حول الحرب والإنسان (1)
فلسفة الحرب
عبدالله الحراصي
الآن ونحن على شفا الحرب، يركز الكثير منا على طبيعتها السياسية والعسكرية المباشرة، ولا تأتي على ذهن أغلبنا أبعادها الفلسفية والأخلاقية، وهو ما سأحاول ان أتناوله في هذا المقال الذي هو، في مجمله، عرض تلخيصي لدراسة كتبها بعنوان "فلسفة الحرب" ألكس موسلي وهو استاذ جامعي بجامعة إيفانزفل في لنكولنشر في انجلترة، ظهرت في "موسوعة الفلسفة على الانترنت" (http://www.utm.edu/research/iep/w/war.htm).
أول ما ينبغي التطرق اليه في اي حديث عن الحرب هو تعريف الحرب ذاتها، ففيما تتفق القواميس اللغوية على ان الحرب هي حالة صراع مسلح بين طرفين، هما دولتين في الأغلب (أو بأن الحرب، كما يقول "لسان العرب"، هي نقيض السلم)، نجد ان المفكرين قد اختلفوا في تعريفها. واختلاف المفكرين هذا مرده بطبيعة الحال اختلاف الرؤى الفلسفية والفكرية التي تحكم هذه الرؤى، اي ان لكل مفكر افتراضات فلسفية او فكرية راسخة ومسَلَّم بها، وليس تعريف الحرب لديه سوى إنعكاس لتلك الافتراضات. يعرف شيشرون الحرب بأنها "الكفاح بإستخدام القوة"، أما المفكر توماس هوبز فيرى الحرب بإعتبارها "حالة يمكن ان تظل موجودة وإن توقفت عملياتها [اي العمليات الحربية]"، وعند دينيس ديديروت "هي تشنج عنيف يحل بالجسم السياسي"، وهنا لا يمكننا ان نغفل التعريف الشهير لكارل فون كلاوسوتز الذي يعدها "استمرار للسياسة بإستخدام وسائل أخرى"، وهي "عمل من أعمال العنف يرمي الى إجبار عدونا على تنفيذ إرادتنا". ان لكل من هذه التعريفات، كما لاحظ موسلي، خصائصه التي تميزه عن غيره وله نقاط ضعفه وقوته، غير ان كل منها نتاج لمواقف فلسفية واسعة.
وهناك أكثر من أتجاه في تحديد كنه الحرب، ويمكن تمييز مدرستين اثنتين، أولهما مدرسة العقلانية السياسية والثانية مدرسة يمكن تسميتها بـ"المدرسة الصراعية الطبيعية". ترى مدرسة العقلانية السياسية ان الحرب حالة يحكمها النظام تقوم بها الدول ولها بدايات معلنة ونهايات متوقعة، ويتصارع فيها خصماء محددون، والحرب من هذا المنظور هي الحرب كما يفهمها العامة من الناس، اي تلك التي تشمل أحداثا مثل شن الغارات وردها، وحصار الأعداء وغيرها. وبحسب هذه المدرسة فإن الحرب ينبغي ان تقوم بين دولتين، وإلا فإنها لن تكون حربا. الحرب كما يقول جان جاك روسو في كتابه ذائع الصيت "العقد الاجتماعي" هي حالة "علاقة، ليس بين رجل وآخر، بل بين دولة ودولة أخرى"، وهذا التعريف يحصر الأطراف المشتركة في الحروب في الدول، ولهذا فإن هذه المدرسة لا ترى في الصراعات المسلحة بين الكيانات السياسية السابقة للدولة، كالقبائل على سبيل المثال، حروبا، كما ان أي نشاط عنيف تقوم به جماعات ضد دولة ما لا يعد حربا.
أما المدرسة الأخرى فتختلف فلسفيا عن هذه النظرية السياسية المحضة، ذلك أنها تحاول ان تربط مظاهر الحرب الواضحة، كشن الغارات والحصار واستخدام الاسلحة الكيماوية او النووية مثلا، بعمليات ميتافيزيقية عليا، فترى إن الحرب هي الأمر الطبيعي في الكون بأكمله وأن تجليات الصراع توجد في كل مظاهر تفاعلات عناصر الكون. ومن أبرز ممثلي هذه المدرسة الفيلسوفان هيراقليطس وهيجل اللذان يعتقدان أن أي تغيير مهما كان نوعه (ويشمل هذا التغييرات الاجتماعية والاجتماعية والاقتصادية وحتى المادية) لا يحدث الا بعد حدوث صراع عنيف، فيقول هيراقليطس الذي أثر كثيرا في رؤى هيجل حول التاريخ ان "الحرب هي الأب الذي تخرج من صلبه كل الاشياء"، ويقول فولتير ان "المجاعة والطاعون والحرب هي أشهر ثلاثة أشياء تكون هذا العالم البائس ... وكل الحيوانات هي في حالة صراع مستديم مع بعضها البعض ... والجو والارض والماء تمثل ميادين الدمار".
وكما تختلف محاولات تعريف الحرب تختلف كذلك محاولات المفكرين في فهم أسبابها، وفي هذا يمكن الاشارة الى مدرستين ظهرا في الغرب (ويمكن بطبيعة الحال رؤيتهما بجلاء في الفكر العربي الاسلامي)، هما مدرسة التخيير ومدرسة التسيير. ترى الاولى ان الانسان هو نفسه الذي يفعل ما يفعل، وهو المسؤول عن أفعاله تلك وعن عواقبها، أما الثانية فترى ان ليس للإنسان يد فيما يحدث في الكون، وكل أحداث الكون إنما هي أمور كانت ستقع حتما وليس للإنسان قوة يستطيع بها تغيير مسار أي حدث بل انه منفذ لحتمية كبرى.
فيما يتعلق بالحرب ترى مدرسة التسيير ان ليس للإنسان أي دور في ظهور الحرب، فهي قدر حتمي ليس منه مفر، وينقسم من يعتقدون بهذا الرأي الى أكثر من تيار، أبرزهم يؤمن بالحتمية التامة، اي ان الانسان منفذ بطريقة آلية وليس له من أمره شيئا على وجه الاطلاق، وهنا فإن دور الانسان هو دور سلبي تماما، حيث لا يمكنه فعل اي شيء بإرادته الواعية، ذلك ان كل ما يفعله مهما حاول فعل اي شيء انما ينظر اليه بإعتباره جزءا من القدر لا فعلا حرا، ويرى تيار حتمي اخر ان الحرب أمر حتمي مقدر أجل، ولكن للإنسان ان يقوم ببعض الامور التي، وإن فشلت في رد قدر الحرب على عقبيه، يمكنها التخفيف من آثار الحرب التدميرية، وهي كما يقول موسلي، شبيهة بدور المريض الذي لا يستطيع رد الامراض المقدرة عليه الا انه يستطيع الأخذ ببعض الأسباب التي تقلل من أخطار الامراض كالأدوية التي تعالج ذلك المرض، وهي أشبه بالعمود المعلق عموديا في البنايات الشاهقة بهدف منع الصواعق، فبركزه في هذه البنايات يمكن ان يمنع الصواعق ويقلل من إمكانيات تدميرها، وإن كان لا يستطيع القضاء على كل صواعق الكون.
أما الذين يرون بالتخيير فيقولون ان الحرب هي من صنع الانسان، وهو المسؤول الأول والأخير عنها، والسعي الى ربطها بقوى حتمية قدرية ليس الا تهربا من حمل هذه المسؤولية. وضمن مدرسة التخيير ذاتها يوجد كذلك اكثر من تيار تتباين فيما بينها حول فهمها لكنه اختيار الانسان ومسؤوليته، وهذا يعني ان قضية الحرب تتحول من قضية حتمية ذات ابعاد أخلاقية إلى قضية سياسية محضة، حيث تظهر أسئلة في مجتمعات الحروب عن الأشخاص المحددين المتسببين في الحرب ودورهم في النصر او الهزيمة ومعاقبتهم على أفعالهم هذه، كما تظهر أسئلة عن شرعية شن الحرب، فإن كان الانسان مخيَّر فمن الذي يملك الشرعية للتخلي عن السلم وشن الحرب؟ ولماذا؟، كما ان هناك اسئلة تثار حول علاقة النخب السياسية، وهي القادرة على اتخاذ قرارات الحرب، بالشعوب، فهل هذه النخب تهيمن على الشعوب وتأخذهم حيثما تريد بما يحقق مصالحها (اي مصالح النخبة) ام انها في الحقيقة ممثلة للشعوب، وقراراتها فيما يتعلق بالحرب هي قرارات تصدر بالتالي عن الشعب وليس عن جماعات منبتة عنهم.
وضمن مدرسة التسيير والحتمية توجد، كما يذكر موسلي، ثلاث رؤى أساسية تتعرض للأسباب غير السياسية للحروب, وتربط كل رؤية الحرب بأمر ميتافيزيقي ليس له ارتباط مباشر بالسياسة وتفاعلاتها. الرؤية الاولى هي التي ترى في الحرب نتاج لأسباب بيولوجية (تتعلق بجسم الانسان)، فيرى البعض ان الأصل في الانسان ان يمارس العنف مع أخيه الانسان، وانه يميل للتوسع ولزيادة ما يملكه على حساب الآخرين دائما، وأن هذه النزعات متأصلة في جوهره كإنسان، وقد تعززت هذه الرؤى الميتافيزيقية ببعض التفسيرات التي يقدمها بعض علماء الجينات الذين يرون ان هناك جينات في الانسان يمكن ان تعزى اليها الحرب. غير ان هناك اختلافات حول امكانية التحكم في هذه النزعات والأسباب المتأصلة فيرى البعض، كوليم جيمز مثلا، انه يمكن تحويل وجهة نزعات الحرب في الانسان الى جهات غير صراعية، اي تحويل طاقته تلك الى أهداف تعمل من أجل تثبيت السلم الانساني، فيما يرى آخرون (مثل كونراد لورينز) انه لا يمكن التحكم في هذه النزعات وان هناك خوف من ان الانسان سيدمر نفسه خصوصا حينما توجد في يديه أسلحة فتاكة ذات تأثير تدميري عظيم، فيما ترى مجموعة ثالثة من المفكرين (مثل ريتشارد داوكنز) ان عملية التطور الطبيعي ستنجح في النهاية في خلق نوازع سلام تحل محل نوازع الحرب.
أما الرؤية التسييرية الثانية فترى ان أسباب الحرب لا تتعلق بجسم الانسان ومكوناته بل بالمؤسسات الثقافية الموجودة في مجتمع ما. الحرب من هذا المنظور هي قدر ثقافي، اي نتاج لرؤى ثقافية تؤمن بها بعض المجتمعات، وليست الحروب المفردة الا نتاج لتلك القيم الثقافية المتوارثة، وهنا يختفي دور الانسان الواعي، ذلك ان الانسان بإعتباره جزءا من الثقافة لا يرى الحرب الا من خلال المنظار الثقافي الذي يتوسط بين عينه وظواهر الكون. وهنا تثار بعض الأسئلة المتعلقة بالحرب والسلام، فلماذا حل السلام بين القبائل المتحاربة في انجلترة فيما استمرت الحرب في ايرلندا الشمالية ويوغسلافيا وغيرها؟
الرؤية الثالثة المتعلقة بالحتمية تربط بين أسباب الحروب والعقل، فإعلان الحرب هو نتاج لعقل الانسان (او لغياب هذا العقل)، ويرى بعض انصار هذه الرؤية ان الانسان لو لم يكن يتميز بملكة العقل لما توصل الى انه يستطيع ان يحقق مصالحه بإنتهاج سبيل الحرب بل ظل الانسان كائنا مسالما أبدا، ويرى آخرون العكس، ان العقل هو الذي يمكن الانسان من تجاوز نزعات الحرب والصراع وإبقاء السلام حالة دائمة. من يرى بأن الحرب هي غياب للعقل يعكسون ما قاله أفلاطون عن الحرب " الحروب والثورات والمعارك سببها البسيط والوحيد هو الجسد ورغباته"، اي ان الحرب هي علامة على اختلال التوازن بين العقل والجسد بإنتصار الثاني على الأول، وهنا تنبغي الاشارة الى ما كتبه ديستوفسكي في رواية "الاخوة كارامازوف" حيث قال "يوجد بطبيعة الحال في كل انسان حيوان متخفي هو حيوان الغضب، حيوان حرارة الشهوة وصرخات الضحية المعذبة، حيوان مخالفة القوانين الذي تحرر من عقاله".
يشير موسلى الى ان لكل من هذه الرؤى جانب من الصحة ولا ينبغي حصر أسباب الحرب في واحد منها فهذا تبسيط للأمور، بل انها مجتمعة تعمل على ظهور الحرب بين البشر، ويشير الى ان أمر أسباب الحرب يرتبط بقضية فلسفية كبيرة هي علاقة الطبيعة الانسانية بالحرب، وهنا اختلف الفلاسفة في تحديد طبيعة الانسان، فيرى هوبز ان لا بد من وجود سلطة كبيرة في المجتمع توقف نزعة الانسان نحو العنف والحروب فيقول في كتابه الشهير "ليفياثان" "خلال الزمن الذي يعيش فيه الناس دون سلطة تجعلهم يعيشون تحت سيف الخوف فإنهم يعيشون الوضع الذي يعرف بالحرب، ومثل هذه الحرب يشنها كل انسان ضد كل انسان"، وقد تأثر بهوبز فلاسفة آخرون كثر في فهمهم للحرب، فلوك يرفض رؤية هوبز التي لا ترى في الحياة الانسانية الا نزعات التدمير المتأصلة الا انه يقبل رغم ذلك انه سيكون هناك دائما من سيسعى الى إستغلال غياب السلطة والقوانين في المجتمع، أما روسو فيرى عكس ما رآه هوبز، فالأصل عند روسو ان الانسان كائن سلمي، الا انه حينما يحلل العلاقات الدولية يرى ان على الدول ان تكون نشيطة (اي عدوانية) وإلا ستنهار وتضمحل، ومعنى هذا ان الحرب أمر حتمي لا يرد، والسعي الى ايقافها أمر لا طائل منه في العلاقات الدولية. اما عمانويل كانط فيرى ان الحرب تساعد على تحضر الانسان وإحلال السلام، وان العقل ليس وحده الذي يعين الانسان على احلال السلام بل ان لتجربة الحرب دور كبير في هذا، الا ان كانط، كما يشير موسلي، يحمل ايضا نظرة تشاؤمية للإنسان حيث يقول "يبدو ان الحرب متأصلة في الطبيعة الانسانية، وتعتبر أمرا شريفا يسعى اليه الانسان نتيجة لعشقه للكرامة بدون ان يكون للإنسان [في الحرب] اي نزعات أنانية".
وقد تعرضت فلسفة الاخلاق للحرب فظهر مفهوم "الحرب العادلة" الذي ترفع كشعار يبرر شن كيان ما حرب على كيان آخر، الا ان هذا المفهوم يثير أسئلة فلسفية ليس لها اجابة واضحة (هل الشعوب مسؤولة اخلاقيا عن الحروب التي تشترك فيها دولها، ام ان المسؤولية تنحصر على الدول؟، هل الجيوش والعساكر هم أشخاص صالحون أخلاقيا؟ هل يتحمل المواطن العادي وزر حروب تشنها دولته؟). ينقسم الناس هنا الى معسكرين، معسكر السلميين الذين يرى بعضهم ان لا مبرر على الاطلاق يسمح للإنسان ان يشن حربا على اخيه الانسان، ويرى بعضهم الاخر ان الحرب هي الحل الأخير ويجب ان تستنفذ كل الخيارات الاخرى قبل ان تشن الحرب، وترى طائفة أخرى منهم ان الحرب شر لكن لا بد منها أحيانا من أجل تعزيز السلم وحمايته وتأمينه. المعسكر الثاني هو معسكر يعطي الحرب مبررات أخلاقية غير احلال السلام، مثل الدفاع عن الأوطان، وتوسيع أراضي البلاد بإحتلال أراضي الاخرين، أو من أجل أهداف تتعلق بمثل مثل الكرامة والشرف.
يشير موسلي كذلك الى نوعين من الحروب: الحرب المطلقة والحرب التامة. تصف الحرب المطلقة إستغلال كل موارد المجتمع وتستخدم كل المواطنين في العمل الحربي، أما الحرب التامة فتشير الى غياب اي رادع في الحرب ذاتها، حيث تطلق يد العدو على كل هدف بشري او غيره يمكن مهاجمته. في كلتي الحالتين تظهر بعض الأسئلة الفلسفية مثل المسؤولية الاخلاقية والسياسية، كتبرير ضم المدنيين الذي لا علاقة لهم بالحرب اضافة الى الاطفال والمعوقين والجرحى وغيرهم ممن لا يقوى على الحرب، فيرى من يعتقد بالحرب المطلقة ان على جميع افراد المجتمع واجب الدفاع عنه، وان من لا يستطيع عليه واجب مطلق يتمثل في مساعدة من يستطيع، وهنا تظهر كذلك العقوبات التي يجازى بها كل من يتخلى عن هذا الواجب من منطلق الضمير على سبيل المثال. وهناك قضايا شبيهة تتعلق بمناصري الحرب التامة الذين لا يرتدعون عن مهاجمة المسالمين ممن لا يشتركون في الحرب من النساء والاطفال مثلا، اضافة الى مهاجمة الآثار التاريخية في بلاد العدو، وتقوم هذه الرؤية على انه كلما عظمت الاخطار التي تواجه الجسم السياسي كلما ضعفت الكوابح الاخلاقية تدريجيا كما يقول مايكل ولزر في كتابه "الحروب العادلة وغير العادلة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق