الحقيقة" بصلة، واقوالهم "لا تحكي الحقيقة كما هي". من أين لك كل هذا؟ هذا حسم مخيف في قطعيته، ولن أقول بأنه متهافت في تبسيطه، لأمر "حقيقة الفكرة".

الوقفة الأخيرة تتعلق ببعض معالم ما يمكن أن يفهم على أنه تناقض داخلي في مقال "أنساق البرجماتية"، وهذا التناقض سببه عدم وضوح منطلق الأطروحة على مستوى الاصطلاح ومنهجها التعميمي الشمولي الدائري غير المتناهي، ويكمن هذا التناقض في مواضع ما يمكن أن أسميه الاحتراس الاطروحي، أي حينما يتباطأ سير الاطروحة العدوية لتستدرك أمراً لا يريد أن يعتقد القارئ على أنه يقرّه. مثال هذا في تفهم العدوي للبراجماتية الشعبية ثم استدراكه "إذا لم تعتد بالاساءة على الآخر" أي أنه يتفهم سعي عموم الناس وراء مصالحهم الشخصية حتى على حساب ما يعده المجتمع قيماً ومثلاً إلا إن أتى ذلك المسعى بالاساءة على الآخرين. هنا يفترض العدوي بأن المنافع البشرية ينبغي أن تكون متناغمة لا اضطراب بينها، والاستدراك هنا استدراك شعبي لا فكري، حيث يقول العدوي لعامة الناس: افعلوا ما شئتم إلا أن تسيئوا للآخرين باسم ما اقول، أو بمعنى آخر وباللهجة العمانية "سويوا بو تريدوه بس الشيمة لا تغلطوا على حد عن خلاف يقولوا أنا المسؤول". هذا التقلقل بين البعد الفكري والبعد الشعبي مضر لأطروحة العدوي، لأنه يطيح بها، وإلا فما معنى "الاساءة إلى الآخرين"؟ ولماذا تستثني هذا من المنافع الشعبية؟ ثم ماذا لو كان في "الإساءة إلى الآخرين" منفعة لغيرهم؟ ألا يمكننا أن نقول مثلاً، ولأجل تتبع إغراء القول الشائع أن الدرهم الذي يذهب إلى جيب غني هو درهم ينقص من جيب فقير، بأن في كل منفعة لعمرو إساءة من نوع ما لزيد؟ أو على الأقل فيها نقص من منفعة زيد، وفي هذا إساءة له؟

مثال آخر على هذه الاستدراكات المربكة مفهومياً يوجد في حديث الاستاذ العدوي عن براءة الأفكار من الخيرية والشرية اللتين هما من خصائص المنافع، حيث يقول "على أنني لا أنكر أن تكون هناك فكرة ضارة ولكنها بحسب المحل الذي توجد فيه". لماذا يذهب العدوي مباشرة إلى عدم إنكار هذا الاحتمال؟ السبب الذي افترضه هو الخوف من "النسق الشعبي". أرى أن المنطق بحسب الأطروحة يكمن في إثبات هذا الإنكار فقولك بوجود فكرة ضارة (ولو أنك أضفت لها قولك "بحسب المحل الذي توجد فيه") يناقض تماماً ما قدمت له من أن الخير والشر والنفع والضرر ليس من خصائص الأفكار بل من خصائص المنافع. ثم ألا يحتمل أن تكون الفكرة الضارة لأحدهم نافعة في ذات لحظتها للآخر؟ بل حتى لنفس حاملها؟ ألا يحتمل أن يكون في ضررها نفع؟ مثل الدواء المرّ (المرفوض في طعمه المرّ) الذي هو فائدة لشاربه؟ ومثل الوسم الحارق للجسد مع احتمال فائدته الطبية في شفاء الأمراض؟ لا اعتراض عندي على فكرة "الفكرة الضارة" ولكن اعتراضي على عدم تناغمها مع الطرح العام في المقال، ولعدم وضوح داعي الاستدراك فيها، ولإيقاع هذا الاستدراك الاطروحة في الاضطراب الداخلي المخلّ.

والمثال الثالث على الارتباك المفهومي يوجد في الحديث عن الصراع بين الأفراد والصراع بين الأفكار، حيث يقول تارة عن أثر الصراع بين الأفكار على المجتمع أن فيه "خير جزيل" لأنه يعني انتقال سلمي للمنافع، وتارة أخرى أنه "لا يحقق أكثر من منفعة لذة الانتصار، وهو انتصار شكلي على كل حال". ما معنى كلمة "انتصار" هنا؟ وما معنى الخير الجزيل؟ ومن الذي يحدده؟ وما معنى "انتصار شكليّ"؟ ومن الذي يحدد الشكلية؟ ولماذا أضفت "على كل حال" إذا كان في لذة الانتصار منفعة؟ ألم تقل بأن في المضرة منفعة "من جهة اللذة" أحياناً؟ فلماذا هنا تستدرك وتقلل من أمر لذة الانتصار وتحيلها إلى محض أمر شكليّ لا عمق فيه؟

وهناك تساؤل مهم أخير: كيف يمكننا الفصل بين صراع الأفراد وصراع الأفكار؟ وهل الأفراد إلا مجموعات من الأفكار مثل ما ذكرت بنفسك (الانسان "مركب كثيف من البرجماتية")؟ وإذا كان الانسان مركباً كثيفاً من البرجماتية (أي من المنافع) فكيف يمكننا أن نتصور الصراع؟ لا يوجد صراع بحسب هذا وإنما في صراع البشر تزاحم في المنافع. آها! بحسب هذا فقد وقع في القرن العشرين تزاحمان عالميان كثيفان للغاية للمنافع. فكان التزاحم الأول بين عامي 1914 و1918 وانتهى بمقتل أكثر من 15 مليون شخص استمتعوا بلذة غيابهم عن الحياة (وفي هذا منفعة)، اما التزاحم الثاني العالمي للمنافع فوقع بين عامي 1939 و1945 وانتهى بمقتل أكثر من 70 مليون إنسان نالوا نفس المتعة التي نالها من قتل في التزاحم المنفعي الأول. وفي عمان هنا تزاحمنا مع البرتغاليين في المنافع فجاء البوكيرك وقتل من قتل وجدع الأنوف وسمل العيون، وكان في هذا منفعة أي منفعة للجانبين البرتغالي والعماني. ما رأي العدوي في هذا الضرب من التزاحم بين الأفراد الذين هم مركبات كثيفة من البرجماتية؟

هناك 3 تعليقات:

  1. عابر من هنا27 مايو 2009 في 3:10 م

    كنت قد قرأت مقال العدوي في آنه
    وكانت لي موقف إيجابي منه كثيرا.. للمقال أعني

    أما هنا فهذا مقال لم أنل منه نقيرا
    كأنني لم أر الدكتور عبدالله بعد...

    لكني أؤمن أني بحاجة لقراءة أخرى أكثر تأنيا، علني لم أر نفسي ربما وليس الدكتور!!

    محبتي الخالصة على هذا التلاقح الرائع لولا بعض الشطوح


    كل الود

    ردحذف
  2. تحليلات دقيقة منك يا دكتور تدل على معرفة بموازين مثل هذه المواضيع،

    أوافق الدكتور عبدالله على عدم قابلية طرح موضوع كهذا بهذه العمومية أو "التبسيطية" في صفحة ونصف من "تابلويد".

    ولكني ألا ترى أنه بمجرد وجود هذه الفكرة في نقدك، انتفت الحاجة إلى الإطناب في نقد المقال من جوانب مثل نقص التعاريف والأمثلة (والتي في رأيي لوحدها لن تكفيها حتى جريدة بكاملها).

    واسمحلي لم أعرج على تعريف المصطلحات الواردة في تعليقي مثل: "فكرة" أو "إطناب" أو "نقص" أو "جريدة" لانتفاء المنفعة في ذلك (وفي ذلك وحده منفعة)

    علوه دار راسي، أحسني جالس أشوف الأرض من القمر.

    خالص الود
    دخيل على عالم القمر

    ردحذف
  3. صديقي د. عبدالله_
    ما علاقة البحث في (قانون الأفكار) بالتواضع في الفكر إن كان العدوي قادرا؟
    ليتك ما كتبت هذه الجملة.

    محمد الحضرمي

    ردحذف