السبت، 30 مايو 2009

"سكون الوقفات (د.الحراصي وهوس المصطلح)": مقال يرد على وقفاتي مع برجماتية الأفكار لخميس العدوي

نشر منتدى فرق (الفلسفة الصغرى) مقالاً أعجبني للغاية يحمل عنوان سكون الوقفات (د.الحراصي وهوس المصطلح) ومعرف كاتبه في المنتدى هو "المشائي"، رداً على مقالي وقفات حول مقال خميس العدوي "أنساق البرجماتية". أنشر هذا المقال الرائع هنا نقلاً عن منتدى فرق.



سكون الوقفات (د.الحراصي وهوس المصطلح)




اطلعت في منتدى الحارة قبل يومين على المقال المنشور في ملحق شرفات بتاريخ 27-06-2009 للدكتور عبدالله الحراصي بعنوان " وقفات حول مقال خميس العدوي أنساق البراجماتية", وهو من القلة الذين كتبوا نقدا لفلسفة "أنساق البرجماتية" عند العدوي, حيث لغة التغاير الفكرية في الصحافة المعنية بالثقافة في عمان ما تزال ضعيفة, شعرت بحراك ذاتي يجيش في نفسي بعد قراءتي لمقال الدكتور الحراصي ليس من أجل كاتبه العدوي فهو لا يعرفني بهذا المعرف وربما يختلف هو الأخر في كثير من الطرح الذي سأقدمه هنا, وإنما انتصار للفكرة ذاتها قبل أن تهوي عليها معاول الأكاديميين بحثا عن مناهج مدرسية يطبقونها في المحيط الثقافي النخبوي بقدر ما كانوا وما زالوا يطبقونها في محيطهم الأكاديمي.



النقد قبل كل شيء ليس سوى عملية تفكيك عناصر المقروء, ومن ثم بناء المُفَكَكِ بلغة وفكر آخر, تتقارب وتتباعد من الفكرة الأساس, لتستمر دورة الفكر معرفيا من طور إلى طور زمني أخر, من أجل أن تقدم نظريات جديدة أو تكتفي بالتفتيش عنها. لا يعتري عملية النقد في الغالب (قبول- رفض) بشكل تلقائي إلا في المقالات المبرمجة على نتائج قاطعة كالمعادلات الرياضية, أما تلك اللغة التي أصبح النقاد يستخدمونها اليوم فهي أشبه في نظري بلغة الخطاب الديني (حلال- حرام), وإن كنت أقدر كثيرا ذلك الجهد الكبير الذي بذله الدكتور الحراصي لقراءة نقدية لمقال "أنساق البراجماتية" الذي خرج منذ وقت لا بأس به, غير أن تلك القراءة كرست عندي قناعة طالما رأيتها عند الأكاديميين في استحضار ذات المناهج التي تثقل عقول طلابهم في الجامعات ليعيدوا استحضارها في الثقافة المتخصصة سواء أكان ذلك بوعي أو دون وعي, نتيجة المساحة الكبيرة التي يشغلها تَكْرَارُ تلك اللغة البحثية في الجامعات بالنسبة للأكاديميين فتأخذ حيزا في العقل المفكر.



"وقفات" هذا المصطلح الذي يحمل دلالات الأضداد المتناقضة في معانيها الظاهرة والمعاني الباطنية التي يرمز إليها, معاني تتشكل من لغة حروفه الجامدة التي تستدعي السكون والجمود وهو عكس الحراك, وبين دلالاته المعنوية الباطنية التي تفرض حراكا ذهنيا يقتضيه الـنظر والتأمل وعدم الهرولة العمياء لإعادة رسم المنظور من جديد, فـ "الوقفات" تمارس انفصالا لزوميا عند الواقف, الساكن بجسمه المتحرك بذهنه, أشبه بالانعطاف المقرون بالدهشة التي تلهب زوايا الفكر, هذه المعاني التي يغذينا بها مصطلح "وقفات" الذي استخدمه د.الحراصي لم تنعكس دلالته كثيرا في مقال صاحبه, فقد كان ذلك المقال ينادي بحراك إلى الوراء لإرجاع الفكر الفلسفي إلى حظيرة المناهج المعرفية النمطية التي لا يمكن قبولها بشكل دوجماتي في القراءات الفلسفية التي لا تخضع دائما عند ولادة الفكرة لمثل هذه الطرق الجامدة, خاصة تلك القراءات الذهنية الأولى التي تمهد لمواضيع ونظريات فلسفية مستقلة.



"وقفات" الحراصي الستة لا تعدوا أن تكون وقفتين أو ثلاث تتدحرج مكررة نفسها بشكل تلقائي تلازم وقوفها الظاهري من وقفة إلى أخرى, بيد أني أولا أود أن أُبدي ملاحظة شكلية في الدواعي التي دعت الكاتب إلى إعادة الأفكار التي ارتأى أنها المحطات الأساس التي يتشكل منها مقال العدوي, هذا المنهج غالبا ما يُطلب من طلبة الجامعات, وليس في مقال فلسفي وضع لنخبة معينة من القراء هضموا مقال العدوي سابقا, إن تلخيص المقالة الفلسفية في أسطر هو اقتطاع لوحدوية فكرها التكاملي بغير حق, فكل عبارة وكلمة فضلا عن فكرة لها الحق في التأويل المتعدد الذي يجعلها تقتحم أطوار الزمن المعرفي, تأويلا تفرضه السياقات المعرفية للمقال والحصيلة المعرفية للقارئ لكي تتوازن وتنسجم عمليات الفهم والهضم.



قراءة العدوي للفكرة في مقاله "أنساق البراجماتية" ليست قراءة ابستيمولوجية بالمعنى التقليدي لها بل هي قراءة تأملية ذهنية لا تخضع لذات المعايير التي تخضع لها البحوث المعرفية التي تحاول تفكيك نص أدبي أو ديني أو تصل إلى حقيقة تاريخية أو معادلات حسابية, إن مقال العدوي هو عبارة عن تأملات في صيرورة التأملات, أو تفكير في التفكير, أو إعادة التفكير في حقيقة الفكرة, ليس بحاجة إلى توضيح المفاهيم والمصطلحات المستخدمة كالفلسفة الأنطولوجية الحديثة التي أصبحت تخدم جانبا معينا من الحقول المعرفية كالهندسة العلمية والطبية لضبط المعرفات.



سأتجاوز الوقفة الأولى كونها خطئا مطبعيا يتحمله ملحق شرفات ونشكر الحراصي على إثارته, لننتقل إلى الوقفتين الثانية والثالثة وهن وقفتان متكررتان, أعني في المعاني التي تحويهن. أثار الدكتور الحراصي مسائل عديدة تتعلق تارة بعمومية المقال وتارة أخرى بالحيز الكتابي وأخرى بالمساحة الزمنية للكتابة معرجا بعدها إلى قانون الأفكار مطلقا ومن ثم إطلاق حكمه الذي ينص على أن كل ما سيأتي بعد ذلك من قراءات حول هذا الموضوع لن يقوى على الخروج من نطاق هذه الأطروحة تفصيلا وشرحا, هذا التعريج النقدي لا يستند إلا على بعد واحد قائم على قاعدة نفي الكل من منطلق أن الجزء يقتطع الكل فيفقده غاياته, وهي حالة تطرف في التفكير لأنها ترى الشيء إما أبيضا أو أسودا,وجودا كليا أو عدما, فإثبات الشيء لا يعني نفي النقيض مطلقا, ونفي النقيض لا يعني بالضرورة إثبات نقيضه, العدوي عندما قدم لنا هذا المقال الرائع لا يمكننا أن نقول له: قف أيها العدوي وخذ وقتا طويلا لكي تشرح لنا أفكارك ومفاهيمك في مجلدات حتى نستطيع أن نفهمك, أو حتى تستطيع أيها العدوي أن تقدم لنا الموضوع من كل زواياه الخفية الغامضة والظاهرة منها.



الحراصي بدأ يحاكم العدوي في المساحة الزمنية المتعلقة بصياغة الفكرة, مطالبا إياه الاعتكاف طويلا ليحشر لنا ألاف الصفحات شارحا تأملاته في "قانونية الأفكار" بعد أن يبلغ من العمر عتيا, "قوانين الأفكار" لا تختص بالعدوي ولا غيره بل تتشكل عبر تزاحم الأفكار في العقل الجمعي, فهي ليست بضاعة تصف وتكيس ثم تنشر, أو بإيضاح أكثر ليست مثل الترجمة التي يستنسخ المترجم نصها الأصل بلغة أخرى لتبقى جامدة سالبة لكثير من المعاني الحقيقية للنص الأساس, الأفكار ليست نصا جامدا بل من شرائطها التقاء كائنات أخرى بها لتجعلها ولادة متحركة في كل لحظة من لحظاتها الزمنية, أي كل ثانية من ثوانيها من أجل استمرارها, وبالرغم من أن العدوي قد أوضح في مقاله بأن "عَرْض أوجه الفكرة كاملا يحتاج إلى وقت طويل" إلا أن الدكتور الحراصي لم يرتض ذلك وقد نسي أن الفلسفة البرجماتية ذاتها التي تسيطر على كثير من الأنظمة اليوم بدأت بمقال لمؤسسها برس, فالفكرة أيا كانت لا بد أن يلازمها الزمن للتشكل حتى تتطور وتتكامل شرائطها, بل حتى الديانات الربانية فضلا عن المذاهب الاسلامية لم تأت دفعة واحدة بل كانت تتدافع والسياق الزمني.



ربما نتفق نوعا ما أن المطروح موضوع دقيق وجليل بيد أن ذلك لا يمنع من بعثرة بعض أجزائه لكي يعاود "التزاوج" من جديد لأنه بكل بساطة فكر جمعي يحق لكل متأمل أن يضيف إليه ما شاء ليجعله يتنقل بين أطواره ارتفاعا لا هبوطا, فليس الموضوع قابعا داخل خيال العدوي - وإن كان له الفضل في تأسيسه- يعطينا منه قدر ما يشتهي أو نشتهي نحن.



يبدو الحراصي متسائلا عن "قانون الأفكار", ومع أن العدوي لم يوضح إلى ألان تأملاته في الهياكل الرئيسية التي تمثل أعمدة الفكر أو ما يسميه العدوي بالقوانين الحاكمة للفكرة - إن صح التعبير- فإنني على يقين بأن من كتب "المتبقي" و "براجماتية الفكرة" لا يمكن أن يعني بهذا المصطلح ذات المعاني التي تتضمنها مفردة "قانون" في المعادلات الرياضية, لأن الفكر في معناه الفلسفي يتكئ على أعمدة التفكير الحر الذي يعتمد كثيرا على الكائنات الحية التي تقاسمه فلسفة الاستمرار فتدخل عالمه فتمتزج به وتختلط كما تختلط الطباع المكتسبة وراثيا من جيل إلى أخر.



الدكتور الحراصي يعيب على العدوي كونه قد أقصى كل جديد يفسر قانونية الأفكار ببرجماتية التي لا يستطيع – حسب الحراصي- أن يضيف إليها جديدا غير ما سبق, وهذا الحكم الصادر لم ينبن – حسب فهمي- سوى على إنكار برجماتية الفكرة ذاتها – التي طرحها العدوي- كركن أساس من أركان حركة الأفكار وانتشارها, ونحن كقراء ربما نستطيع أن نسائل الحراصي عن قدرته على أن يأتينا بفكرة واحدة فقط بريئة من عنصر المنفعة؟ بالطبع لن يجد لأن الفكرة والمنفعة تتولد كل واحدة من الأخرى, أو بعبارة أخرى إن المنفعة كائن حي تعيش داخل الفكرة لا تنفصل عنها, فهي حيزها الذي تسكن فيه كالعرض الذي يسكن الجوهر فيشغله غير مفارق له, ومن هنا انطلق العدوي منتقدا الفلسفة البرجماتية ليس لكونها تقيس صدق الفكرة بآثارها الواقعية عكس الحقيقة الميتافيزيقية بل لأنها توحي بأن هناك أفكار بريئة من المنفعة.



ذكرني د.الحراصي في وقفته الرابعة بالامتحانات التي كنا نعطى إياها في الثانوية العامة عندما قال مخاطبا العدوي: " حدد لي تعريفاً لمصطلح الفكرة وتعريفاً لمصطلح المنفعة واضرب لي مثالا؟" هذا السؤال المدرسي وربما ما يزال يستخدم في بعض الجامعات يبين فلسفة التعليم المنهجية التي يتبعها بعض الأكاديميين ويريدون أن يفرضوها حتى في المواضيع الفلسفية فضلا عن القراءات الذهنية الأولية التي تُكَوِّنُ عناصر الموضوع الفلسفي بعد ذلك, العدوي لا يقدم لنا هنا موضوعا فلسفيا متكاملا ولا يقدم لنا نقدا تفكيكيا لموضوع البرجماتية(النفعية), الذي بحث كثيرا, بل جل ما يقدمه إفرازا ذهنيا مغايرا لهياكل الفكرة المتقومة بها, فكأنه يرفض الفلسفة الميتافيزيقية التي غالبا ما تنظر إلى الفكرة المتوارية خلف الطبيعة لدراستها كحقيقة قائمة بذاتها دون النظر في منافعها المتلبسة بها, كما يرفض كذلك الفلسفة البرجماتية التي تقيس صدق الفكرة بمنافعها التي تقدمها في عالمها المادي(المعنوية كالآثار الإيمانية والحسية الأخرى), يقدم لنا العدوي قراءة مستقلة للفكرة من حيث التصاقها بالمنفعة التي لا تنفك عنها, أي من زاوية أخرى تمهيدا لا نضجا لأن الأخير يحتاج إلى دراسات وتأملات عميقة.

د.الحراصي ينتقد العدوي كون هذا الأخير يريد أن يقدم للأفكار قوانين تفسر "مسيرها ومصيرها" ولا أدري من أين أتى د.الحراصي بهذا الاستنتاج؟ لأن الأفكار في جوهرها يستحيل تقييدها بأية قوانين, وهل التعريفات ليست إلا قيودا أشبه بالقوانين! فكيف إذا قيدناها بالأمثلة التي يطلبها الحراصي! كيف نطلب تعريفا للفكرة المعهودة؟ وكيف نطلب تعريفا للمنفعة المعهودة؟ وأخشى أن التعريف الذي يطلبه الحراصي من نوع التعريف الجامع المانع! على أن العدوي لم يكن ضانا بالأمثلة فقد قدم لنا أمثلة كثيرة للمنافع منها: " المنفعة المالية والاقتصادية، والمنفعة الاجتماعية؛ بما فيها الجاه الاجتماعي،ومنفعة تحقيق الذات، ومنفعة الحفاظ عليها، ومنفعة ملء الفراغ النفسي، ومنفعة اللذة والسعادة، ومنفعة ستر العورات؛ الخلقية والاجتماعية والفكرية، ومنفعة إحقاق القيم وتنصيبها، ومنفعة التملك، ومنفعة حب الانتصار، ومنفعة تصور امتلاك الحقيقة المطلقة، ومنفعة النخوة والشهامة، ومنفعة تذوق الجمال، ومنفعة درء المفسدة، والمنفعة الحقيقية، والمنفعة الوهمية، والمنفعة الفيزيقية، والمنفعة الميتافيزيقية، وهكذا سائر المنافع. ثم يضرب العدوي أمثلة أخرى على ذلك: " فالاجتماعي قد يروِّجها باسم الانسجام والألفة التي تحققها الفكرة داخل المجتمع، والسياسي يروِّجها لما تحققه من أمن اجتماعي أو نهضة وطنية، والاقتصادي بما تؤدي إليه من رخاء وزيادة الدخل، والديني لما تحققه من اطمئنان إيماني وخلاص أبدي، والناس بحسب اختصاصهم وحسهم النفعي أيضاً لديهم قدرة على البحث في المجتمعات عما يكشف للأفراد من منافع للفكرة التي يطرحونها.



"التعريفات" ليست سوى توصيفات قيديه تخنق المعرف, وغالبا ما تستخدم في الحقول الجامعية التعليمية عندما يلقن الطلبة حفظ المفاهيم تبسيطا لهم للصورة التي يراد شرحها, أو تستخدم في الهندسة العلمية المعنية بالبرمجيات والهندسة الطبية وغيرها أما دراسة الأفكار وفلسفتها فهي تعني تجاوز المفاهيم التي تسعى إلى تضييق الفكر عن طبيعته السابحة في عمق أجزائه الشيئية.



ينتقد د.الحراصي في وقفته الخامسة العدوي كونه لم يتطرق معرفيا إلى بسط الفلسفة البرجماتية ولا فلاسفتها ولا ما قالوه عنها, وكأنه يريد منه أن يجعل من مقال صغير - من حيث عدد السطور- نصفه في إعادة ما قاله البرجماتيون عن فلسفتهم, وقد ساق الحراصي في ذلك تعريفا لفلسفة البرجماتية لم يضف جديدا سوى تأكيد التفسير الذي سبق أن قدمه العدوي, فهذا الأخير يقول: " المذهب الفلسفي البرجماتي، فيعني أن الشخص مؤدلج بالفلسفة النفعية الذرائعية؛ التي تحمل مضامين الممايزة بين الأفكار المنبنية على الحقائق الكونية بما فيها الخُلُق والمُثُل، وبين الأفكار المنبنية على المنافع والفوائد بغض النظر عن خيرها وشرها" ثم يقول: " وعلى اعتبار مصادرتها جوانب من الحقيقة والخُلُق، واعتماد النفعية الفورية، والاقتصار على المنفعة المحسوسة المتداولة،وقياس صدق الفكرة بمنفعتها؛ في الحال الفلسفي", هذا ما قدمه العدوي عن الفلسفة البرجماتية, أما الدكتور الحراصي فقال: " تقول الفلسفة البرجماتية بأن المعنى والحقيقة يكمنان، لا في المنفعة الفورية المادية المحسوسة كما يقدمها العدوي، بل في الاثار الواقعية والعملية لهما. وقد أتت البرجماتية رداً على الفلسفات المثالية التي تضع صحة الأشياء ومعناها وحقيقتها في المستوى الميتافيزيقي، حيث تقول البرجماتية بأن الأفكار ينبغي أن تقاس بحسب آثارها العملية، غير أن هذه الآثار العملية ليست مادية بالضرورة، فهناك الآثار والمنافع النفسية والاجتماعية وسواها", وعندما نقارن بين الصيغتين لا نجد اختلافا كبيرا بينهما, فالمنفعة المادية الفورية هي أثر من الآثار الواقعية والعملية, ولا نجد أن العدوي قد هضم حق البرجماتيين وفلسفتهم القائمة على قياس صدق الفكرة بمنافعها التي تقدمها, وكأنه توجد أفكار بريئة من المنفعة, وأنا لا أستبعد أبدا أن يكون النظام الرأسمالي قائما على هذه الفلسفة الوحشية.



ثم من ناحية أخرى, هل يمكن أن يطلب من كاتب لمقال أن يعيد كل النتاج التي قدمتها البرجماتية, العدوي أوضح علته مباشرة من أن النسق الفلسفي للبرجماتية لا يعنيه كثيرا في هذا المقال "كونه مؤدلجا وقاصرا للأفكار يوحي بأن هناك أفكار غير برجماتية"، وهي العلة التي من أجلها هاجم العدوي تلك الفلسفة, أو بعبارة أكثر صحية هي العلة التي من أجلها أخذ العدوي يبحث عن معاني جديدة, ولذلك عزف العدوي عن إعادته مكتفيا بتقديم فكرته الجديدة, التي لا تُعْنَى بقياس صدق الفكرة من عدمه, كما لا تعنى بالآثار العملية المنفعية التي تقدمها الفكرة, وإنما يدرس نظرية تجرد الفكرة عن منافعها, هل هي حقيقة أم وهم؟





هناك فرق كبير بين "حقيقة الفكرة" ميتافيزيقيا أو برجماتيا وبين هياكلها التي تتداخل معها, البحث عن "حقيقة الفكرة" التي ربطها الحراصي بأطروحة العدوي عمدا أو عفويا هو بحث لا متناه لاختلاف ذوات الأفكار, أما البحث عن الهياكل التي تغذي الفكرة أو التي تشكل فقراتها الأساسية المتكونة منها هو أمر أخر, لأننا لا يمكن أن نجرد الفكرة من ستائرها وأرديتها التي تتقمصها كل حين, لا يمكن أن ندرس الفكرة بمعزل عن عللها المتشكلة من بنيتها المعرفية, ليس وصولا إلى حقيقة لا يمكن الشك فيها بل محاولة فهمها وفق سياقها المعرفي, العدوي فيما أحسب يقدم لنا الفكرة بشكلها العام لا يقيدها بأمثلة تختزل معانيها المتدفقة لذلك فهو يفسر بعض مكوناتها, أي فكرة كانت.



وقفته السادسة ليست سوى اجترار لما قيل سابقا, مضافا إليه حكما جديدا يتمثل في تناقض الأطروحة لأنها لم تقم بتوضيح مشكلة منظومتها المفاهيمية, إلى جانب منهجها الشمولي الدائري, حيث يقول الدكتور الحراصي : " وهذا التناقض سببه عدم وضوح منطلق الأطروحة على مستوى الاصطلاح ومنهجها التعميمي الشمولي الدائري غير المتناهي", ليخلق لنا في هذا الوقفة مفهوما جديدا لم يضع له تعريفا جامعا مانعا! يلتزم بما ألزم به غيره كمفهوم " الاحتراس الأطروحي", الذي فسره كمن يفسر الماء بعد الجهد بالماء, أما انتقاده لمنهجها الشمولي الدائري غير المتناهي – حسب تعبير الحراصي- ووصفه لمقالة العدوي, فإن هذا المنهج هو أساس الفلسفة, وهو الذي يمثل حيويتها ونشاطها وسلوكها لفهم مادة الكون بكل مفرداته الجزئية, الفلسفة ليست سوى بعثرة للأفكار القارئة للأفكار ومن ثم محاولة عقلنتها كما هي لنتمكن من فهمها هكذا في دوامة دائرية لا تنتهي, أما المدارس الفلسفية فهي مناهج تتساقط مع الزمن لسنا ملزمين بنتائجها وأطروحاتها, فإذا انتهت هذه المدارس الفلسفية تموت الفلسفة!, أما الأسس التي وضعها الفلاسفة المسماة بـ "البراهين" ليست سوى آلات تساعد الفهوم لتحاول عقل الأشياء المتبعثرة, وأتمنى أن أرى يوما ما مفهوم "حداثة الفلسفة" التي لا تلتزم بشيء أبدا.





" الارتباكات المفاهيمية" التي قدمها د.الحراصي لم تسلم من تلك العقلية التي تفكر في المصطلح والأمثلة ليتساءل عن معنى "الانتصار" ومعنى "اللذة" ومعنى "الخير الجزيل" ويطلب علل مفردة " على كل حال", إنه هوس بالمصطلح والأمثلة التي تقطع أوصال الفكر وتختزلها لدرجة البلاهة فالقارئ يتماهى في الأمثلة والمصطلحات لينظر من خلالها إلى الفكرة الأم التي أرادها صاحبها, فهو لا ينطلق من الفكرة لفهم المثال بل غالبا ما ينطلق من المثال لفهم الفكرة, وهو هوس أكاديمي.



يقف بعدها الدكتور الحراصي متسائلا عن كيفية الفصل بين صراع الأفراد وصراع الأفكار, وكأنه يتصور أن هناك فريقان فريق يتمثل في صراع الأفكار الهوائية وفريق أخر يتمثل في صراع الأبدان الجسدية بمعزل عن الأفكار, جامدة كتلك الأحجار التي تتدحرج من جبل علٍ, وقد دهشت بالفعل في نهاية هذا المقال حينما وجدت الحراصي يتساءل عن الحدود الفاصلة بين صراع الأفراد وصراع الأفكار, ضاربا بالحربين العالميتين كأمثلة, هل يعقل أن الحراصي لا يدرك حدود الصراع بينهما ولا الغاية التي أرادها العدوي من حقيقة فلسفة ضبط الصراع.



تناغم المنفعة مع الفكر ليس عيبا في الفكرة ذاتها بل في المنفعة التي تحوي الخير والشر, فتصبح الفكرة خيرة بمنفعتها الخيرة وتصبح سيئة بمنفعتها الضارة, وهذا ما يعنيه العدوي – حسب فهمي- بصراع الأفراد فهو صراع برجماتي في الأساس غير أنه قائم على الأنا أي الذات المتعالية بذاتها لا بصراع أفكارها, كون الصراع الفكري حقيقة كونية لا يمكن تجاهلها إلا من يعتقد امتلاك الحقيقة المطلقة التي يختص بها الله وحده فقط, وحتى في هذه فنحن متعلقين بمنفعة لا ننفك منها.



إن صراع الأفكار لا يستدعي خوفا لأن الزبد يذهب جفاء طال أم قصر وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض, وإنما يكمن الخوف من الاعتقاد السائد بأن الفكرة واحدة فقط غير متعددة, مما ينتج عنه صراعا دمويا بين الأفراد نتيجة إقصاء لغة " التسامح" كمنفعة مغيبة التي تتفهم حقائق الاختلاف المنفعي المتعلق بالفكرة, فتعدد الفكرة ليس سوى تعدد منافعها التي تسبح في فضاءات فسيحة, أما من يتصور بأن منفعته المرتبطة بفكرته هي الحقيقة المطلقة التي يمتلكها هو دون غيره فإنه بلا شك يؤسس انتشار الفكر المتطرف السياسي والاقتصادي واللاهوتي بل هذا الأخير هو أفضل من يمثل هذا النوع, وهذا لا يعني الشك في حقيقة الأفكار التي نعتقدها, ولابن رشد كلام جميل يتقارب من هذا لا أستحضره ألان وربما آتي به بعد ذلك.



صراع الأفكار وصراع الأفراد تحده كما قلت " لغة التسامح " التي يطالب بها العدوي ضمنيا لكي تمتزج مع انتقال الأفكار من سُلَّم إلى سلم أخر وبدون هذه اللغة فإنها حتما ستؤول إلى صراع بين الأفراد كما يحدث عبر التاريخ. "التسامح" هو الحد الفاصل بين اختلاف الأفكار وتعلقها بمنافعها المعنوية والمادية التي تمثل حقيقتها السامية التي إذا صودرت عنها انقلبت حتميا إلى صراع أفرادها.

" وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً ".




هناك تعليق واحد: