"عند الخطبة اللسان رطبة"، و"اللسان ما فيها عظم"
لا شك بأن أوباما في شخصه يبدو صادقاً فيما يقول وفيما يفعل، وينطلق من تجربته الشخصية المتعددة الثقافات التي استطاعت أن تدفعه ضمن السياق الحياتي والحضاري الأمريكي لأن يكون اختيار الشعب الأمريكي في رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا كله أمرٌ حسن، ويعكس تطوراً في إمكانيات التعايش البشري العابر للأعراق والأصول، ولكن ليس عند العالم الإسلامي مشكلة مع أوباما الشخص، كما أن عليه أن لا "يسامع" العالم الإسلامي بأصله المسلم لأن ذلك غير ذي جدوى إلا إذا انعكس على الممارسة في السياسة الخارجية الأمريكية فيما يتعلق بالقضايا العربية/الإسلامية.
شخصياً رأيت خطراً عظيماً في خطاب أوباما يكمن في الأساس في المدخل الثقافي الذي اتخذه أوباما لمخاطبة العالم الإسلامي، والمقصود بـ "المدخل الثقافي" الانطلاق من عناصر ثقافية كالدين والتاريخ الحضاري والنصوص الأساسية (القرآن الكريم)، بعيداً عن أية منطلقات قانونية وسياسية ومواثيق دولية هي التي تتحاكم إليها الدول في حال اختلافها في الزمن المعاصر. الخطر في المدخل الثقافي الذي اعتمده أوباما يكمن في أكثر من جانب. الجانب الأول هو اتخاذ القرار نفسه باتخاذ المدخل الثقافي وليس المدخل القانوني الدولي أو حتى المصالح المتبادلة في مخاطبة العالم الإسلامي، ولعل تفسير هذا القرار نابع ليس من مراعاة للعالم الإسلامي وخصوصياته الثقافية ولكن لأنه يعرف بأن هذا المدخل سوف "ينجح" سياسياً في تحقيق الأهداف التي تسعى إليها إدارته في العلاقات الدولية. ترى هل كان سيتحدث أوباما لأوروبا أو اليابان بنفس الخطاب الثقافي؟
الجانب الثاني من مخاطر هذا المدخل الثقافي هو انتقائيته، بمعنى أنه يختار من الإسلام ما يناسب فهمه للسياسة الدولية القائمة على التنوع الثقافي (والذي يمثله أوباما في شخصه من ناحية "العرق" الإسلامي)، فالإسلام لديه هو ذلك الدين السلمي الذي لا يعمد للعنف أبداً والذي يتعايش مع منتجات الحضارة الغربية ويتواءم معها، والذي شوهته بعض العناصر التي عمدت الى التطرف في فهمها الخاطئ للدين. وهذا فهم انتقائي لأن الإسلام أكبر من ذلك بكثير، ، كما أن ممارسة العنف أمر مشروع في الشرع الإسلامي لتحقيق هدف لازم لا يمكن تحقيقه بغيره. وليس هو بالدين الذي يقبل الضيم والذي سيدير لك الخدّ الأيسر بعد أن تصفعه على خدّه الأيمن.
المدخل الثقافي الديني في السياسة الدولية خطر فيما أرى لأنه يستخدم من قبل الدولة العظمى في الكون بما يناسب رغباتها وينزع الحقوق الوطنية للشعوب بتأطير قضاياها ليس بالإطار الحقوقي الدولي وإنما بإطار ثقافي غير متفق عليه، وهو بذا أقرب لأضاعة حقوق تلك الشعوب التي شرعها لها القانون الدولي بقرارات دولية واضحة، ويأتي على رأس هذه الشعوب الشعب الفلسطيني الذي يملك قرارات دولية تسند حقوقه فيما تتعلق بالدولة الفلسطينية وبالقدس وبعودة اللاجئين إلى مواطنهم الأصلية، كما أن هذا الطرح الثقافي الديني غطاء لترسيخ وجود الدولة الإسرائيلية باعتبارها دولة يهودية، لأنه سيأخذ من الإسلام جنوحه إلى السلم ومن الإيديولوجيا الصهيونية انطلاقها من الأحلام اليهودية لاحتلال فلسطين وتهجير سكّانها العرب ورفض عودتهم مع فرض ما يسمى بـ "حق العودة" ليهود لم يسكنوا، لا هم ولا أجدادهم، يوماً في أرض فلسطين التاريخية.
عندما سمعت خطاب أوباما تذكرت مثلين عمانيين عميقي الدلالة حول مثل هذه الخطب، يقول أولهما "عند الخطبة اللسان رطبة" ويعني أنه حينما يخطب رجل امرأة فإنه يستطيع أن يعد بأشياء ضخمة ليست بالضرورة قابلة لأن تستحيل إلى واقع سوف ترفل فيه تلك المرأة بعد موافقتها على الزواج، أما المثل الثاني فيقول "اللسان ما فيها عظم" ويعني بأن بمقدور الانسان أن يقول ما يريد ويتحدث لساعات طوال ويعد بالكثير والكثير. هنا نحن إذاً إزاء أوباما الذي يخطب ودّ العالم الإسلامي بكلامه الجميل الذي لا يحدّه حدّ. ولكن علينا في مثل هذه الخطبة/الخطوبة أن نتذكر بأن اللغة ليست كل شيء، بل إن أوباما نفسه يشدد مراراً وتكراراً بأن الخطب لا تحل شيئاً على أرض الواقع الصعب والمعقد، وأنه ليس بمقدور خطبة واحدة إنهاء ما أنتجته سنون طوال من الشكوك وفقدان الثقة، كما قال ذات مرة أيضاً بأن الكلمات لا يمكنها لوحدها أن تحقق احتياجات الشعوب.
مرحبا دكتور..
ردحذفراقتني بالفعل هذه النظرة الثاقبة للخطاب "الأوبامي" في كلمته الأخيرة الموجهة للعالم الإسلامي. لا أنكر أنني أُعجبتُ بالخطبة كثيرًا، لأنني حقيقة مُعجب ببلاغة هذا الرجل وطريقته في تقديم أفكاره، حتى أنني كنتُ أدرّس طلابي فنّ الخطابة بتحليل خطاباته. إلا أنني أيضًا كانت لي تحفظات وملاحظات شخصية عليها.
أوباما يعرف من يُخاطب، وهو موقنٌ بأن المدخل الثقافي مناسب جدًا-في خطبة حُسن النوايا هذه- للعرب الذين تدغدغهم الاستخدامات القرآنية والثقافية الإسلامية.
أما عن انتقائيته، فأراها بديهية جدًا يا دكتور، ولا أحسب الخطباء الإسلاميين أنفسهم يخلون من انتقائية! وأما عن اختياره للجانب السلمي من الإسلام فهو بالنسبة لي أمرٌ مفهوم حاليًا، لأن أوباما لا يخاطب المسلمين فقط، بل يخاطب العالم كله، ويريد إثبات حُسن النوايا والجانب المشرق السلمي الجميل الوديع من الطرفين. ولا أرى أية مشكلة في أن يبيّن أوباما في خطابه أن الإسلام "هو ذلك الدين السلمي الذي لا يعمد للعنف أبداً والذي يتعايش مع منتجات الحضارة الغربية ويتواءم معها، والذي شوهته بعض العناصر التي عمدت الى التطرف في فهمها الخاطئ للدين"، فعلى أية حال لا بد له من أن يحاول إصلاح ما أفسده بوش.
وأما فيما يتعلق بوجود إسرائيل وحقوق الشعب الفلسطيني فأتفق معك تمامًا، ولا ولم ولن أظنّ أن أوباما أو غيره قادر على حتى إيهامنا بعكس ذلك. وكان ذلك واضحًا في خطبته التي أشارت إلى معاناة الفلسطينيين على استحياء، رغم آمال المسلمين أن يتعاطف أوباما أكثر مع القضية الفلسطينية، ويندد بممارسات إسرائيل.
وأما عن "اللسان الرطبة"، فأنا لا أعقد آمالا كبيرة على أية إدارة أمريكية، رغم إعجابي بأوباما. ولكنني أعتقد أن الأمور لن تسوء أكثر، بل ربما سيصلح بعض ما أفسده العبقري بوش. وكما ذكرتَ فإن أوباما نفسه يعترف بأن الخطب "لا تحل شيئا على أرض الواقع الصعب والمعقد"، ومن يعترف بهذا لا أظنه يضمر أن يكتفي بإيهام الناس من خلال خطبه.
رائع .. كنت أشعر بالتعاسة وأنا أرى الجَميع يهلل ويكبر للمارد الأمريكي القادم من وراء المحيطات .. رغم ذلك ورغم برغماتية الخطاب وصوته المؤمرك العالي لا زلت أشعر أن أوباما هذا الرجل يمكن أن يعيد للولايات المتحدة ـ هذا البلد العظيم ـ السمعة التي انتهكها القائد الأحمق السابق
ردحذفلقد أصبت كبد الحقيقة وسط هذا التطبيل والتزمير
ردحذفبصفة عامة مشكلتنا عاطفتنا التي ما أسهل جرها بالخطاب الديني وقد أدركها أوباما جيدا
وأنا على قناعة أن السياسة العربية تستجير من الرمضاء بالنار
يعقوب الخنبشي
جزاكم الله خيرا جميعا كاتب المقال والمعلقين..
ردحذفأمر مهم أحب أن أضيفه وهو كما تعلمون أن الولايات المتحدة دولة مؤسسات حاكمة وليست دولة الرجل الأسطورة!!
فبالتالي سياساتها مستمدة من موافقات المؤسسات والتي تعتمد على أبحاث ونتائج مراكز الدراسات الاستراتيجية المتعددة وهو ما يجعلنا نسأل هل حقا ستتغير السياسات الخارجية الأمريكية بالشكل الذي ضخمه بعض الكتاب خصوصا الكتاب من البلد الذي ألقي فيه الخطاب!! الله أعلم!
تحياتي
أبوصبا
السلام عليكم
ردحذفشكرا جزيلا لك يا دكتور على هذا التحليل الجميل والذي رغم جماله أجدني لا اتفق معه كثيرا وكذلك لا اختلف كثيرا :)
في البداية ما ورد في خطاب أوباما من استشهاد بآيات من الذكر الحكيم وكذلك التركيز على أن الإسلام هو دين سلام وليس دين عنف وكذلك الحديث عن اسهامات المسلمين وغيرها من النقاط التي أسلملت خطاب أوباما، كان بديهيا وذكي ولا أجد فيه أية نوايا سيئة أو خبيثة وذلك لعدة أسباب:
- السبب الأول ينطلق أن قاعدة أن لكل مقام مقال ولكل شعب ثقافته الخاصة به فكما ذكر المعيني أن لو أي خطيب عربي ألقى خطبة في ذات السياق ما كان ليخرج عن الأسلوب الأوبامي وذلك لأن نمط الخطبة العربية هو بهذه الطريقة وهذا هو الأسلوب المتبع لدينا لذا تبنى الرجل هذا الأسلوب ليوصل رسالته التي اعتقد بسرعة وصولها عندما يخاطب القوم باللغة التي يفهمون ولا أجد أي ضير في ذلك وعلى العكس تماما أجدها شجاعة منه أن يتخذ ذلك الأسلوب الذي دفع الأسرائيلين إلى إلصاق لوحات عليها صورة أوباما وهو يرتدي كوفية ياسر عرفات وتقول أنه يكره اليهود.
- والسبب الثاني لو كان أوباما يضمر نوايا سيئة أو مخيفة ما كان هناك حتى نصف سبب يجعله "يخضع بالقول" للمسلمين خاصة مع علمه أن مثل هذا الخضوع قد يعرضه للكثير من النقد الذي سيضر به وهو لا يزال في أول أيامه وفترته الأولى وسيثير العدو الداخلي عليه.
- أما فيما يخص التشديد على مسألة أن الإسلام هو دين تسامح فذلك أيضا مفهوم ومبرر أولا لأن هذا النوع من الخطاب هو لطمأنة المسلمين بأنني "مختلف عن بوش" ولا اعتبركم ارهابيين و"أعلم جيدا" أن الإسلام الحقيقي هو ليس بالصورة التي يروج لها بعض الغربيين بأنه دين إرهاب. فتلك الإشارة كانت بمثابة رد لهذا الجانب وكانت ضرورية. أما مسألة إسرائيل وفلسطين ربما أنه لم يتطرق إلى معاناة الفلسطينيين إلا على استحياء وذلك لعدة أسباب ومنها تجنب الصدام مع اللوبيات اليهودية المؤثرة في الكونجرس الأمريكي والتي يعلم هو أنها قادرة أن تستغل مثل هذه المواقف في الاطاحة به، وعلى الرغم من ذلك كان هناك تحول كبير في خطاب أوباما وهو عدم نعته لحماس بأنها مجموعة إرهابية كما كان سابقه يفعل وإنما قال بأنها من الشعب الفلسطيني ولكن يجب عليها أن تدرك بأن على واجبات ومسؤوليات وهذا تحول كبير بأن لا توصف حماس بأنها مجموعة إرهابية، كما أنه شدد على تمسكه بحل الدولتين وبأنه لين يدير ظهره لمعاناة الفلسطينيين وأيضا كان صريحا ولم يجامل ولم يكذب عندما قال في المقابل أنهم لن يتخلون عن مساندتهم لأسرائيل.
- واختم بأنني ما كنت انتظر منه أكثر مما قال خاصة وإنه كما ذكر الأخ أبو صبا أن الأمور في أمريكا ليست بيد رجل واحد وإنما مجموعة من المؤسسات، وما قال به أوباما يعد تحول كبيرا من الشرق إلى الغرب حيث أن سياسة سابقه كان عكسه تمام وجاء بتحول كبير، ومثل هذه التغييرات لا يمكن أن تحدث بشكل دراماتيكي خاصة فيما يخص القضية الفلسطينية خاصة أنها شائكة وأكبر من أوباوما وغيره.
أنا متشجع لهذا الرجل ولكن بحذر وبعقلانية وأتوقع منه ما أعتقد انه بإمكانه القيام به...
تحياتي
قرأت ما كتبت، وأعتقد أنك دايما تشوف شي ما نشوفه.. كلنا فتنا كلامه ووافقنا نزوجه ..
ردحذفتحليلك عن الخطاب واستشهادك بالخطبة والامثال عندنا في عمان هو تحليل منطقي ..
ردحذفرااائع رااائع يا حراصي!
ردحذفمع اني بعيده عن المجال السياسي .. ولكن برأيي أوباما لن يفيد الأمه الاسلاميه بشئ ابدا .. لا اعتقد بأنه سوف يفيد الامة الاسلاميه على حساب دولته .. ومثل ما ذكرت الدكتور عبدالله "عن الخطبة اللسان رطبة" بالفعل هو يبطبق على خطاب الرئيس الامريكي أوباما .. واستغرب من الامه العربيه انتظارها لأفعال رئيس دولة طالما سببت المشاكل في الوطن العربي وليس فقط وإنما في العالم أجمع .. والرئيس الامريكي ليس له القرار لوحده فهناك المجالس الحكوميه الاميركيه وصناع القرار الاخرون الذين يمثلون قرارات أمريكا ..
ردحذفيبدو ان العرب لن يكفوا عن البقاء كظاهرة صوتية رغم كل ما يحدث في العالم . في خطاب اوباما و الذي شارك في صياغته نحو 42 خبيرا امريكيا انبهر العرب لمجرد ان اوباما استعان ببعض التوظيفات الدينية و القرآنية و اشاد بحضارتهم التي لم يعد لها وجود و لم يمض حتى اسبوع و جاء النتن ياهو ليعرف العرب و الفلسطينيين حجمهم قبل و بعد الخطبة العصماء .
ردحذفولابد من يوم اغر محجل
يطول استماعي بعده للنوادب