السبت، 10 أكتوبر 2009

لحظات مع هاتفي النقّال



وهذه بداية مقال آخر بدأت كتابته قبل نحو عشرة أشهر ولم أكمله حتى الآن....

كلمة "هاتف" في التراث العربي تستخدم لوصف الصوت الخفي الذي يصعب تحديد مصدره في العادة والذي يكون في قصص كثيرة صوت قوة خفية مثل الجان، وترتبط دلالة الصوت برسالة توجهها تلك القوة لمن يسمع ذلك "الهاتف"، أما اليوم فالهاتف هو ذلك الجهاز الذي يتواصل به الإنسان مع الإنسان بطريقيه السلكي أو اللاسلكي أو عن طريق ثالث هو شبكة الإنترنت. ورغم أن الهاتف النقال (أو المحمول، أو الخلوي) يقوم فعلاً بربط إنسانٍ بإنسانٍ آخر، إلا أنه في واقع المقام يقوم بأدوار ضخمة أخرى يتضاءل بجانبها دوره الإتصالي بين البشر.

أمسكت في إجازة العيد بهاتفي لمدة ساعة فوجدتني أغوص عميقاً في نفسي وليس في تواصلي مع الآخرين. التأمل في الهاتف النقال تعمق معرفة الإنسان بنفسه ورؤاه حول نفسه وحول الآخرين.

حسناً. بدأت بقائمة المتصلين. مجرد أسماء مصفوفة لأصدقاء أو معارف؟ كلا ليس الأمر بهذه الصورة: يا لضخامة الذكريات المخزنة في تلك القائمة والتي لولاها لأصبحت حياتي خالية من ذكريات عميقة. أقلب الأسماء فأجد "إبن روزالين". لم أتذكره في البدء غير أني بعد عراك مع نسيان تتقدم جحافله في ذاكرتي تذكرته. أنه ابن عاملة منزلية من الهند كانت تعمل في بيتنا وذهب ابنها إلى أمريكا للعمل على متن سفينة سياحية. غادرتنا روزالين لأنها لم تعد بحاجة إلى "المعاش" الذي كانت تستلمه لقاء عملها المنزلي عندنا، فابنها يعمل في أمريكا، ولربما يعد العدة للإقامة الدائمة فتسافر معه إلى هناك.

"العندليب". لا أعرف هذا الاسم أو اللقب. لا بد أنه لقب أحد أصدقاء أحد أخوتي الذي استعار جهاز هاتفي ذات يوم وخزن فيه قائمة اتصالاته. أجل فالقائمة التي لدي هي في الأصل قائمتان مدمجتان معاً، قائمتي الشخصية، وقائمي أخي. وتتميز الأخيرة بطبيعة الأسماء المسجلة فيها والتي تناسب المراهقين، مثل "العندليب" و"وليد لولاه". هناك أسماء لم أستطع فك لغزها من بقايا قائمة أخي مثل "أخو عبود" و"أسعد N" و"جمعان/ح" و"نمووور2" و"نصووووري"، وهناك أسماء تأتي مميزة لشركة الاتصالات أو خدماتها مثل "بكري، حياك" و"بكري، نورس". وعودة إلى "العندليب" فإني أتوق فضولاً لأن أعرف من هو العندليب؟ ولماذا هذا اللقب بالذات؟ أترى هل يعرف هذا "العندليب" الذي لا أعرف عنه سوى رقم هاتفه (الذي ربما يكون قد غيره) أنني أنشغل بشأنه بين وقت وآخر؟

بسهولة أستطيع أن أسأل أخي عنه غير أني آثرت ألا أفعل. ربما كي أحتفظ بتأجج الفضول وعدم انطفاءه.

تحتفظ قائمة الاتصال في هاتفي بتاريخ المعارف. يتصل بي أحد المعارف أثناء سفره في جغرافيا الكون والبشر فأسارع إلى حفظه لهدف لا أعرفه، وهنا أجد "هيثم مصر" و"عائشة ماليزيا" و"سليمان تايلند 2" (و2 في نظام حفظي للأرقام تعني أنه الرقم الذي أخذه في رحلته الثانية إلى هناك) وهكذا دواليك. ربما ينبع السبب وراء المحافظة على تلك الأرقام المؤقتة من الهوس الأكاديمي بما نسميه "البيانات" التي ينبغي أن نحافظ عليها وإن لم نستخدمها، "فلربما يأتي باحث آخر يستفيد منها" كما نقول في الجامعة. لربما سوف تطرأ الحاجة إليها ذات يوم، ووفق منطق "أثر الفراشة" الذي تطرحه نظرية الفوضى، تكون هذه الأرقام المحفوظة في هاتفي هي الفيصل لتحديد أمر ذي شأن. لا أستطيع تخيل حالة من هذه الحالات، ولكن عدم تمكني من تحديد هدف أو حالة محددة أستطيع لأجلها تبرير احتفاظي برقم لا تعني أن مثل تلك الحالة لا تحدث. وما يدريك؟

وهناك طبعاً أرقام من يخطئون بالاتصال بي أو بإرسال رسائل، ثم يعتذرون بأن تواصلهم كان عن طريق الخطأ. الخطأ؟؟؟؟؟ ليس ما تقوله تجربتي معهم، أو تجربتهم معي. أعني بأني أحتفظ بكل الأرقام التي تصل إلى هاتفي سواء عن طريق الصواب أو عن طريق الخطأ. أحتفظ بالأرقام "الخاطئة" بطريقتي كما يلي: باللغة الانجليزية أبدأ باليسار بكتابة العام ثم الشهر ثم اليوم ثم حرفين أو ثلاثة للتمييز بين الاتصال أو الرسالة، فالرمز 081203MsdCll تعني أن الرقم يشير الى اتصال عن طريق "الخطأ" تم بتاريخ 3 ديسمبر 2008، حيث MsdCll اختصار لـ Missed Call (اتصال لم يرد عليه)، أما 070314MSG فيشير الى رسالة وصلت "بالخطأ" يوم 14 مارس 2007. عموماً نصيحتي لكم أن تحتفظوا بالأرقام الخاطئة في ذاكرة هاتفكم فتجربتي تقول أنه في أكثر من مرّة يأتيني أتصال أو رسالة من نفس الرقم بعد مرور عدّة أشهر أو ربما سنة أو أكثر، بعد أن يظن المتواصل معك "بالخطأ" أنك قد نسيت الأمر، حينها تدرك أن ما بدا ذات يوم خطأً في التواصل معك لم يكن خطأً أبداً وإنما كان صواباً مقصوداً، وإِن لم و(ربما) لن تعرف سببه!!!

غير أن أصعب ما في قائمة هاتفي أسماء الراحلين من الدنيا الذين لا أحذف أسماءهم وأرقامهم. لربما رغبة في رؤيتهم أحياء، في القائمة على الأقل، وفي ذاكرتي بطبيعة الحال. ما زال هناك أسم شاب من الأقارب غادر الدنيا إثر حادث سيارة، وأحد الأعمام الذي رحل كذلك قبل نحو شهر ونصف في حادث سيارة كذلك في طريقه من العمرة. هناك أيضاً رقم "محمود" وهو صديق من مصر أخذته من الدنيا سكتة قلبية. أتذكر عندها "يعقوب" صديق الدراسة الجامعية الذي رحل شاباً بعد صراع عبثي مع السرطان. "يعقوب" ليس مسجلاً لأنه رحل قبل ذيوع الهواتف النقالة، ولكنه يأتي إلى ذاكرتي كلما قابلت أحد أسماء الراحلين المسجلين في القائمة.

وسط الذكريات الحزينة التي تخلقها رؤية أسماء الراحلين وسط قائمة أسماء أشخاص أغلبهم أحياء. يتملكني فضول: ترى من الذي أخذ رقم هاتف الراحل؟ أحد أهله؟ أوقفته الشركة نهائيا بعد علمها عن رحيله تحت سياسة ربما تكون موجودة ولا نعرفها تقضي بوفاة الرقم كذلك؟ أم أنها منحته لشخص جديد لا يعرف أنه يرث الرقم (وراثة بمعناها الحقيقي)؟ وهنا أيضاً ألا ينبغي أن تشمل قضايا المواريث أرقام الهواتف؟ تتملكني كذلك رغبة في الإتصال بأرقام الراحلين، وأتساءل من الذي سيرد؟ رباه! ماذا لو رد هو؟!! ولو رد غيره، ماذا كنت سأقول؟ كما أتساءل دائماً كذلك: ماذا لو تلقيت اتصالا باسم أحد الراحلين؟ من سيكون المتصل يا ترى؟ هل سأرد؟ ولو رددت أترى سيشعر المتصل بما يتملكني من رعب? غير أن مثل هذا لم يحدث حتى الآن ولكن تلك التساؤلات والإمكانيات المرعبة تشغلني دائماً.

هناك 8 تعليقات:

  1. I really enjoyed reading this post
    I think I use almost the exact same system on my phone except that people who usually give me missed calls and bother me for no reason are registered as
    Loser081203
    Loser 090712
    Etc, etc

    Your version is more polite

    ردحذف
  2. ممتاز!
    مقال (غير مكتمل) جميل جدًا يبث الكثير من الأفكار والأسئلة.
    وجدتُ أنني أنا أيضًا لا أحذف أرقام الراحلين، وأتوقف عند أسمائهم للذكرى بين وقتٍ وآخر على الهاتف.
    اعتدتُ في رحلاتي بالطائرة أو القطار أو حتى الباص أن أقلب في الأسماء المخزّنة في هاتفي، وأسترجع معها الكثير من الذكريات.

    شكرًا لك يا دكتور.

    ردحذف
  3. يعقوب المفرجي11 أكتوبر 2009 في 10:42 م

    فعلا.. كثيرا ما أقتطع لنفسي وقتا لأسترجع ذكرى أصدقاء قدامى
    الأحياء منهم والأموات.

    يبدو أن أحد أبواب فهم طبيعة التركيبة النفسية للشخص هو قائمة الأسماء في هاتفه

    فالعندليب / نصوووور / شريخان / سعيد الضبعة...الخ
    بالتأكيد ليست مثل:
    محمد المفرجي ود عمتي / أحمد الشقصي الشمج

    تحية

    ردحذف
  4. القراءه ممتعه هنا جدا ..
    اثارني موضوع احتفاظك بأرقام الراحلين .. ودائما تأتيني رغبه وفضول في ان اتصل بأحد هذه الارقام ..

    ردحذف
  5. استمتعتُ بالقراءة هُنا.. كلماتك تجعل الشخص يشعر كأنه يتحدثُ مع نفسه! جميل

    ردحذف
  6. مشكور دكتور على الموضوع الصراحة كل شخص توجد في هاتفه قائمة غريبة و عجيبة من الأرقام المختلفة والمتنوعة و الغريبة عن الواقع

    بس أنا أعرف من صاحب لقب جمعان 2

    ردحذف
  7. تعرف مقالك عن الهاتف أحسست عند قرأته و كأني من كتبه!

    ردحذف
  8. وانا أقرأ مقالك دكتور ...استوقفني مدى ما آلت إليه الأمور معي مؤخرا! فقد كنت كلما أردت ضافة اسم جديد على القائمة أفاجأ بأن قائمتي ممتلئة!
    ما جعلني أحذف كل من لم اتواصل معه قريبا!!! (واصبح نظامي في الحفظ) هذا الشيء جعلني في موقف محرج لانني خاصة في فترة المناسبات استقبل رسائل لاشخاص حذفت ارقامهم في لحظة غضب ارقامهم....طبعا حتى لا احرجهم واحرج نفسي ارد التهنئة دون أن اذكر انني لا اعرف المرسل!

    ردحذف