الأربعاء، 28 يناير 2004

الفيلسوف وتلميذه: بين المحبة والهيمنة

الفيلسوف وتلميذه: بين المحبة والهيمنة

عبدالله الحراصي

موسى بن ميمون، فيلسوف اندلسي ولد عام 1135م في قرطبة وتوفي في القاهرة عام 1204م، وهو يهودي الديانة غير انه كان اسلامي الثقافة، فقد تعلم على يدي بعض علماء الاسلام وفلاسفته أهمهم ابن رشد، كما ان قضاياه الفلسفية هي ذات القضايا التي شغلت عقول الفلاسفة الاسلاميين والأفكار التي طرحها، برغم كونه أحد رؤوس العلم في الدين اليهودي على مر تاريخه، تدخل في نطاق الفكر الفلسفي الاسلامي المتأثر بدرجة او بأخرى بالفلسفة اليونانية. كتب ابن ميمون بعض كتبه بالعبرانية، غير انه كتب بعض أهم كتاباته بالعربية التي كانت لغة الثقافة والتواصل الفكري في العالم آنذاك، ويعد كتاب "دلالة الحائرين" أهم كتب ابن ميمون العربية، وهو كتاب مكون من ثلاثة أجزاء، كان في الأصل مجموعة من الرسائل التي كان يرسلها ابن ميمون فصلا فصلا الى أحد أقرب تلاميذه الى قلبه يسمى يوسف بن عقنين الذي كان يسكن الاسكندرية بمصر.

لن أتطرق في هذا المقال لرؤى ابن ميمون الفلسفية فهذا يحتاج الى مجال حديث أوسع ولكن سأحصر حديثي عن جانب يتكشف في ثنايا مقدمة هذا الكتاب، الذي يتميز بصرامة لغته وتحليلاته الفلسفية، وهو جانب علاقة الفيلسوف الاستاذ بتلميذه، هذه العلاقة التي سنرى انها تمزج بين جانب المحبة، أعني محبة الاستاذ لتلميذه، وهي محبة عميقة تقوم على ما رآه الاستاذ في تلميذه من عمق تفكير وفطنة، وجانب يتعلق بعلاقات القوى بين هذين الطرفين، وسعي الطرف الاقوى، وهو الاستاذ، لديمومة هذه العلاقة من خلال تحديده لنمط التطور الفكري للطرف الأضعف، اي تلميذه، بحيث لا يصل الى وضع فكري يهز هذه العلاقة.

يكشف ابن ميمون في مقدمة الكتاب عن علاقة الود الفكري بينه وتلميذه، فيذكر انه تابع هذا التلميذ منذ بدء معرفته به، حيث جاءه من أقاصي البلاد ليتعلم على يديه، ولاحظ تشوقه للعلم والفلسفة وشدة حرصه عليهما فعظم شأنه عنده، غير انه بالرغم من هذا رغب في امتحانه قبل ان يصطفيه لينقل اليه الفلسفة والعلم الالهي، فيقول ابن ميمون "وقبل ان امتحن تصورك قلت: لعل شوقه أقوى من إدراكه، فلما قرأت عليّ ما قد قرأته من علم الهيئة، وما تقدم لك مما لا بد منه توطئة لها من التعاليم، زدت بك غبطة لجودة ذهنك وسرعة تصورك ورأيت شوقك للتعاليم عظيما، فتركتك للارتياض لعلمي بمآلك". في هذا المقطع توقفت عند تعبيرين، أولهما قوله "زدت بك غبطة" فهو يكشف عن فرح الاستاذ الفيلسوف بأن تلميذه يسير في السبيل الذي حدده له على نحو تام، والفرحة هنا فرحة حقيقية تبدي ان نظرنا اليها من خلال منظور جانب علاقات القوى عن نجاح الاستاذ في ممارسة هيمنة فكرية على الطالب، والتعبير الثاني هو قوله "لعلمي بمآلك" فهو ذو أهمية خاصة هنا حيث يعبر عن بصيرة عميقة بهذا التلميذ والطريق الذي اختطه لنفسه وهو طريق الفلسفة وعلوم العقيدة، وهي بصيرة تجعل الاستاذ يتجاوز اللحظة الزمنية الحالية في تعامله مع تلميذه ليرى خطوط مستقبله، وهو السبب الذي يجعله يصطفيه ليحمله أسرار الفلسفة والدين التي لا يتحدث عنها العالم في العادة مع جميع تلامذته. ان علم الاستاذ بمآل التلميذ يكشف عن اعتقاده بالنجاح التام للهيمنة على تفكير هذا التلميذ، فالاستاذ لا يعرف الطريق فحسب بل يعرف ايضا نقطة النهاية التي سينتهي اليها هذا التلميذ في رحلته المعرفية.

علم ابن ميمون تلميذه المنطق وطرقه فأبصر تعمقه فيه ومسكه لناصيته وهو ما عده ابن ميمون خطوة جوهرية تقود نحو خطوة أخطر في هذه التربية الخاصة لهذا التلميذ. يكشف الاستاذ هنا عن سعادة قلبه بتلميذهن حيث يبوح قائلا "تعلقت آمالي بك"، وهي آمال تتعلق بأمر عظيم هو الفكر، وبوح ابن ميمون بتعلق آماله بتلميذ على هذا النحو، إضافة الى ما ذكره عن غبطته به، هو ثغرة يمكن ان نختلس من خلالها نظرة الى نفس هذا الفيلسوف الذي يحاول جهده في كل حرف من حروف كتابه ان يكبح النفس وان يعلو عليها الى سمو العقل المجرد.

يتحول ابن ميمون بعد هذا الى الكشف عن التدرج في تعليم هذا التلميذ الاسرار الدينية، حيث كان يمنحها له كأنه طبيب يقدم للمريض جرعة صغيرة تتبعها أخرى أكبر منها بعض الشيء وهكذا الى ان يعطيه الجرعة الأساسية التي ستكون جوهر العلاج. يقول ابن ميمون "أخذت الوح لك تلويحات وأشير لك باشارات" وهو في هذا يتابع التلميذ الذي كان يستجيب كما يتوقع الشيخ الذي يقول "فرأيتك تطلب مني الازدياد، وتسومني أن أبين لك أشياء من الامور الالاهية". لقد وقع التلميذ إذاً! غير ان هناك أمرا يحدث ليقلل من غبطة الاستاذ فقد كان التلميذ، بالرغم من ثقته بما كان يتعلمه من شيخه، يستمع لآخرين، وهو ما جلب في عقله بعض التشويش الفكري بين ما يقوله ابن ميمون وما يقوله الاخرون، ويصف ابن ميمون حالة الاضطراب الفكري هذه بقوله "ورأيتك قد شدوت شيئا من ذلك على غيري، وأنت حائر، قد بذتك [انهكتك] الدهشة". يتبادر الى الذهن سؤال هنا: هل كان التلميذ بإستماعه لشيوخ آخرين يسعى للإنفلات من أسر ابن ميمون وهيمنته الفكرية عليه؟

يكشف الاستاذ في هذا الموضع عن اختلاف في الرؤية بين التلميذ والشيخ. الشيخ يقسط العلم لتلميذه، فيما يرغب التلميذ في المزيد والمزيد وعلى عجل، وهو ما يجعل ابن ميمون يهديء من تسارع الرغبة في المعرفة عند هذا التلميذ فيقول "فلم أزل أدفعك عن ذلك وآمرك أن تأخذ الاشياء على ترتيب"، أي أن يتدرج في التعلم وأن لا يقفز على أي علم حتى يكمل العلم اللازم الذي ينبغي ان يسبقه، وهدف ابن ميمون يكشف عنه في قوله "قصدا مني أن يصح لك الحق بطرقه لا أن يقع اليقين بالعرض"، أي حتى لا يصل التلميذ الى استنتاجات ليست هي الاستنتاجات الحقيقية، بحسب رؤية الاستاذ. الاستاذ يمارس هنا دورا سلطويا عميق الأثر في تحديده لسلوك التلميذ المعرفي. فهو أولا يريده ان يصل الى ما وصل اليه هو، لا ان يختط لنفسه خطا ربما يصل به الى نتائج تباين تلك التي توصل اليها الاستاذ، وهذا لا يتم الا من خلال تحديد اسلوب الوصول الى هذه الاستنتاجات. يتجلى هذا الدور السلطوي في كلمة "الحق" التي تعني هنا ما يراه الاستاذ فحسب، وكلمة "طرقه" التي تشير الى المناهج التي يحددها هذا الاستاذ، كما تتجلى في التفرقة بين العرض واليقين، فإن النتائج التي يرغبها الاستاذ هي "اليقين"، أما ان توصل الى آراء تباين ما توقعه الاستاذ فهي ليست الا شيئا زائفا ولا تمثل الحقيقة من باب.

بعد هذا يتحدث ابن ميمون عن افتراقه عن تلميذه وتأثيره في نفسه وهو ما أدى به الى تدوين هذا الكتاب، يقول ابن ميمون "فلما قدر الله بالافتراق وتوجهت الى حيث توجهت أثارت في تلك الاجتماعات عزيمة كانت قد فترت، وحركتني غيبتك لوضع هذه المقالة التي وضعتها لك ولأمثالك، وقليل ما هم!" فهل كان هذا استمرارا في العلاقة الملتبسة التي تمزج بين الحب والهيمنة الفكرية؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق