حول الحرب والانسان (3)
ولفرد أوين: الحرب والموت
عبدالله الحراصي
"سمي الانسان إنسانا لأنه ينسى"، لن يصدق هذا كما يصدق في الحديث عن الحرب. ما أشد ما ينسى الانسان أهوال الحرب وما تقدمه لأهلها، منتصرين ومهزومين، من مصائب وآلام لها بداية تبدو معروفة لمن يتخذ قرار الحرب أو يجد نفسه طرفا فيها، كالدفاع عن المصالح او الدفاع عن الاوطان ورد كيد العدو الصائل، ولا تعرف النهاية لها طريقا. الحروب، من هذا المنظور، هي صراع الانسان مع أخيه الانسان في ميدان العبث، صراع بلا هدف جلي، فلو كانت الحروب تحل مشكلة لما تواترت، واحدة تلي الاخرى، وكأن السلم ليس الا هدنة بين لحظات العبث والجنون البشريين. أكتب هذا ونحن جميعا نعيش لحظات حرب مجنونة أتت على الأخضر واليابس من روح الانسان وكرامته، وأتت على كثير ممن كانوا أحياء ينبضون قبل اسبوعين من هذا اليوم من جنود الطرفين ومن المدنيين الذين عجلت بأرواحهم الى الآخرة أسلحة تنبض نظافة وتطورا كما يقال لنا.
الحرب من الخارج هي صراع يحمل لافتات الكرامة والمجد المؤثل والموت الرخيص من أجل أوطان عزيزة، ولكن الحرب من الداخل هي، كما سنرى في شعر ولفرد اوين، قتل الانسان للإنسان، القتل الرخيص حيث يتصارع الجند ويموتون، هي لحظات تستحيل فيها تلك اللافتات التي يرفعها السياسيون وأصحاب المصالح الى عبث عظيم. في الحرب لا تموت الغواصات ولا الطائرات، لا تموت صواريخ توماهوك او باتريوت (التي تعني "الوطني")، لا تموت دبابات تشالنجر (التي تعني "المتحدي") ولا مروحيات أباتشي، ولا تموت الخنادق ولا البنادق. الذي يموت هو الانسان، والذي يتألم هو الانسان، ولكن الانسان ينسى ولهذا سمي إنسانا.
ملحمة العبث العظيم التي نسميها الحرب هي موضوع رئيس في الشعر العالمي، ويعد ولفرد أوين أشهر الشعراء الانجليز الذين كتبوا عن الحرب، وتتميز قصائد اوين بأنها تبتعد عن تمجيد الوطن وبث الحماسة في قلوب المحاربين، بل ان قصائده تتمحور حول ما تخلفه الحروب من دمار وقتل وتعذيب للإنسان. في الحرب العالمية الاولى قرر أوين التطوع في القتال مع القوات البريطانية فكانت أول مشاركة له هي معركة سومي عام 1917، الا انه مرض وهو على خط الجبهة فآثر قادته نقله الى مستشفي في ادنبرة في اسكتلندة، ومن حسن طالعه انه التقى هناك بشاعر آخر اشتهر بقصائده الرائعة عن الحرب هو الشاعر سجفرد ساسون الذي كان قد نشر للتو أول مجموعة له من قصائد الحرب، فكان لهذه القصائد أثر عظيم في نفسية أوين وفي شعره، فأنبثق شعرا وكتب قصائدا عن الحرب لم يكتب مثلها من قبل. عاش أوين في المستشفى فترة هي إمتداد في اللاوعي لما رآه في الحروب، فكانت الحرب تحاصره في منامه كوابيسا رهيبة وتسربت الى قصائده التي إمتلأت بصور الأعين المغمضة وأفواه الجحيم. ولعل المفارقة هي اوين رجع الى الجبهة مرة أخرى في اغسطس 1918 ليلقى الموت قبل اسبوع من تاريخ 11 نوفمبر 1918 الذي يعد آخر يوم في تاريخ الحرب العالمية الأولى.
قمت بترجمة قصيدتين من أشهر قصائد أوين حول الحرب هما "نشيد لشباب هالك" و"ما أعذبه وما أصدقه" يوضحان رؤية أوين للدمار الذي تخلفه الحروب حيث صور القتلى الذين يموتون في سياق عبثي وحيث الألم الذي يحل بالانسان نتيجة للحرب.
نشيد لشباب هالك
تصف هذه القصيدة قتلى الحرب من الجنود الانجليز الذين قضوا في احدى معارك الحرب العالمية الاولى، ويقارن بين مراسم الجنازة التقليدية في الكنيسة والمراسم التي تقوم بها آلات الحرب لهم وحزن أسرهم والطبيعة.
أي نواقيس رحيل ستقرع لمن هلكوا كالقطيع؟
- ما هناك الا هدير غضب المدافع الرهيب
طقطقة البنادق السريعة المبقبقة
هي التي تتمتم بصلوات جنازتهم.
زمان الخديعة قد ولى، فلا صلوات ولا نواقيس
ولن ينوح عليهم وينتحب سوى الجوقات:
الجوقات المعتوهة المجلجلة في القذائف المنتحبة
والأبواق التي تلتمسهم من نواحي انجلترة المكلومة.
أي شموع ستحمل لتعجيل رحيلهم؟
ليس في أيدي الفتيان، بل في أعينهم
سيلمع وميض الوداع المقدس،
وستغطي حواجب الفتيات الشاحبة نعوشهم،
وستكون رقة الأفئدة الصبورة زهورهم،
وسيسدل كل غسق بطيء الستار عليهم.
ما أعذبه وما أصدقه
رغم شهرة قصيدة "نشيد لشباب هالك" الا ان القصيدة التي نالت القدر المعلى في شعر الحرب المكتوب باللغة الانجليزية تلك التي تحمل عنوانا باللغة اللاتينية هو "Dulce Et Decorum Est" والذي يعني "ما أعذبه وما أصدقه"، وهو عنوان مستمد من مقولة لاتينية يعود أصلها الى احدى قصائد الشاعر هوراس التي يقول فيها "الموت فداءا للوطن، ما أعذبه وما أصدقه"، وهي مقولة تدل على استعداد الانسان للموت واستعذابه له حينما يكون فداء للوطن، الا ان أوين يستخدمها لا ليؤكد عليها وإنما ليمعن في إظهار الوجه الخفي لها حيث يكمن القتل والدمار، والقصيدة إصابة احد الجنود بالغاز السام أثناء احدى معارك الحرب العالمية الاولى ومقتله.
محدودبي الظهر، كشحاذين مسنين يأنون تحت وطأة أحمال ثقيلة
مصطكي الركب، نسعل كالعرافات، مشينا، نلعن قدرنا ونحن نخوض الوحل
الى ان عدنا أدراجنا على أنوار القذائف المشعة،
ونحو مخيم استراحتنا النائي أخذنا نمشي مجهدين.
سار الرجال نائمين، وقد فقد الكثير أحذيتهم،
الا انهم ترنحوا يعرجون للأمام، منتعلين الدم. مضى الجميع، كسحاء، عمي،
أسكرهم النصب، لم يسمعوا حتى نعيق
القذائف المنهكة التي لا تقوى على الوصول اليهم.
الغاز! الغاز! أهرعوا ايها الشباب! – في نشوة التخبط
يرتدون أقنعة الغاز في اللحظة الأخيرة،
لكن ثمة من يصرخ ويتعثر،
يتخبط كمن أصابه الحريق او الكلس القاتل
حلت العتمة. يبدو عبر نظارة القناع الضبابية الخضراء والضوء الأخضر الغائم
كأنه غارق في لجة بحر أخضر، رأيته يغرق.
في كل أحلامي، أمام عيني العاجزتين،
ما زال يغطس نحوي، يجرجر، يختنق، يغرق.
ان قُدِّرَ لك في حلم خانق ان تمشي
خلف العربة التي قذفناه فيها،
وان ترى العينين البيضاوين يتقلبان في وجهه،
وجهه المتدلي كشيطان سئم من الشرور.
ان قدرت ان تسمع، في كل نزع، الدم
يتفجر متغرغرا من رئتيه اللتين يطفحان بالزبد،
القذر كالسرطان، المر كعشب مجتر،
إن قدر لك هذا، فإنك يا صاح لن تمجد
أمام أطفالك المتعطشين لكرامة بائسة
تلك الاكذوبة الكبرى:
" الموت فداءا للوطن
ما أعذبه وما أصدقه"
أشكرك من الاعماق أخي و استاذي الكريم
ردحذفدرست القصيدة باللغة الانجليزية - ترجمة رائعة