حول "جوابات الامام السالمي"
عبدالله الحراصي
يحتوي كتاب "جوابات الامام السالمي" على فتاوي الامام نور الدين عبدالله بن حميد السالمي (1286-1332 هـ/ 1868-1914 م)، وقد صدرت الطبعة الثانية (التي بين يدي) من هذا الكتاب عام 1999، واشرف على نشره عبدالله السالمي فيما قام على تنسيقه ومراجعته د. عبدالستار أبو غدة، ويتكون من ستة مجلدات (اضافة الى مجلد سابع يحتوي على فهارس الكتاب).
تضع كلمة "فتاوي" الكتاب في خانة الفقه ضمن التقسيم التقليدي للنصوص، فالفتوى هي جواب من عالم دين على سؤال حول قضية ما تشغل بال السائل، وهو جواب يسند العالم فتواه فيه بأدلة من القران الكريم والسنة النبوية الشريفة وغيرهما من المصادر المقبولة. والفتوى من منظور اجتماعي نقدي نص ينتجه طرف أقوى في التفاعل الاجتماعي لتحديد سلوك طرف أضعف ضمن الرؤية الدينية التي يتفق كل من السائل والمسؤول على جوهريتها في تسيير عملية التفاعل الاجتماعي هذا. إذا نظرنا الى الكتاب بإعتباره مجموعة من الفتاوي فإنه يحتوي على فتاوي تشمل كل أوجه الحياة التي يمكن ان يتخيلها الانسان، فهناك البيع والنذور والوصية والزكاة والغش والمرض والارث وغيرها من القضايا التي كانت تشغل الناس في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهي قضايا يظهر تنوعها كذلك سعة أفق الامام السالمي وموسوعيته وإدراكه لمختلف الابعاد الفقهية وغير الفقهية لهذه القضايا.
ودراسة هذه الفتاوي بإعتبارها نصوصاً فقهية أمر ينبغي ان يلتفت اليه المتخصصون في الفقه، وطباعة فتاوي الامام السالمي، وفتاوي آخرين من العلماء العمانيين الموسوعيين، أمر يقدم خدمة عظيمة للباحثين في مجال الفقه لدراسة رؤى هؤلاء العلماء الأجلاء في القضايا المختلفة، كما انه يُمَكِّن من دراسة جوانب أخرى كتطور الرؤى الفقهية عبر العصور المختلفة وتغير الفتوى عند نفس العالم بحسب تغير الزمان والمكان وغيرها من الظروف المؤثرة على الفتوى. غير ان ما أود الاشارة اليه في هذا المقال ليس الجوانب الفقهية في الفتاوي بل ما تحمله هذه الاجوبة والفتاوي من أبعاد أخرى تتعلق بنواحي ثقافية وحضارية عامة يمكن تقفيها في الاسئلة نفسها وفي الرؤى التي توحي بها أجوبة الامام السالمي نفسه.
أعني بالنواحي الثقافية والحضارية للفتوى تلك الجوانب التي تتجاوز الرأي الديني المحض المتعلق بالجواز او الحرمة وبالأسانيد الدينية على سبيل المثال، بل تلك التي تتعلق بمستويات أعلى من مستويات حياة المجتمع وحضوره في التاريخ. من الأمثلة التي يمكن ان توضح هذه النقطة تلك الاسئلة والاجوبة التي تتعلق بموقف عالم الدين في لحظة اصطدام (او التقاء، إن شئت) الحضارة الاسلامية بالحضارة الغربية، وهي لحظة تفاعل غاية في الأهمية في فهم رؤية الذات لهويتها وللآخر وفي فهم السبل التي اتبعها علماء الدين في الحفاظ على ما كانوا يرونه هوية اسلامية لا ينبغي التخلي عن مقوماتها الجوهرية. في "جوابات الامام السالمي" نجد عديدا من الأمثلة التي توثق موقفه في لحظة التفاعل الحضاري هذه، وهي أمثلة تتعلق بقضايا تبدو شكلانية في الظاهر وهي في الحقيقة ذات أثر بعيد في الفهم الحضاري للذات والاخر. سئل الامام السالمي على سبيل المثال عن ركوب الدراجة الهوائية، وهنا نص السؤال الذي تحمل صياغته نفسها جوانب تستحق الاشارة اليها "ما ترى في ركوب (البيسكل) وهو مركوب سريع المسيار، وهو من البدع التي ابتدعها النصارى في ذا العصر ونشروها في الاقطار لجلب الربابي من أهلها وربما افضى لجلب الدين لأننا رأينا من كنا نعتقد منه الصلاح فركب ذلك فآل أمره الى الفساد وقد كان أول حدوثهن في هذا القطر اذ انفرد بركوبه النصارى والهنود ثم صار فاشياً في اولاد العرب وغيرهم. ما ترى في ركوبه؟ بين لنا شيخنا." السؤال هنا يقود عالم الدين الى اجابة محددة سلفاً، فطريقة تقديمه لظاهرة الدراجة النارية سلبية تماماً فهي (1) بدعة نصرانية، و(2) نشرت لسلب الناس اموالهم، و(3) ربما ستسلب الناس دينهم ويشير الى حالة معينة آل صاحبها الى "الفساد".
غير ان الاجابة على هذا السؤال تأتي على نحو يظهر وعي عالم الدين بالطريق الذي يأخذه فيه السائل فيتوقف ولا يمضي معه الى النهاية التي يريدها، فيقول الامام السالمي "لا أعرف ما البيسكل فكيف أقول في شيء لا أعرفه"، وهي أجابة تكشف عن احتياط واع تماماً بنفسية السائل وبهدفه المحدد سلفاً (اي الهدف الأميل الى التحريم)، ثم يشير الى قضية اخرى تتعلق بالتواصل مع الحضارات الاخرى اشار اليها السؤال بطريقة سلبية حين قال "هو من البدع التي ابتدعها النصارى"، فيربط الامام السالمي الحكم بمبدأ يعلو على هوية صانع الدراجة النارية (أي النصارى) وهو مبدأ "فساد الدين" فيقول "غير ان جملة القول فيما يفضي الى فساد الدين ان فعله حرام بلا خلاف بين المسلمين، وان كان لا يفضي الى ذلك فلا يمنع ركوبه لكونه من بدع النصارى فهذه المراكب البحرية وتلك السطل البرية جميعها مبتدع ولا وجه للقول بمنع ركوبها لكونها من بدع النصارى"، وهنا يستخدم الامام نفس الكلمة التي استخدمها السائل وهي كلمة "بدعة" ولكن بمعنى اخر غير المعنى السلبي الصرف الذي قصده السائل، حيث أتت هذه الكلمة في جواب السالمي بمعنى الصناعة، اي صناعة منتج لم يوجد من قبل، وهو تغيير في الدلالة ينزع عن القضية الحمولة السلبية التي أرادها السائل ولهذا أجاز الامام ركوب الدراجة النارية ما لم تؤد الى إفساد الدين، وهو ما يعني قبولا لمنتجات الحضارة الاخرى التي لا تفضي الى تغيير في الجوهر الديني للإنسان.
ومن الاسئلة التي استوقفتني سؤال يتعلق بلحظة التقاء حضاري آخر حيث تخلى البعض عن لبس العمامة البيضاء المعروفة وأخذوا يرتدون المصر المدراسي (اي المصنوع في مدراس في الهند)، وهنا نجد ايضا ان السائل يسأل كذلك "هل صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام والتابعون لبسوا مثل ذلك؟". يأتي جواب السالمي أولا رافضاً التشبه بالاخرين، وهو ليس رفضاً للمصر في ذاته بل بإعتباره يمثل رمزاً على حضارة أخرى ولبسه يشير الى خلل في هوية المسلم، غير انه بالرغم من هذا الرفض الرمزي يشير الى مبدأ ديني آخر هو "تطبيق السريرة بالعلانية" فيعود ليفضل هذا الخلل الرمزي ان كان الخيار الاخر يمثل خللاً في جوهر الهوية المسلمة، اي ان كان المسلم لا يلبس العمامة التقليدية اقتناعا بل اتباعا للآخرين. أمام هذين الخيارين فإن الافضل لبس المصر وترك العمامة التي تشير في هذه الحالة الى نفاق شخصي واجتماعي خطير، فيقول السالمي "وبالجملة فالمصر المدراسي خير من بعض العمائم التي تنطوي على النفاق، ومن هذا المعنى لم نشدد على أولادنا في تركه لئلا تكون عمائمهم منطوية على نفاق".
إجمالا يحتوي كتاب "جوابات الامام السالمي" على كنز ضخم من الفتاوي التي ينبغي ان تدرس من خلال أطر علمية جديدة تقوم على إخراج هذه الفتاوي من مستوياتها الفقهية الصرفة الى مستويات ثقافية أشمل، وهي مستويات سيؤدي التعمق فيها لا ريب الى توضيح كثير من جوانب الثقافة العمانية التي لم تحظ بالدراسة المنهجية المعمقة حتى الآن.
كلام جميل رائع سائغ، وهذا ملاحظ في علمائنا على مر العصور، فهم حريصون على تحر الحق في فتاواهم وموافقتها لظروف الواقع الزمانية والمكانية، وفي ذلك كنز لا يخفى على المتبصر، ومن قراءاتي فإن المثال على الاستفادة المقننة التي لا تمس الهوية من الحضارات الأخرى قد تجلى بينا في الحضور العماني في إفريقيا حينما استفادوا من تطورات الغرب وطبقوا بعض مخترعاتهم في حياتهم اليومية، بل إني قرأت أن أبا مسلم طالب مرة الحكومة البريطانية بألا تغادر إحدى مستعمراتها إلا بعد أن تعمرها بالمستشفيات والطرق الحديثة
ردحذف