الحوار مع النفس شرطٌ للحوار مع الآخر
عبدالله الحراصي
[مقال نشر في جريدة عمان يوم الثلاثاء 11 أغسطس 2009 ضمن ملف "ثقافة الحوار بين الانفتاح والتشدد"]
عندما دعتني (جريدة عمان) للمشاركة في ملف حول ثقافة الحوار قلت في نفسي أنه موضوع مكرر، ولأتيقن من هذا التكرار استخدمت محرك البحث جوجل على الشبكة لأرى عدد مرات تكرار تعبير «ثقافة الحوار»، وإذا بي أجد أن هناك 131 ألف نتيجة، أي أن هناك 131 ألف صفحة في الانترنت تحتوي على هذا التعبير. أليس من الغريب مع غياب ثقافة الحوار نفسها (على وجه العموم وبقاء الاستثناءات) أن تجد كل هذه الآلاف المؤلفة من الصفحات التي تشير إلى ثقافة الحوار أو تناقشها باعتبارها موضوعها الرئيسي؟
بطبيعة الحال لم أقرأ كل هذا العدد من الصفحات ولكن وجودها بكل هذا الكم الضخم له وجهان متضاربان، أولهما سلبي ومفاده أن هذا الموضوع قد تحول من قضية فكرية-اجتماعية-سياسية إلى موضوع للحديث العام المستهلك، أي أنه أصبح ليس أكثر من «سالفة» يتكلم حولها الناس ثم ينفضون ليعودوا إلى مألوف حياتهم، أما الأمر الثاني فهو وجه أكثر إيجابية، ويفترض أن كثرة الحديث عن ثقافة الحوار، ومن بينها هذا الملف الذي بين يديكم الآن، تعني أن الثقافة العربية يشغلها هذا الموضوع كثيراً، وأنها تسعى للاقتراب منه وفهمه وسبر سائر جوانبه. ربما يقع السبب الحقيقي في ذيوع الحديث عن ثقافة الحوار مع ندرة وجوده في منزلة بين المنزلتين، السلبية والإيجابية، وربما له أسباب أخرى، ولكن يمكن القول أيضاً بأن تعبير «ثقافة الحوار» لا يعني بالضرورة الأمر ذاته عند كل من يتحدث عنه، بل أصبح مثل الفيل الضخم الذي يتلمس مجموعة من العميان بعض أعضاء جسمه فيعتقدون أنها الفيل نفسه، فمنهم من أمسك بالذيل وظن أنه الفيل، وآخر أمسك بالخرطوم، وثالث بإحدى الأقدام، وآخر بغير هذا وذاك، وهكذا دواليك، وأخذ كل منهم يصف الفيل باعتبار ما استطاعت يداه الإمساك به، دون أن يدري كلٌ منهم أن الفيل أكبر بكثير من هذه الأعضاء المتفرقة.
على وجه العموم فإن كثرة الحديث عن أمر ما لا تعني بالضرورة عدم وجوب الاستمرار في الحديث عنه، ولكن بشرط ألا يكون الحديث واقعاً في شَرَك تكرار الكلام المعهود والمتوقع مثل القول بأن ثقافة الحوار تتطلب احترام الآخر والاعتراف به، وأن ثقافة الحوار تتطلب غياب العنف، وأن الحوار خير من الحرب، وسواها من أفكار مكررة. سأحاول فيما تبقى من هذا المقال أن أطرح فكرة أن ثقافة الحوار بقدر ما تتطلب إعادة النظر إلى الآخر الذي يتحاور معه الإنسان فانها تتطلب قبل هذا ومعه إعادة النظر إلى الذات نفسها، أي أن قولك باحترامك لثقافة الحوار يعني أن عليك أن تعيد النظر إلى نفسك وتعيد تشكيل تلك النفس.
الذات (الفردية والحضارية) التي يمكن أن تدخل في حوار وتحترم ثقافة الحوار ليست ذاتاً منتهية، بمعنى أنها بقدر شعورها بقوتها، لا بد أن تشعر كذلك بضعفها، والضعف الذي أعنيه هنا لا يحمل شحنة دلالية سلبية بل يعني بأنها لا بد أن تؤمن بأنها ليست وحدها، ليس تكرماً بل إيماناً منها بأن التنوع أصلٌ لازمٌ في الحياة البشرية. لا يمكن لإنسان أن يدخل في حالة حوار وهو يفترض أنه يمتلك الحق النهائي بأي شكل من الأشكال، أما الحوار بين من يعتقدون أنهم يمتلكون الحق النهائي فليس إلا «جلسة استماع»، حيث يستمع فيها طرف للآخر تحت ضرورة اجتماعية-سياسية، وليس من منطلقات قيمية تطورية منها الايمان بأن الذات والهوية أمران غير منتهيين أبداً وأنهما في حالة تشكل وتغير دائمين.
وانطلاق أحد أطراف «الحوار» من فكرة الحق المطلق التي يمثلها يعني فيما يعنيه الايمان بما يمكن أن يسمى بـ«وحدانية البقاء الفكري»، أي بأن ما يمثله المرء هو الذي ينبغي أن يبقى، وأن القضية منتهى منها أصلاً، ولكن يحدث تكرماً أن يجلس أطراف مثل هذا «الحوار» ليتناقشوا، مع بقاء إيمان كل منهم (أو بعضهم) بأنهم يمثلون الحق والحقيقة، وأنهم وحدهم هم الباقون دون الآخرين. و«وحدانية البقاء الفكري» تفترض أن بقاء منظومة فكرية معينة يستلزم بالضرورة غياب المنظومات الأخرى، خصوصاً تلك المنظومات التي تعالج ذات القضايا ولكن من منطلقات مختلفة وبمناهج مختلفة.
إن نزعتي الحق النهائي ووحدانية البقاء الفكري نزعتان أنانيتان لا يمكن أن يقوما بأي حوار ولا أن يقوم بهما أي حوار، لأن الحوار يتطلب بالضرورة الإيمان بنسبية ما يحمله الانسان من فكر، والايمان بالحق في التنوع والإختلاف.
الحوار مع من يمثل هاتين النزعتين، أياً كانت طبيعة فكره (دينية-سياسية-ثقافية-اجتماعية) هو حوار فاشل لأن ذلك الطرف لن يدخل في نقاش منفتح يؤمن بتنوع طبيعة التجربة البشرية حول أية قضية، لأنه يحمل إشكالاً أصلياً ليس مع رؤية الفكر المختلفة لتلك القضية بل مع الفكر المختلف ذاته، فهو لا يؤمن بأن ذلك الفكر قد تكون له أوجه إيجابية ضمن التجربة البشرية (ولا أود هنا القول بأنه «قد يمتلك الحقيقة» لأنه لا يوجد فكر يملك الحقيقة)، كما أنه لا يؤمن في قرارة ذاته بأن ذلك الفكر من حقه أن يوجد وأن يقوم على قدميه وأن يحاوره. إن وجود الفكر الآخر يصبح هو المعضلة لا رؤاه المفردة حول المواضيع المختلفة.
مثل هذه الهويات الفكرية هي هويات قاتلة (كما يسميها أمين المعلوف)، وهي قاتلة للآخر، وقاتلة لإمكانات الفكر الإنساني، وقاتلة، قبل هذا، لنفسها لأنها تقوقع نفسها فيما هي فيه دون أن تسمح لنفسها بالتطور الحقيقي بالخروج من قوقعتها ورؤية العالم الإنساني الزاخر بالتجربة بالبشرية. ومن نافل القول التأكيد على انفتاح التجربة البشرية ولا نهائيتها، تلك التجربة البشرية التي تشمل الذات والآخر، ومن هذا المنظور فإن المنظومة الفكرية المنطلقة من انفتاح التجربة البشرية ستكون منظومة بناءة متطورة، لا قاتلة ساكنة.
الهويات القاتلة تدعي الايمان بقيم مثل «التسامح» و«التعايش»، وهي مفاهيم تقضي على احتمالات الحوار الفكري، فما يسمى قيمة «التسامح» تفترض يداً علياً على الآخرين ومِنَّة وتكرماً بالحديث معهم والاستماع إليهم، أما فكرة "التعايش" فتفترض هويات منتهية تتعايش مع بعضها البعض، دون أن تتغير هذه الهويات بحسب ضرورة تطور التجربة البشرية. هل يتعايش الإنسان مع الصحة؟ كلا، أنه يتعايش مع المرض، ولا يمكن أن يقوم حوار وأنت تعتقد أن الآخر الذي تريد «الحوار» معه، كالمرض، تضطر للتعايش معه، والصبرُ مُكرَهاً على وجوده.
الهوية القاتلة لا يمكن أن تدخل في حوار، لأنها منتهية لا تتطلب الحوار، أما الحوار فيتطلب إعادة نظر المنظومات الفكرية لذاتها، أي أن على كل منظومة فكرية أن تسأل نفسها عن العناصر الأساس التي تشكلها وتضعها في إطار تاريخي ضمن التجربة البشرية، وسؤال النفس هذا هو الضرورة اللازمة في الثقافة العربية لأنه حوار حقيقي مع الذات الفكرية، وإن كانت هذه الذات الفكرية صادقة في سعيها لفهم نفسها، فستكتشف في تتبعها لتاريخية فكرها وهويتها أنها مجرد «نتاج» بشري تشكَّل في مراحل تاريخية ولأسباب متعددة، وأن ما بين يدها من عناصر تَكَوُّنِها ليست عناصر نهائية بل أنها بشرية قابلة للأخذ والرد، وقابلة للزيادة والنقصان، والتأثير والتأثر، وقابلة للتطور والتدهور بل وحتى الاختفاء التام.
"ثقافة الحوار" لا يمكن أن توجد إذاً إلا إذا تم الحوار مع النفس قبل أن يتم مع الآخرين، وأن يتم هذا مع الاعتقاد بأن ما يبدو فوق التاريخ وفوق تطورات الحياة الانسانية وما يبدو متعالياً ليس في حقيقته إلا أمرٌ إنساني النشأة تاريخي التطور، كما أن ثقافة الحوار لا يمكن أن تتم إلا بالنظرة النسبية للذات، التي لا تفترض أنها أفضل أو أعلى من الآخرين، وأنها لا تمتلك وحدها الحق في وحدانية البقاء. في غياب هذه الشروط لن يتم حوار، وما قد يتم لا يتعدى جلسات استماع يستمع فيها كل طرف إلى الطرف الآخر، بلا طائلٍ يفيد التجربة البشرية المتطورة المنفتحة.
اسعدنا كثيرا قراءة المقال و عمقه الثقافي و جزاء الله كاتبه خير الجزاء،و حقيقة الامر بان الايمان بثقافة الحوار لفهم ذاتنا و تلمس الحلول لواقعنا هي ثقافة مسؤول عنها المجتمع بشكل عام من حيث تنمية هذه الثقافة و ترسيخها في النشئ و العمل بها حتي نستطيع ان نجني ثمار الحوار في حياتنا.فالامر يبداء من البيت بنشر هذه الثقافة و زرعها في اسرناو ذرياتنا والايمان و العمل بمخرجاتها،و كذلك امتداد هذا الى مجالس الاسرة و الحي و المدرسة الى ما غير ذلك من التجمعات التي ترسخ هذا المفهوم و تنشره.و الحوار مع الاخر و كما هو سائد كفيل بتجاوز الفروقات و الحواجز النفسية مع الاخرين و زيادة أحترامنا لوجة النظر الاخرى،شريطة ان نؤمن بقاعدة الحوار الاساسية التي هي "رأينا صواب يحتمل الخطاء و راى غيرنا خطاء يحتمل الصواب، ومن اتى بافضل من راينا اخذنا به"(هذا القول للامام الشافعي رحمه الله).
ردحذفلست ادري ان كان هذا الطرح عن الحوار ينطبق على الحوار السياسي ام له نسقا اخر يختلف
ردحذف