مرحبا ب"التسامح" قيمة وممارسة
عبدالله الحراصي
حينما يعمى العقل والقلب، ولا يرى المرء الا نفسه، ويعتقد انه هو مركز الكون او الكون كله، يغيب التسامح. وحينما لا يعتقد هذا المرء ان من حق الاخر ان يعيش كما هو، او كما يريد ان يكون، منطلقا من فلسفة حياة او رؤية مغايرة، يغيب التسامح. وحينما ترى جماعة ما او طائفة ما انها الحق او ممثلة للحق تمثيلا لا يشاركها اياه جماعة او طائفة أخرى يغيب التسامح. ولا يحضر التسامح الا حينما يدرك المرء ان الحياة تتسع للجميع، وأن من حق الآخرين ان يعيشوا وأن يفكروا وأن يكتبوا حياة وفكرا وكتابة تختلف عما هو لديه. كما لا يحضر التسامح الا حينما يحل العقل وصوته، مهما هدأ هذا الصوت وتمهل في طرح رؤاه، ولا يحضر الا حينما تغيب الأصوات التي تريد هيمنة وتسلطاً على غيرها من الأصوات. التسامح لا يحضر الا حينما يغيب نقيضه، وهو صوت العنف والرفض وأقصاء الآخر أو الآخرين.
تجيء مجلة "التسامح" الصادرة عن وزارة الاوقاف والشؤون الدينية لتكون تمثيلا فكريا لواقع المجتمع المتسامح الذي عاشته عمان وما زالت تعيشه في تجل متنوع رائع مدهش في ديمومته برغم تدافعات التاريخ الداخلي والخارجي، ولتكون تعزيزا لفضيلة عشناها طويلا ونعيشها حاضرا، الا اننا كذلك نرى بعض النزعات نحو اقصاءها كقيمة أساسية من قيم المجتمع وتفاعل عناصره، وكقيمة أساسية من قيم حياة الفكر وثراء تنوعه وتنوع ثراءه. ومجلة "التسامح" من هذا المنظور هي رد للأمور الى طبائعها المتسامحة، ورفض لعنف الفكر وما يتبعه من عنف السلاح بأنواعه.
تأتي مجلة "التسامح" لتضع يدها في يد حركة الفكر الجاد في عمان والعالم العربي، فبرغم زخم ما ينشر كماً تأتي "التسامح" لتنحاز للكيف، وبرغم ما ينشر صراخا وايديولوجية تأتي "التسامح" لتنحاز للهدوء وإعمال العقل وتعايش الوعي بأشكاله، وبرغم دعوات تقسيم الذات والكون تقسيما حديا الى "نحن" و"هم"، وفسطاطنا وفسطاطهم، ودارنا ودارهم، تأتي "التسامح" لتعزز خلع نظارة الثنائيات ورؤية الوحدة في التنوع والتنوع في الوحدة، ورؤية التنوع والاختلاف حين وحيث يوجد هذا التنوع والاختلاف.
تصدر مجلة "التسامح" عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في سلطنة عمان، وهي وزارة لا يخامر أحد شك في ممارستها للتسامح قيمة وممارسة، وهو تسامح ينبغي الإشادة به وشكرهم عليه، فسلسلة الندوات والمحاضرات التي تنظمها هذه الوزارة في جامع السلطان قابوس الأكبر، والتي استضافت فيها بعض كبار العلماء والباحثين، هي مما يستحق الثناء عليه وتعزيزه قيمة وممارسة. القيمة هي السماح للآخر البعيد عنا والذي يقضي عمره في دراستنا والتنقيب في أعماق فكرنا ومجتمعنا لأن يقول صوته هنا في العالم العربي والاسلامي لا بين جدران قاعات الدرس او المؤتمر في الغرب فحسب، والقيمة تكمن أيضا في السماح لآذاننا وتمرينها على سماع صوت هذا الآخر بيننا هنا لا هناك، فالآخر الذي يدرسنا ويكتب عنا هو نحن الغائبة والمغيبة في كثير من الأحيان، اضافة الى كونه الآخر الذي ربط نفسه معنا برباط الفكر ورباط الانسانية.
لقد استضافت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية مؤخرا أثنين من أهم من درسنا في ألمانيا هما أنجيليكا نويفرت وشتيفان فلت. تحدثت نويفرت عن علاقة النص المقدس بالتاريخ، وعن برنامج بحثي ألماني يسعى الى دراسة التأويل في اليهودية والمسيحية والاسلام وآفاق هذا المشروع، كما تحدث شتيفان فلت عن ترجمات القرآن الكريم الى اللغة الالمانية ومصاعب ترجمة النص المقدس الذي يتميز بطبائع لغوية وثقافية تكاد لا توجد في غيره الى لغة تختلف غاية الاختلاف عن زمان ومكان نشؤه وتطوره، وتحدث في محاضرته الثانية عن الحوار بين الحضارات وضرورة تعزيزه وسبل تحقيقه. مثل هذه المحاضرات هي ترسيخ للحوار وللتسامح مع الآخر ومع الذات، وهي بشرى خير ودعوة لمستقبل عربي وأسلامي أكثر وعيا، مستقبل يقوم على ادراك ان الانغلاق بفنونه المختلفة، وعلى رأسها الانغلاق الفكري، قد قاد المجتمع العربي والاسلامي الى نهايات مسدودة مع الذات ومع الآخرين. تأتي مجلة التسامح في هذا الاطار لتوسع وتوثق وتساهم في صناعة وصياغة هذا المستقبل.
يقول مستشار المجلة خليل الشيخ ان من ابرز دوافع إصدار هذه المجلة القناعة بأن الفكر الاسلامي "يحتاج الى مزيد من المنابر الفكرية الراقية، التي تصنع مساحة حرة للكتابة الجادة، البعيدة عن التجريح والابتذال والإسفاف، وتسهم في ترسيخ الوعي الفكري لدى القاريء، وتعيد الأمل الى المسار الحضاري لهذه الأمة الذي غدا مسكوناً باليأس والأحباط، وتسهم في إزالة العوائق التي تكبل الفكر، وتعطل الاجتهاد، بعيدا عن الخطاب الحماسي وبلاغته وما يتحلى به من وثوقية قاطعة"، كما يقول ان خطاب مجلة "التسامح" هو "خطاب الرؤية المتوازنة على شتى الصعد العلمية والاجتماعية والسياسية، التي تتجاوز الخطابات التي تلوذ بالماضي، أو تهرب الى المستقبل، وتفضي في النهاية الى القفز على الواقع وتجاهل ما ينطوي عليه من مشكلات".
مرحبا بمجلة "التسامح" قيمة وممارسة، ومرحبا بمجلة "التسامح" حضنا للفكر المتنوع الواعي البعيد عن الأحادية والحدية وبلاغة الوثوقية القاطعة، وشكرا يا وزارة الأوقاف والشؤون الدينية.
فاتني أن أقرأ هذا المقال ..
ردحذفرائع جدا ..