أعجبني كثيراً حوارٌ بين كاتبين بريطانيين على صفحات جريدة الجارديان البريطانية حول برامج تدريس الكتابة الابداعية. بدأ الحوار الكاتب أيان چاد بمقال يحمل عنوان The age of the gifted amateur has returned (لقد عاد عصر الكاتب الهاوي الموهوب) ونشره في الجارديان يوم السبت الماضي (2 مايو 2009). يبدأ چاد مقاله بالاشارة إلى ما تفرضه الانترنت من تغييرات في فكرة حقوق النشر، فالقراء الجدد يعتقدون بأن القراءة هي حقٌ من حقوقهم الانسانية، ولذا فانهم يتوقعون أن على الناشرين أن يوفروا ما ينشرونه بالمجان على الشبكة، وهذا بحسب چاد يضر بالكتاب وبالمحررين، فقد أدى هذا إلى تخلص الناشرين من كثير من الموظفين، كما لم يعد الناشرون يغامرون بنشر الكتب التي لا يثقون في أنها تدر دخلاً مضموناً.
يصف چاد كيف تطور الأمر تاريخياً حتى وصل إلى عصر نمت فيه الطبقة الوسطى وغيّر هذا الوضع أمر الكتابة وعلاقتها بالمال، حيث أخذ الناشرون يتعاملون مع الكتابة على اعتبار انها "مهنة"، فكان الروائي ولتر سكوت يأخذ راتباً مقداره 1300 جنيهاً لقاء نشر سلسلة من رواياته التي درّت عليه نحو 20 ألف جنيهاً في العام "ذهب معظمها في بناء قصره القوطي على الحدود الاسكتلندية". وعندما كان دكنز وبلزاك ودوماس يكتبون رواياتهم المربحة للغاية كان ثالوث قواعد نشر الكتاب الجديدة قد ترسخ، وهذا الثالوث يتكون من الكاتب والناشر والبائع. وأخذ الكتّاب يحصلون على مبالغ تدفع مقدماً على كتب لم يكتبوها. ويشير چاد إلى أن الكاتب الشهير يدرّ دخلاً كبيراً على الناشر مثل ما فعل بايرون للناشر جون مورراي ودكنز لتشابمان آند هول، والكتاب المقدس (الانجيل والتوراة) لوليام كولينز (التي اشترى بيتاً ريفياً ويختاً بخارياً ببيع نحو 300 ألف نسخة من الكتاب المقدس كل عام).
لم يتغير الوضع كثيراً حتى الان كما يقول چاد، فـ چ ك راولنج JK Rowling هي سكوتّ Scott المعاصرة وإيان ماك إيوان Ian McEwan هو بايرون العصر. ولكن مع هذا فلا يحصل الجميع على المال الجزيل من الكتابة، وهو ما يدفع چاد إلى الاعتقاد بأن ما توفره الشبكة من النشر الالكتروني المباشر سوف يسرع من رجوع الكاتب الموهوب (رفيق عبقر الكتابة في الثقافة العربية) وليس الكاتب المحترف، إذ أن الكتابة على الشبكة لا تدر مالاً على الكاتب.
إلا أن چاد يلاحظ هنا أن هذا التغير الكبير في العودة إلى الكاتب الموهوب قد ظل "سرّاً مُحزناً" في الجامعات البريطانية والأمريكية، فهو يلاحظ مفارقة مهمة وهي أنه في الوقت الذي تخسر فيه الجرائد جرّاء التغير المعاصر في النشر مما يؤدي إلى خسارة كثير من الموظفين فيها لوظائفهم، فان برامج الكتابة الصحفية والابداعية في الجامعات ازدهاراً واسعاص، فهناك ما يزيد على 13 ألف متقدم للدراسة في برامج الصحافة، كما تشير الارقام بأن بريطانيا تخرج 1300 "كاتباً ابداعياً" كل عام.
يتقدم كل هذا العدد من الشباب للكتابة لأنهم يحلمون، كما يقول چاد، بأن كل منهم سيصبح "زادي سميث" Zadie Smith جديد (زادي سميث من أشهر الروائيات الشابات في بريطانيا). ولكن، وهنا مربط الفرس، لماذا تشجعهم الجامعات وراء هذا الوهم؟ يجيب چاد على هذا السؤال المهم للغاية بقوله "لأنه يمكن [للجامعات] جني المال من مصاريف الدراسة"، وهنا يتساءل عن أخلاقية تعليم ما يعتبره وهماً يجري وراءه الشباب، فيقول بأنه ينبغي علينا أن نوازن بين جري الشباب وراء الشهرة من خلال الكتابة مع احتياجات معلميهم الذين هم بانفسهم كتاب لا يستطيعون أن يجنوا مثل هذا المال من الكتابة. وينهي چاد مقاله بوصفه ما يحدث برقصة صغيرة مقفلة "المعلمون يعلمون الطلبة الذين يصبحون بأنفسهم معلمين لطلبة آخرين"، مثل صانعي الفضة الذين يعلمون صناعتهم لآخرين رغم أنه لا أحد يشتري الخلاخيل.
في عدد اليوم (الجمعة 8 مايو 2009) من الجارديان يرد البروفيسور رسل سيلن جونز Russell Celyn Jones الاستاذ في كلية بِركبك Birkbeck التابعة لجامعة لندن بمقال يحمل عنوان Creative writing courses are protecting our literary future (دورات الكتابة الابداعية تحمي تراثنا الأدبي) يتناول فيه أهمية تدريس الكتابة الابداعية في الجامعات مفنداً اتهام چاد للجامعات بالسعي للحصول على المال ببيع الوهم الابداعي للطلبة. يشير جونز إلى أمر مفهومي مهم وهو أن هذه البرامج ليس برامج "مهنية" تدريبية بل انها برامج دراسية ضمن دراسات الانسانيات، ويقر بأن نحو 80% من الطلاب الذين يندرجون في برامج الكتابة الابداعية سوف ينتهي بهم المطاف بعدم كتابة كلمة ابداعية واحدة، ويتساءل: ما الذي نمنحهم اياه اذا؟
يدافع جونز عن الطلبة المتقدمين لمثل هذه البرامج بانهم ليسوا شرّاء الوهم حيث لا يتم قبولهم إلا إذا أظهروا محبة طويلة الأمد للكتب ورغبة في تعلم الأدب من أساتذة خبراء في الكتابة، ولا شك أنهم يحلمون بيوم سوف تبرز فيه مواهبهم. ثم يضرب مثلاً على مثل هذه البرامج وهو البرنامج الذي يقوم على الاشراف عليه في كلية بِركبك، وهو برنامج يجذب طلبة من مختلف الأعمار والمهن ومن مختلف بلدان العالم، لا يجمعهم سوى محبة الأدب ودراسته.
وعن الرقصة المغلقة يقر جونز بأن هناك من الكليات والجامعات البريطانية من تعهد بتدريس هذه البرامج إلى مدرسين لديهم شهادة دكتوراة في الكتابة الابداعية رغم انهم ليسوا من المعروفين في عالم الكتابة الابداعية نفسها، وهؤلاء هم باعة الوهم الابداعي. هؤلاء استثناء. أما الدور الحقيقي لمعلّم الكتابة الابداعية فهو كما يقول جونز "المحافظة على عالم الكتابة والقراءة (وهي فن كذلك) في أشكال انتاجه القديمة والحديثة معاً".
وفي وجه اتهامات چاد يرد جونز بأنه بالرغم من أن 80% من الخريجين لا يكتبون إبداعياً إلا أنه لم يطالب أيٌ منهم باستعادة مصاريف دراسته، بل أن الطلبة يشكلون في الكلية بيئة أدبية نابضة بالحياة، فهم ينشرون مجلة Mechanics' Institute Review التي تبيع 300 نسخة في العام، ويديرون سلسلة قراءة شهرية في الأكاديمية الملكية للفن الدرامي، وهي فعالية يقبل عليها الجمهور. أما بالنسبة للطلبة الذين يتقدمون نحو عالم الكتابة فان اساتذة الكلية هم المحررون للكتب الأولى التي يصدرها هؤلاء الطلبة.
ينهي جونز مقاله بأن الجامعات ليست هي التي تحتفظ بـ "السر المُحزِن" عن مستقبل الأدب بل الناشرون الذين توقفوا عن تحرير ما ينشرونه من كتب (ويشير إلى أن چاد نفسه كان يوماً ناشراً متميزاً). ويلخص جونز رؤيته في جملته الأخيرة "نحن حماة المنتج (الكتابي) الآن".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق