موسى بن ميمون، فيلسوف اندلسي ولد عام 1135م في قرطبة وتوفي في القاهرة عام 1204م، وهو يهودي الديانة غير انه كان اسلامي الثقافة، فقد تعلم على يدي بعض علماء الاسلام وفلاسفته أهمهم ابن رشد، كما ان قضاياه الفلسفية هي ذات القضايا التي شغلت عقول الفلاسفة الاسلاميين والأفكار التي طرحها، برغم كونه أحد رؤوس العلم في الدين اليهودي على مر تاريخه، تدخل في نطاق الفكر الفلسفي الاسلامي المتأثر بدرجة او بأخرى بالفلسفة اليونانية. كتب ابن ميمون بعض كتبه بالعبرانية، غير انه كتب بعض أهم كتاباته بالعربية التي كانت لغة الثقافة والتواصل الفكري في العالم آنذاك، ويعد كتاب "دلالة الحائرين" أهم كتب ابن ميمون العربية، وهو كتاب مكون من ثلاثة أجزاء، كان في الأصل مجموعة من الرسائل التي كان يرسلها ابن ميمون فصلا فصلا الى أحد أقرب تلاميذه الى قلبه يسمى يوسف بن عقنين الذي كان يسكن الاسكندرية بمصر.
لن أتطرق في هذا المقال لرؤى ابن ميمون الفلسفية فهذا يحتاج الى مجال حديث أوسع ولكن سأحصر حديثي عن جانب يتكشف في ثنايا مقدمة هذا الكتاب، الذي يتميز بصرامة لغته وتحليلاته الفلسفية، وهو جانب علاقة الفيلسوف الاستاذ بتلميذه، هذه العلاقة التي سنرى انها تمزج بين جانب المحبة، أعني محبة الاستاذ لتلميذه، وهي محبة عميقة تقوم على ما رآه الاستاذ في تلميذه من عمق تفكير وفطنة، وجانب يتعلق بعلاقات القوى بين هذين الطرفين، وسعي الطرف الاقوى، وهو الاستاذ، لديمومة هذه العلاقة من خلال تحديده لنمط التطور الفكري للطرف الأضعف، اي تلميذه، بحيث لا يصل الى وضع فكري يهز هذه العلاقة.
يكشف ابن ميمون في مقدمة الكتاب عن علاقة الود الفكري بينه وتلميذه، فيذكر انه تابع هذا التلميذ منذ بدء معرفته به، حيث جاءه من أقاصي البلاد ليتعلم على يديه، ولاحظ تشوقه للعلم والفلسفة وشدة حرصه عليهما فعظم شأنه عنده، غير انه بالرغم من هذا رغب في امتحانه قبل ان يصطفيه لينقل اليه الفلسفة والعلم الالهي، فيقول ابن ميمون "وقبل ان امتحن تصورك قلت: لعل شوقه أقوى من إدراكه، فلما قرأت عليّ ما قد قرأته من علم الهيئة، وما تقدم لك مما لا بد منه توطئة لها من التعاليم، زدت بك غبطة لجودة ذهنك وسرعة تصورك ورأيت شوقك للتعاليم عظيما، فتركتك للارتياض لعلمي بمآلك". في هذا المقطع توقفت عند تعبيرين، أولهما قوله "زدت بك غبطة" فهو يكشف عن فرح الاستاذ الفيلسوف بأن تلميذه يسير في السبيل الذي حدده له على نحو تام، والفرحة هنا فرحة حقيقية تبدي ان نظرنا اليها من خلال منظور جانب علاقات القوى عن نجاح الاستاذ في ممارسة هيمنة فكرية على الطالب، والتعبير الثاني هو قوله "لعلمي بمآلك" فهو ذو أهمية خاصة هنا حيث يعبر عن بصيرة عميقة بهذا التلميذ والطريق الذي اختطه لنفسه وهو طريق الفلسفة وعلوم العقيدة، وهي بصيرة تجعل الاستاذ يتجاوز اللحظة الزمنية الحالية في تعامله مع تلميذه ليرى خطوط مستقبله، وهو السبب الذي يجعله يصطفيه ليحمله أسرار الفلسفة والدين التي لا يتحدث عنها العالم في العادة مع جميع تلامذته. ان علم الاستاذ بمآل التلميذ يكشف عن اعتقاده بالنجاح التام للهيمنة على تفكير هذا التلميذ، فالاستاذ لا يعرف الطريق فحسب بل يعرف ايضا نقطة النهاية التي سينتهي اليها هذا التلميذ في رحلته المعرفية.
علم ابن ميمون تلميذه المنطق وطرقه فأبصر تعمقه فيه ومسكه لناصيته وهو ما عده ابن ميمون خطوة جوهرية تقود نحو خطوة أخطر في هذه التربية الخاصة لهذا التلميذ. يكشف الاستاذ هنا عن سعادة قلبه بتلميذهن حيث يبوح قائلا "تعلقت آمالي بك"، وهي آمال تتعلق بأمر عظيم هو الفكر، وبوح ابن ميمون بتعلق آماله بتلميذ على هذا النحو، إضافة الى ما ذكره عن غبطته به، هو ثغرة يمكن ان نختلس من خلالها نظرة الى نفس هذا الفيلسوف الذي يحاول جهده في كل حرف من حروف كتابه ان يكبح النفس وان يعلو عليها الى سمو العقل المجرد.
يتحول ابن ميمون بعد هذا الى الكشف عن التدرج في تعليم هذا التلميذ الاسرار الدينية، حيث كان يمنحها له كأنه طبيب يقدم للمريض جرعة صغيرة تتبعها أخرى أكبر منها بعض الشيء وهكذا الى ان يعطيه الجرعة الأساسية التي ستكون جوهر العلاج. يقول ابن ميمون "أخذت الوح لك تلويحات وأشير لك باشارات" وهو في هذا يتابع التلميذ الذي كان يستجيب كما يتوقع الشيخ الذي يقول "فرأيتك تطلب مني الازدياد، وتسومني أن أبين لك أشياء من الامور الالاهية". لقد وقع التلميذ إذاً! غير ان هناك أمرا يحدث ليقلل من غبطة الاستاذ فقد كان التلميذ، بالرغم من ثقته بما كان يتعلمه من شيخه، يستمع لآخرين، وهو ما جلب في عقله بعض التشويش الفكري بين ما يقوله ابن ميمون وما يقوله الاخرون، ويصف ابن ميمون حالة الاضطراب الفكري هذه بقوله "ورأيتك قد شدوت شيئا من ذلك على غيري، وأنت حائر، قد بذتك [انهكتك] الدهشة". يتبادر الى الذهن سؤال هنا: هل كان التلميذ بإستماعه لشيوخ آخرين يسعى للإنفلات من أسر ابن ميمون وهيمنته الفكرية عليه؟
يكشف الاستاذ في هذا الموضع عن اختلاف في الرؤية بين التلميذ والشيخ. الشيخ يقسط العلم لتلميذه، فيما يرغب التلميذ في المزيد والمزيد وعلى عجل، وهو ما يجعل ابن ميمون يهديء من تسارع الرغبة في المعرفة عند هذا التلميذ فيقول "فلم أزل أدفعك عن ذلك وآمرك أن تأخذ الاشياء على ترتيب"، أي أن يتدرج في التعلم وأن لا يقفز على أي علم حتى يكمل العلم اللازم الذي ينبغي ان يسبقه، وهدف ابن ميمون يكشف عنه في قوله "قصدا مني أن يصح لك الحق بطرقه لا أن يقع اليقين بالعرض"، أي حتى لا يصل التلميذ الى استنتاجات ليست هي الاستنتاجات الحقيقية، بحسب رؤية الاستاذ. الاستاذ يمارس هنا دورا سلطويا عميق الأثر في تحديده لسلوك التلميذ المعرفي. فهو أولا يريده ان يصل الى ما وصل اليه هو، لا ان يختط لنفسه خطا ربما يصل به الى نتائج تباين تلك التي توصل اليها الاستاذ، وهذا لا يتم الا من خلال تحديد اسلوب الوصول الى هذه الاستنتاجات. يتجلى هذا الدور السلطوي في كلمة "الحق" التي تعني هنا ما يراه الاستاذ فحسب، وكلمة "طرقه" التي تشير الى المناهج التي يحددها هذا الاستاذ، كما تتجلى في التفرقة بين العرض واليقين، فإن النتائج التي يرغبها الاستاذ هي "اليقين"، أما ان توصل الى آراء تباين ما توقعه الاستاذ فهي ليست الا شيئا زائفا ولا تمثل الحقيقة من باب.
بعد هذا يتحدث ابن ميمون عن افتراقه عن تلميذه وتأثيره في نفسه وهو ما أدى به الى تدوين هذا الكتاب، يقول ابن ميمون "فلما قدر الله بالافتراق وتوجهت الى حيث توجهت أثارت في تلك الاجتماعات عزيمة كانت قد فترت، وحركتني غيبتك لوضع هذه المقالة التي وضعتها لك ولأمثالك، وقليل ما هم!" فهل كان هذا استمرارا في العلاقة الملتبسة التي تمزج بين الحب والهيمنة الفكرية؟
أصدرت سلسلة عالم المعرفة الكويتية في عدد أكتوبر 2003 كتابا مهما عنوانه "الكتاب في العالم الاسلامي: الكلمة المكتوبة كوسيلة للاتصال في منطقة الشرق الاوسط" حرره باللغة الانجليزية جورج عطية وترجمه الى العربية عبدالستار الحلوجي. يشتمل الكتاب على اثني عشر فصلا يتكون كل منها من دراسة أعدها بعض أهم العلماء المتخصصين في الدراسات العربية والاسلامية في الغرب من بينم فرانز روزنتال وآن ماري شيمل ووداد القاضي (التي ألقت محاضرتين الاسبوع الماضي في جامع السلطان قابوس في مسقط بدعوة من وزارة الاوقاف والشؤون الدينية) وديل ايكلمان (وهو متخصص في أوضاع العالم الاسلامي، وعلى الأخص في الخطاب الديني في بعض الدول من بينها عمان) وغيرهم.
لن استعرض هذا الكتاب هنا فلكل دراسة فيه أهمية كبيرة تسد ثغرة في المعرفة حول الكتاب في العالم الاسلامي، بل ان بعض الدراسات تتعلق بمواضيع لم يتطرق اليها البحث العلمي كثيرا مثل "دور المرأة في الخط العربي" و"الرسوم التوضيحية في المخطوطات العلمية الإسلامية وبعض أسرارها" وهي مواضيع بينت هذه الدراسات ان لها جوانب قيمة وأبعادا مهمة في فهم قصة الكتاب في العالم الاسلامي. الا ان دراسة واحدة من بين كل الدراسات الذي يحتويها الكتاب لفتت انتباهي لطرافة موضوعها وجمال أمثلتها هي دراسة العالمة الراحلة آني ماري شيميل عنواها "التورية بالكتب في الآداب الاسلامية". وآني ماري شيمل، لمن لا يعرفها، هي باحثة ألمانية تخصصت في العالم الاسلامي ومنحته قلبها وحياتها وبحثها، وألفت العشرات من الكتب والترجمات المتعلقة بالاسلام وحضارته من بينها "الأبعاد الصوفية في الاسلام" و"الاسماء الاسلامية" و"الشعر الصوفي في الاسلام" وغيرها من قيم الكتب، وقد توفت شيمل في يناير 2003.
موضوع دراسة شيمل طريف لأنه لا يتعلق بالكتاب نفسه في العالم الاسلامي، بل بالكتاب حين يستخدمه الادباء مجازا يعبرون من خلاله عن ظاهرة او رؤية معينة توفر لهم صور الكتاب المختلفة صورا مجازية ثرية. تتحدث شيمل في البداية عن أهمية الكتاب في الادب الاسلامي، وعن الشغف بالكتب والمكتبات كما انعكس في الشعر وفنون الادب الاخرى. تضرب شيمل مثالا على هذا الود بين المسلم والكتاب هو قول عالم هرات الافغانية الملا جامي (الذي توفى عام 1429):
وعندما نستشعر الوحدة والعزلة لا نجد تسلية وعزاء أفضل منه
ثم انه لا يؤذي القلب أبدا."
بل ان الكتاب يتجاوز الصداقة ليصل الى مرتبة المعشوق، كما يقول أحد مشايخ الصوفية:
"لقد أصبح كتابي هو محبوبي
فشكرا له لأن قلبي المكسور قد انفتح له
وانت تسألني أن أعيرك إياه
فهل سمعت عن أحد أعار محبوبه؟"
ان كل هذا الود والمحبة التي نالها الكتاب عند المسلمين لا يمكن ان يتيقن منها الباحث الا عن طريق ليس هو الطريق التقليدي المباشر كما يعكسه المثالان السابقان، بل من خلال البحث في الاستخدام المجازي لصور الكتاب، أي استخدام الكتاب مجازا للحديث عن أشياء أخرى كالكون والنفس والحب. تضرب شيمل على ذلك أمثلة رائعة من الأدب الفارسي والهندي والتركي (من المؤسف اننا نحن العرب لا نعرف عنها الا القليل الذي أتى في معظمه عن طريق الغرب). نجد مثلا شاعرا هنديا هو آزاد بلكرامي (المتوفي 1784) يستخدم صورة الكتاب وكذلك صورة المعلقات السبع في وصفه لضفائر حبيبته:
"ترى أهما خصلتان من الشعر تتدليان على وجنتيها
أم نهران من نص مكتوب على هامش كتاب الجمال
أم ليلتا العيدين أجتمعتا معا
أم قصيدتان من المعلقات السبع التي علقت على الكعبة؟"
كما ان الادب الاسلامي يحفل بأمثلة كثيرة يظهر فيها الكتاب مجازا لوصف أمور اخرى كحياة الانسان التي تتحول الى كتاب على المرء نفسه ان يختار ما يود أن يكتبه فيه بأعماله صالحها وفاسدها. كما ان هناك صورة كتاب الكون، حيث يُنظَر الى الكون بأكمله بإعتبارها كتابا يتأمله الانسان ويقرأ أسراره العجيبة. غير ان أطرف الامثلة هي تلك التي يستخدم فيها الشاعر مجازا بعض الامور المتعلقة بالكتب كالخط الذي تكتب به مخطوطة الكتاب مثلا، فيتحدث الشاعر الهندي إسماعيل بخشي عن وجه حبيبته مشبها اياه بنسخة من القران الكريم:
"وجهك أشبه بنسخة من القران ليس فيها أي خطأ أو عيب
عيناك وثغرك هي علامات الوقف فيه
وحواجبك هي المدَّة
وأهدابك هي علامات التصريف وحروفه المنقطة"
وهناك بعض الشعراء الذي استثمروا مجازا صورا مدهشة مثل فكرة فهرست الكتاب، فيقول نظيري:
"ان حبك تجميع لأجزائي
وشوقي اليك هو فهرست وجودي كله"
وهناك صورة تجليد الكتب التي يستخدما شاعر اوردي اسمه غالب (توفي 1869) في بيتين رائعين:
"يا إلهي! إن قصة الشوق لا يمكن تجليدها
فلندع مخطوطتها في أجزاء متفرقة"
****
الأمثلة الرائعة التي اقتبستها أعلاه من دراسة شيمل توضح ما وصل اليه الكتاب في العالم الاسلامي من منزلة عزيزة في نفس الانسان المسلم، وهي أمثلة لا تغني بطبيعة الحال عن قراءة الدراسة بأكملها. والدراسة تثير في النفس أمورا كثيرة حول دراسة التراث وثراءه، وحول ضرورة وجود قراءات غير تقليدية لهذا التراث تقاربه من مناظير مبدعة (مثل رؤية شيمل التي لم تبحث في دراستها عن الكتاب نفسه بل استغلاله كمجاز للحديث عن ظواهر نفسية ووجودية)، كما تثير هذه الدراسة قضية علاقة الثقافة العربية بالثقافات الاسلامية المجاورة لها والتي ترتبط ارتباطا وجوديا معها، غير انها لم تمنح بالرغم من هذا حقها من الدراسة من قبل الباحثين العرب الذين يفترض انهم أقرب الى هذا التراث العظيم.
عدت هذه الأيام لقراءة العقاد، فأنتقيت من مجموعته الكاملة التي أصدرتها "دار الكتاب اللبناني" المجلد السادس والعشرين الذي يحتوي على كتابه المعروف "ساعات بين الكتب"، وهذا الكتاب خلاصة قراءات العقاد لكتب مختلفة المواضيع والاتجاهات، يقدمها تقديما عقاديا يدخل في مكنوناتها محللا ناقدا، مهاجماً ومدافعاً، كما هو العقاد دائماً. في مقدمته للكتاب يتحدث العقاد عن علاقة الكتاب بالحياة ويقول ان الكتابة ليست انعزالا عن الحياة بل انها أحد أهم تجليات وجود الحياة بنبضها الحقيقي، ويصف هذا في عبارة رائعة "وإنما الكتاب الخليق باسم الكتاب في رأيي هو ما كان بضعة من صاحبه في أيقظ أوقاته وأتم صوره وأجمل أساليبه، وهو الحياة منظورة من خلال مرآة إنسانية تصبغها بأصباغها وتظللها بظلالها، وتبدو لك جميلة أو شائهة عظيمة أو ضئيلة محبوبة أو مكروهة فتأخذ لنفسك زبدتها الخالصة وتعود بها وأنت حي واحد في أعمار عدة أو عدة أحياء في عمر واحد".
ينطلق العقاد من هذه العلاقة الوجودية بين الحياة والكتابة والكتب ليتوغل في وهم من الأوهام التي تسود في عقول كثير من الناس حول الكتب وقراءاتها ما زال منتشرا حتى يومنا هذا وهو "ان دنيا الكتب غير دنيا الحياة وأن العالم أو الكاتب طراز من الخلق غير طراز هؤلاء الآدميين الذين يعيشون ويحسون ويأخذون من عالمهم بنصيب كثير أو قليل". وللعقاد تفسير طريف لهذا الوهم وهو انه من بقايا الزمن الذي امتزج فيه الدين بالعلم، حيث كان العلم في بدايته مرتبطاً بالدين وكان رجل العلم هو نفسه رجل الدين، والأخير من شأنه الزهد والانعزال والتجرد عن كثير من ممتعات حياة الناس العادية، وكان العلم ضرباً من السحر أو الالهام الذي لا يمكن ان يأتي الانسان وهو يعيش في جلبة شؤون الحياة العادية بل يستدعي منه ان يزهد في هذه الحياة وان يعيش بعيداً عنها متأملا في أمور تباينها مباينة جذرية. غير انه بتطور الايام انفصل العلم عن الدين، حيث أصبح لكل مجال من مجالات العلم متخصصون ليسوا بالضرورة من رجال الدين أو علماءه، وأصبح الكاتب يكتب من وسط لجة الحياة، غير ان هذا التصور الذي يربط الكتابة والعلم بالزهد في الحياة لم يختف بإختفاء الظاهرة التي أوجدته بل بقي حياً في العقول.
أود فيما سيتبع ان انطلق من حديث العقاد عن علاقة الكتب بالحياة والزهد فيها الى حديث يتعلق بالقراءة والكتب في أيامنا هذه، حيث نرى بعض الاختلاف عما كان عليه في الزمن الذي كتب فيه العقاد كتابه (اي العشرينات من القرن الفائت). في أيامنا هذه أصبح هناك نوعان رئيسان من الكتب يمكننا توسعاً ان نقسمهما الى كتب "أهل الغيب" (وهي الكتب التي ما يزال أغلب الناس يرون مؤلفيها وقراءها بإعتبارهم من الزهاد في الحياة) وكتب "أهل الحضور" (وهي الكتب التي يؤلفها كتاب ويقتنيها قراء منغمسون في الحياة الحاضرة في أبسط معانيها وتجلياتها) وهناك كتب تقع على نحو ما في منزلة بين هاتين المنزلتين.
كتب "أهل الغيب" هي من نوع الكتب التي أشار اليها العقاد في حديثه عن أوهام إنعزال الكتاب عن الحياة. تناول كتاباً جادا ولن تعدم من يسألك (صادقا) "هل ستقرأه كله؟ هل عندك وقت لقراءته؟"، هذا عن القراءة والأعجب منها الاسئلة التي تسأل عن الكتابة فـــ"من أين للكاتب الوقت لكتابة هذا الكتاب؟ ألم يكن لدين شغل آخر يشغله؟"، وهذا الانسان يقيس حياة الكاتب والقاريء بمقياس حياته التي يراها مكتملة لا نقص فيها دون هذا الكتاب، بل ان الالاف المؤلفة من الكتب تكتب وتقرأ دون ان يكون لغيابها أثرا فيه أصلا، ومن هذا تصدر مثل هذه الاسئلة المستغربة حول القراءة والكتابة، وبهذا فإن هذه الكتب من كتب "أهل الغيب" لبعدها عن اهتمامات أغلب الناس في حياتهم الحاضرة.
أما "كتب أهل الحضور" فهي تلك الكتب التي ما ان يعلن عن نشرها حتى تراها تباع بالالاف المؤلفة من النسخ، يتزاحم الناس على أماكن بيعها تزاحماً عظيماً، ولهذه الكتب خصلتان. أولاهما انها كتبت في مواضيع ليست من المواضيع التي يتطرق اليها عادة كتاب الغيب، فمواضيعها بسيطة قريبة من الانسان العادي كالروايات السيارة والرسائل الغرامية وكتب الطبيخ وكتب المشاهير وأسرارهم والكتب التي تقدم حلولا لمشاكل اجتماعية تتعلق بالزواج وتربية الابناء وسواها من مواضيع. والخصلة الثانية لهذه الكتب تتعلق بأماكن بيعها، فحسبك ان تذهب الى أي محل لبيع المواد الغذائية لتجد ان كتب "أهل الحضور" حاضرة فيه، تباع في ركن قريب من الخضار والحليب الطازج والملابس الجاهزة، وفي هذا اشارة الى ما وصلت اليه الكلمة بعد اختراع الطباعة، كتابة وقراءة، حيث فتحت المطبعة الباب أمام الجميع لكتابة ما يودون كتابته اقتناعا او تكسبا او لأي غرض آخر، كما ان التعليم، أي محو أمية الحروف، فتح الباب أمام الجميع لقراءة هذه الكتابات التي تخاطب الانسان البسيط وتتناول أمورا تمسه مباشرة في حياته الشخصية الصرفة. أمر آخر يشير اليه وضع كتب "أهل الحضور" هذا هو ان الكتاب فقد تلك الرهبة التي كان يولدها قديماً، فقد أصبح هذا الضرب من الكتب من "الحاجيات" اليومية (أتود أن تقنعني ايها القاريء انك لم تضع في حياتك كتاباً في نفس سلة المشتريات التي تضع فيها علبة الحليب والزيتون الأسود؟!)
أما الكتب التي في المنزلة بين المنزلتين فأمرها أعجب، ذلك ان كتابها من "أهل الغيب" لكنها قراءها من "أهل الحضور". أعني هنا تلك الكتب التي لا مراء في أهميتها الفكرية وقيمتها المعنوية ولا مراء كذلك ان كتابها هم من "أهل الغيب" بحسب تقسيمنا هنا، الا ان العجيب هو ان قراءها هم أقرب الى "أهل الحضور"، ويتعاملون معها تعاملا يكاد يقترب من التعامل الذي تجده الكتب السيارة التي ذكرتها في الفئة الثانية، والدليل على ذلك هو انك تجد بعضها يباع كذلك في نفس الأماكن التي تباع فيها كتب الطبيخ وكتب رسائل المودة والغرام والرد عليها. كيف لنا ان نفسر وجود كتاب "البخلاء" او كتاب "كليلة ودمنة" وسط كتب الطبيخ ورسائل المودة؟ قد يكون هناك أكثر من تفسير لذلك لكنني أرى ان التفسير الأصوب هو ان هذه الكتب نالت شهرة كبيرة جعلتها أقرب للتحف التي لا بد ان توجد نسخة منها على الأقل في البيت، لمن استطاع الى ذلك سبيلا. ربما تذكر هذه الكتب فجأة وسط حديث عام (الحديث عن فلان "البخيل" مثلا يجر الحديث الى كتاب الجاحظ، فيما تجر أفلام الرسوم الكرتونية حول الأرنبة والثعلب حديثا عن كتاب ابن المقفع، ثم تعاد هذه الكتب الى رفوفها – آمنة مطمئة – بعد الانتهاء من ذلك الحديث)، أو ربما تناول أحدهم كتاباً من هذه الكتب مستدعيا النعاس قبل ان ينام، ومن أفضل من الجاحظ أو ابن المقفع مجلبة للنوم؟!
****
تنويه: ورد في مقال الاسبوع الماضي "حول جوابات الامام السالمي" في ثلاثة مواضع ذكر للدراجة النارية في سياق جواب للإمام السالمي عن ركوب "البيسكل" والصواب بطبيعة الحال هو "الدراجة الهوائية" وليس "الدراجة النارية"، وهو خطأ طباعي غير مقصود.
يحتوي كتاب "جوابات الامام السالمي" على فتاوي الامام نور الدين عبدالله بن حميد السالمي (1286-1332 هـ/ 1868-1914 م)، وقد صدرت الطبعة الثانية (التي بين يدي) من هذا الكتاب عام 1999، واشرف على نشره عبدالله السالمي فيما قام على تنسيقه ومراجعته د. عبدالستار أبو غدة، ويتكون من ستة مجلدات (اضافة الى مجلد سابع يحتوي على فهارس الكتاب).
تضع كلمة "فتاوي" الكتاب في خانة الفقه ضمن التقسيم التقليدي للنصوص، فالفتوى هي جواب من عالم دين على سؤال حول قضية ما تشغل بال السائل، وهو جواب يسند العالم فتواه فيه بأدلة من القران الكريم والسنة النبوية الشريفة وغيرهما من المصادر المقبولة. والفتوى من منظور اجتماعي نقدي نص ينتجه طرف أقوى في التفاعل الاجتماعي لتحديد سلوك طرف أضعف ضمن الرؤية الدينية التي يتفق كل من السائل والمسؤول على جوهريتها في تسيير عملية التفاعل الاجتماعي هذا. إذا نظرنا الى الكتاب بإعتباره مجموعة من الفتاوي فإنه يحتوي على فتاوي تشمل كل أوجه الحياة التي يمكن ان يتخيلها الانسان، فهناك البيع والنذور والوصية والزكاة والغش والمرض والارث وغيرها من القضايا التي كانت تشغل الناس في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهي قضايا يظهر تنوعها كذلك سعة أفق الامام السالمي وموسوعيته وإدراكه لمختلف الابعاد الفقهية وغير الفقهية لهذه القضايا.
ودراسة هذه الفتاوي بإعتبارها نصوصاً فقهية أمر ينبغي ان يلتفت اليه المتخصصون في الفقه، وطباعة فتاوي الامام السالمي، وفتاوي آخرين من العلماء العمانيين الموسوعيين، أمر يقدم خدمة عظيمة للباحثين في مجال الفقه لدراسة رؤى هؤلاء العلماء الأجلاء في القضايا المختلفة، كما انه يُمَكِّن من دراسة جوانب أخرى كتطور الرؤى الفقهية عبر العصور المختلفة وتغير الفتوى عند نفس العالم بحسب تغير الزمان والمكان وغيرها من الظروف المؤثرة على الفتوى. غير ان ما أود الاشارة اليه في هذا المقال ليس الجوانب الفقهية في الفتاوي بل ما تحمله هذه الاجوبة والفتاوي من أبعاد أخرى تتعلق بنواحي ثقافية وحضارية عامة يمكن تقفيها في الاسئلة نفسها وفي الرؤى التي توحي بها أجوبة الامام السالمي نفسه.
أعني بالنواحي الثقافية والحضارية للفتوى تلك الجوانب التي تتجاوز الرأي الديني المحض المتعلق بالجواز او الحرمة وبالأسانيد الدينية على سبيل المثال، بل تلك التي تتعلق بمستويات أعلى من مستويات حياة المجتمع وحضوره في التاريخ. من الأمثلة التي يمكن ان توضح هذه النقطة تلك الاسئلة والاجوبة التي تتعلق بموقف عالم الدين في لحظة اصطدام (او التقاء، إن شئت) الحضارة الاسلامية بالحضارة الغربية، وهي لحظة تفاعل غاية في الأهمية في فهم رؤية الذات لهويتها وللآخر وفي فهم السبل التي اتبعها علماء الدين في الحفاظ على ما كانوا يرونه هوية اسلامية لا ينبغي التخلي عن مقوماتها الجوهرية. في "جوابات الامام السالمي" نجد عديدا من الأمثلة التي توثق موقفه في لحظة التفاعل الحضاري هذه، وهي أمثلة تتعلق بقضايا تبدو شكلانية في الظاهر وهي في الحقيقة ذات أثر بعيد في الفهم الحضاري للذات والاخر. سئل الامام السالمي على سبيل المثال عن ركوب الدراجة الهوائية، وهنا نص السؤال الذي تحمل صياغته نفسها جوانب تستحق الاشارة اليها "ما ترى في ركوب (البيسكل) وهو مركوب سريع المسيار، وهو من البدع التي ابتدعها النصارى في ذا العصر ونشروها في الاقطار لجلب الربابي من أهلها وربما افضى لجلب الدين لأننا رأينا من كنا نعتقد منه الصلاح فركب ذلك فآل أمره الى الفساد وقد كان أول حدوثهن في هذا القطر اذ انفرد بركوبه النصارى والهنود ثم صار فاشياً في اولاد العرب وغيرهم. ما ترى في ركوبه؟ بين لنا شيخنا." السؤال هنا يقود عالم الدين الى اجابة محددة سلفاً، فطريقة تقديمه لظاهرة الدراجة النارية سلبية تماماً فهي (1) بدعة نصرانية، و(2) نشرت لسلب الناس اموالهم، و(3) ربما ستسلب الناس دينهم ويشير الى حالة معينة آل صاحبها الى "الفساد".
غير ان الاجابة على هذا السؤال تأتي على نحو يظهر وعي عالم الدين بالطريق الذي يأخذه فيه السائل فيتوقف ولا يمضي معه الى النهاية التي يريدها، فيقول الامام السالمي "لا أعرف ما البيسكل فكيف أقول في شيء لا أعرفه"، وهي أجابة تكشف عن احتياط واع تماماً بنفسية السائل وبهدفه المحدد سلفاً (اي الهدف الأميل الى التحريم)، ثم يشير الى قضية اخرى تتعلق بالتواصل مع الحضارات الاخرى اشار اليها السؤال بطريقة سلبية حين قال "هو من البدع التي ابتدعها النصارى"، فيربط الامام السالمي الحكم بمبدأ يعلو على هوية صانع الدراجة النارية (أي النصارى) وهو مبدأ "فساد الدين" فيقول "غير ان جملة القول فيما يفضي الى فساد الدين ان فعله حرام بلا خلاف بين المسلمين، وان كان لا يفضي الى ذلك فلا يمنع ركوبه لكونه من بدع النصارى فهذه المراكب البحرية وتلك السطل البرية جميعها مبتدع ولا وجه للقول بمنع ركوبها لكونها من بدع النصارى"، وهنا يستخدم الامام نفس الكلمة التي استخدمها السائل وهي كلمة "بدعة" ولكن بمعنى اخر غير المعنى السلبي الصرف الذي قصده السائل، حيث أتت هذه الكلمة في جواب السالمي بمعنى الصناعة، اي صناعة منتج لم يوجد من قبل، وهو تغيير في الدلالة ينزع عن القضية الحمولة السلبية التي أرادها السائل ولهذا أجاز الامام ركوب الدراجة النارية ما لم تؤد الى إفساد الدين، وهو ما يعني قبولا لمنتجات الحضارة الاخرى التي لا تفضي الى تغيير في الجوهر الديني للإنسان.
ومن الاسئلة التي استوقفتني سؤال يتعلق بلحظة التقاء حضاري آخر حيث تخلى البعض عن لبس العمامة البيضاء المعروفة وأخذوا يرتدون المصر المدراسي (اي المصنوع في مدراس في الهند)، وهنا نجد ايضا ان السائل يسأل كذلك "هل صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام والتابعون لبسوا مثل ذلك؟". يأتي جواب السالمي أولا رافضاً التشبه بالاخرين، وهو ليس رفضاً للمصر في ذاته بل بإعتباره يمثل رمزاً على حضارة أخرى ولبسه يشير الى خلل في هوية المسلم، غير انه بالرغم من هذا الرفض الرمزي يشير الى مبدأ ديني آخر هو "تطبيق السريرة بالعلانية" فيعود ليفضل هذا الخلل الرمزي ان كان الخيار الاخر يمثل خللاً في جوهر الهوية المسلمة، اي ان كان المسلم لا يلبس العمامة التقليدية اقتناعا بل اتباعا للآخرين. أمام هذين الخيارين فإن الافضل لبس المصر وترك العمامة التي تشير في هذه الحالة الى نفاق شخصي واجتماعي خطير، فيقول السالمي "وبالجملة فالمصر المدراسي خير من بعض العمائم التي تنطوي على النفاق، ومن هذا المعنى لم نشدد على أولادنا في تركه لئلا تكون عمائمهم منطوية على نفاق".
إجمالا يحتوي كتاب "جوابات الامام السالمي" على كنز ضخم من الفتاوي التي ينبغي ان تدرس من خلال أطر علمية جديدة تقوم على إخراج هذه الفتاوي من مستوياتها الفقهية الصرفة الى مستويات ثقافية أشمل، وهي مستويات سيؤدي التعمق فيها لا ريب الى توضيح كثير من جوانب الثقافة العمانية التي لم تحظ بالدراسة المنهجية المعمقة حتى الآن.
قمت في الفترة بين اكتوبر 1945 ونهاية فبراير 1946 برحلة عبرت فيها الربع الخالي من صلالة حتى مقشن، ثم يممت شطر الشمال الشرقي فعبرت رمال سحمة، ومن صلالة الى تريم في وادي حضرموت. ورحلاتي هذه كانت لمصلحة "بعثة الشرق الأوسط لمكافحة الجراد"، وكان غرضها تقصي تكاثر الجراد والامطار الموسمية ودراسة النبات.
مان ان وصلت الى صلالة يوم 13 اكتوبر حتى بعث الوالي برسله الى البدو الذي يعيشون وراء الجبال يأمرهم بجلب النوق والمرشدين، أما أنا فقد آثرت ان أتجول في جبل القرا وهو جبل مثير للدهشة ولا يعلم عنه الا أقل القليل، ومنه تصدر الاودية التي تسيل هبوطاً نحو مقشن. ويبعد هذا الجبل ستة كيلومترات من صلالة قبالة سهل جربيب الواسع الأجرد. ويعلو هذا الجبل الى ارتفاع يتراوح بين 2000 الى 3000 قدم، ويجانبه من جهة الغرب جبل آخر هو جبل القمر ومن الشرق جبل سمحان، وهما جبلان يصل ارتفاعهما الى ما يربو على 7000 قدم، وتقترب الجبال من البحر عند ريسوت ومرباط، وتجعل هذه الجبال المطر يتركز على المنحدرات الجنوبية. وطوال فترة هبوب الرياح الموسمية يتغطى جبل القرا بدثار من الضباب والمطر، ولهذا فإن نباتاته مدارية، وهو أمر يندر وجوده في شبه الجزيرة العربية. و يتجلى هذا على الأخص حينما يقارن المرء هذا الجبل بجبلي القمر وسمحان العاقرين من هذه النباتات. وتشق الوجه الجنوبي لجبل القرا شعاب عميقة متتابعة شديدة الانحدار تغطيها غابات من الاشجار النفضية فيما تتكون قمة سلاسل الجبال من تلال عشبية تمتد نزولا في أنوف الجبال بين الاودية. فيما تنتشر فوق التلال أشجار ضخمة تنتب فرادى او في جماعات، فيما توجد بطول ذرى الجبالغياض صغيرة من الزيتون البري وشجيرات "التشجة". وتغطى هذهالتلال في اكتوبر بالبقدونس البري الذي ينمو وسط العشب الاخضر المتموج، غير ان هذه النباتات سرعان ما تذبل بسبب رقة طبقة التربة التي تغطي الصخور الكلسية. أما الماء فما أندره، وإن وجد ينبوع فإنك لا تجده الا في قيعان الاودية، ولهذا يشق على من تكون سكناه في التلال العالية الوصول اليه والاستسقاء منه، وتجري جداول المياه من ينبوعين من هذه الينابيع عبر السهل هابطة الى البحر. ولا تهب الرياح الموسمية الا على الوجه الجنوبي من الجبال، وبين الجانبين بون عظيم، فيظهر للعيان وجود خط بارز يفصل بين التلال والصحراء بما يتبع طول الجدول. وإلى الجنوب تمتد التلال المتناقصة الارتفاع والشعاب الملئى بالأدغال والغابات هابطةً نحو سهل ظفار وسواحل المحيط الهندي التي تبسق فيها أشجار جوز الهند، اما الى الشمال فإن المنحدرات التي تغطيها الحصباءوالمنحدرات الصخرية تقودك الى أقفار الربع الخالي.
ويسكن قبائل القرا جبل القرا وكل من جبل سمحان وجبل القمر، وهم قوميثيرون الاهتمام ولا يعرف عنهم الا القليل، وعندهم لسان خاص بهم. وتختلف قبائل القرا عن القبائل البدوية اختلافاً كبيراً غير ان سيماهم برغم اختلافهم هذا توحي فيما أرى انهم ساميون لا حاميون. وقبائل القرا ومعهم قبائل المهرة المعروفين بكثرتهم وشدة بأسهم، إضافة الى بقايا الشحرة وبعض القبائل الاخرى المفتتة، هم السكان الأصليون في جنوب شبه الجزيرة العربية قبل ان تهاجر الى الجنوب القبائل التي تتحدث اللسان العربي. وتنقسم قبائل القرا الى عدد من العشائر، تعيش كل عشيرة منها في واد خاص بها، ولا يلتقي ابناء العشيرة بأبناء العشائر الاخرى الا عند قمم الجبال او عند سفوحها، وتتميز هذه العشائر بأنها غيورة حسودة بها نزوع نحو الشك بالآخرين، وما أكثر العداوات فيما بين العشائر بسبب جرائم القتل وما يتبعها من سعي لأخذ الثأر. وديدنهم وطبعهم القتل والخيانة والسرقة، ويفتخرون بمهارتهم وحذقهم في السرقة وازدراء أعراف الحياة الآمنة. وهم رعاة تدور رحى حياتهم على قطعان ماشيتهم، وهي ليست قطعان كبيراً، فالرجل المتوسط الثراء منهم يملك ما بين عشرين الى ثلاثين رأساً، ويملكون بعض الجمال وقطعاناًليست صغيرة من الماعز، غير انهم لا يملكون خرفاناً ولا جياداً ولا كلاباً ذلك فمثل هذه الحيوانات لا تعيش في هذا الصقع من شبه جزيرة العرب. وهم في ترحال مستديم طلوعاً الى الجبال وهبوطاً منها بحثاً عن الكلأ بحسب فصول السنة، فحينما تنقطع الامطار في سبتمبر ترعى كل عائلة قطعانها في المناطق المرتفعة في الجبال، وما ان يحل يناير حتى يتجمعوا عند أفواه الاودية في مخيمات كبيرة لقطعانهم فيما يقطنون هم في قرى مؤقتة تتكون من ملاجيء صغيرة متظاكة في أماكن الكلأ. أما حينما تهب الرياح الموسمية فإنهم ينسحبون الى الوديان ويحمون قطعانهم في كهوف توجد في جروف الحجر الجيري، او انهم يجمعونها في زرائب مظلمة خفيضة يبنون جدرانها من الحجارةغير المسواة أما الاسقف فتشيد من العشب الملبّد. وحينما ينتهي الكلأ فإنهم يطعمون مواشيهم وماعزهم وجمالهم سمك السردين المجفف الذي يشترونه من سوق صلالة بنقود يجمعونها من بيع الزبدة وحطب الوقود، كما انهم يزرعون مساحات صغيرة بالفول وقليل من الذرة في الأودية. أما عن طول أجسامهم فإن معدل طول الرجل يبلغ 5 أقدام و4 إنشات غير انهم يتميزون بقوة بنيتهم، وفيهم طاقات تحمل ضخمة. أما عن لباسهم فهم يرتدون ثوبا، يكون في الأغلب مصبوغاً بالنيلة، يلفونه حول وسطهم وتوضع احدى نهايتيه على الكتف الايسر، ويلفون سيراً من الجلد أربع او خمس لفات حول رؤوسهم. ويحلق شعر الاولاد الذين لم يختنوا منهم[1] من جانبي الرأس بحيث يترك عرفاً من الشعر في وسطه يمتد من مقدمة الرأس الى خلفه. ويرتدي كثير منهم الخناجر العمانية ويحملون بنادق تكون في الأغلب من النوع المعروف بإسم "مارتينيز" Martinis، ومن أسلحتهم الاخرى السيوف المستقيمة النصول والعصي من الخشب الثقيل، كما انهما يحملون أحياناً دروعاً مستديرة عميقة صغيرة الحجم تصنع من الأماليد المغطاة بجلد الحيوان.
وحينما عدت الى صلالة وجدت حشدا ضخماً من البدو متجمعين لمرافقتي غير انني خفضت عددهم الى ثلاثين شخصاً بعد فترة طويلة من الأخذ والرد، ذلك ان الوالي وشيوخ قبائلهم شددوا على الخطر الذي ربما واجهناها أمامنا من قطاع الطرق الذين ينهبون المسافرين، غير اني كنت على يقين ان عدداً أقل من الرجال كان سيكفي الا اني لم أعرف كيف استطيع ان أجادلهم وأقنعهم بهذا فقبلتهم على مضض. وكان الرجال من بدو ال كثير وأغلبهم من بيت كثير، الذين سيرافقني منهم كذلك زعيمهم الشيخ سالم طنطيم، وهو عجوز ثمانيني نشيط نافذ الهمة سمح الخلق، وقد شارك برترام توماس رحلته الى مقشن، كما سيرافقني كذلك سلطان شيخ عشيرة الشعاشعة، وهو رجل نبيل النفس محمود الشمائل. ويقسم هؤلاء البدو كل القبائل التي تعيش في الربع الخالي وحوله الى هناوية او غافرية، وهي تسميات ظهرت في احدى حروب عمان الاهلية قبل مئتي عام فيما يبدو، حينما ساند محمد بن ناصر الغافري احد ابناء احد ائمة اليعاربة ضد خلف بن سيف الهنائي، غير ان البدو لا يعرفون هذا الأصل التاريخي ولكنهم يستخدمون الكلمتين للاشارة الى الاصل اليمني او النزاري للقبائل. وعلى وجه العموم تهب القبائل الغافرية لنصرة بعضها البعض ضد القبائل الهناوية، لكن على المرء الا يغض بصره عن الاستثناءات في هذا النظام القبلي، فقد تتحالف صيعر كرب والنهاد، وقد تتحد بيت كثير والمهرة لصد هجمات من يهاجمهم من أعدائهم. وتمتد قبيلة بيت كثير التي ولاءها لسطان مسقط من وادي شحن وهي أبعد نقطة غرباً من روافد وادي مقشن الى رمال غانم في شمال مقشن، وينقسمون الى الشعاشعة الذين يقطنون الغرب وبنو غواص وبيت الحمر وبيت جداد والمسالمة الذين يقطنون الأودية في شمال جبال القرا وبيت المسن الذين يسكنون حول مقشن. وجميعهم يقطنون السهوب عدا بيت المسن، وهم أهل عصبية قبلية كبيرة. والرواشد وبيت يماني الذين منحوا ولاءهم الان لابن سعود يتركزون حول رمال دكاكة، على الرغم من ان بيت يماني يعيشون في الأغلب على طرف السهوب حيث تنتهي أودية ضحية وعربة وشعيت وميتن في الرمال. وكانت "رباعتي" من كل قبيلة من هذه القبائل لأننا ربما قابلناهم في رحلتنا.
تركنا صلالة في 5 نوفمبر حيث عبرنا جبل القرا عند معبر قسميم عند رأس وادي جرزيز[2]. وآل كثير الذي يملكون الابقار يعيشون هنا بين بيت قطن وبيت سعد اللذين ينتميان الى قبائل القرا، وهم على الرغم من انهم يتحدثون بالعربية يشبهونهم في طريقة معيشتهم وفي مظهرهم. ويستكره من هذه القبائل جشعهم وشرههم، وسرعان ما اجتاحوا مخيمنا وسعوا الى بيعنا الزبدة أو الماعز بأسعار خيالية والى الحصول على الدقيق منا دون مقابل. ولهذا فإننا لم نر البقاء في هذا المكان أمراً صائباً بل أحببنا ما تهبه لنا الصحراء من حرية مفتوحة ولهذا نزلنا الى حوض حلوف الصغير المليء بالأوساخ فسقينا إبلنا وملئنا قرب الماء. والأرض هنا تنخفض من هذه الجبال الساحلية منحدرة تدريجيا نحو الرمال، حيث يبلغ ارتفاع قسميم 2700 قدماً، وعينون 2000 قدم، وشصر 1400 قدم، ومقشن 580 قدم. والاودية التي تشكل منظومة مقشن محفورة حفراً عميقاً في الهضبة الكلسية، وبها جروف شديدة الانحدار يبلغ ارتفاعها 300-400 قدم وقيعان حجرية يبلغ عرضها 150-300 ياردة تحتوي على غطاء نباتي طيب، وأهم اشجاره السمر والهبلا والهصر والمرخ والمتقة ونخيل السافة. والأرض الوسطى منبسطة وصخريةعموماً تغطيها في العادة طبقة من احجار الصوان وهي خالية من النبات، الا في منخفضات صغيرة تغطيها الرمال والحصى حيث تتناثر بضع أشجار السمر. وتحتوي الأودية في مساراتها الوسطىعلى جروف عالية شديدة الانحدار، وهي أكثر عرضاً، ويبلغ عرض وادي عيدم ما يزيد على 1000 ياردة والنباتات أكثر تنوعاً فيه[3]. وتختفي الجروف بالقرب من الرمال، وتتحول الاوديات الى متسعات رملية يبلغ عرضها 2-3 أميال، وتعرف مساراتها في سهوب الحصى بشجيرات المرخ وبعض السلم والهبلة. وهنا توجد كذلك مناطق تصريف واسعة يغطيها الحصى والرمال الخشنة وتعرف بـ"السيح"[4]، حيث تكثر النباتات بعد الامطار مثل الالجي والدرما والجاسي والتنب والهيلاما والملوح والرمرم والرمث والهيلارة. وقد هطل المطر خلال الخريف[5] في الصحراء الى الغرب، وعقدنا العزم على على الانتفاع من المروج الطيبة التي سنجدها هناك بدلا من ان نسلك الطريق القاحل الذي يفضي بنا مباشرة الى شصر. واستسقينا مرة اخرى عند "ماء شديد" في وادي غدون من حفرة طبيعية ضيقة في صخرة كلسية حيث يجري الماء الى مستوى الركبة بعمق 45 قدماً، وهو مكان مظلم يمكن الوصول اليه بالهبوط في سبعة رفوف من الصخور بالاستعانة بالحبال، ويقول العرب ان هذا الماء يجري من عيون الى شصر. ومن هنا عبرنا الى مدهول او مدهاي خلف وادي عيدم حيث يسيل جدول من تحت جرف خفيض. ويقال ان الماء كان أكثر في الماضي، وكانت هناك أعجاز خمسين نخلة ميتة، وهي علامة تشير الى ان الوادي كان خصباً ذات يوم. وتحت جزء متدل في الجرف وجدت فأساً صغيرة من اليشم حسن الصقلتعود للعصر الحجري الحديث[6]. وهناك مدفنان اسلاميان في الوادي 15 قدماً مربعاً وارتفاعهما 7 أقدام تتوجهما قبتان. وكانت جدرانهما من الحجارة الخشنة الضخمة والطين المجفف، وكان يوجد على طول القمة افريز من البلاطات الحجرية التي ادخلت متعرجة في الجدار، وللبلاطات قمم مجصصة يبلغ ارتفاعها حوالي قدم واحد عند كل ركن. والابواب مستطيلة وتحيط بها أساكف جلمودية. والقمم الخارجية التي يغطي الجص جوانبها مستقيمة وبها قمم معقودة خفيضة تنتهي بعُقََدٍ بسيطة، غير ان القبب الداخلية كانت مستدقة النهاية بصورة حادة جداً، وكانت تقوم على منصات مثمنة شكلت بوضع البلاطات الحجرية عبر أركان الغرف. وكانت توجد الى جوار القبرين مقبرة صغيرة لم تعد مستخدمة، فالبدو يعتقدون ان الاموات القدماء لا يحتملون العبور فيها، ولا يعرفون شيئا عن هذين المدفنين سوى ان الشيخ سعد مدفون هنا، وهو أمر يؤكد عليه نقش حسن الخط في بلاطات أحد القبور الثلاثة داخل احد المدفنين، غير ان اسم ابيه قد انطمس وتعذرت قراءته. وهنا ينبغي ان نشير الى انه يوجد فخذ من أفخاذ بيت الشيخ، وهي قبيلة معروفة مبجلة بتمسكها بالدين في هذه الأنحاء، يسمى بيت الشيخ سعد. والتلال المحيطة مغطاة بجثوات دفن حجرية كان في احدها قطعتان ضخمتان قائمتان من الصخر مثل تلك التي تنتصب في قبور شبيهة اليوم من قبل الدناقل لإخافة الضباع. وتوجد على طول مجاري المياه كثير من النصب الثالوثية الحجرية، تتكون كل مجموعة منها من ثلاثة الى خمسة وعشرين ثالوثاً حجرياً، ويتكون كل ثالوث حجري من ثلاث بلاطات حجرية، يبلغ ارتفاع كل منها ما بين قدمين الى قدمين ونصف، منتصبة على نهايتها بحيث تميل على بعضها البعض لتلتقي في نهايتها مشكلة بقواعدها شكل مثلث. وتبتعد الثواليث الحجرية عن بعضها البعض بمقدار ياردة واحة وقد رتبت على هيئة صفوف، ويحيط بكل مجموعة منها حد بيضاوي يتكون من حصيات صغيرة. ويتباين العدد في كل مجموعة، غير ان أغلبها يتكون من خمس، غير اني لاحظت وجود ثلاث وخمس وسبع وتسع واحدى عشر وخمسة عشر، ومجموعة تتكون من احدى وعشرين ثالوثاً. وقد تم ترتيبها لتكون في موازة وادي من الوديان او درب من الدروب، غير انه في الحالات الاخرى فإنها لم تتخذ اتجاهاً محدداً، وتحتوي بعض البلاطات على نقوش حميرية[7]. وعلى كل جانب من كل مجموعة وبما يوزايها ويبعد عنها تسعة أقدام كان هناك سطر من المواقد تتكون من أكوام من الحصى الصغير مثل ذلك الذي يستخدم اليوم لشي اللحم. وربما وجدت أحياناً حجرات كبيرة رتبت فرادى في صف ويبدو انها كانت مقاعد يجلس عليها الناس. ومن بين الاثار التي رأيت كان هناك عدد من جثوات الدفن ودوائر يبلغ قطرها 12 قدماً، وقد وضع في محيطها حجارة كبيرة، وداخلها مليء بطبقة منبسطة من الحصيات الصغيرة. وأنا على يقين بأن هذه الثواليث ليست علامات على موقع القبور حيث انني قد وجدها منصوبة فوق صخور صماء، ويبدو جلياً ان هؤلاء الناس دفنوا موتاهم في جثوات التراب. بل انه حتى الان يندر ان تجد من بدو الهضبة من يحفر قبراً لدفن ميت فهم يحوطون الميت عند منحدر (جرف) او صخرة. وأظن ان هذه الثواليث ما هي الا نصب نصبت للأحتفال بأشخاص رفيعي المنزلة، وقد عثرت على ثواليث شبيهة بها في مناطق بعيدة من هنا تصل الى انظور شرقاً والوادي الجانبي فوق ساوم في وادي حضرموت غرباً، غير اني لم أعثر عليها في السهوب في مجاري الاودية الخفيضة.
ومضينا في مسيرنا نزولا في وادي عيدم الى قفع. وفي موضع بلغ فيه عرض الوادي 1060 ياردة رأيت أنقاضاً يبلغ علوها 18 قدماً في الجروف الشديدة الانحدار التي تحيط بها، ويبدو ان فيضاناً قد حدث قبل حوالي ستين عاماً هو الذي تسبب في ترسيبها هنا. وبعد ثلاثين عاماً حدثت ثلاثة فيضانات في ثلاث سنوات متتابعة، ويبدو ان كل منها كان مكتسحاً مدمراً مثل الفيضان الأول. وعند مفترق شحن وأتينة وجدنا جذوع نخيل ضخمة جيء بها من حبروت وكميات كبيرة من الطمي ترسبت على طول الوادي. وقد حدثت كل الفيضانات الأربعة في فترة الهميم بين مايو ويونيو، غير ان المطر قد انقطع عن الهطول في تلك الأشهر من العام من ذلك الزمان. ولا يبدو ان هناك فصلاً بعينه تهطل فيه الامطار في هذه المنطقة التي زرتها، ولكن على الرغم من ان المطر لا يهطل هنا على وجه العموم الا انه حينما يهطل لا يكون عامّاً بل يهطل في بعض المواضع فقط، ويهطل المطر في أي فترة من فترات العام. ويقول البدو ان المطر كان يهطل بين فترة وأخرى في الماضي في سيف وربيعة الا انه يهطل في السنين الاربع او الخمس الماضية في الخريف او الشتاء فحسب. وعلى وجه العموم يستمر مطر الشتاء لفترة أطول، وتنبت على إثره أفضل الاشجار، فيما تهطل الامطار الغزيرة في الصيف، غير ان شدة حرارة الصيف سرعان ما تأتي على العشب الذي ينبت بعد تلك الامطار. وقد جثم على المنطقة في السنوات الخمس الى السبع الماضية جفاف عظيم قطعه مطر غزير عامّ هطل في آخر اسبوع من شهر يوليو. وقد امتدت المنطقة التي هطل فيها ذلك المطر شمالاً الى سليل التي هطل عليها مطر لم ينقطع لسبع أيام متواصلة كما هطل كذلك على التلال السفحية في اليمن وحضرموت حيث سالت الاودية من 26 يوليو الى 3 اغسطس، وامتد شرقاً الى واديي حبروت وعيدم.
وفي قفع[8] تركت كل الرجال الذين كانوا يرافقوني خلا اثنين منهم، ليحفلوا بالعيد عند بركة ماء يجف ماءها بسرعة، واتجهنا غرباً الى ان وصلنا الى وادي ميتن. وهنا يكثر وجود الاحافير الايوسينية فتراها متناثرة هنا وهناك في كل مكان في السهب الحصوي، وبعدها رأيت هذه الاحافير بكميات أكبر بطول وادي شلهميت، اما في الاماكن الاخرى فلم اعثر الا على نماذج من حين لآخر، ولم أر اي أحفورة في جدة الزولية شرق رملة سحمة. وقد أثير فضولي أيما إثارة حينما أشار الرجل الذي ينتمي الى بيت يماني الذي كان يرافقني جهة الشمال الى رملة شعيت وأخبرني ان مدينة أبار التاريخية مدفونة هناك تحت الرمال، وقد تبين لي بعد حين ان هذا اعتقاد راسخ يسود بين هؤلاء البدو. وكان الامر الذي جعل رفيقاي يتخليان عن مشاركة رفقائهم الاحتفال بالعيد هو أملهم في صيد المها، وبالفعل فسرعان ما مررنا بآثار أقدام حديثة للمها، وفي ميتن رأينا عشر منها في يومين، غير انها كانت متيقظة جفولة، وأدركنا ان الاقتراب منها في هذه السهول المفتوحة الجرداء أمر محال. وبالنظر الى آثار أقدامها أدركنا ان هناك عدد أكبر من هذه الحيوانات شمالاً. ويفضل المها هذه السهوب الحصوية الجرداء حتى حينما يكون العشب ضئيلا على الرعي في الرمال. وقد عثرنا على بعض آثار اقدامها في منطقة المراعي الخصبة التي لم يقترب منها حيوان في رملة سحمة بينما كانت هناك قطعان كبيرة منها في السهول الجدباء في وادي قتبيت. وعلى الرغم من كثرة صيدها (وقد اخبرنا مرافقي من بيت يماني انه قد صاد بنفسه اثنين وثمانين منها، اي ثمانية عشر كل عام) فإنها ما زالت منتشرة في هذه السهوب الجنوبية. وقد انقرض النعام من جنوب شبه الجزيرة العربية منذ زمن بعيد، ومن الثابت انه قد انقرض منذ أكثر من عشرين عاماً، وحيوان "الريم" نادر هنا، برغم كثرته في ريف ارفاج في الشمال، وقد اخبرني رفيقاي انهما لم يريا اي ريم هنا في السني الأخيرة. غير ان الانواع الاخرى من الغزلان كثيرة هنا في كل من الهضبة والسهوب، وعلى الأخص في وادي مقشن الا انها تندر في الرمال، على الرغم من اننا عثرنا على بضعة آثار اقدام في رملة سحمة. اما الوعل فيوجد في المنطقة التي تمتد من انظور الى حضرموت، حيثما استطاعت ان تجد مأوى لها في جروف الاودية، وتعيش قطعان عديدة من الوعل المتوسط الحجم في الوجه الشمالي لجبل القرا. اما النمر فيعيش في الشعاب المليئة بالأشجار في الوجه الجنوبي للجبل، ويصيده افراد قبيلة القرا بين فترة وأخرى. وعند رأس وادي جناب عثرت على آثار أقدام فهد يطارد غزالا، وهذا يبدو من آثار الاقدام ومن وصف العرب للفهد[9]. كما تنتشر في الهضبة الذئاب والضباع، أما في الرمال فتوجد الثعالب الصحراوية والقنافذ.
وبعد ان انضممنا ثانية الى البقية الذين تركناهم في قفع رحلنا عبر سهل يخلو سطحه من أية تضاريس نحو وادي غدون واستسقينا في شصر حيث توجد قلعة حجرية لم تجصص على مرتفع صخري تشير الى موقع البئر الشهيرة. وعند قاع كهف عظيم في هذه التلة كان هناك وشل ضئيل من الماء القذر في أخدود عميق لا يمكن ان يصله الانسان الا بشق الانفس بالنزول في ممر ضيق بين الجدار الصخري وضفة رملية جرفتها الرياح، ويبلغ عمقه 30 قدماً، يملأ نصف الكهف. ولأنه كان مورد الماء المستديم في هذه السهوب الوسطى فإنه المكان الوحيد الذي يمكن ان تستسقي منه أي جماعة مغيرة وقد شهد الموقع كثيراً من المعارك الطاحنة. وليس ثمة من مورد ماء بين هذا الموقع ومقشن التي تبعد عن هذا المكان 140 ميلاً، ولهذا فقد ملئنا كل قربنا، وهو ما استلزم منا وقتاً طويلاً. وخلال الرحيل تظهر بعض الثقوب الصغيرة في قرب الماء التي يتسرب منها الماء يتم سدها بالشوك او قطع خشبية مناسبة ملفوفة بقطعة قماش ورغم غرابة شكلها الا انها تقوم بوظيفتها على أكمل وجه. وبعد ان تحركنا لتسع ساعات عبر السهب الخالي وصلنا عند غروب الشمس الى وادي ام الحيط على طرف الرمال، وكان مشهد جدار الرمل الطويل ذو اللون الوردي يأخذ بالالباب حينما تبدى لأول وهلة أمام نواظرنا. وقد قاست ام الحيط الامرّين من الجفاف الذي حل بها لمدة عشرين عاماً، وليس ثمة من دلائل حياة الا اشجار الغاف وشجيرات المرخ. وعند مرسودد التي وصلناها بعد سبعة ايام من تحركنا من شصر وعلى الجانب الشمالي من الوادي الذي يعرف بإسم "الارض" انعطفت شمالاً بإتجاه الصحراء ومعي ثمانية من المرافقين، فيما ذهب الاخرون الى مقشن. غير اننا قضينا أولا نصف يوم في رعي جمالنا الجائعة بين كثبان نخدة الغربية عند مجموعة من اشجار الغاف الضخمة التي أزهرت أغصانها رغم أنف الجفاف الذي تعاني منه المنطقة منذ ربع قرن. وتتكون رمال خسفة وغنيم من كثبان منعزلة يبلغ ارتفاعها ما بين 200-300 قدماً، وهي ترتفع من الأرض المليئة بالحصى كأنها جبال مبقعة باللون الابيض بفعل الكلس وشجيرات الهرم. وتنمو اشجار الابلب والاراد في الكثبان، وتتميز هذه النباتات بألوان ثرية عميقة، مما يرسم سجادة متوهجة نسجت من حبيبات الرمل الحمراء والفضية. وقد هطل المطر هنا ولمسافة تتراوح بين 100-150 ميلا شمالاً في شتاء عام 1944 لليلة كاملة، وهو ما أدى الى نمو المراعي الخضراء المزدهرة التي تحتوي على نباتات الزهرة والايلجي والجاسي. ويعتقد البدو ان المطر الذي يستطيع ان يتوغل داخل الرمال لعمق كوع واحد يكفي لينمو على إثرها مرعى طيب، وان ساعة ونصف الساعة من المطر المنهمر تكفي ليحدث هذا. وتحتاج السهوب الى مطر اكثر مما تحتاجه الرمال، غير اننا وجدنا لاحقا في وادي قتيبيت نبات "رقيب الشمس" وهو ما زال أخضر اللون مزهراً بعد هطول المطر قبل ثلاثة أعوام. وكان البدو من بيت المسن والرواشد قد رعوا حيواناتهم في هذه المنطقة وتحركوا شمالا لمدة ستة الى عشرة ايام.
وانتشر رجالي من العرب هنا وهناك على اقدامهم في كثبان الرمال الناعمة يجمعون ملء أذرعتهم من بعض النباتات التي يطعمون بها بأيديهم جمالهم الجائعة في الطريق. وقد تأخر ثلاثة منهم خلفنا في جمال منهكة ليصلوا الى خسفة[10] بعد ساعتين من وصولنا. وعلى الرغم من العطش الذي استبد بنا لنفاذ مائنا منذ مسافة بعيدة الا انه لم يشرب اي من رجالنا الذين وصلوا الى البئر حتى وصل هؤلاء الرجال الثلاثة، فهذه هي عادة البدو. كذلك فإن غاب رجل فلن يذوق أحد طعاماً حتى يعود الغائب. ان العيش وفقاً لنمط حياتهم يتطلب أكثر من ان يلبس المرء لباسهم، ولأنهم معزولون عن العالم الخارجي فإنهم لا يعرفون الا عاداتهم وتقاليدهم وهم يحكمون على أي غريب يفد اليهم بمدى تمسكه بهذه العادات والتقاليد، وحتى يكسب المرء احترامهم وتقديرهم فإن عليه ان يناظرهم في قوة التحمل، فيمشي ويمتطي مثلهم ظهر الدابة لمسافات طوال، ويتجلد في حمارة القيظ وصبارة القرّ، ويصبر على الجوع والعطش دون ان ترتفع عقيرته بالشكوى لذلك. وخير لك ان تعيش بينهم كأنك واحد منهم بدلا من ان تعزل نفسك عنهم في خيمة او ان يقوم على خدمتك خادم خاص بك. ولا يمكن للبدو ان يتخيلوا رجلا يسافر معهم ويرفص مع ذلك ان يشاركهم في طعامه، فهم يشاركون كل من يأتي في طعامهم، برغم قلته.
والماء في رمال خسفة وغنيم غزير تحت الجانب الشمالي او الشمالي الشرقي لكثيب رمل مرتفع.، وهو بعض الملوحة غير ان الناس يشربونه، ويتراوح عمقه بين 3 الى 9 اقدام، وفي خسفة استطاع رجالي تبين آثار يزيد عمرها على الشهر تشبه آثار مجموعة مغيرة تتكون من ستة عشر فرداً من قبيلة العوامر من الشمال. وبعد ذلك سمعنا ان هذه الجماعة المغيرة نهبوا خسمة عشر جملا بالقرب من الجازر قبالة الجنبة الذين قتلوا ثلاثة منهم في غارة أخذتهم عبر الربع الخالي من الخليج الى المحيط الهندي. وقد زرع اكتشاف آثار الاقدام الخوف والرعب في شعور رجالي، فقد كنا قلة. وفي الليلة نفسها كان هناك ذئب يعوي، وهو أمر يندر سماعه في الرمال، فظن الرجال من الخوف انها صرخات المغيرين، وهو ما جعلهم متيقظين طوال تلك الليلة. والبدو يقرأون آثار الاقدام، حتى وإن كانت بعد مضي شهر على الرمال، بمهارة تثير العجب، ذلك ان حياتهم وموتهم يعتمدان على مقدرتهم على تفسيرها تفسيراً صائباً. وكل بدوي يعرف آثار أقدام جماله، وربما تذكَّر آثار أقدام الجمال التي رآها فيما مضى من حياته. وبنظرة واحدة على آثار الاقدام فإن البدوي يستطيع ان يحدد ان كان الجمل طليقاً او كان على ظهره شخص. وبتفحص آثار الاقدام الغريبة فإنهم يستطيعون تحديد المنطقة التي أتت منها الجمال، وربما استطاعوا كذلك معرفة من يملكها، كما انهم يستطيعون بتفحص بعر الجمال معرفة الاماكن التي مرت بها في طريقها والوقت الذي شربت فيه. بل انهم يدَّعون بأن الخبير منهم يستطيع تحديد بعير لم يره من قبل في حياته من الشبه بين آثار أقدامه وآثار أقدام أمه. وقد عبرنا في أوقات عدة طريق المغيرين، فيتبعها رجل منا على جمله لمسافة قصيرة ليوافينا بتفاصيل عنهم ومن أين أتوا.
وفي مقشن وجدنا جماعتنا وقد نصبوا خيامهم بين أشجار الغاف بالقرب من مجموعة من اشجار النخيل التي تنمو هكذا دون ان يعتني بها أحد، وتجمع ثمارها في سبتمبر وتوزع بين قبائل كثير. وكانت هناك ساقية ضحلة العمق من ماء مالح يبلغ طولها 300 ياردة[11] بين تلك النخلات، وعلى ضفة تلك الساقية كانت هناك عين ماء أعذب كان العوامر قد طمروها في عودتهم من احدى الغارات بعد ان استسقوا من بئر متكي القريب، كي يؤخروا مطارديهم. كما مرت من هنا جماعة مغيرة صغيرة من الدروع قبل عدة أيام، وقد قضوا اربعة عشر يوما في مسيرهم من عبري، وسقوا جمالهم في العبيلة في وادي العميري. وقد ذكروا انهم مروا على مرعى طيب لم يرع فيه أحد في رمال سحمة كما ذكروا انهم رأوا كذلك قطعاناً من المها.
غادرت مقشن في 13 اكتوبر ترافقني جماعة أخرى من ثمانية رجال. وقد تبعنا الوادي حتى إذا تجاوزنا خمسة وعشرين ميلاً انتهى الوادي عند الرمال والارتفاع البسيط الذي لا تلحظه العين لجدة الحراسيس عند منخفض عريض يغطيه الطمي تناثرت فيه اشجار الغاف وشجر الاثل الجاف. عبرنا رملة سحمة في خسمة أيام الى جدة الزولية، وهي سهل حصوي عاقر، مبقع هنا وهناك ببقع بيضاء من الكلس، ويقع خلف الحدود الشرقية للرمال، وتبعنا طرف هذا السهب شمالا لنصف يوم قبل ان نعود الى مقشن. وقد كنت آمل ان نصل رمال أم السميم المتحركة التي تغوص فيها الاقدام، وهي حوض رملي شكله وادي العميري، ويذكر البدو انه يغطي منطقة تبلغ مساحتها 400 ميل مربع. وتمتد هذه الرمال 40 ميلاً الى الشمال ونحن في طريق العودة خلف رملة غربنيات. الا ان الماء الذي كان لدينا قد نفذ والماء منعدم في هذه النواحي من الرمال، وأقرب بئر عذب يقع في وادي العميري خلف جدة الزولية. وعلى بعد اربعين ميلا الى الشمال الغربي منا تقع رملة غافة وبئر خور النجا، ولا يصلح ماؤه الا لسقي الجمال. وخلفها في رملة بن صيدان يكثر الماء لكنه ماء بعه بعض الملوحة. ويذكر العرب بئرا تسمى الجسيورة في رمال ربض شمال شرق رملة بن صيدان، وهناك بئر أخرى، أم الزامل، بين الجسيورة ووادي العين، غير انهم يقولون ان هذه هي كل الابار في الرمال الشرقية. وكانت بئر راقي في جدة الحراسيس بعيدة حيث توجد على بعد حوالي 70 ميلاً الى الجنوب الشرقي، وبينها وبين الجازر هناك بئر في بوي. وقد طمرت بئر خسفة على ايدي المغيرين ولا يوجد مورد ماء آخر في هذا السهب. وفي سحمة ترتفع الكثبان الى 200 قدم (وتشبه في شكلها الكثبان الموجودة في رمال غنيم)، وترتفع الكثبان على نحو مباغت من الرمال المحيطة بها، ويتباين لونها بين اللون الحليبي والابيض او الذهبي والاخضر، ولكن هنا انكشف السطح الحصوي والجبسي الذي يكثر فيه الصخر الجيري في أودية طويلة متوازية يتراوح عرضها بين ميل وميلين، وتمتد بإتجاه الشمال الشرقي والجنوب الغربي. ويسمي البدو هذه الاسطح الحصوية "سبخات"، على الرغم من انني رأيت في سحمة منخفض ملحي حقيقي واحد وعدد قليل في غنيم، وقد نبتت فيها كلها أشجار الأثل. و الرمال في الجانب الجنوبي الشرقي للأودية ناعمة والانحدار رأسي، أما في الجانب الشمالي الغربي فإن الانحدار تدريجي والرمال أثقل. وتنمو النباتات في الجانب الشمالي الغربي، مثل شجيرات الابلة والهض كما ينمو بعد المطر الرمرم والبركت والايلجي والجاسي والسعدان والفيرا والجرن والفيفير والملوح وبعض شجيرات الزهرة. وقد هطل على المكان مطر غزير وكان الندى في الأغلب مشبعاً. وقد صبحنا ذات يوم لنجد ان طبقة سميكة من ضباب الارض غطت الرمال فبدت قمم الكثبان فوقها كأنها جزر في محيط. وكان المرعى الطيب في كل مكان، وهي مراعي لم يستكشفها البدو يرفرف فيها الفراش بأجنحته من نبتة الى اخرى، وقد أبهجت قنبرات الصحراء الرمال بأغانيها الجميلة. وندر ان رأينا طيورا عدا الغربان التي رأيناها حول الآبار، وكنا بين فترة وأخرى نرى بعض صقور العوسق وطائر الصرد وطائر الذعرة، وذات يوم حامت فوق مخيمنا بومة مهولة طوال الليل. ويشيع وجود الجرد والجرابيع وفئران العضل حيث سقط المطر، حيث كانت تتقافز فوقنا ونحن نيام. وقد مررنا على بعض آثار أقدام المها المتجهة شمالاً، وكان رجالي على يقين بأن هناك قطعان ضخمة تتجمع بالقرب من رمال غربنيات. وكان الرجال في توق شديد للحم، فقد كان كل غذائنا الذي لا يتغير يتكون من خبز الفطير المخبوز على رماد النار او من الثريد حينما يتوفر ما يكفي من الماء. وكنا نأكل مرة في اليوم عند غروب الشمس، وكنا نكافيء انفسنا بين فترة وأخرى ببضع تمرات وقت الظهيرة. وكنا نحصل على الحليب من عدد من النوق، غير ان قلة المرعى وطول المسير قد أديا الى قلة الحليب. وشربنا قهوة مُرّة سوداء وشايا بالزنجبيل، غير اي ماء الرمال جعل حتى من هذين المشروبين غير مستساغين، ولشهرين لم اشرب قطرة من ماء الصحراء القذر الطعم الا في هذا الشاي او القهوة. وحيث ان الجو كان لطيفاً، وكان شديد البرودة أحياناً حتى حينما تكون الشمس في كبد السماء، فإنني لم أشعر بأي مشقة بسبب عدم شربي الماء.
ومن مقشن سرنا لسبعة ايام الى انظور متبعين وادي قتبيت عبر جدة الحراسيس الجدباء. وقد كانت حيوانات المها كثيرة هنا، برغم ندرة المرعى، وفي يوم واحد قدر رجالي بأننا قد مررنا على آثار حديثة لأكثر من أربعين رأساً منها. وقد تمكنوا من صيد اثنين منها، كما جلبوا معهم عجل مها صغير يبلغ من العمر اسبوعين تقريباً، وقد كان هذا العجل يتغذى من حليب النوق، بالرغم من انه لم يتوقف في البداية عن الشكوى بأصوات متبرمة. وأنظور اسميا للبطاحرة، وهي اليوم قبيلة قليلة العدد تقطن بطول الساحل ويعتمدون في عيشهم أساساً على صيد الاسماك، غير ان الواقع ينطق بأن أنظور يستخدمها حصرياً "ثوعار" من قبيلة المهرة. ويبلغ ارتفاع أنظور 1820 قدماً، والماء العذب متوفر بكثرة، بالقرب من حقل نخيل ضخم يكاد يستحيل التوغل فيه في قاع الوادي، تحيط به جروف شديدة الانحدار. وفي جزيرة يحيط بها جرف فوق هذا الحقل توجد أطلال مثيرة، تحتوي على جدار خارجي مستطيل يبلغ طوله 80 قدماً وارتفاعه قدمان، وقد بني بطول طرف الجرف، ويحيط هذا السور بركام من الانقاض يبلغ طوله 30 قدماً يمتد في النصف الشمالي لهذه المنطقة المسورة. وفي هذا الركام توجد غرفة يبلغ طولها 12 قدماً وعرضها 7 أقدام وارتفاعها 5 أقدام، وأرضيتها بمستوى الارض في الخارج، وجدرانها المملطة من الحجر. ويوجد سلم ضيق يؤدي نزولا اليها، وفي النهاية الجنوبية للركام يوجد جدار يرتفع الى 9 اقدام من مستوى الصخور و4 أقدام فوق قمة الركام، وقد تم تمليطه ووضع في مداميك منتظمة، بأحجار زاوية من الحجر المربع المنحوت الجيد المكسو بطريقة حسنة. ويوجد عدد من الاحواض (خسمة أقدام في قدمين فيقدمين) وقد قطعت كل منها من قطعة صخرية واحدة من الحجر الرملي، وقد وضعت في النصف الجنوبي للجدار الخارجي. وقد عثرت لاحقاً على عدد من الاحواض الشبيهة بها وقد وضعت في بعض الجدران القديمة بالقرب من صلالة. وقد كانت هذه هي الانقاض الوحيدة التي استخدم فيها الملاط التي رأيتها طوال رحلتي.
لقد عبرنا الان روافد وادي قتبيت، وعبرنا حقول اللبان، الى بركة حانون في المنحدرات الشمالية لجبل القرا. وقد كان هنا بعض أفراد بيت جداد، وهم أول العرب، غير رجالي، الذين رأيتهم منذ ان غادرنا قفع قبل اربع واربعين يوماً، وهي مدة سرنا فيها مسافة تبلغ 700 ميل تقريبا. هبطنا جهة البحر عند وادي أربوت، وهذا الوادي، ووادي جرزيز، هما الطريقان العمليان الوحيدان من ظفار عبر الجبال، ويستخدمهما المسافرون الى شمال عمان. ووصلنا الى صلالة في التاسع من يناير.
وقد كان في انتظاري أحد مشايخ الرواشد وعدد من أفراد قبيلته، وقد كنت التقيت بهذا الشيخ في قفع، ورتبت معه أمر ملاقاته هنا مع الرجال والجمال لمرافقتي الى تريم عبر السهوب الغربية. استأجرت احدى عشر رجلا من الرواشد وبيت يماني واثنين من المهرة ورجل منهالي ليكونوا "رباعتي" حينما نكون بين قبائلهم. وقد استبقيت ثلاثة من رجال بيت كثير الذين كانوا معي وهم سلطان وابنه ومسلم بن تفل شيخ المسالمة وهو كذلك صياد سارت بذكره الركبان. كما رافقنا عشرة آخرون من الرواشد، مشتركين في الايجار الذي سأعطيه للرواشد الذين استأجرتهم وكلهم أمل في ان اجازيهم ببعض العطايا. وقد كنت قد احببت وقدرت بيت كثير، غير ان جشعهم أزعجني، أما الرواشد فقد كانوا أقل طمعاً وجشعاً. ويقطن الرواشد في الرمال الجنوبية الوسطى، وبطن بيت يماني يعيش في حدود السهب مع الرمال بين رملة فصد ورملة ضاحية. وفي الرمال يعيشون في خيام سوداء كخيام البدو العادية غير انهم لا يحملون الخيام أبداً الى السهوب، اما بيت كثير والمهرة فلا يستخدمون الخيام قط. وهؤلاء البدو ليسوا كثر ولا يمتلكون الا عددا قليلا من النوق فما أندر الماء والمرعى في الربع الخالي. ويملك أغلبهم ما بين ثمانية الى عشرة رأساً من الإبل، ويملك القليل منهم ما يصل الى عشرين رأساً. وهؤلاء العرب صغار الاجسام متوسطو البنية وهم أقوياء فهنا لا يمكن أن يعيش الا الانسب والأصلح. ولا يرتدي أفراد القبائل الجنوبية الا المئزر الذي يستر عورتهم، ولا يرتدي السراويل الا النساء. ويرتدي بعضهم سمقا (ثوبا فضفاضا) فوق المئزر، وشعرهم أسود غير جعد، ويتميز على وجه العموم بطول متوسط، غير انه يكون أحياناً طويلا ومضفورا. وكثير منهم لا يغطون رؤوسهم، ويعصبونها بسير جلدي فيما يربط آخرون قطعة قماش حول رؤوسهم. وتغطي بعض نسائهم وليس كلهن وجوههن. وهم لا يعرفون ارتداء الحذاء، غير انهم قد يغطون أقدامهم بجوارب بسيطة حينما تشتد حرارة الشمس. وأسلحتهم البندقية والخنجر، وهم غاية في التمسك بتعاليم الدين، وملتزمون غاية الالتزام بالصلاة[12] والصوم، وقد صام عديد من رجالي أثناء الرحلة تعويضاً عن أيام كانوا قد أفطروا فيها خلال شهر رمضان. والكون عندهم عربي مسلم، وعدا هذا فهم يقسمون بني البشر الى مسلم وغير مسلم، وما أقل من سمع منهم بالانجليز، فكل الاوروبيين عندهم نصارى، ولا معنى عندهم للتمييز بين جنسية هذا وجنسية ذاك. وكل ما سمعوه عن الحرب هو انها كانت حرباً بين النصارى، ويعرفون ان حكومة عدن هي حكومة نصرانية، غير انهم بالرغم من كل هذا لا يعرفون التعصب. وهم مرحون ما أيسر إضحاكهم، وعلى وجه العموم فهم لطفاء المعشر لكنهم مع ذلك سراع الى إظهار استيائهم وتبرهم من كل أمر لا يقبلونه، وحينما يستثيرهم إنسان فإنهم سرعان ما يظهرون إنفعالهم وغضبهم. ولا تجد من بينهم من يسعى الى فرض رأيه على غيره، ولا يتهربون من الأعمال الجماعية، بل انهم يبادرون بأنفسهم الى عرض جهودهم بإصرار صاخب لأداء أي مهمة، وشيوخهم في مقدمة من يجمع الحطب او يحفر الآبار، لا يستنكفون عن فعل شي من هذه الأعمال مثلهم مثل غيرهم من أفراد قبيلتهم. وقد وجدت فيهم الدماثة ولين الجانب ورقة الحاشية والأدب في كل معاملاتهم، وكل منهم مخلص للآخر، وأم الكبائر لديهم ان تتخلى عن رفيقك حينما تكونان في سفر. غير انهم بالرغم من كل هذا متحجرو القلب حينما يتعلق الأمر بالشعور بآلام الآخرين وأوجاعهم، ولا تقدير لديهم البتة للحياة الانسانية، ويمكن للواحد منهم ان يثأثر لمقتل أحدهم بقطع حلقوم أي راعي يراه من قبيلة القاتل بلا رحمة. وهم كرام بطعامهم وماءهم، ويشركون كل قادم عليهم في الاكل بإسراف، غير انهم برغم هذا جشعون طماعون، لا تجد على السنتهم حديثاً الا عن المال، وربما يدوم خلاف محتدم بينهم لأيام على دولار واحد. غير ان السرقة والنشل منعدمان لديهم، وقد يترك الواحد منهم أمواله دون حراسة، وقد يشحذون طلباً للمال دون حياء أو خجل، ويداهنون بلا كياسة كأنهم أطفال حينما يأملون في الحصول على مبتغى ما. وهم طيبو العشرة، لا معنى بينهم لخصوصية الفرد، وأحاديثهم جماعية وصاخبة دائماً. وطالما كان العربي على مسمع الآخرين فإنه سيعبر عن آراءه، وما ان يبتعد عن رفاقه حتى يأخذ في الغناء. وهم عشاق للشعر، يقولونه بالسليقة في وصف أي شي في حياتهم اليومية، ويصيخون السمع لساعات حينما يلقي شاعر قصيدته بينهم.
والناقة[13] هي وحدها التي تجعل الحياة أمراً ممكناً في هذا القفر الخالي ولولاها لما كانت حياتهم، ولهذا تجد ان شغلهم الشاغل هو راحة النوق. والبدوي قد يتجاهل ما يتطلبه جسمه من طعام او ماء الا ان غاية همه إطعام نوقه، وقد يطول مسيرهم أبداً حينما يكونون في مرعى طيب حتى تكتفي نوقهم من الرعي، ويسيرون دون توقف برغم ما نالته أجسامهم من نصب حينما يكونون في مفازة جرداء تخلو من المرعى. وحينما وصلنا أخيرا الى وادي حضرموت، حيث أعدت ضيافة كبيرة في استقبالنا لم يحلم بها هؤلاء البدو الجوعى في حياتهم، فإنهم سرعان ما تاقوا الى العودة الى الصخراء الخالية حيث يمكن لنوقهم ان تجد المرعى الذي ألفته. وهم يغنون لنوقهم ويستحثونها في المسير، وما رأيتهم قط يضربونها او يعنفونها. ويمتطون الابل بأن يركبون خلف السنام في السرج العماني الخفيف[14] في وضع أقرب على وجه العموم الى الركوع. ونادرا ما يكون سفرهم بأسرع من المشي العادي، ولا يسرعون في سيرهم أبداً حينما يكونون في سفر طويل. ويملك الكثير منهم نوقاً أصائل من السلالة العمانية الشهيرة، وهذه النوق شهيرة بين القبائل في كل مكان. ولديهم قليل جداً من البعران (جمع بعير) فهم يذبحونها بعد ولادتها ليأكلوها، ويضطرون لهذا السبب الى أخذ نوقهم لمسافات طوال لإخصابها. وحين يتوفر المرعى الطيب فإن نوقهم تظل شهوراً دون ماء فيما يعيش أصحابها على الحليب لا يشربون غيره. وأثناء ترحالهم في الشتاء فإنهم يسقون الابل مرة كل أربعة او خسمة أيام الا انها يمكن ان تسير دون مشقة تذكر لمدة عشرة الى اثناء عشر يوماً دون ان تشرب. والماء نادر، خصوصاً في السهوب الا ان أم المشاكل عندهم ليست ندرة الماء بل قلة المرعى. ويندر ان تسمع ان عربياً قد لقي حتفه عطشاً، ومن يموت عطشاً فإنه بلا شك يتبع آثار جماعة أغارت عليه في رمال لا يعرفها حيث تمحو الريح آثار أقدام المغيرين. وحينما يستبد بالبدو العطش فإنهم يحصلون على الماء من معدة الناقة حيث يدخلون عصا في حلقها، ويستمتع الكثير منهم بشرب هذا السائل الذي يسمونه "الفض" من معدة الناقة بعد ذبحها. وفي الرحلات يحملون قرباً مليئة بالحليب الحامض، وحينما يأخذ في التناقص فإنهم يضيفون إليه الماء المالح ليخفف من حموضته. وتعيش كثير من الاسر أساساً على حليب الماعز الصغيرة، ولا تعرف بعض الاسر شراباً غيره، غير ان وجود الماعز ليس دائماً، وقد ماتت الكثير منها في المجاعة التي حلت خلال سني القحط الماضية، حيث تضاءلت مؤونتهم من الحليب الى الصفر واضطروا الى الاستعانة بذبح نوقهم. والبدو الذي لا يملكون نوقاً لا يستطيعون حمل الماء ولهذا فإنهم يرتبطون بمكان البئر، ويتعذر عليهم رعي قطعانهم على مبعدة حينما تنعدم المراعي القريبة منهم. أما الاسر التي تملك النوق فتستطيع ان تبيع عنزاً في غيضة المهرة ويجلبون معهم حملا من السردين يكفي لإطعام اسرة تتكون من أربعة أفراد لمدة شهرين. والمناهيل، وليس بيت كثير ولا المهرة، هم وحدهم من يمتلك غنماً من سلالة بيضاء صغيرة. وليس لدى أي من هذه القبائل كلاب او حمير، ومن نافل القول ان الخيول لا توجد في الربع الخالي. ولقلة المرعى فإن القبائل البدوية تعيش متناثرة هنا وهناك في الصحراء في مجموعات أسرية صغيرة الحجم في مناطق شاسعة، في حين يجعلهم الخوف من غارات الاعداء في يقظة دائمة، ولهذا تجدهم على أهبة دائمة لسوق قطعانهم عند أول بادرة خطر عليهم، فتشتتهم دون يقظة معناه انهم لا يستطيعون رد غارات الاعداء، وحينما يغير عليهم مغير فإن أملهم الوحيد في استعادة قطعانهم هو ان يتجمعوا في فريق ويطاردون معاً المغيرين، وحيث ان المغيرين يعرفون ان مثل هذه المطاردة واقعة لا محالة فإنهم يحملون ما يستطيعون حمله معهم من النوق ويهربون بها بأقصى سرعة يستطيعونها، ويؤخرون مطارديهم بأن يعمدوا الى طمر الآبار التي يمرون عليها. وهم يذبحون الماعز للأكل، وإن كان هناك دم بين قبائلهم فإنهم لا تأخذهم أي رحمة في قتل أي رجل يصلون اليه من قبيلة القاتل، غير انهم لا يؤذون النساء او الأطفال. وتحتدم المعارك الحامية حينما يدركهم الفريق الذي يتبعهم او حينما تباغتهم جماعة مغيرة أخرى، وهنا تكون الخسائر كبيرة ذلك ان القتل يكون مآل الكثيرين منهم، ولا محل للرحمة والشفقة عندها.
غادرت صلالة مرة أخرى في 14 يناير، حيث عبرت جبل القرا مرة أخرى عن طريق ممر قسميم، وعند رأس وادي غدون تماماً توجد بركة ماء تسمى "عيون" تحيط بها جروف كلسية يبلغ ارتفاعها 200 قدماً. ويغذي هذه البركة ينبوع ماء صغير، ويبلغ طولها 150 ياردة وعرضها 30 ياردة، وهي عظيمة العمق. ومياه البركة التي ما تزال خضراء يحيط بها نبات الأسل أما تحت البركة فتنبت في قاع الوادي أشجار الأثل و"الحصر"، ويعتقد العرب بوجود وحش على هيئة أفعى يعيش في "عيون" وانه يتغذى على نوقهم. والافاعي تكثر في الغابات وفي جبل القرا غير ان وجودها يندر في الصحراء، بالرغم من ان أفعى لدغت أحد نوقنا ذات يوم، وقد استعادت هذه الناقة عافيتها رغم انها كانت في مرض شديد لعديد من الأيام. وفي مسنين في وادي ديفين بالقرب من موضع التقاءه بوادي حبروت أخذني بعض الرجال لأرى نفقاً يبلغ ارتفاعه 20 قدماً على وجه أحد الجروف، ولا يمكن الوصول الى هذا النفق الا بإستخدام حبل يربط في أعلى الجرف، وقد ملئت فتحة هذا النفق التي يبلغ طولها 4 أقدام وعرضها قدمين بغطاء صلصالي حاول العرب ازالته منذ فترة قريبة حيث يسود اعتقاد راسخ بينهم ان هناك كنزا مدفوناً في هذا النفق. وقد حفروا في النصف الأعلى من الغطاء الصلصالي وزعموا انهم استطاعوا التوغل الى مسافة 40 قدماً داخل النفق الملتوي. وقد كانت هناك كومة كبيرة من التراب المحفور في قاع الجرف، الا انهم توقفوا عن الحفر قبل ان يصلوا الى نهاية الغطاء. ويملك حبروت بيت كثير الا ان المهرة هم الذين يستخدمونها، وقد كانت القبيلة خائفة من وجود سياسة جديدة لدى قبل حكومة عدن، وسرى حديث صاخب بين المحاربين من الشباب مفاده ان لا مفر من الحرب وعلى عدم الخنوع وعدم السماح لنصراني ان يستسقي من هذا المكان. وقد أخذ رجالي هذا على محمل الجد فاستولوا على البئر والتلال المجاورة له عند الفجر. وهؤلاء المهرة من بيت زعبنوت وهم قبيلة قوية كثيرة العدد يعيشون على السلاسل الساحلية بين جبل القمر وفتحة وادي حضرموت، الا ان هناك فروع منهم متفرقة ويمتد وجودهم حتى أنظور، وهم يتحدثون لساناً خاصاً بهم يفهمه كثير من بيت كثير، ولعلها تعود الى نفس الاصول اللغوية للهجة القرا. وهم أشبه بالقرا في هيئتهم ويُعدُّون من الحلف الغافري. وبينهم وبيت كثير مقدار ضئيل من الصداقة، وكان كثير من يسقون ابلهم في البرك الضحلة فهنا يكثر الماء ويكان ان تجده في مستوى سطح الارض. وترسم نساؤهم خطوطاً خضراء وزرقاء أسفل انوفهن وذقونهن وخدودهن، وقد صبغت واحدة من نسائهم وجهها باللون الاخضر وهو ما أفقدها كل لمسة جمال. وكان بينهم هناك عدد قليل من العفار الذين لا يعدون اليوم من أفراد القبائل، ويعيش الكثير منهم بالقرب من جبال عمان، ويتحدثون اللهجة المهرية. والآبار يبلغ ارتفاعها 200 قدم فوق مستوى البحر، وهي قريبة من حقول نخيل متوسطة المساحة يملكها بيت كثير ويستأجرها المهرة. وفوق الابار كانت هناك انقاض قلعة منهارة وفي الجانب الابعد من الوادي توجد بعض المباني الدائرية التي شيدت من الحجارة الخشنة بدون ان يكون فيها أي مدخل واضح للعيان، وقد دفن نصفها تحت التراب. ويعاني البدو من الملاريا ومن أمراض العيون والمغص الحاد الذي يهدّ أجسامهم تماماً لساعات عديدة، وآلام المعدة هي شكواهم الدائمة، وقد كشف البعض منهم عن آثار الكي الذي يلجأون اليه ليشفيهم من كل مرض. كما انني رأيت هنا شخصاً مصاباً بالجذام، وهو المجذوم الوحيد الذي رأيته في هذه البلاد. ومن هنا سرنا الى شلحميت حيث حفرنا كثيرا من الابار الضحلة العمق، وقد قضينا أياماً ثلاثة في سقي ابلنا الثلاثين وملء قرب الماء التي كانت معنا. ويقطن شلحميت بيت كثير كذلك الا ان المهرة يستخدمونها ايضاً. وكان موضع سقيانا التالي هو وادي خواط وهو أحد روافد ميتن في أراضي بيت يماني. وكان الماء نادرا هنا ايضا، كما قضينا أيضا أياماً ثلاثة في سقي الابل. وبالقرب من هنا كان هنالك مرعى طيب وسرعان ما قدم علينا خمسون ضيفا من المهرة والرواشد وبيت يماني وبالحاف فقدمنا لهم الطعام. وكان هناك سالم بن غوارت شيخ بالحاف، وكان عجوزاً مدمناً على شرب القهوة. وبالحاف قبيلة متدينة، وهم من المشايخ وحماة قبر الشيخ الجوهري على الساحل. وحتى عهد قريب لم يكونوا يحملون السلاح، وهنا قمت بإستئجار صبيا من بيت يماني يبلغ من العمر سبعة عشر عاماً هو سالم بن كبينة، وكان معي اخوه غير الشقيق محمد، وهو ابن صالح بن كالوت الذي كان مرشداً لبرترام توماس. وكان الاخوان يعرفان بلقب "بن كبينة" ذلك ان عادة البدو ان ينسبوا الرجل الى امه فيقال ابن فلانه، وهي عادة غير معروفة بين القرا ولا بين المهرة كما أظن.
والى الغرب من خوات والى وادي جناب سرنا عبر سهول حصوية و"سيوح" وقد اخضرت بعد المطر الغزير الذي انهمر على هذا المكان في يوليو، وكانت هناك أسر بدوية متناثرة هنا وهناك ترعى قطعان ماعزها وأحيانا ابلها. وأخبرنا هؤلاء البدو عن جماعة مغيرة كبيرة من الدهم أغارت على المناهيل، ولهذا فقد اصبح رجالي في يقظة دائمة فكانوا يبعثون أمامهم المستكشفين لمسافة كبيرة أمامنا حيث نسير، ويطلبون منهم البقاء في التلال حولنا حينما يتوقف الركب. وفي سناو التي تبعد 25 ميلا من الصحراء كان هناك بئر محاطة بحجارة يبلغ عمقه 40 قدماً في وادي قفر بين تلال من الكلس المتفتت. هنا وجدنا آثار أقدام حديثة لجماعة مغيرة من المهرة ولم يكن من بينهم أحد من الدهم. وكان بالقرب من هذه البئر قلعة متداعية ذات برجين ومقبرة كثيرا ما يستخدمها المغيرون. وقد لاحظت وجود رائحة كبريتية كريهة عند فم البئر، ويقال بأن هناك غازات سامة تخرج منها تسببت في موت الكثيرين. استسقينا من مكان على مقربة من هنا عند حفرة ماء ضحلة العمق في مجرى مائي ذي جانبين شديدي الانحدار يسمى مظول يبلغ ارتفاعه 1800 قدم فوق مستوى البحر، كما استسقينا مرة اخرى في اراضي المناهيل عند آبار موجور بين تلال جبسية قاحلة منخفضة حيث لا يوجد الا القليل من الماء الفاسد. وهنا توجد ايضا قلعة متداعية وكان هناك بالقرب منها جمجمة رجل منهالي أرداه الصياعرة قتيلا في العام الفائت، فدسستها في أغراضي، وتوجد تلك الجمجمة الان في متحف الكلية الملكية للجراحين[15]. من هنا تتبعنا آثار اقدام المهاجمين من الدهم الذين بلغ عددهم خمسة وأربعين رجل استولوا على خمسين رأساً من الابل من مكان قريب وأطلقوا النار على راعيين من المناهيل. وحتى وقت قريب كان الصياعرة مصدر كل رعب في هذه السهوب الغربية، حيث كانت غاراتهم تصل شرقاً حتى شصر وأنظور، غير ان الدهم القادمين من الاراضي اليمنية قد تفوقوا عليهم في السني الاخيرة. وقد خرج أغلب رجال المناهيل في مطاردة المغيرين، وأدى مظهرنا الى بث الرعب في نفوسهم خاصة ان كل رجالنا كانوا يرتدون ملابس فضفاضة بأكمام طويلة مستدقة كتلك التي يلبسها الالدهم. وقد كانت النيران تطلق بين حين وآخر فوق رؤوسنا، في حين كان "الربيع" من المناهيل يتحرك في ناقته تجاههم ملوحاً لهم بعمامته دلالة على انه يود ان يتحدث اليهم. وكانت الاشارة المقبولة على حسن النوايا تتمثل في رمي الرمل في الهواء وكان الاخرون يرون ذلك الرمل من على بعد، وقد عمدنا الى هذا التقليد كثيراً. وقد توقفنا عند احدى الاسر المنكوبة حيث سرق منها الدهم ثمانية رؤوس من الماعز وذبحوها وأكلوا لحمها، وقد شعرت هذه الاسرة بالتقزز والاشمئزاز منهم حين أخذ المغيرون في حلب الماعز مباشرة الى أفواههم.
في ثموت التي تعلو عن مستوى سطح البحر ب 2160 قدم كانت هناك بئر أخرى تحيط بها الحجارة يبلغ عمقها 50 قدماً، وقد تم تنظيفها منذ مدة قريبة فأصبح ماؤها عذباً طيباً، وكان أول ماء عذب يدخل في فمي منذ ان غادرنا خوات. وهذه البئر والابار التي تجاورها في هلايا وموجر وسناو هي الابار التي لابد ان يستخدمها المغيرون حيث انه لا يوجد ماء آخر في هذه الرمال غرب زويرة وتريوة في دكاكة الا قليل من الماء غير العذب في رملة خرخاد بين اطراف وادي ضحية ووادي ايوة المناهيل. وبالقرب من البئر كانت هناك مقبرة وقبر احد الشيوخ حيث يترك الناس قرابينا من حبات القهوة داخل قبة صغيرة تحتوي على فناجين ودلة قهوة ويد هاون وهاون يستخدمها عابرو السبيل لصنع القهوة. وهذه العادة الحميدة موجودة كذلك في قبر راعي المخاري عند رأس وادي واشة. ويبلغ عمق بئر هلاية 25 قدماً وبها قليل من الماء العذب. هنا خيمنا بالقرب من قلعة اخرى مبنية من طابقين. وعند الغروب اخبرنا الكشافة ان هناك جماعة كبيرة من العرب خلف احد التلال، وقبل ان نتمكن من اعطاء اوامرنا بسوق الابل الى الداخل فتح حراس الابل النار على عشرين من العرب الراكبين الذين حملوا عليهم على حين غرة، ثم صوبوا نيرانهم من خلف تلال خفيضة ثم ردوا بإطلاق النار. ولكن سرعان ما سرى بعض الشك حيث حدثناهم فتبين لنا انهم مناهيل عائدون من مطاردة الدهم، وقد ظنوا خطئا اننا جماعة مغيرة اخرى من الدهم غير انهم عرفوا اننا من الشرق حينما سمعوا صرخاتنا. ثم سايرنا جبل حبشية ذا القمة المستوية حتى عبرنا 35000 قدم من الامطار المتجمعة بين روافد وادي حضرموت ورأس وادي جناب. ثم هبطنا في وادي واشة وحينما لم نجد ماء عند ماخاري استسقينا عند هيسي نيمريت وبعدها بوقت قليل عبرنا الى أرضا ثم هبطنا الى ساوم، وهذه الروافد المليئة بجلاميد الصخور لوادي حضرموت محاطة بجروف حادة الانحدار ارتفاعها 400 قدم حيث يكثر وجود الوعل. ومن ساوم رحلنا على مهل نصعد الوادي الرئيسي الى تريم وقد أثرت في نفوسنا أيما تأثير كرم ضيافة بيت سعيد حيث وصلنا هناك يوم 22 فبراير.
وقد كنت آمل ان أمضي في رحلتي عبر الرمال الغربين من حصن العبر الى سليل غير انني لسؤ حظي قد منعت من ذلك. وكان ثلاثة من الرواشد الذين كانوا معي قد نووا الذهاب معي، وكنا قد جمعنا كل المعلومات المتوفرة عن الرمال والسهوب وأماكن الاستسقاء الى جهة شمال غرب تريم. وقد أضفتها الى في خريطتي، حيث ان الخرائط المتوفرة الى الشرق من الطريق الذي سلكه فيلبي كثيرة الأخطاء، ومن دلائل خطأها على سبيل المثال ان بعض الاودية قد رسمت على بعد 100 ميل بعيداً جهة الشرق. وهناك بئران الى الغرب من حضن العبر هما بئر ودعية التي تبعد 50 ميلا الى الشمال من هناك غير انه يقال انها قد جفت هذا العام، والبئر الاخرى هي بئر زمخ في وادي هدهي. والبئران توجدان في أراضي صيعر. وهناك مكان سقيا كبير هو منواخ في عيوة الصعر الى الجنوب الشرقي من زمخ. ويبدأ ظهور الصحراء على بعد 20 ميلاً شمال زمخ ويقال ان هذه الرمال كثبان عالية من الرمل الناعم، ويستحيل على المرء عبورها الا بعد ان يهبط من دابته. أما على الجانب الأبعد من الرمال هناك ماء في هاما التي تبعد حوالي 50 ميلا جنوب سليل غير ان العرب لا يساورهم أدنى شك بأنه لا يوجد ماء في الرمال غرب دكاكة. وقد عبرها صيعر للهجوم على الدواسر غير انها رحلة فيها كثير من المشقة تمتد حوالي ستة عشر يوماً دون ماء. ولم يسمع أي من البدو الذين تحدثت معهم عن الرمال السريعة في هذه المنطقة ولم يسمع أي منهم بالاسم "بحر الصافي"، غير انني حينما كنت في المكلا سمعت برجل كربي رأى قبل عشرين عاماً بقايا جماعته وقد اجتاحتهم الرمال وهم قادمين من رحلة نهب على مسير سبعة أيام الى شمال حصن العبر في رمال رملة الغرغ.
وفي تريم انفصلت عن البدو الذين كانوا معي وعن سلطان الذي أحببته كثيراً وعن مسلم بن كمام ورفيقه الذي لا يفارقه سعيد بن مسلم ومحمد ابن صالح بن كالوت وأخوه غير الشقيق ابن كبينة ذلك الصبي الضاحك، وعن شيوخ بيت يماني عوض بن خزي والأعور عبدالله بن مسعد ونمر بن سالم الذي كان شاعرنا و"ربيعنا" من المهرة مكتوب بن هريزي. وكان رجال الصحراء هؤلاء شم الانوف، مسمرو الوجوه نحيلو الاجسام، وكان جلياً للعين انهم في غير مكانهم بين رجال المدن اللينين، وكانوا في أشد التوق الى العودة الى مواطنهم. شعرت بالوحدة واليتم حينما أبصرتهم يقودون ابلهم في طريق العودة، راجعين الى فضاء الصحراء البديع.
[1]يختن القرا وكذلك بيت كثير اولادهم حين يصل عمرهم حوالي السادسة عشر سنة، اما الرواشد فيختونون أبناءهم وهم أصغر سناً، على الرغم من ان البعض في بيت يماني يؤخرونه الى السادسة عشر او السابعة عشر، والمهرة بين السابعة عشر والثامنة عشر وربما بعد ذلك. والقرا يختنون أولادهم حينما يتجمعون في مخيمات الشتاء. وطقوس الختان عند هذه القبائل يتم بأن يجلس الولد خلال العملية التي تتم في العلن على يد أحد افراد القبيلة على النحو البسيط الذي يقرره الاسلام.
[2]الوديان في جبال القرا من الشرق الى الغرب هي غشارب ودربيت وخيثيم وارزات وثاسا وريثوت وأربوت، ونيهاز وجرزيز وجردوم ونار وجيث وايشفت وارزوك وايثوف ونخليت ودامي ومغشي وافول وجيثان
[4]كل منطقة السهوب بين واديي قتبيت وجناب تمسى عادة "السيح" (وجمعها "سيوح") وهي على عكس "الجدة" القاحلة الى الشرق من وادي قتبيت. والهضبة التي تقع الى الشمال من الجبال الساحلية تسمى "النجد" والرمال تسمى "الرمل"، ولا تعرف القبائل التي تقطن هذه المنطقة الاسم "الربع الخالي".
[5]التواريخ التقريبية للفصول هي كما يلي: الصيف من 20 مارس الى 4 مايو، والهميم بين 5 مايو و20 يونيو، ويشكل كل من الصيف والهميم ما يسمى "القيظ"، والخريف بين 21 يونيو و20 سبتمبر، والشتوي بين 21 سبتمبر و21 ديسمبر، والربيع بين 22 ديسمبر و20 مارس.
[6]يقول الدكتور و. كامبل يث W. Campbell Smith "صنع الفأس من حجر النفريت (nephrite) وهو أحد أنواع اليشم (حجر كريم). ولا يوجد النفريت في شبه الجزيرة العربية، ولا شك انه قد جلب الى المنطقة من احدى المناطق المجاورة التي كان يستخدم فيها النفريت في العصر الحجري الحديث."
[7]يرى بيستون Beeston ان الكتابات ليست حميرية، اي اي ان حروفها ليست هي حروف العربية الجنوبية، بل انها "ثمودية" وهي كتابة وجدت قبل الاسلام في شمال شبه الجزيرة العربية ووسطها بالرغم من قربها من حروف العربية الجنوبية.
[8]حصى العقاب التي تعرف بإسم "الجلجلة" كثيرة جداً في جروف الوادي على بعد أميال قليلة من قفع. كان بعضها بحجم كرة القدم، وقد حملت الاودية بعض الحصى الصغير الخفيف من هذا النوع الى مناطق بعيدة مثل مقشن.
[9]استخدمت كلمة "فهد" في بعض النقوش الاثرية التي تعود الى حوالي 100 عام قبل الميلاد وجدها فيلبي Philbyفي عقلة، التي تبعد حوالي 15 كيلومتراً غرب شبوة. ولا أعلم بوجود اي توثيق لوجود الفهد في شبه الجزيرة العربية على الرغ من بعض التقارير التي تتحدث عن وجوده في الكويت. وبالنظر الى التوزيع الجغرافي للفهد فإن عدم وجوده في شبه الجزيرة العربية أمر يبعث على الاستغراب.
[10]"خسفة" هو الاسم الذي تسمى به أي بئر تشتهر بأن سقوط أحد الشهب التي تهوي من السماء تسبب في حفرها، غير انه لا يوجد ما يوحي بهذا في شكل هذه البئر.
[11]يظهر تحليل الملح ملحاً عادياً ملوث يحتوي على كمية متوسطة من الكالسيوم وسولفات المنغنيس.
[12]يصلي أفراد القرا والمهرة وبيت كثير فرادى أما الرواشد فيصلون في جماعة.
[13]أسماء الجمل عند هذه القبائل هي: السنة الاولى "محولية"، والثانية "بنت لبون" او "جضاعة"، والثالثة "مزروبة"، والرابعة "ثني"، والخامسة "رباع"، والسادسة "سداس"، اما الجمل البالغ "موني". ويستخدمون كلمة "بوش" للإشارة الى قطيع الجمال، وكنت قد سمعت هذه الكلمة في جبل الدروز فقط.
[14]بيت كثير والرواشد وبيت يماني والمهرة والمناهيل يستخدمون هذا السرج. ويسموه "شداد"، ولا يعرفون الاسم "زانة". اما قبائل مرة وصيعر والقبائل الغربية فيستخدمون سرج الركوب ذا القطبين.
[15]يصف البروفيسور أ. ج. اي. كيف A. J. E. Cave الجمجمة في ورقة في مبنى الجمعية، ويستنتج انه "بناء على اسس مورفولوجية وعظامية فإنه من الواضح ان القحف انه لشخص ينتمي الى عرق من البحر الابيض المتوسط، انتشر في الماضي والحاضر ليشمل شبه الجزيرة العربية".
نشرت مجلة نزوى في عددها الجديد (ابريل 2010) ترجمتي لقصة "جحيم فسيح" للكاتب الأرجنتيني جوليرو مارتينيز. يمكنكم تنزيل القصة بالضغط هنا أو بالضغط هنا.
ترجمة قصة "انتظار" للكاتب النيجيري أوسوندو
نشرت مجلة العربي الكويتية (عدد فبراير 2010) ترجمتي لقصة "انتظار" للكاتب النيجيري أوسوندو. يمكن تنزيل الترجمة بالضغط على الصورة في الأعلى أو هنا أو بالضغط على الزر الأيمن من الماوس واختيار أمر الحفظ عند الضغط هنا.