الموت والخذلان في الشعر العربي
كتب عبدالله الحراصي
الحرب حالة قتال عظيمة يعيشها الانسان، وليس لتجربة الحرب وجه واحد بل ان وجوهها متعددة، ولهذا فإن قاريء الشعر العربي سيجد ان كثيرا منه يتعرض لهذه التجربة المتأزمة. في هذا المقال سأعرض لتأثير هذه التجربة على بعض الشعراء العرب وسأركز على جانبين هما السعي وراء الموت في الحروب والشعور بالخذلان من نصرة من ترجو منه النصرة كما يتبين في بعض ابيات الشعر العربي.
لم تكن الحرب في الشعر العربي مرادفة للموت والدمار كما يبرز في الشعر العالمي الحديث، وخصوصا بعد تجارب الحروب العالمية، بل انها مرادفة للحياة من أكثر من وجه، فالمقاتل في الحرب يدافع عن حياته وعن حياة اسرته وقومه وهذا ما يجعله يستبسل في الحرب دفاعا عن شرف الحياة.
ومن زاوية أخرى فإن الحياة الكريمة كانت دائما هي مراد الانسان، وفي مثل هذه الحالة فضل كثير من الشعراء الموت على ان يعيشوا حياة الذل.
وهذا ما أدى الى وضع غريب في ظاهره، يوثقه الشعر العربي، وهو حب الموت في الحروب.
نجد هذا مثلا عند عروة بن الورد الذي يرد على سليمى التي تحاوله ثنيه عن المشاركة في الحرب بقوله:
أرى أم حسان الغداة تلومني = تخوّفني الأعداء والنفس أخوف
تقول سليمى لو أقمت لسرّنا = ولم تدر أني للمقام أطوّف
لعلّ الذي خوفتنا من أمامنا = يصادفه في أهله المتخلف
فسليمى تحاول ان تخوف عروة بإبراز قوة الاعداء واستحالة انتصاره عليهم وإحتمال ان يلقى مصرعه في الحرب الا انه يرد عليها ردا يكشف عن رؤية عميقة حول الحياة والموت لها وجهان،
وجهها الاول هو انه يحارب لا من أجل الموت بل من أجل إبقاء الحياة، فهو يطوف ليس من أجل الذهاب النهائي عنها بل من أجل المقام،
والوجه الثاني هو ان الموت آت لمحالة لجميع بني البشر، وهكذا فإن الذي كانت تخوفه منه ربما يصادفه من يتخلف عن الحرب في بيته وبين أهله.
ونفس الفكرة التي يطرحها عروة نجدها عند الحصين بن الحمام المري وهو شاعر جاهلي:
تأخرت استبقي الحياة فلم اجد = لنفسي حياة مثل أن اتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمي كلومنا = ولكن على اقدامنا تقطر الدما
نفلق هاما من رجال اعزة = علينا وهم كانوا اعق وأظلما
ويشير البيت الثاني الى إصرار الشاعر وجماعته على الحرب وعدم فراره من ساحة المعركة بحيث يهاجمون من خلفهم بل انهم يثبتون فيقطر الدم على أقدامهم وليس على أعقابهم (أي مؤخرة أقدامهم).
ومن أجمل أبيات حب الموت وتفضيله على طول الحياة الذليلة قول السموأل بن عاديا الذي عاش قبل الاسلام:
وإنا لقوم ما نرى القتل سُبة = إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا = وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد في فراشه = ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظبات نفوسنا =وليس على غير الظبات تسيل
(والظبات جمع ظبة وتعني حد السيف).
ومن تجارب الحرب التي دونها الأدب العربي تجربة الخذلان ممن يعتقد فيه النصرة، والخذلان منقصة كبيرة عند العرب الذين يعدون 'الخاذل أخو القاتل كما يقول حسان بن ثابت.
ومن الشعراء الذي يبرزون في ذاكرة المرء حينما يذكر الخذلان شاعر جاهلي اسمه قُريظ بن أنيف وينتمي الى بني تميم، وملخص أمره ان أفرادا من بني شيبان هاجموه واستولوا على ثلاثين بعيرا كان يملكها، فأستنجد بقبيلته غير انه لم يجد منهم سوى الخذلان فما كان أمامه الا ان يستنجد ببني مازن الذين لبوا طلبه فهاجموا بني شيبان واستولوا على مائة بعير منهم وسلموها الى قريظ، فكتب قصيدة رائعة يقص فيها قصته ويهجو فيها قبيلته التي لم تهب لنجدته، يتخيل في مطلعها انه لو كان من بني مازن لما تجرأ بنو شيبان على استباحة إبله:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي = بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
ثم يمضي في وصف بني مازن وصفا يظهر شجاعتهم وبأسهم في نصرة الضعيف منهم، وعدم مطالبة هذا الضعيف بالدليل على صدق ما يقول:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم = طاروا اليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم = في النائبات على ما قال برهانا
بعدها يأخذ قريظ في مقارنة حال بني مازن بحال قبيلته بني تميم، فيصفهم وصفا قد يستحسن في بعض الأحيان لكنه نقيصة في أوقات الحرب وحينما تحين لحظة القتال، وهو إنهم، إن استخدمنا الالفاظ المستخدمة في ايامنا هذه، جماعة مسالمة لا يعرف الشر اليهم طريقا، فيقول:
لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب = ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة = ومن إساءة أهل السوء إحسانا
وهنا تنبغي الاشارة الى ان الشاعر، وإن كان في أقصى درجات غيظه وحنقه على قبيلته التي لم تنجده في وقت الشدة، لا ينسى ان يشيد بأنهم من ذوي الحسب، وكأنه يقول انهم ليسوا أقل درجة في المعايير القبلية من بني مازن الا انهم مصيبتهم تتمثل في تحبيذهم الدائم للسلم، وهم يعفون عمن يهينهم ويحسنون الى من يسيء إليهم.
الحرب حدث رهيب كبير، وكما رأينا في أبيات قريظ بن أنيف فإن تجربة الحرب قد تبتديء حتى في غيابها حيث يفترض ان توجد، وهي تجربة رآها الشعراء العرب وجها من وجوه الحياة وطرقها وليس وجها للموت واستدعائه وهو ما برز في أبيات عروة والحصين والسموأل.
كتب عبدالله الحراصي
الحرب حالة قتال عظيمة يعيشها الانسان، وليس لتجربة الحرب وجه واحد بل ان وجوهها متعددة، ولهذا فإن قاريء الشعر العربي سيجد ان كثيرا منه يتعرض لهذه التجربة المتأزمة. في هذا المقال سأعرض لتأثير هذه التجربة على بعض الشعراء العرب وسأركز على جانبين هما السعي وراء الموت في الحروب والشعور بالخذلان من نصرة من ترجو منه النصرة كما يتبين في بعض ابيات الشعر العربي.
لم تكن الحرب في الشعر العربي مرادفة للموت والدمار كما يبرز في الشعر العالمي الحديث، وخصوصا بعد تجارب الحروب العالمية، بل انها مرادفة للحياة من أكثر من وجه، فالمقاتل في الحرب يدافع عن حياته وعن حياة اسرته وقومه وهذا ما يجعله يستبسل في الحرب دفاعا عن شرف الحياة.
ومن زاوية أخرى فإن الحياة الكريمة كانت دائما هي مراد الانسان، وفي مثل هذه الحالة فضل كثير من الشعراء الموت على ان يعيشوا حياة الذل.
وهذا ما أدى الى وضع غريب في ظاهره، يوثقه الشعر العربي، وهو حب الموت في الحروب.
نجد هذا مثلا عند عروة بن الورد الذي يرد على سليمى التي تحاوله ثنيه عن المشاركة في الحرب بقوله:
أرى أم حسان الغداة تلومني = تخوّفني الأعداء والنفس أخوف
تقول سليمى لو أقمت لسرّنا = ولم تدر أني للمقام أطوّف
لعلّ الذي خوفتنا من أمامنا = يصادفه في أهله المتخلف
فسليمى تحاول ان تخوف عروة بإبراز قوة الاعداء واستحالة انتصاره عليهم وإحتمال ان يلقى مصرعه في الحرب الا انه يرد عليها ردا يكشف عن رؤية عميقة حول الحياة والموت لها وجهان،
وجهها الاول هو انه يحارب لا من أجل الموت بل من أجل إبقاء الحياة، فهو يطوف ليس من أجل الذهاب النهائي عنها بل من أجل المقام،
والوجه الثاني هو ان الموت آت لمحالة لجميع بني البشر، وهكذا فإن الذي كانت تخوفه منه ربما يصادفه من يتخلف عن الحرب في بيته وبين أهله.
ونفس الفكرة التي يطرحها عروة نجدها عند الحصين بن الحمام المري وهو شاعر جاهلي:
تأخرت استبقي الحياة فلم اجد = لنفسي حياة مثل أن اتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمي كلومنا = ولكن على اقدامنا تقطر الدما
نفلق هاما من رجال اعزة = علينا وهم كانوا اعق وأظلما
ويشير البيت الثاني الى إصرار الشاعر وجماعته على الحرب وعدم فراره من ساحة المعركة بحيث يهاجمون من خلفهم بل انهم يثبتون فيقطر الدم على أقدامهم وليس على أعقابهم (أي مؤخرة أقدامهم).
ومن أجمل أبيات حب الموت وتفضيله على طول الحياة الذليلة قول السموأل بن عاديا الذي عاش قبل الاسلام:
وإنا لقوم ما نرى القتل سُبة = إذا ما رأته عامر وسلول
يقرب حب الموت آجالنا لنا = وتكرهه آجالهم فتطول
وما مات منا سيد في فراشه = ولا طل منا حيث كان قتيل
تسيل على حد الظبات نفوسنا =وليس على غير الظبات تسيل
(والظبات جمع ظبة وتعني حد السيف).
ومن تجارب الحرب التي دونها الأدب العربي تجربة الخذلان ممن يعتقد فيه النصرة، والخذلان منقصة كبيرة عند العرب الذين يعدون 'الخاذل أخو القاتل كما يقول حسان بن ثابت.
ومن الشعراء الذي يبرزون في ذاكرة المرء حينما يذكر الخذلان شاعر جاهلي اسمه قُريظ بن أنيف وينتمي الى بني تميم، وملخص أمره ان أفرادا من بني شيبان هاجموه واستولوا على ثلاثين بعيرا كان يملكها، فأستنجد بقبيلته غير انه لم يجد منهم سوى الخذلان فما كان أمامه الا ان يستنجد ببني مازن الذين لبوا طلبه فهاجموا بني شيبان واستولوا على مائة بعير منهم وسلموها الى قريظ، فكتب قصيدة رائعة يقص فيها قصته ويهجو فيها قبيلته التي لم تهب لنجدته، يتخيل في مطلعها انه لو كان من بني مازن لما تجرأ بنو شيبان على استباحة إبله:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي = بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
ثم يمضي في وصف بني مازن وصفا يظهر شجاعتهم وبأسهم في نصرة الضعيف منهم، وعدم مطالبة هذا الضعيف بالدليل على صدق ما يقول:
قوم إذا الشر أبدى ناجذيه لهم = طاروا اليه زرافات ووحدانا
لا يسألون أخاهم حين يندبهم = في النائبات على ما قال برهانا
بعدها يأخذ قريظ في مقارنة حال بني مازن بحال قبيلته بني تميم، فيصفهم وصفا قد يستحسن في بعض الأحيان لكنه نقيصة في أوقات الحرب وحينما تحين لحظة القتال، وهو إنهم، إن استخدمنا الالفاظ المستخدمة في ايامنا هذه، جماعة مسالمة لا يعرف الشر اليهم طريقا، فيقول:
لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب = ليسوا من الشر في شيء وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة = ومن إساءة أهل السوء إحسانا
وهنا تنبغي الاشارة الى ان الشاعر، وإن كان في أقصى درجات غيظه وحنقه على قبيلته التي لم تنجده في وقت الشدة، لا ينسى ان يشيد بأنهم من ذوي الحسب، وكأنه يقول انهم ليسوا أقل درجة في المعايير القبلية من بني مازن الا انهم مصيبتهم تتمثل في تحبيذهم الدائم للسلم، وهم يعفون عمن يهينهم ويحسنون الى من يسيء إليهم.
الحرب حدث رهيب كبير، وكما رأينا في أبيات قريظ بن أنيف فإن تجربة الحرب قد تبتديء حتى في غيابها حيث يفترض ان توجد، وهي تجربة رآها الشعراء العرب وجها من وجوه الحياة وطرقها وليس وجها للموت واستدعائه وهو ما برز في أبيات عروة والحصين والسموأل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق