السبت، 22 أغسطس 2009

سلسلة التفكير المنطقي: تقديم



كنت أطالع أحد المنتديات الالكترونية العمانية ذات يوم، وقرأت موضوعاً أستوقفني حول فتح برنامج لدراسة الأزياء في إحدى كليات التصميم في عمان. كان الكاتب مشتاطاً غضباً بسبب تدريس الأزياء، وأول ما ذكره في احتجاجه "هل انتهت كل علوم البشر حتى نبدأ في تدريس موضوع ليس له معنى في الوقت الذي يدرس الآخرون أبناءهم السياسة والعلوم العسكرية؟".

برغم ما في هذا الطرح من كمية ضخمة من العاطفة الجارفة والغضب المتقد إلا أنه في الآن ذاته يفيض بأمثلة كثيرة على غياب التفكير المنطقي، ويمكن ضرب بعض الأمثلة على ذلك فيما يلي:

- هل أن عدم تدريس العلوم السياسية والعسكرية سبب كافٍ لعدم تدريس الأزياء؟

- هل هناك طبقية بين العلوم؟ أي هل توجد علوم أفضل من علوم أخرى؟

- من هم الآخرون الذين يدرسون أبناءهم العلوم الجيدة؟

- هل ينبغي علينا أن نتبع ما يفعله الآخرون أم أننا في التعليم الجامعي ننظر إلى أنفسنا وحاجاتنا ثم نقرر العلوم التي ندرسها؟

كل هذه الأسئلة المنطقية البسيطة لم تتم الاجابة عليها مباشرة، ولبعضها إجابات مفترضة فيما لا توجد إجابات مباشرة لبعضها الآخر، فمثلاً يفترض الكاتب وجود طبقية للعلوم بحيث توجد علوم أفضل وأسمى من علوم أخرى، فالعلوم المتعلقة بالانسان وخصوصاً في السياسة الحروب أفضل من العلوم المرتبط بالجوانب المادية في حياة الإنسان مثل الطعام والملابس، كما أن الكاتب يفترض كذلك أن نتبع الآخرين من غير أن يحددهم، غير أنه لا يحدد إن كان كل الآخرين يقومون بما يعتقد أنهم يفعلونه أم بعضهم فقط.

لا شك بأن لكل إنسان الحق في أن يتبنى الرأي الذي يراه مناسباً، ولكن المنطق لا يتعلق بالاراء وإنما بالحقائق، والمشاكل المنطقية التي أشرت إليها لا تتعلق بالرأي والموقف وإنما بالحقائق الغائبة، فإن اعتبرنا أن الكاتب يرى بأن تدريس السياسة أفضل من تدريس الأزياء وهذا إلى حدٍ ما حقه، فإن ما لم يقله في سبيل طرحه لرأيه لا يعتمد على آراء بل على حقائق وأدلة غائبة تماماً، فالأسباب الواقعية (الأقتصادية والاجتماعية مثلاً) التي تدعونا إلى نبذ تدريس الأزياء ترتبط بحقائق وإحصائيات (مثلاً: ما هو الدور الاقتصادي الذي سيؤديه تدريس السياسة، وما الفرق بينه وبين أقتصاديات علم الأزياء؟)، كما أن عدد الدول التي تدرس السياسة ولا تدرس الأزياء هو حقيقة كذلك يمكن تحديدها رقمياً. الحقائق الغائبة هنا هي الأساس الذي يبني عليه الكاتب رأيه.

يمكنني أن أضرب مثلاً آخر على مثل هذه الآراء التي يبدو في الظاهر أنها تعتمد على حقائق ولكنها في الواقع ليست كذلك، وإنما ما يبدو في الظاهر على أنه حقائق ليس كذلك في الحقيقة. لنفترض أن سالماً وهو طالب عماني يدرس في بريطانيا قد أخبر أهله بأنه يريد الزواج من زميلته الفرنسية، غير أن جميع أفراد أسرته رفضوا هذا بحجة أن الزواج من أجنبيات يفشل دائماً بسبب الاختلافات الثقافية، وهذه حجة شائعة ضد هذا النوع من الزواج. لا شك بأن رفض الزواج من أجنبية رأي للانسان الحق أن يتبناه، غير أنه في هذه الحالة يقوم على حجة غير ثابتة، إذ

- تنقص هذه الحجة تحديد نسبة الزواج الفاشل من المجموع الكلي لعدد الزيجات من أجنبيات،

- كما أنه حتى في حالات الزيجات الفاشلة فان فشلها ليس بالضرورة بسبب الاختلافات الثقافية، لأن الفشل في الزواج ظاهرة عامة تحدث لأسباب كثيرة منها مثلاً عدم التوافق الشخصي بين الزوج والزوجة أو خيانة أحدهما للآخر أو لأسباب عدم الانجاب، فلعل فشل بعض الزيجات العابرة للثقافات لا يعود للاختلافات الثقافية بل للأسباب العامة،

- أضف إلى ذلك أن القول الاختلافات الثقافية لا ينبغي أن يقبل باعتباره حقيقة، إذ ليست هذه الاختلافات بالضرورة سبباً في خلق المشاكل، فلربما كانت هذه الاختلافات سبباً في الثراء والتنوع في حياة الأزواج.

والناظر في الحوارات والأحاديث والمناقشات حوله سيجد الكثير والكثير من أمثلة هذه المواقف التي لا تقوم على حقيقة ولا على دليل بل على معتقدات لا تصل إلى درجة الحقائق لأنه لم يتم التثبت منها بالدليل والبرهان، كما أن الكثير من المواقف تعتمد على حقائق خاطئة أصلاً، ومثل هذه الاستنادات على حقائق موهومة هي التي تسمى بالمغالطات المنطقية التي هي محور هذه السلسلة من المقالات.

هناك تعليق واحد:

  1. العزيز عبدالله
    ما احوجنا الى بعض التفكير المنطقي في هذه الجلبة التافهة و صخب التسطيح و الاستلاب من كل معنى حقيقي . اشعر انني لا استطيع حتى الكلام من فرط ما ينهال علي رؤوسنا من اطنان السخافات على كل الاصعدة . لعل قليلا من العقل المتوشح بجلاء المنطق كفيل بفتح نوافذ ارحب و اكثر احتراما للذات .
    نهارك سعيد

    ردحذف