الخميس، 15 يناير 2004

بين الكتب

بين الكتب

عبدالله الحراصي

عدت هذه الأيام لقراءة العقاد، فأنتقيت من مجموعته الكاملة التي أصدرتها "دار الكتاب اللبناني" المجلد السادس والعشرين الذي يحتوي على كتابه المعروف "ساعات بين الكتب"، وهذا الكتاب خلاصة قراءات العقاد لكتب مختلفة المواضيع والاتجاهات، يقدمها تقديما عقاديا يدخل في مكنوناتها محللا ناقدا، مهاجماً ومدافعاً، كما هو العقاد دائماً. في مقدمته للكتاب يتحدث العقاد عن علاقة الكتاب بالحياة ويقول ان الكتابة ليست انعزالا عن الحياة بل انها أحد أهم تجليات وجود الحياة بنبضها الحقيقي، ويصف هذا في عبارة رائعة "وإنما الكتاب الخليق باسم الكتاب في رأيي هو ما كان بضعة من صاحبه في أيقظ أوقاته وأتم صوره وأجمل أساليبه، وهو الحياة منظورة من خلال مرآة إنسانية تصبغها بأصباغها وتظللها بظلالها، وتبدو لك جميلة أو شائهة عظيمة أو ضئيلة محبوبة أو مكروهة فتأخذ لنفسك زبدتها الخالصة وتعود بها وأنت حي واحد في أعمار عدة أو عدة أحياء في عمر واحد".

ينطلق العقاد من هذه العلاقة الوجودية بين الحياة والكتابة والكتب ليتوغل في وهم من الأوهام التي تسود في عقول كثير من الناس حول الكتب وقراءاتها ما زال منتشرا حتى يومنا هذا وهو "ان دنيا الكتب غير دنيا الحياة وأن العالم أو الكاتب طراز من الخلق غير طراز هؤلاء الآدميين الذين يعيشون ويحسون ويأخذون من عالمهم بنصيب كثير أو قليل". وللعقاد تفسير طريف لهذا الوهم وهو انه من بقايا الزمن الذي امتزج فيه الدين بالعلم، حيث كان العلم في بدايته مرتبطاً بالدين وكان رجل العلم هو نفسه رجل الدين، والأخير من شأنه الزهد والانعزال والتجرد عن كثير من ممتعات حياة الناس العادية، وكان العلم ضرباً من السحر أو الالهام الذي لا يمكن ان يأتي الانسان وهو يعيش في جلبة شؤون الحياة العادية بل يستدعي منه ان يزهد في هذه الحياة وان يعيش بعيداً عنها متأملا في أمور تباينها مباينة جذرية. غير انه بتطور الايام انفصل العلم عن الدين، حيث أصبح لكل مجال من مجالات العلم متخصصون ليسوا بالضرورة من رجال الدين أو علماءه، وأصبح الكاتب يكتب من وسط لجة الحياة، غير ان هذا التصور الذي يربط الكتابة والعلم بالزهد في الحياة لم يختف بإختفاء الظاهرة التي أوجدته بل بقي حياً في العقول.

أود فيما سيتبع ان انطلق من حديث العقاد عن علاقة الكتب بالحياة والزهد فيها الى حديث يتعلق بالقراءة والكتب في أيامنا هذه، حيث نرى بعض الاختلاف عما كان عليه في الزمن الذي كتب فيه العقاد كتابه (اي العشرينات من القرن الفائت). في أيامنا هذه أصبح هناك نوعان رئيسان من الكتب يمكننا توسعاً ان نقسمهما الى كتب "أهل الغيب" (وهي الكتب التي ما يزال أغلب الناس يرون مؤلفيها وقراءها بإعتبارهم من الزهاد في الحياة) وكتب "أهل الحضور" (وهي الكتب التي يؤلفها كتاب ويقتنيها قراء منغمسون في الحياة الحاضرة في أبسط معانيها وتجلياتها) وهناك كتب تقع على نحو ما في منزلة بين هاتين المنزلتين.

كتب "أهل الغيب" هي من نوع الكتب التي أشار اليها العقاد في حديثه عن أوهام إنعزال الكتاب عن الحياة. تناول كتاباً جادا ولن تعدم من يسألك (صادقا) "هل ستقرأه كله؟ هل عندك وقت لقراءته؟"، هذا عن القراءة والأعجب منها الاسئلة التي تسأل عن الكتابة فـــ"من أين للكاتب الوقت لكتابة هذا الكتاب؟ ألم يكن لدين شغل آخر يشغله؟"، وهذا الانسان يقيس حياة الكاتب والقاريء بمقياس حياته التي يراها مكتملة لا نقص فيها دون هذا الكتاب، بل ان الالاف المؤلفة من الكتب تكتب وتقرأ دون ان يكون لغيابها أثرا فيه أصلا، ومن هذا تصدر مثل هذه الاسئلة المستغربة حول القراءة والكتابة، وبهذا فإن هذه الكتب من كتب "أهل الغيب" لبعدها عن اهتمامات أغلب الناس في حياتهم الحاضرة.

أما "كتب أهل الحضور" فهي تلك الكتب التي ما ان يعلن عن نشرها حتى تراها تباع بالالاف المؤلفة من النسخ، يتزاحم الناس على أماكن بيعها تزاحماً عظيماً، ولهذه الكتب خصلتان. أولاهما انها كتبت في مواضيع ليست من المواضيع التي يتطرق اليها عادة كتاب الغيب، فمواضيعها بسيطة قريبة من الانسان العادي كالروايات السيارة والرسائل الغرامية وكتب الطبيخ وكتب المشاهير وأسرارهم والكتب التي تقدم حلولا لمشاكل اجتماعية تتعلق بالزواج وتربية الابناء وسواها من مواضيع. والخصلة الثانية لهذه الكتب تتعلق بأماكن بيعها، فحسبك ان تذهب الى أي محل لبيع المواد الغذائية لتجد ان كتب "أهل الحضور" حاضرة فيه، تباع في ركن قريب من الخضار والحليب الطازج والملابس الجاهزة، وفي هذا اشارة الى ما وصلت اليه الكلمة بعد اختراع الطباعة، كتابة وقراءة، حيث فتحت المطبعة الباب أمام الجميع لكتابة ما يودون كتابته اقتناعا او تكسبا او لأي غرض آخر، كما ان التعليم، أي محو أمية الحروف، فتح الباب أمام الجميع لقراءة هذه الكتابات التي تخاطب الانسان البسيط وتتناول أمورا تمسه مباشرة في حياته الشخصية الصرفة. أمر آخر يشير اليه وضع كتب "أهل الحضور" هذا هو ان الكتاب فقد تلك الرهبة التي كان يولدها قديماً، فقد أصبح هذا الضرب من الكتب من "الحاجيات" اليومية (أتود أن تقنعني ايها القاريء انك لم تضع في حياتك كتاباً في نفس سلة المشتريات التي تضع فيها علبة الحليب والزيتون الأسود؟!)

أما الكتب التي في المنزلة بين المنزلتين فأمرها أعجب، ذلك ان كتابها من "أهل الغيب" لكنها قراءها من "أهل الحضور". أعني هنا تلك الكتب التي لا مراء في أهميتها الفكرية وقيمتها المعنوية ولا مراء كذلك ان كتابها هم من "أهل الغيب" بحسب تقسيمنا هنا، الا ان العجيب هو ان قراءها هم أقرب الى "أهل الحضور"، ويتعاملون معها تعاملا يكاد يقترب من التعامل الذي تجده الكتب السيارة التي ذكرتها في الفئة الثانية، والدليل على ذلك هو انك تجد بعضها يباع كذلك في نفس الأماكن التي تباع فيها كتب الطبيخ وكتب رسائل المودة والغرام والرد عليها. كيف لنا ان نفسر وجود كتاب "البخلاء" او كتاب "كليلة ودمنة" وسط كتب الطبيخ ورسائل المودة؟ قد يكون هناك أكثر من تفسير لذلك لكنني أرى ان التفسير الأصوب هو ان هذه الكتب نالت شهرة كبيرة جعلتها أقرب للتحف التي لا بد ان توجد نسخة منها على الأقل في البيت، لمن استطاع الى ذلك سبيلا. ربما تذكر هذه الكتب فجأة وسط حديث عام (الحديث عن فلان "البخيل" مثلا يجر الحديث الى كتاب الجاحظ، فيما تجر أفلام الرسوم الكرتونية حول الأرنبة والثعلب حديثا عن كتاب ابن المقفع، ثم تعاد هذه الكتب الى رفوفها – آمنة مطمئة – بعد الانتهاء من ذلك الحديث)، أو ربما تناول أحدهم كتاباً من هذه الكتب مستدعيا النعاس قبل ان ينام، ومن أفضل من الجاحظ أو ابن المقفع مجلبة للنوم؟!

****

تنويه: ورد في مقال الاسبوع الماضي "حول جوابات الامام السالمي" في ثلاثة مواضع ذكر للدراجة النارية في سياق جواب للإمام السالمي عن ركوب "البيسكل" والصواب بطبيعة الحال هو "الدراجة الهوائية" وليس "الدراجة النارية"، وهو خطأ طباعي غير مقصود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق