الأربعاء، 11 فبراير 2004

المنفى العماني



المنفى العماني

عبدالله الحراصي

تتحدث كتب التراث العربي عن ظاهرة جديرة بالتأمل وهي ظاهرة المنفى العماني لعدد من شعراء الدولتين الأموية والعباسية، وتتكرر حكاية النفي في العادة من ناحية تطور أحداثها، حيث يقوم الشاعر بكتابة قصيدة لا ترضى عنها السلطة القائمة في مركز الدولة الاسلامية في الشام او العراق فيشعر الشاعر بالخوف على نفسه من بطش الحاكم الذي يأخذ في مطاردته، فيختار الشاعر عمان، البلاد البعيدة عن المركز من ناحية والتي توفر له الأمن والطمأنينة على نفسه من ناحية أخرى. سأتحدث في هذا المقال عن قصة شاعرين إختارا المنفى العماني هما كعب بن معدان الأشقري وعمران بن حطان الشاري.

كعب الأشقري شاعر عماني الأصل، ويعده النقاد من الشعراء المجيدين، وكان قد خصص شعره في مدح المهالبة، غير انه اختلف معهم فمدح قتيبة بن مسلم عندم تولى خراسان وهاجم في شعره يزيد بن المهلب، فلما علم بولاية يزيد على خراسان، هرب الى عمان على طريق الطبسين، ويذكر كتاب "الأغاني" انه قال في رحلته فراره الى عمان أبيات شعر تكشف عن نفسيته الهاربة من مدينة "مرو" والمتأملة الطمأنينة في وطن أجداده عمان التي ستكون معقلا له وحرزا يحميه من غضب يزيد والمهالبة فيقول:

وإني تارك مروا ورائي إلى الطبسين معتام عمانا

لآوي معقلا فيها وحرزا فكنا أهل ثروتها زمانا

(ملاحظة: الفعل "اعتام" يعني "اختار")

وصل كعب الى عمان وعاش فيها دهراً غير ان نفس الشاعر القلقة، وإختلاف طبيعة عمان وجوها وجفافها مقارنة بخراسان وأواسط آسيا حيث عاش سابقاً، جعلاه يضيق ذرعا بالحياة في عمان فعزم على مغادرتها وكتب قصيدة تكشف عن نفسية أخرى تختلف عن نفسيته الاولى التي كانت تتأمل الطمأنينة في عمان، فهنا نجد شاعرا يهجو الطبيعة العمانية وجبالها فيقول:

بئس التبدل من مرو وساكنها أرض عمان وسكنى تحت أطواد

يضحي السحاب مطيرا دون منصفها كأن أجبالها غلت بفرصاد

وما أعظم الفرق في نفسية الشاعر بين الأمس واليوم، أي بين "مرو" وعمان، فبالأمس نجد الشاعر يقرر ان يترك "مروا" وراءه الى عمان حيث المعقل والحرز، أما اليوم فنجد يهجو هذا المعقل كما تبينه كلمة "بئس". بعد هذين البيتين يعمد الشاعر الى استراتيجية لجأ اليها كثير من الشعراء في مثل حاله، وهي إظهار الندم على هجاءه المتقدم وتبريره على انه كان ضحية عملية تضليل من قبل أعداء المهالبة:

يا لهف نفسي على أمر خطلت به وما شفيت به غمري وأحقادي

أفنيت خمسين عاما في مديحكم ثم اغتررت بقول الظالم العادي

أبلغ يزيد قرين الجود مالكه بأن كعبا أسير بين أصفاد

فإن عفوت فبيت الجود بيتكم والدهر طوران من غي وإرشاد

وإن مننت بصفح أو سمحت به نزعت نحوك أطنابي وأوتادي

غير ان يزيدا لم ينس هجاءه ولم يصفح عنه فحبسه وأمر أحد أقاربه فقتله.

الشاعر الثاني الذي اختار المنفى العماني كان عمران بن حطان، وهو كما يقول الاصفهاني "من شعراء الشراة ودعاتهم والمقدمين في مذهبهم"، ويذكر كذلك انه لم يكن مقاتلا بل اقتصر دوره على شن الحملات النفسية والإعلامية على أعداء الشراة والدعوة الى مذهبهم برغم انه لم يكن الأصل من الشراة بل تحول الى هذا المذهب لأسباب اختلف فيها فمن قائل انه تحول بعد ان دعاه شخص عماني الى المذهب وآخر يقول ان هذا التحول كان بسبب تزوجه إمرأة من الشراة نجحت ليس فقط في تحويل مذهبه الى مذهب الشراة بل في تحويله الى داعية لمذهبهم بشعره وأدبه، ويبدو انه استطاع بشعره ان يؤثر على الكثيرين من أهل البصرة على نحو يشكل تهديدا لنظام الدولة القائمة آنذاك، وهو ما يكشف عنه الحجاج بن يوسف بنفسه في رسالته الى عبدالملك التي يطلب منه فيه القبض عليه حيث يقول "أما بعد فإن رجلا من أهل الشقاق والنفاق قد كان أفسد علي أهل العراق وحببهم بالشراية ثم إني طلبته فلما ضاق عليه عملي تحول إلى الشام فهو ينتقل في مدائنها".

نزل عمران في الشام عند روح بن زنباع الجذامي الذي كان جليس عبدالملك بن مروان دون ان يكشف له عن هويته. ويروى الأصفهاني ان روح أخبر عبدالملك عن ضيفه ووصفه له فأدرك عبدالملك انه عمران فسأله ان يزوره، وما ان اخبره روح بطلب الخليفة حتى قرر الهروب من الشام، وترك في بيت روح، قبل ان يبدأ رحلة هروب أخرى انتهت به الى عُمان، أبياتاً رائعة تكشف عن نفس ثابتة على مبدأ الشراة الثائر الذي لا يجاري من يعدونهم طغاة، فيتحدث أولا عن تجربته في الهروب وإخفاء هويته حتى يظن الناس انه ليس من الشراة ثم فراره حين تنكشف شخصيته:

يا روح كم من أخي مثوى نزلت به قد ظن ظنك من لخم وغسان

حتى إذا خفته فارقت منزله من بعد ما قيل عمران بن حطان

ثم يتحدث عن شعوره بالأمان في فترة استضافته عنده الى ان شعر بالخوف فآثر الهروب:

قد كنت ضيفك حولا لا تروعني فيه الطوارق من إنس ولا جان

حتى أردت بي العظمى فأوحشني ما أوحش الناس من خوف ابن مروان

فاعذر أخاك ابن زنباع فإن له في الحادثات هنات ذات ألوان

يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معديا فعدناني

ويتحدث في بيتين بديعين عن جوهر شخصيته الشارية التي تأبى الانقياد والخضوع، فيقول انه لو أراد التخلي عن مبدأه هذا لكان في وضع المقدم عند الخليفة منذ زمن بعيد:

لو كنت مستغفرا يوما لطاغية كنت المقدم في سري وإعلاني

لكن أبت ذاك آيات مطهرة عند التلاوة في طه وعمران

كعب الاشقري وعمران بن حطان ليسا الأديبين الوحيدين الذين اختارا المنفى العماني حيث تذكر كتب التراث أسماء آخرين اختاروا هذا المنفى البعيد عن مراكز الدولة الاسلامية والذين يوفر، ولو إلى حين، بعض طمأنينة النفس التي فقدوها في هذه المراكز.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق