الثلاثاء، 13 أكتوبر 2009

المجتمعات وسرعة الضوء ودون كيشوت



من أجمل ما قدمه لنا علم الفلك المعاصر معرفة أن الضوء يخترق الفضاء إلى أعيننا قادماً من النجوم وأن ما نراه ليس سوى الماضي. كيف عرف العلماء هذا؟ ببساطة بمعرفة حركة الضوء وسرعته، أي أن الضوء يتحرك من نقطة إلى نقطة أخرى بسرعة محددة حيث يقطع الضوء مسافة 299,792,458 متراً في الثانية، وبحساب هذه السرعة تمكن العلماء من معرفة المسافة بين أعيننا والنجم مصدر الضوء.

المذهل هنا أن ما وصل إلى أعيننا من ضوء ليس إلا الضوء الذي وصل للتو بعد رحلة استغرقت ملايين السنين. الأجمل أن النجم نفسه ربما لا يكون موجوداً الآن، ولكننا مع ذلك نراه.

انها لعبة من لعب الفلك، وفيها، فيما أرى، عظة -بل عظات- لنا مثل ما يلي: إن ألفتنا الأشياء تجعلنا نراها هي ولا نرى غيرها، لذا فإن ما تعود عليه الأجداد يتم توريثه إلى الأحفاد بحيث أن ما يراه هؤلاء الأحفاد ليس في الواقع إلا الحدث الذي وقع في الماضي.

القيم-الأحداث-الصدامات-التحالفات القادمة من الماضي والتي نراها حيةً لامعةً بيننا علينا أن نفرزها جانباً وأن ندرك أنها قادمة من الماضي الذي لم يعد موجوداً، وأن أخذها على محمل الجدّ بل وربما هندسة المجتمع بناءً عليها هو ضرب من ضروب الأفعال الدون كيشوتية. ودون كيشوت لمن لا يعرفه هو بطل رواية للروائي الاسباني سرفانتس، وقد اعتاد هذا البطل قراءة كتب الفرسان الجوّالين الذين كانوا ينتصرون للخير ويحاربون الشرّ والذين كانوا موجودين ذات يوم في أوروبا. المسكين دون كيشوت انغمس بكل عقله (أو جنونه) في ذلك الماضي المجيد، فقرر أن يكون أحد أولئك الفرسان، وهكذا انطلق في حروب مأساوية مع أبطال توهمهم غير موجودين في الحقيقة، فكان من بين أعداءه الذين صال معهم بسيفه وجال قطيع خراف كان يرعى في البرية، وطواحين الهواء المتحركة، وغيرهم من الأعداء.

دون كيشوت لم يكن يرى واقعه، بل كان يرى الماضي غير أنه بدلاً من أن يدرك أنه ماضٍ، على النحو الذي ندرك به اليوم أن ما نراه في السماء ليس إلا ضوءاً وصلنا بعد رحلة طويلة ملايينية السنين، تعامل معه على أنه حاضر ينبض بالحياة، فصدقه وهندس حياته على أساس أن زمن الفرسان لم ينته وأنه يحمل رسالة الخير مثل أولئك الفرسان الغارقين في موتهم.

نرى كثيراً في حياتنا مثل هؤلاء الذي يعيشون في الماضي، ويتعاملون مع تفاصيل مضى عليها مئات السنين، ويستجيبون لها بالتأييد أو الرفض. ومع ذلك لا يلتفتون إلى أحوال حاضرهم والمشاكل التي يعيشونها، بل والأشياء الجميلة التي فيه. فلا هم يعيشون الماضي حقيقة، ويفوتون على أنفسهم عيش الحاضر!!!!

والأخطر بطبيعة الحال ليس هؤلاء الأفراد، ولكن الأخطر هو أن تتم هندسة المجتمعات ويتم تجميدها عند لحظات ماضوية لا تستطيع أن تفك نفسها من أسرها. هذا هو الأمر الخطير.

هناك تعليقان (2):

  1. اضاءات رائعة ايها العزيز و كم اتعاطف مع دونكيشوت في رحلته الغرائبية و معاركه الوهمية و خيالاته التي قادته الى مهالك ضخمة في سبيل اثبات فروسيته و شجاعته في زمن متوهم و شخوص متوهمين الخطورة ياسيدي هي محاولة انتاج و اعادة الماضي و قذف مجتمعات بأسرها في الثقب الاسود الماضوي دونما وجود افق او نافذة او بصيرة جادة لمعالجة الحاضر و استحقاقاته الفعلية و بقراءة مغرضة تتوسل الماضي لتبرير مصادرة الحاضر . هانحن الان نرى مستقبلا ليس فيه هامش لأنصاف الامم فيما يصر البعض الى الهرولة نحو الخلف عبر جامعات كرتونية و اوضاع مجتمعية غارقة في التسبيح صباح مساء لكل ما ينافي العقل و يجافي المعرفة .
    عبدالله احييك لسبب مهم انك تحترم عقولنا التي تعبت من المجاني و المبتذل و ثيمة الموت و ثيمة الوجع و التفاهة فيما نحن نكاد نخرج من العصر كله و التحول الى شيىء شبيه بضؤ النجوم القادم من ازمنة سحيقة و لا نعرف منتهاه في الابدية
    نهارك سعيد

    ردحذف
  2. مرحبا عبدالله الحراسي،
    مقال رائع،،
    ويقول الله تعالى في ذلك:"فلا أُقسم بمواقع النجوم ، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم"
    ويقول أبضا:"والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون "
    الآية الأولى ، تنطبق جدا على الكلام الذي ورد في بداية مقالك، فالنجم حسب ما قرأتُ في أحد الكتب ، هو كتلة من الغاز مُلتهبة مشتعلة مُضيئة بذاتها ، تظلُ شُعلتها لملايين السنين ، دون أن تنطفي بسبب عدد من التفاعلات النووية المعروفة ، بإسم "عملية الإنتاج النووي" تتحد فيها نوى العناصر الخفيفة، مثل غاز الأيدروجين مع بعضه البعض، لتكوين نوى العناصر الأثقل بالتدرج،

    فلماذا أقسم الله تعالى بمواقع النجوم ولم يقسم بالنجوم ذاتها؟!
    الجواب ، هو ذلك الشرح الذي ذكرته أنت مُفصلا في بداية مقالك،
    وليت قومي يعلمون قبل أن ينبأنا به الغرب.
    ولكننا في كل مرة ننتظر الغرب ليأتينا بالعلم مُعلبا.

    أسعدني بحق التواجد حيثُ هذا الفكر الخصب،
    دمت ودام إبداعك سيدي

    ردحذف