مغالطة الاتكاء على التراث (مغالطة "هذا ما وجدنا عليه آباءنا")
ولهذه المغالطة أكثر من وجه، أولها أن التراث والتقليد لا يعد دليلاً أبداً على صحة فكرة ما لأن الدليل على الصحة ينبغي أن يكون مرتبطاً بالفكرة ذاتها وليس مجرد توارث اعتقاد الناس بها، والأمر الآخر الذي يعزز من هذه المغالطة هو أن التراث والتقليد في هذه الحالة لن يكون دليلاً على صحة فكرة واحدة فقط بل على عدد ضخم من المعتقدات التي يتوارثها الناس. إضافة إلى ذلك فإن الأدلة العلمية الواقعية تثبت أحياناً الإعتقادات التراثية والتقليدية وأن توارث الاعتقاد بصحتها سببه الرئيس (من بين أسباب أخرى) يكمن في غياب الأدلة الحقيقية على صحتها.
الأمثال على سبيل المثال هي إحدى تجليات هذه المغالطة، والأمثال هي إحدى قنوات توريث المعتقدات السائدة، أو بلغتنا تعد الأمثال وسيلة ضخمة لتوريث المغالطات المنطقية. والعجيب أن الأمثال تسند نفسها في إستمرارية بقاء المغالطات المنطقية التي تحملها، فهناك مثل عماني يقول "المثل ما يغلط" وهو، من الناحية المنطقية، غير صحيح، فكثير من الأمثال المتوارثة تحمل كثيراً من الأخطاء التي يمكن إثباتها بشتى الطرق.
من الأمثلة على المغالطات المنطقية في الأمثال "لا تسكن على وادي ولا ترابع بادي" (وكلمة "بادي" هنا تعني الشخص البدوي)، وهذا المثل يفيد بضرورة البعد عن الأودية عند إنشاء المساكن، كما أنه يفيد أيضاً أن على الإنسان (الحضري) ألا يصادق أو يعاشر شخصاً بدوياً على أساس أن البدوي، بحسب التقاليد الحضرية، يخون الحضري ولا يحترم نظمه وأعرافه. إن الموضوعين اللذين يتحدث عنهما المثل لا يمكن أن يكونا صحيحين بسبب توارث الاعتقاد بهما من خلال المثل، فيمكن للإنسان أن يسكن بالقرب من الوادي إذا أخذ الأحتياطات المناسبة كأن يعزز من البناء الذي يشيده حتى لا يؤثر ذلك الوادي حينما يسيل عليه، وهذا الجزء من المثل يرتبط بنمط البناء القديم الذي يقوم على استخدام المواد البسيطة في البناء مثل جريد النخل (العريش) الذي يسهل على الوادي جرفه بعيداً. بل حتى في حالة السكن في مثل هذه البناءات يمكن للإنسان أن يتقي خطر الأودية باستخدام النشرات الجوية التي تمكنه من معرفة الأمطار وشدتها، ويمكن كذلك معرفة سيلان الأودية باستخدام الهاتف مثلاً فيعرف عن وجود الوادي من خلال التواصل مع سكّان المناطق التي يصل إليها الوادي قبل الوصول إلى منطقته.
والأمر نفسه ينسحب على الثقة في الشخص البدوي، حيث ينطوي المثل على نصيحة بعدم ثقة الإنسان (الحضري) بالبدوي، ولا شك بأن عدم الثقة بالبدوي هو بنفسه (بدون أن يتوارث) أمر خاطئ، لأنه يقوم على تعميم بأن كل البدو سواسية في سلوكهم، كما أنه يفترض بأن قيم الحضري وأنماط سلوكه أفضل وأقرب للصحة من تلك التي تميز البدوي، كما أنه يفترض بأن سلوك البدو لا يتغير على مرّ التاريخ (رغم عدم افتراضي أصلاً بسوء سلوكهم ماضياً أو حاضراً).
والمعتقدات الشائعة هي شكلٌ آخر من أشكال هذه المغالطة، فمن المعتقدات التي استمرت لمدة طويلة في عمان (ما زال البعض يؤمن بها) أن عقرباً تلدغ القمر فيغيب نور أثناء الخسوف. إن استمرار هذا الاعتقاد لا يعني أبداً صحته فقد أثبت العلم الحديث أن الخسوف ليس ظاهرة خارقة بل نتيجة طبيعية لتوسط الأرض بين القمر والشمس فتنعدم إمكانية أن يعكس القمر ضوء الشمس.
لماذا تستمر المعتقدات الخاطئة أي مغالطات الإتكاء على التراث؟ هناك عدة أسباب أهمها:
- لأن الناس قد ألفوها ويصعب عليهم تغييرها (الجمود الفكري)
- استصعاب الناس القيام بتجارب جديدة تؤدي إلى فهم جديد لما ألفوه (الكسل الفكري)
- أن هناك من يستفيد من بقاء هذا المعتقد، أي أن هناك جماعات أو رؤى فكرية أو سواها لا تزدهز إلا في بقاء الجمود والكسل الفكريين عند الناس.