حتى لا يكون الإنسان سلعة تقاس بالربح والخسارة....
عبدالله الحراصي
أتابع العديد من الدوريات والمجلات والصحف البريطانية والأمريكية، لأسباب شتى، لعل أهمها أنني أشعر أنني أقرأ شيئاً له معنى، في وسيلة إعلامية واضحة الرؤية والرسالة، تعمل بمهنية عالية، ويقودها خبراء في إدارة الصحافة وليسوا من الهواة أو الجهلة، أو ممن وجدوا أنفسهم بين يوم وليلة يقودون صحافة ليس لهم في أمرها ناقة ولا بعير. السبب الآخر الذي يجعلني أتابع هذه الصحافة هو متابعة ما يطرح من جديد الفكر والأدب والثقافة في هذه الصحافة. هذه الصحافة تحترم نفسها، وفي المجمل تتمسك بمعايير نشر رصينة ولا تنشر إلا الجديد الراقي، ومتابعة هذا من الأمور التي تحفز عقل الإنسان وتنمي معرفته وثقافته. أريد أن أقول هنا جملة أرجو أن يعذرني القرّاء على ما قد يتبادر إلى أذهان بعضهم من دلالاتها: من لا يقرأ الصحافة الجادة، الغائبة عنا (إلا القليل النادر)، فانه لا يعرف معنى الصحافة ولا يعرف أيضاً كثيراً من معاني الفكر والأدب والثقافة.
هذا ليس موضوعنا (هنا والآن على الأقل). مع أنه موضوع أراه جوهرياً لمن يرغب في فهم الأوضاع الثقافية، ولازماً لمن يعد نفسه فاعلاً ثقافياً بجدية وليس من قبيل الثقافة الشللية المغلقة التي نشهدها حولنا، مسببة في تشويه كبير للثقافة والمجتمع عموماً.
في شهر يونيو الماضي نشرت ترجمة واختصارات لمحاضرات ريث لعام 2009 التي ألقاها الفيلسوف الأمريكي مايكل سانديل والتي تمحورت حول الأخلاق في العالم المعاصر، وخصوصاً ما تشهده مفاهيم الأخلاق وممارساتها بسبب تطورات الحياة المعاصرة وخصوصاً تغوّل السوق في كثير من جوانب الحياة التي لم تكن ينظر لها تقليدياً بمفاهيم الربح والخسارة السوقيين، مثل الأخلاق ، والسياسة، والعلوم ونتائجها، وغيرها. ويمكن لمن لم يطلّع على ما نشرت العودة إليه في الروابط التالية:
على وجه العموم، تنضح الصحافة الأمريكية والبريطانية هذه الأيام بتحليلات ومتابعات لقانون الرعاية الصحية التي أقره الكونجرس قبل نحو الأسبوع، وموضوع الرعاية الصحية في أمريكا نموذج جيد لتوضيح المدى الذي دخل إليه السوق في حياة الإنسان. التحليلات والمتابعات تنطلق من توقيع الرئيس الأمريكي أوباما لقانون الرعاية الصحيّة الجديد. ولمن لا يعرف أمر الرعاية الصحية في أمريكا فحسبه أن يعرف بأنه على عكس كثير من الدول في العالم، ومنها عمان، التي تقدم رعاية صحيّة مجانية لمواطنيها، فإن النظام الصحي الأمريكي يعتمد على نظام التأمين، أي أن من يتقدم إلى شركة تأمين صحية بالتأمين على نفسه، بحسب المبالغ التي تحددها هذه الشركات، فسيحصل على العلاج وقت الحاجة، غير أن هذا النظام عانى طويلاً من إشكالات مصدرها انطلاقه من إدخال الرعاية الصحية ضمن آليات السوق، ذلك أن الكثيرين من الأمريكان لا يحصلون على العلاج، لأنهم ببساطة غير قادرين على دفع مبالغ التأمين الصحي، كما أن شركات التأمين آخذت تضاعف مبالغ التأمين على الصحة مما أثقل كاهل العديد من الأسر في أمريكا، إضافة إلى أن شركات التأمين تركز في قبولها لطلبات التأمين على جيل الشباب، ذي الصحة الطيبة نسبياً وهو ما يضمن عدم خسارتها للمال في العلاج، فيما ترفض كثيراً من طلبات التأمين على الصحة من قبل الأشخاص المصابين بأمراض وقت تقديم الطلبات.
كان إصلاح وضع الرعاية الصحيّة في أمريكا أحد وعود الرئيس أوباما أيام حملته الإنتخابية، وبالفعل فبعد عام وثلاثة أشهر ها هو الرئيس يوقع قانوناً يصلح أمر الرعاية الصحيّة، ويفرض شروطاً على شركات التأمين بما يقلل من جشعها وانغماسها في البحث عن الربح على حساب صحة الملايين من الأمريكان. وقد صادق الكونجرس على القانون، غير أن العجيب أن كل ممثلي الحزب الجمهوري في الكونجرس عارضوا هذا القانون، برغم كل محاسنه، لأسباب لا يمكن أن يفهمها إلا من يفهم تطور الدولة والمجتمع في أمريكا. إذ أن معارضة الحزب الجمهوري تنطلق من أن هذا القانون يحدّ من حريّة الأمريكان في اتخاذ القرار فيما يخص صحتهم، حيث أنه يجبر الملايين ممن لم يكونوا يتمتعون بغطاء من الرعاية الصحيّة بسبب جشع شركات التأمين، على أن يأمنوا على صحتهم بمبالغ زهيدة نسبياً، كما أن هذا القرار، بحسب رؤية الحزب الجمهوري، يعزز من قوة الدولة في المجتمع الأمريكي، وهو أمر يرفضه العديد من الأمريكان، كما أن توفير الدولة الأمريكية لبعض الرعاية الصحيّة مجاناً يقرب أمريكا من عدو شرس وهو الأشتراكية، إذ أن الدول ذات النظم الأشتراكية هي التي "تدلل" الشعوب بتقديم خدمات مجانية دون أن تبذل تلك الشعوب جهوداً من أجل الحصول على تلك الخدمات.
العجيب أن الشعب الأمريكي، وهو المعني الأول بهذه الإصلاحات، يجد نفسه في حيص بيص جرّاء الحملات الإعلامية من كل جانب، ودخول الصحة في صراع مستعر بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وهو ما كما يقول أندرو ستيفن (في مجلة "نيوستيتسمان"، عدد 29 مارس 2010) إلى أن 95% من الناس أبدوا معارضتهم لهذا القانون فيما لم يؤيده إلا 39% في استطلاع أجرته CNN بعد يوم واحد من التصديق على القانون.
هذا إذا مثال على دخول السوق في عالم الخدمات الصحيّة، ووقوع شعوب متقدمة، مثل الشعب الأمريكي الذي تحسده كثير من شعوب الأرض على ما تفترضه من تقدم وعيه وحرية فكره وتعبيره، ضحيّة تلاعب السوق بالإنسان من خلال الوقوف وراء الأحزاب التي تماشي مصالحه، وتعزيز جماعات الضغط التي تحافظ على تلك المصالح.
مثال آخر على هذا المنحنى في دخول السوق في المجالات التي كانت تقليدياً بعيدة عن مقاييس الربح والخسارة تمثل في مقال رائع كتبه الأكاديمي الأمريكي أنتوني ت. جرافتون Anthony T. Grafton في العدد الأخير من مجلة عرض نيويورك للكتب (عدد 8-28 إبريل 2010)، ويتعلق المقال بتحول الجامعات إلى السوق. ذكرني هذا المقال بشكوى بثها إليّ الدكتور دانيل نيومان من جامعة درم Durham البريطانية الذي كان في زيارة إلى مسقط الأسبوع الفائت، حيث أخبرني أن الجامعات البريطانية بدأت في قفل كثير من البرامج الأكاديمية مثل أقسام اللغات الألمانية بسبب عدم إقبال الطلاب عليها، وعدم إقبال الطلاب هنا يعني إنقطاع التمويل الذي تحصل عليه الجامعات من مصاريف الدراسة التي يدفعها الطلاب، مع شح الدعم المالي الذي تقدمه الدولة للجامعات حالياً. نتيجة هذا هو إقفال كثير من البرامج الأكاديمية ونتيجة أخرى هي أن العديد من الأساتذة والعلماء الأجلاء في الجامعات وجدوا أنفسهم بلا وظائف، وخصوصاً في مجال الدراسات المتعلقة بالإنسان مثل علوم التاريخ والفلسفة والمجتمع.
مقال جرافتون يتحدث عن نفس الموضوع الذي شكى منه دانيل نيومان، ويفتتح جرافتون مقاله بتذكير القراء بأن الجامعات البريطانية كانت مثار حسد الأكاديميين الأمريكان في السبعينات بسبب قوة الجامعات البريطانية وتركيزها على دعم العلم والمعرفة في شتى المجالات، وتركيزها على البحث المعمق بعكس مطالبة الجامعات الأمريكية لأساتذتها بتأليف "العدد الأكبر" من الدراسات مع اهتمام أقل بالتراكم المعرفي الذي تقدمه تلك الدراسات.
يشير جرافتون إلى أن الأمر تغيّر بعد مارجريت تاتشر التي أدخلت السوق إلى الجامعات، وقللت من الدعم الكبير التي كانت تحظى به الجامعات، ودفعت بها إلى التحرك بنفسها لتمويل مصاريفها، وهو ما أدى إلى تحولها، أي الجامعات، عملياً إلى عالم السوق، مما أدى إلى أن إداراتها تحولت إلى إدارات لمؤسسات قريبة من المؤسسات التجارية بنفس آليات العمل ونفس المفاهيم المستخدمة في عالم الأعمال التجارية. يركز جرافتون على المآل الحزين للدراسات الإنسانية في كلية كنجز في لندن التي تشير إحدى وثائقها إلى أنها تسعى إلى "خلق نشاط أكاديمي قابل للبقاء مالياً من خلال إلغاء الاستثمار في المجالات التي هي تحت المستوى الخطير مع غياب أفق واقعي لمزيد من الأستثمار فيها". معنى هذا ببساطة أن الجامعة ستلغي كثيراً من المجالات التي لا يمكن أن تقع تحت عنوان السوق العريض: "الإستثمار المالي". يشير جرافتون كذلك إلى أن الكلية قد استغنت عن خدمات بعض أهم العلماء في دراسات الخطوط القديمة مثل العلامة ديفيد جانز David Ganz وأستاذين آخرين في الفلسفة، لأنهم لا يساهمون في الإستثمار المالي للكلية، وسيتبعهم البقية في عالم الدراسات الإنسانية التي لا تعد بالكثير من الإستثمار بعكس المجالات العلمية والتكنولوجية التي تأتي بالأموال الجزيلة.
يشير جرافتون إلى أن الجامعات قد نسيت دورها الأساسي وهو الإستكشاف العلمي ونشر المعرفة، وأن على إدارة الجامعات عمل العكس، وهو توفير الأمن الوظيفي للأساتذة كي يبدعوا بدلاً من مطالبتهم بتعزيز الإستثمار المالي للجامعات، كما أن عظمة الجامعات تكمن في الإستثمار بعيد المدى في العلم والمعرفة، وهو ما لا ترضى عنه قوى السوق المستربحة.
الصحة والتعليم مثالان جليّان على خطورة تسليم البلدان للتجار والباحثين عن الربح، وهو ما يشير بوضوح إن على الدول أن تحمي جوانب من حياة الإنسان لا ينبغي أن تقاس بمقاييس الربح والخسارة على المدى القصير، بل بمقاييس أخرى مثل العدالة الإجتماعية وصحة الإنسان، ونشر المعرفة والتعليم.
مقال جميل يلامس جرح عميق...
ردحذفشكرا ً أستاذي...رائع كعادتك.
ردحذفيبدو لي بأن التوجه الرأسمالي الجامح ، لا يمكن مقاومته حاليا ً على الأقل ، غير أن إقرار قانون الرعاية الصحية الأمريكية الجديد ، ربما يوحي بوجود أو تشكل تيار إنساني ، أو إشتراكي ، يستطيع مع مرور الوقت أن يدافع عن نفسه.
العزيز عبدالله
ردحذفمقالتك بالفعل في غاية الاهمية فالرأسمالية الامريكية قد تغولت في هذا القرن بصورة متوحشة لا تنظر الى العالم او الشعوب او الحياة الا بعيني الربح و الخسارة و الحفاظ على أمن اسرائيل وبالتالي يصبح نسف دول وقذفها خارج الزمن امر لاغضاضة فيه طالما انه يربح شركات الاسلحة ويحافظ على ارتفاع شعبية الرئيس لحين الانتخابات المقبلة وهكذا تتواطأ أدوات الرأسمالية من امبراطوريات مالية و عسكرية و اعلامية لتسويغ ضرب دولة ما او الاطاحة بفكرة منافسة او الاستيلاء على مقدرات دولة او قارة باكملها او سرقة التاريخ بل وحتى اعادة انتاج التطرف و أمركة كل شيء طالما انه يثري شركات الامن الخاصة و مبيعات الاسلحة و النظم الامنية . انني لا استغرب ما يحدث في الجامعات البريطانية والتي اصبحت تفتح فروعا في دول المنطقة اشبه بالدكاكين لكن الخطورة ان يتلقف الامر اشخاص في دولنا و يهرولون لتطبيقه بحجة انه " حتى في بريطانيا كذاك " خاصة واننا اصلا في وافعون في " خبصة " عجيبة فلا نحن رأسماليين و لا اشتراكيين ولا اسلاميين انها خلطة عجيبة من المفاهيم المطالبة " بالعيش المشترك " لحين ثبوت الرؤية !.
حارس السراب