| |||||
السؤال الذي تمضي هذه الورقة في سبيل الاجابة عليه هو التالي: »ما دور الجسد والتجربة المادية في تشكيل المنظومة المفهومية للأخلاق في الثقافة العربية? « وسؤال من هذا القبيل لا يمكن, بلا ريب, الإجابة عليه في دراسة واحدة يقوم بها باحث واحد, وانما ينبغي ان يكون سؤالا يستدعي مشروعا مفتوحا لن يكون دور مثل هذه الدراسة المنفردة فيه سوى الاستكشاف المتواضع السائر على هدى دراسات قاربت هذا الامر في ثقافات اخرى كما سيتبين فيما سيتبع. وتجسد الاخلاق الذي نسعى الى بيانه في هذه الدراسة هو جانب من مشروع يتقصى تجسد التجربة المجردة بوجه عام, ولا يمكن كما تبين في دراسة سابقة (الحراصي 1999 - أ) إدراك فكرة تجسد التجربة العقلية المجردة سوى بإلقاء الضوء على نظرية الاستعارة المفهومية, وهو ما سيبينه القسم الاول من هذه الدراسة. 1 -الاستعارة المفهوم واللغة شغل أمر الاستعارة عقول الكثير من الفلاسفة والنقاد واللسانيين وغيرهم منذ قديم الزمان, فتحدث عنها مفكرو الإغريق والعرب وسواهم, بيد أنه على الرغم من الاختلافات التي وجدت في الرؤى بينهم فإن هؤلاء قد اجمعوا على ان الاستعارة اولا هي قضية لغوية صرفة, وعرفوها بأنها إحلال كلمة محل أخرى إحلالا يستند على تشابه بين المشار اليه في كلتا الكلمتين, فالاستعارة »تعتمد التشبيه أبدا« كما يقول عبدالقاهر الجرجاني في كتابه »أسرار البلاغة« (الجرجاني, بدون تاريخ), فكلمة أسد في المثال الشهير »صافحت أسدا« حين أعني »صافحت رجلا شجاعا« هي استعارة لأنها حلت محل »رجلا شجاعا« لأمر مشترك هو الشجاعة. إن هذه الرؤية التقليدية لطبيعة الاستعارة تقوم فلسفيا على أن الحقيقة والواقع المادي موجودان بالفعل خارج العقل البشري وعلى نحو مستقل عنه, وان العلاقة بين اللغة والواقع الخارجي هي علاقة مباشرة, اي علاقة واصف بموصوف, ودال بمدلول عليه, فالكلمة »أسد« تشير الى الحيوان المعروف. وهذه الرؤية تهمش الاستعارة على نحو تلقائي, فلأن العلاقة اللغوية بين الكلمة وما تدل عليه هي علاقة إحالة مباشرة, فإن الاستعارة تعتبر كسرا لقانون الاحالة الدلالية هذا. إضافة الى ذلك فإن هذه الرؤية التقليدية توفر الارضية الفكرية المناسبة التي وجهت دراسات الاستعارة نحو الادب, والشعر تحديدا, فالشعراء والأدباء هم وحدهم الذين يمتلكون القدرة على الكسر الدلالي المقبول, بل والمستمتع به, من طرف المجتمع. وهو ما عنى ان الاستعارة امر يهدف الى متعة القارئ او السامع ودهشته. ومن سمات الاستعارة في النظريات التقليدية محورية دور التشبيه فيها. غير ان كثيرا من اركان هذه الرؤية التقليدية للإستعارة قد اهتزت بصدور كتاب ؛الاستعارات التي نحيا بها« لمؤلفي-ه جورج لاكوف ومارك جونسون في عام 1980 (Lakoff and Johnson 1980) وما أعقبه من دراسات اتخذت من محورية الاستعارة المفهومية منطلقا لتحليلات لغوية في انماط مختلفة من الخطاب. وقد عرضت بالتفصيل في مقالة نشرت سابقا في مجلة نزوى (الحراصي 1999-أ) لأهم اطروحات هذا الكتاب, ولذا فإننا سنكتفي هنا بعرضها عرضا موجزا. الاطروحة الاساس في هذا الكتاب هي ان الاستعارة ليست امرا لغويا صرفا تحل فيه كلمة محل اخرى على اساس تشبيه بين دلالتي الكلمتين, بل ان الاستعارة في الحقيقة عملية ذهنية يسقط فيها مجال حياتي معين على مجال اخر, وحيث ان الاستعارة من امر الذهن فإن التعابير التي تعارف الناس عليها بإعتبارها استعارات ما هي الا انعكاسات لغوية لعملية الاسقاط الذهني. فالتعبير »لقد وصلت المفاوضات الى طريق مسدود« هو تعبير لغوي عن استعارة ذهنية هي استعارة ]المفاوضات تحرك[ التي يتم فيها اسقاط مجال الحركة من موقع الى اخر, كما نخبرها في التجربة المادية الصرفة, على مجال المفاوضات السياسية التي ينظر اليها حسب الاستعارة على انها تحرك مشترك بين المتفاوضين من »الموقف« الحالي »الى« اخر, وحسب هذه الاستعارة فإن عدم الوصول الى حل للمشكلة التي يتم التفاوض حولها يغدو توقفا لمسيرة المفاوضات او انه يعتبر حركة في غير الطريق المستحبة لذا يبدأ البعض في الدعوة الى »اعادة المفاوضات الى طريقها المرسوم« وتجاوز »العثرات« التي تعترض »سير« المفاوضات. ان كل هذه الكلمات تعكس مجتمعة الاسقاط الذهني الذي لا يشعر به في العادة من مجال الحركة الى مجال التفاوض, وهذا المثال يعكس مجانبة النظريات التقليدية للصواب في جعل التشبيه شرطا للإستعارة, فلا وجه شبه اصلا بين الحركة المادية من موقع نحو اخر وبين التفاوض, فالحركة تجربة مادية صرفة بينما المفاوضات عملية سياسية تعتمد على المصالح ولا تتطلب بالضرورة اشتراك المتفاوضين في »هدف« مشترك ينبغي ان ؛يصلوا« اليه معا. وقول النظرية المفهومية للإستعارة بأن الاستعارة امر ذهني صرف, وليس لغة فحسب, وان اللغة انعكاس لما يدور من عمليات اسقاط ذهنية, ينقل قضية الاستعارة برمتها من الدراسات اللسانية والنقدية التي احتكرت الاستعارة لقرون متعاقبة الى دراسات علم الذهن Cognitive Science . وهنا نود ان نبين امرا نرى انه قد يلتبس على البعض في شأن النظرية المفهومية ودور الذهن فيها. فإنتقاد النظرية المفهومية للنظريات الاخرى لكونها تجعل العالم الموضوعي اساسا لا يستلزم وجوده العقل البشري لا ينبغي ان يفهم منه بوجه من الوجوه ان النظرية المفهومية تعتقد بالنسبية المطلقة التي يرى بعض من يتطرف في ايمانه بها عدم وجود حقيقة مطلقة ايا كانت, بل ان هذه النظرية ترفض هذه الرؤية النسبية نتيجة لإنطلاقها, اي نظرية الاستعارة المفهومية, ليس من موقف نظري مجرد, بل من تحليل لعمليات الذهن وتفاعلاته كما تتجلى في ظواهر كثيرة من أهمها اللغة. إن لب النظرية المفهومية هو ان الذهن او العقل البشري هو قطب الرحى في عملية فهم الانسان للعالم من حوله وتعامله معه, وان نجحت عملية الاحالة الدلالية المألوفة في التعامل مع ظواهر الكون المادية البسيطة, كأن أشير الى حيوان ذي اربع ينبح وأقول »هذا كلب«, فإن هذا لا يتم الا عن طريق عملية إحالة ذهنية, الا ان دور عمليات الذهن والاستعارة يكمن اساسا في تعامل الانسان مع المجردات, وما أكثرها في الحياة البشرية. واذا كانت الماديات أمورا يمكن التيقن من وجودها بمقاييس المادة وما استحدثه الانسان من معايير بلغت دقتها شأوا بعيدا فإن المجردات هي صنيعة الذهن حسب النظرية المفهومية للإستعارة, وان حدث اجماع على إضفاء صفة الوجود ؛الحقيقي« لها, اي وجودها الجوهري, فإن هذا في حقيقة الامر انعكاس للتسليم الايماني, الواعي وغير الواعي, بالنظريات التقليدية التي اضافة الى اعتقادها بموضوعية ماديات الكون, تؤمن ايضا بالوجود الموضوعي للمجردات, وتهمل متجاهلة دور العقل البشري في صياغة الكون, يسندها في ذلك تراكم فكري تعامل مع الايمان تعامل المقر المستيقن. ويمكننا ان نضيف الى دور الايمان الفردي والمشترك في بقاء هذه الرؤى وديمومتها عبر التاريخ دور عمليات التاريخ الاجتماعي نفسه, فقد اوضحت دراسات كبيرة في ميدان علم اجتماع المعرفة وعلم تاريخ الافكار ارتباط المعرفة بالسلطة ومنظومات القوى الاجتماعية وأنماط التفاعل بينها للهيمنة وفرض الاذعان على البشر. وان انعدمت الدراسات التي تضيء هذا الجانب بتحليل لحالات تاريخية محددة الا اننا لا نرتاب لوهلة في دور طبيعة السلطة وتفاعلاتها في ديمومة النظريات التقليدية الموضوعية. ويمكننا ان نضرب على ذلك مثلا بالاستعارة المفهومية ]التفكير تحرك[, حيث يعتقد الناس في الاغلب ان العقل في عملية التفكير يقوم فعلا بتحرك موضوعي نحو مواطن فكرية جديدة, وان التفكير الاصيل هو ذلك التفكير الذي يأخذ صاحبه, ولربما يأخذه صاحبه, نحو مواطن لم يطأها من قبله عقل انسان آخر. غير ان هذه الرؤية, وان كانت يقينية لدى العامة ولدى المشتغلين بالفكر, فإنها تقوم على الاستعارة المفهومية التي تقوم على تجربة الحركة المادية, بمعنى ان لـ»حركة« العقل وجودا موضوعيا بل انه تابع استعاريا لتجربة الحركة المادية. ولذا فإن النظرية المفهومية للإستعارة, وخصوصا في دراساتها الاخيرة, تشدد على فكرة التجسد, اي ان المجردات يعتمد وجودها على تفاعلات الجسد, او بإيجاز ان المادة سابقة على المجردات, وهو ما تبين في كتاب لاكوف وجونسون »الفلسفة في الجسد« (Lakoff and Johnson 1999), وفي الدراسة التحليلية لبعض جوانب المنظومة الاستعارية المشكلة لمفهوم العقل لدى الفيلسوف موسى بن ميمون (الحراصي 2000). ان هذه الدراسة ستمضي قدما نحو استكشاف آفاق جديدة يمكن فيها رؤية تجسد التجارب المجردة, هي آفاق الاخلاق, والفرضية التي سننطلق لإثباتها هي ان كون الاخلاق تجربة مجردة فإن مفاهيم الاخلاق في الثقافة العربية تقوم على تجارب الجسد المادية من خلال الاسقاط الاستعاري, وان فهمنا للاخلاق, والتي ينظر البعض اليها على انها نقيض للمادة, وان لها وجودا موضوعيا كموضوعية وجود الماديات, يقوم على تجربة الجسد. ان منهجنا للتحقق من صحة هذه الفرضية يعتمد على جانبين اساسيين. يتمثل الجانب الاول في ابراز تجسد الاخلاق في الفلسفة العربية من خلال تحليل بعض المفاهيم الاخلاقية في كتاب ابي حامد الغزالي »ميزان العمل« وفي كتاب ابن مسكويه »تهذيب الاخلاق«. اما الجانب الثاني من المنهج المتبع فيتعلق بإبراز التجسد في اللغة العامة, اي من خلال تحليل تعبيرات لغوية مستمدة من اللغة العربية عموما ومن اللهجة العمانية على وجه الخصوص. وليس بخاف علينا ان تحليل جوانب اخرى من الثقافة العربية سيعين على فهم أشمل وتقود الى نتائج أكثر دقة حول تجسد الاخلاق, ومن هذه الجوانب دراسة الاخلاق في المصادر الدينية الاساسية إضافة الى تتبع الاستعارات المستخدمة عبر التاريخ العربي. الا ان هذه الدراسة لا تعدو ان تكون استكشافا اوليا لهذه القضية. 2 - عرض موجز للدراسات السابقة حول الجوهر الاستعاري للأخلاق ان الدراسات التي تناولت قضية الجوهر الاستعاري لمفاهيم الاخلاق قليلة جدا, وربما يعود ذلك إلى ان النظرية المفهومية للإستعارة لم تتغلغل بقوة في الدراسات المتعلقة بالاخلاق, رغم ما أبرزته هذه النظرية من جوهرية الدور الذي تلعبه عملية الاستعارة المفهومية في إعانة الانسان في فهم العالم المجرد. ولعل هذا يفسر ان الدراسات الموجودة في هذا الموضوع قد قام بها كل من لاكوف وجونسون نفسيهما. فقد أصدر مارك جونسون Mark Johnson كتابه الموسوم »الخيال الاخلاقي: مستتبعات علم الذهن للأخلاق« عام 1993 وتمحورت فكرته الرئيسة في رأي مفاده ان »الانسان حيوان اخلاقي خيالي أساسا« (Johnson 1993: 1) بمعنى ان الخيال (عن طريق الاستعارة) هو المشكل الاساس لمفاهيم الاخلاق, وان التفكير الاخلاقي يقوم على اعمدة من المفاهيم الاستعارية على مستويين اثنين كما يلي: (1) إن مفاهيمنا الاخلاقية الاكثر أساسية (مثل مفاهيم الارادة, والحرية, والقانون, والحق, والواجب, والرفاهية (السعادة), والفعل) تتحدد استعاريا, ويتم ذلك بوجه الاجمال من خلال إسقاطات استعارية مركبة. (2) ان الطريقة التي نفهم بها موقفا معينا تستند على استخدامنا لإستعارات مفهومية منتظمة تكون الفهم المشترك للأفراد الذين ينتمون الى ثقافتنا«(2) ohnson 1993.J. وقد تعرض جونسون في هذا الكتاب بالتحليل لكثير من جوانب النظرية الغربية للأخلاق وأبرز دور الاستعارة في تشكيل المفاهيم الاخلاقية, فقد تعرض على سبيل المثال لنظرية كانط الاخلاقية او ما يعرف بالاخلاق العقلانية rationalist ethics, حيث اعتقد كانط بأن بإمكان العقل المجرد الوصول الى القوانين الاخلاقية, وهو ما يعني ان التفكير يقودنا الى تلك القوانين الكونية التي ينبغي ان تحكم السلوك البشري. وكما يقول جونسون فإنه ؛ان قدر لنظرية اخلاقية ما حظ في الادعاء بأن تكون خلوا من الاستعارة وأشكال الخيال الاخرى فإنها ستكون نظرية كانط« حيث يفترض ان تكون هذه النظرية نتاجا للعقل العملي المجرد الذي يخلو خلوا تاما من أي أثر للخيال. الا ان نظرات أعمق في فلسفة كانط قد أوضحت دور الخيال في تشكيلها, فهلاري بونتام Hilary Puntam يرى ان نظرية كانط لا تنطلق من العقل المجرد بل انها تعتمد اساسا على ؛صورة اخلاقية« او مجموعة من الصور الاخلاقية, وليس على قوانين صرفة, ومفاهيم حرفية (غير مجازية) خالصة, وأحكام منطقية .(Johnson 1993: 65) وجونسون رغم اعتباره كانط »أحد أعمق وأبرع المفكرين الذين اثروا في التراث الاخلاقي الغربي« الا ان ذلك لا يعني عدم اعتماد كانط على الاستعارات المفهومية في تشكيل نظريته الاخلاقية. فأكثر مفاهيم كانط الاخلاقية مركزية »استعارية وهي استعارية على نحو لا يمكن اختزاله«, فقد كان هدف كانط هو تقديم »أساس عقلاني للجزء غير اللاهوتي في التراث الاخلاقي اليهودي-المسيحي«, وكان يسعى الى ابراز مبادئ الاخلاق »الخالصة«, ولكن ما معنى كلمة »خالصة« هنا? يكون اي شكل من اشكال المعرفة »خالصا« بحسب كانط حينما لا يختلط بأي من العناصر التجريبية الامبيريقية, وبذا فإن المبدأ الاخلاقي الخالص هو ذلك المبدأ الذي يمكن الاستدلال عليه بإستخدام العقل حصرا, وبدون الرجوع الى تجربة مادية كالمشاعر والاحاسيس او الصور الذهنية. الا ان تحليل جونسون يظهر ان نظرية كانط استعارية فهي تعتمد على استعارة اساسية هي ]القوانين الاخلاقية قوانين طبيعية.[ حيث تسقط قوانين الطبيعة على »قوانين« الأخلاق (أنظر Jhonson 1993) وقد درس كل من لاكوف وجونسون الاخلاق الاستعارية في كتابهما »الفلسفة في الجسد« (Lakoff and Johnson 1999), وكان محور طرحهما هنا ؛ان علم الذهن, وعلى وجه الخصوص علم الدلالة الذهني, يقدم لنا الوسيلة التي تمكننا من تقديم تحليل مفصل وشامل لكل المفاهيم الاخلاقية وكيفية عمل منطقها, ومن اكثر النتائج اساسية في هذا البحث الامبيريقي ان اللاوعي الذهني يحتوي على منظومة واسعة من الاسقاطات الاستعارية لفهم افكارنا الاخلاقية والتفكير فيها, وتوصيلها [للآخرين], [وخلص هذا البحث الى ان] كل مفاهيمنا الاخلاقية المجردة مشكلة استعاريا« .(Lakoff and Johnson 1999: 290) وحلل لاكوف وجونسون في كتابهما هذا الاستعارات المتعلقة بالاخلاق في الثقافة الامريكية كما تتبدى في اللغة, وبينا ان عدد هذه الاستعارات المفهومية محدود, فجميعها يعتمد على الرفاهية المادية, كالمال والصحة والنظافة وسواها. فحللا على سبيل المثال استعارة ]المحاسبة الاخلاقية[ وبينا دورها في تشكيل كثير من المفاهيم الاخلاقية, كأن تعتبر الاخطاء التي يقوم بها شخص ما ضد شخص آخر ضربا من »الدين« debt, في حين يعتبر رد الاخير على المخطئ نوعا من جعل الاول »يدفع الثمن« . repay ومن الاستعارات الاخرى التي قاما بتحليلها استعارة ]الجوهر الاخلاقي[ التي تفترض ان للأخلاق جوهرا, وان هذا الجوهر يولد مع الافراد, او يتشكل معهم في سني حياتهم الاولى, ويبقى لنهاية عمرهم. وتسمى عناصر الجوهر الاخلاقي ؛فضائل« virtues ان كانت عناصر اخلاقية مستحسنة, و»رذائل« vices ان كانت عكس ذلك, وتتجلى هذه الاستعارة في تعبيرات مثل She has a heart of gold (قلبها من ذهب) و He : s rotten to the core (انه فاسد حتى النخاع), حيث ان الشخص المذكور ؛يمتلك خصائص اخلاقية جوهرية تحدد انواعا معينة من السلوك الاخلاقي او غير الاخلاقي. ويخلص لاكوف وجونسون الى ان الرؤية التقليدية للاخلاق قد فشلت إن أخذنا في اعتبارنا النتائج التي يقدمها علم الذهن والنظرية المفهومية للإستعارة, فمن هذه النتائج عدم وجود مفاهيم اخلاقية خالصة بل اننا نفهم الاخلاق من خلال الاستعارات التي تقوم على التجربة المادية, كذلك لا يمكن القول بالعقل الاخلاقي الخالص (كما عند كانط) لأن المفاهيم الاخلاقية استعارية الجوهر. اضافة الى ذلك فقد دل علم الذهن على ان الاخلاق ليست مجالا متجانسا, بل انها تختلف بإختلاف الاستعارة المستخدمة في تحديد المفهوم الاخلاقي وفي فهم الظرف الاجتماعي الذي يوجد فيه الموقف الاخلاقي. كذلك تبين ان الاخلاق تقوم على التجربة المادية من خلال الاستعارة كما ذكرنا, فهي مرتبطة ارتباطا لا فكاك منه بالمادة وتجربة الجسد من صحة ومرض وفقر وغنى وسواها من مظاهر المادة. ومن النتائج الاخرى التي توصل اليها البحث في هذا المجال عدم وجود الاخلاق الكونية التي يقاس بها الصحيح من الخاطئ, تلك الاخلاقيات التي تعتبر عادة مثلا عليا صحيحة في ذاتها لا بنفعها ويمكن تطبيقها على شتى الاحداث. ان كل هذه النتائج تقود كلا من لاكوف وجونسون الى ان هذه هي نهاية البراءة في الفهم الاخلاقي, وان المعرفة الاخلاقية القائمة على دور الاستعارة »تجعلنا مسؤولين ليس فقط عن الاحكام الاخلاقية وعواقبها بل عن رؤية الاشكال الضمنية للحكم الاخلاقي في كل جوانب ثقافتنا« (Lakoff and Johnson 1999: 334). 3 - نحو تحليل الاسس الاستعارية لمفاهيم الاخلاق في الفلسفة الاسلامية بسبب طبيعة هذه الدراسة الاستكشافية وتركيزها على ما تعكسه اللغة العربية من مفاهيم اخلاقية استعارية, سنقتصر هنا على تحليل نموذجين من نماذج استخدام الاستعارة المفهومية في تشكيل منظومة مفهومية اخلاقية هما ابو حامد الغزالي وابن مسكويه. 3 - 1- أبو حامد الغزالي: الاخلاق في »ميزان العمل« سعى الغزالي في كتاب »ميزان العمل« الى تبيين السعادة الناتجة عن الفعل الاخلاقي. ولن نحلل الكتاب بأكمله هنا ولكنا سنركز على بعض الامثلة التي يمكن من خلالها تبيين دور الاستعارة في تشكيل التعامل الفلسفي الاسلامي مع الاخلاق. ) الاستعارة في »بيان مثال النفس مع هذه القوى المتنازعة« تحدث الغزالي عن ثلاثة انواع من قوى النفس هي قوة التفكر التي تحصل بها الحكمة, وقوة الشهوة التي بإصلاحها تحصل العفة, وقوة الغضب التي بقهرها يحصل الحلم. وفي هذا يمكن رؤية استعارة اساسية هي ]استعارة الشخص المنقسم[ التي ترى, كما يطرحها الغزالي, ان الانسان شيء مركب حقيقة من ثلاثة اجزاء, وان هذه الاجزاء هي قوى تتفاعل فيما بينها ويجب على قوة العقل ان »تسيطر« على قوتي الشهوة والغضب. وإضافة الى مفهوم التركيب المأخوذ من المركبات المادية الصرفة والمسقط على المجرد لتشكيل مفهوم عن الانسان يسهل به التعامل مع سلوكه الاجتماعي وتقييمه اخلاقيا, فإن هذا المفهوم يقوم أيضا على اسقاط تجربة ]تفاعلات القوى[ المادية الصرفة على طبيعة التفاعل المفترض داخل الانسان. والقوة تجربة مادية ذات بنية جشطالطية, بمعنى انها بنية مجردة يمكننا ان نراها من خلال صورها المادية كقوة اليد, او قوة الفيضان, او اي صورة اخرى من صور القوى. والتفاعل بين القوى هو أمر معروف في التجارب المادية, فإن إلتقاء قوتين »س« و »ص« اما ان ينتهي بتعادلهما بما يتحقق ضرب من التوازن بينهما او ان ينتهي بإنتصار إحدى القوتين على الاخرى!!. إن هذا الاساس الاستعاري الصرف لمفهوم قوى النفس يمكن تبينه بكل جلاء من الامثلة التي يضربها الغزالي لتقريب ما يطرحه حول طبيعة التفاعل بين قوى النفس, وهو يضرب في ذلك ثلاثة أمثلة كما يلي: المثال الاول: مثل نفس الانسان في بدنه كمثل وال في مدينته ومملكته, وقواه وجوارحه الخادمة, البدن بمنزلة الصناع والعملة, والقوة العقلية المفكرة له كالمشير الناصح والوزير العاقل, والشهوة له كعبد سوء يجلب الميرة والطعام, والحمية كصاحب شرطته, والعبد الجالب للميرة مكار مخادع خبيث ملبس يتمثل بصورة الناصح, وتحت نصحه الداء العضال والشر الشمر, وديدنه منازعة الوزير في التدبير حتى لا يغفل عن منازعته ومعارضته في آرائه ساعة. (الغزالي 1995: 71) المثال الثاني: الانسان حيث خلق بنفسه عالما كبيرا في المعنى صغيرا في الحجم, فبدنه كمدينة, وعقله كملك مدبر لها, وقواه المدركة من الحواس الظاهرة والباطنة كجنوده, وأعوانه وأعضاؤه كرعيته, والنفس الأمارة بالسوء التي هي الشهوة والغضب كعدو ينازعه في مملكته ويسعى في إهلاك رعيته, فصار بدنه كرباط وثغر, ونفسه كمقيم فيه مرابط, فإن جاهد عدوه وأسره وقهره على ما يجب حمد أثره إذا عاد الى حضرته تعالى ... وان ضيع ثغره وأهمل رعيته ذم أثره وانتقم منه عند لقاء الله تعالى (الغزالي 1995: 73) المثال الثالث: مثل العقل مثل فارس متصيد, وشهوته كفرسه, وغضبه ككلبه, فمتى كان الفارس حاذقا وفرسه مروضا وكلبه مؤدبا معلما منقادا صار حريا بالنجح, ومتى كان هو في نفسه أحمق وكان الفرس جموحا والكلب عقورا فلا فرسه ينبعث من تحته منقادا ولا كلبه يسترسل بإشارته مطيعا, فهو خليق بأن يعطب فضلا عن ان ينال ما طلب. (الغزالي 1995: 74) ان الامثلة الثلاثة كلها تقدم صورا تمثيلية على تصور الغزالي لما ينبغي ان يقع من سيادة العقل على قوتي الغضب والشهوة. ولا ينبغي ان يفهم من كلامنا هنا على ان فهم الغزالي لطبيعة تفاعلات قوى النفس استعاري على مستوى الصور, كصورة الوالي والعبد والوزير وصاحب الشرطة في المثال الاول, او صورة المدينة وملكها وجنوده ورعيته في المثال الثاني, او صورة الفارس والفرس والكلب في المثال الثالث, فإن هذه صورة تشبيهية جلية, الا ان قولنا بإستعارية هذا الفهم يعتمد على استعارية الأصل الذي من أجله استخدم الغزالي هذه الصور التمثيلية, ف-؛إنقسام« نفس الانسان و»احتواؤها« على ثلاث »قوى« هي في جوهرها فكرة استعارية تقوى على تجربة التراكيب المادية حيث نجد أمرا معينا يتكون من أكثر من عنصر إضافة الى ان النفس ينظر اليها بإعتبارها ]حاوية[ او]مجالا حاويا[ تتفاعل فيها القوى الثلاث, وفكرة الاحتواء مادية نجدها في تفاعلاتنا مع العالم المادي كاحتواء الغرفة على الاثاث واحتواء الجيب على النقود واحتواء قاعة الدرس على كراس وطاولات وسواها. وإضافة الى استعارتي ]التركيب[ و]الاحتواء[ فإننا نجد استعارة القوى نفسها, فإن صور التفاعل التمثيلية التي قدمها الغزالي كصورة عبد السوء وصورة الدفاع عن المدينة وثغورها وصورة تحكم الفارس الصياد بفرسه وكلبه تعكس مجتمعة مستوى استعاريا اعمق هو مستوى القوى وضرورة انتصار قوة واحدة على القوى الاخرى, وهو امر من امور المادة الصرفة. ) الاستعارة في »بيان مراتب النفس في مجاهدة الهوى والفرق بين إشارة الهوى والعقل« يتحدث الغزالي في هذا القسم عن الحالات الثلاث التي يتعامل فيها الانسان مع الهوى, كما يلي: الاولى: أن يغلبه الهوى فيملكه ولا يستطيع له خلافا, وهو حال أكثر الخلق, وهو الذي قال الله تعالى: (أفرأيت من إتخذ إلهه هواه) (الجاثية: 32). إذ لا معنى للإله إلا المعبود, والمعبود هو المتبوع إشارته, فمن كان تردده في جميع أطواره خلف أغراضه البدنية وأوطاره فقد اتخذ إلهه هواه. الثانية: ان تكون الحرب بينهم سجالا, تارة لها اليد وتارة عليها اليد. فهذا الرجل من المجاهدة, فإن اختارته المنية في هذه الحالة فهو من الشهداء لأنه مشغول بامتثال قوله: ؛جاهدوا أهواءكم كما تجاهدون أعداءكم« وهذه الرتبة العليا للخلق سوى الانبياء والأولياء. الثالثة: أن يغلب هواه فيصير مستوليا عليه لا يقره بحال من الاحوال, وهذا هو الملك الكبير والنعيم الحاضر والحرية التامة والخلاص عن الرق. (الغزالي 1995: 76). إن ما يطرحه الغزالي هنا من صراع بين النفس والهوى يقوم على استعارة ]تفاعلات القوى.[ والقوى وأنماط التفاعل بينها كما اشرنا تجربة مادية صرفة, وتعامل الغزالي مع النفس والهوى ونمط التفاعل بينهما هو تعامل استعاري حيث يسقط فيه تفاعل القوى المادية لتشكيل تصور عن تفاعل مفترض بين الهوى والنفس, والنتائج الممكنة التي تنتج عن هذا التفاعل هي ايضا من لواحق تفاعل القوى المادية, فالنتيجة في حالة صراع بين قوتين, كما ذكرنا أعلاه, قد تكون تعادلا بين القوتين, وهو ما يتمثل هنا في الحالة الثانية حيث »تكون الحرب بينهم سجالا, تارة لها اليد وتارة عليها اليد« وهذا يعتمد ايضا استعاريا على فكرة التوازن المادي, او انه ينتهي بإنتصار احدى القوتين كما هو جلي في الفهم الاستعاري في الحالة الاولى والحالة الثالثة. وفكرة الوسطية الخلقية هي احدى تجليات الاستعارة في طرح الغزالي الاخلاقي, فالفضائل لها »موقع« وسطي بين رذيلتين, وتجربة إتخاذ الموقع مادية يسقطها الغزالي على الفضائل, وهذا ايضا يعكس استعارة التوازن حيث تكون الفضيلة المستحبة هي نقطة التوازن بين الرذيلتين, والتوازن تجربة مادية من تجارب الجسد المادي يحاولها الطفل من أيام طفولته الاولى بتعلم تجنب السقوط أثناء الجلوس او القيام, ومن الامثلة على ذلك الفهم الاستعاري القائم على موقع التوازن ان السخاء وسط بين التبذير والتقتير, والظرف وسط بين التقطيب والهزل, والمسامحة وسط بين الشكاسة والملق. ويضيف الغزالي قائلا: »وأما العدالة فجامعة لجميع الفضائل, والجور المقابل لها فجامع لجميع الرذائل« (الغزالي 1995: 117) وهو تجل واضح لفكرة ]الاحتواء[ الاستعاري, حيث اننا امام حاوية تحتوي الفضائل وحاوية اخرى تضم الرذائل. نخلص من هذا إذن ان التجارب المادية كالقوى والاحتواء والتوازن وسواها كلها تشكل جوهر المفاهيم الاخلاقية التي يعتمدها الغزالي في كتاب »ميزان العمل«, وهذا يظهر مدى تجسد فلسفة الاخلاق لدى الغزالي, ذلك ان تحليل بعض الامثلة أعلاه قد أظهر تجسيد مفاهيم أساسية في أخلاق الغزالي, فلولا تجربة القوى المادية لما أمكن للغزالي ان يتحدث عن ؛قوى« النفس التي تحكم السلوك الاخلاقي للأفراد, وعن طبيعة الصراع الذي يشهده ميدان النفس بين تلك القوى. ان مفاهيم الاخلاق إذن متجسدة تجسدا جوهريا وليس عرضيا, وهو ما سنجده ايضا في القسم التالي الذي يتعرض لتجسد فلسفة الاخلاق لدى ابن مسكويه. 3 -2 - ابن مسكويه: الاخلاق الاستعارية في كتاب »تهذيب الاخلاق« يعتبر كتاب ؛تهذيب الاخلاق« لأحمد بن محمد بن مسكويه من أهم الكتب التي كتبت في فلسفة الاخلاق في الاسلام, وابن مسكويه يشدد في مقدمة كتابه على تضاد طبيعة النفس مع طبيعة الجسد: انا لما وجدنا في الانسان شياما يضاد أفعال الاجسام وأجزاء الاجسام بحده وخواصه وله أيضا أفعال تضاد أفعال الجسم حتى لا يشاركه في حال من الأحوال وكذلك نجده يباين الاعراض ويضادها كلها غاية المباينة ثم وجدنا هذه المباينة المضادة منه للأجسام والأعراض انما هي من حيث كانت الاجسام اجساما والاعراض اعراضا حكمنا بأن هذا الشيء ليس بجسم ولا جزء من جسم ولا عرضا وذلك انه لا يستحيل ولا يتغير وأيضا فإنه يدرك جميع الاشياء بالسوية ولا يلحقه فتور ولا كلال ولا نقص (ابن مسكويه 1985: 4) وهذا الفصل التام الذي يقدمه ابن مسكويه بين النفس والجسد, مثله مثل تضاد الجسم والعقل عند موسى بن ميمون (انظر الحراصي 2000), يفرض على الباحث في الاستعارة ومن يرى بتجسد المجردات تحديا كبيرا يتمثل في ضرورة البحث المتأني سعيا وراء إبراز دور الجسد في فهم النفس والحديث عنها وهو ما سنحاول مقاربة بعض جوانبه هنا. ان تجسد أخلاقية ابن مسكويه!!! يمكن رؤيتها في الاسقاطات التي نجدها في قوله مثلا عند حديثه عن النفس»أما شوقها الى افعالها الخاصة بها أعني العلوم والمعارف مع هربها من أفعال الجسم الخاصة به فهو فضيلتها» (ابن مسكويه 1985: 9). نجد هنا استعارة ]الانجذاب والنفور[ وهي تجربة مادية صرفة يتم اسقاطها على النفس, حيث نجد ان النفس »تنجذب« الى جوانب الفكر و»تهرب« من أفعال الجسد, وهو على مستوى اخر ضرب من التشخيص حيث تغدو النفس انسانا »يشتاق« الى اشياء معينة وينفر من أخرى. وكذلك نجده في قوله ان »كمال الانسان في اللذات المعنوية« (ابن مسكويه 1985: 53) حيث نجد استعارة ]الاكتمال[, حيث ان الانسان ينظر اليه بإعتباره شيئا ناقصا, وتجربة النقص والاكتمال تجربة مادية صرفة اخرى, وكذلك فكرة »اللذة« التي جلبت من تجربة الجسد, والشعور باللذة المادية كما في الجنس وغيره. ويمكننا رؤية أثر الاستعارة في تشكيل فكرة ]اللذة[ الاخلاقية عند ابن مسكويه في الاقتباس التالي: إن اللذة تنقسم الى قسمين أحدهما لذة انفعالية والاخرى لذة فعلية أي فاعلة. فأما اللذة الانفعالية فهي شبيهة بلذة الاناث واللذة الفاعلة تشبه لذة الذكور. ولذلك صارت اللذة الانفعالية هي التي تشاركنا فيها الحيوانات التي ليست بناطقة اي ]عاقلة[ وذلك انها مقترنة بالشهوات ومحبة الانتقام وهي انفعالات النفسين البهيميتين. وأما اللذة الاخرى فهي الفاعلة وهي التي يختص بها الحيوان الناطق ولأنها غير هيولانية ولا منفعلة انفعالا لأنها صارت لذة تامة وتلك ناقصة وهذه ذاتية وتلك عرضية. وأعني بالذاتية والعرضية ان اللذات الحسية المقترنة بالشهوات تزول سريعا وتنقضي وشيكا بل تنقلب لذاتها فتصير غير لذات بل تصير آلاما كثيرة او مكروهة بشعة مستقبحة وهذه أضداد اللذة ومقابلاتها. وأما اللذة الذاتية فانها لا تصير في وقت آخر غير لذة ولا تنتقل عن حالتها بل هي ثابتة أبدا. واذا كانت كذلك فقد صح حكمنا ووضح ان السعيد تكون لذته ذاتية لا عرضية وعقلية لا حسية وفعلية والهية لا بهيمية (ابن مسكويه 1985: 84). يتحدث ابن مسكويه في هذا الاقتباس عن الفرق بين اللذة الجسدية واللذة العقلية, فيرى ان الاولى زائلة غير حقيقية (عرضية) فيما ان الثانية باقية حقيقية (ذاتية). وهو يتعامل مع أمر ]اللذة العقلية[ وكأنها حقيقة وليس استعارة مفهومية مع انه يستشهد بلذة الجنس, ليبين طبيعة الفرق بين اللذتين. وهنا نشير الى جانب آخر من جوانب الاستعارة هو جانب دور الايديولوجيا والمعرفة الموجودة حول التجربة المادية في فهم المجردات, فابن مسكويه يسقط فهمه للذة الذكر التي يتعامل معها على انها الفاعلة, ولذة الانثى المستجيبة على ما يعتقده عن اللذة العقلية, وهنا نجد الرؤية الذكورية التي ترى في المرأة كائنا يستجيب لا يفعل بنفسه, »الفاعل أبدا تكون في الاعطاء ولذة المنفعل أبدا تكون في الاخذ« ص 85) وهي رؤية ايديولوجية كونها تشكل وضع المرأة والرجل في المجتمع وتحدد نمط السلوك الاجتماعي الذي يقره المجتمع في فترة زمنية ما. هذه الرؤية الايديولوجية ]الرجل فاعل, والمرأة مفعول به[ تسقط استعاريا لتشكل جانبا من المجرد. وهكذا تكون لذة الجسد هي استعاريا لذة الاناث لأنها لذة استجابية (منفعلة) فيما ان لذة العقل هي لذة الذكر (الفعلية الفاعلة). إضافة الى الامثلة السابقة حول دور الاستعارة والتجسد في تشكيل المجرد الاخلاقي عند ابن مسكويه يجدر بنا ان نشير الى جانب استعاري الجوهر آخر في نظرية ابن مسكويه الاخلاقية يتعلق بـ»أمراض« النفس. ففي المقالة السادسة من كتاب »تهذيب الاخلاق« المعنونة بـ»دواء النفوس« نجد رؤية استعارية للنفس يتم اسقاط سمات الجسد فيها من صحة ومرض وعناية وعلاج على النفس, وهو ما يقدم لنا نفسا استعارية متجسدة الجوهر كما في الاقتباس التالي: نبتدئ بعون الله وتوفيقه وتأييده في هذه المقالة بذكر شفاء الامراض التي تلحق نفس الانسان وعلاجها ونذكر الاسباب والعلل التي تولدها وتحدث منها فان حذاق الاطباء لا يقدمون على علاج مرض جسماني الا بعد ان يعرفوه ويعرفوا السبب والعلة فيه ثم يروموا مقابلته بأضداده من العلاجات ويبتدئون من الحمية والادوية اللطيفة التي ان ينتهوا في بعضها الى استعمال الأغذية الكريهة والادوية البشعة وفي بعضها الى القطع بالحديد والكي بالنار. ... وأيضا لما كان طب الابدان ينقسم بالقسمة الاولى الى قسمين احدهما حفظ صحتها اذا كانت حاضرة والاخر ردها اليها اذا كانت غائبة وجب ان نقسم طب النفوس هذه القسمة بعينها فنردها اذا كانت غائبة ونتقدم في حفظ صحتها اذا كانت حاضرة ... (ابن مسكويه 1985: 145-146) وهكذا فالجسد وطبيعة التعامل معه هو الاساس للعلم الذي يقترحه ابن مسكويه هنا ويسميه »طب النفوس« وكلمة »بعينها« كلمة دالة هنا حيث انها تظهر مدى تجسد رؤية ابن مسكويه الاخلاقية, فطب النفوس يجب ان يتبع طب الاجساد تبعية تامة, وهو صادق في ذلك فحيث ان النفس امر مجرد فإن التعامل معها يستحيل ان يتم الا من خلال معرفتنا عن الجسد والتعامل معه, وقاية وعلاجا. ويتحدث ابن مسكويه, مثله مثل الغزالي, عن وسطية الفضائل, وهنا يبرز وجه آخر من وجوه تجسد الاخلاق عنده, فلا يجد أمامه الا التجارب المادية لإبراز فكرته الوسطية: ولما كانت الفضائل اوساطا محمودة وأعيانا موجودة أمكن ان تطلب وتقصد وتنتهي اليها الحركة والسعي والاجتهاد. وأما سائر النقط التي ليست بأوساط فانها غير محدودة ولا أعيانها موجودة ووجودها بالعرض لا بالذات. ومثال ذلك ان الدائرة لها مركز واحد ولها نقطة واحدة ولها وجود في ذاتها يقصد ويشار اليها فان لم نجدها حسا او لم يمكننا الاشارة اليها امكننا ان نستخرجها ونقيم البرهان على انها هي المركز دون غيرها من النقط. وأما النقط التي ليست بمركز فانها لا نهاية لها ولا وجود لها بالذات وانما توجد اذا فرضت فرضا وليست لها عين قائمة فلذلك لا تقصد ولا يمكن استخراجها لانها مجهولة ولانها شائعة في جميع الدائرة, واما الطرفان اللذان يسميان متضادين فهما موجودان معينان لانهما طرفا خط مستقيم معين والبعد بينهما غاية البعد ... واذا فهم ذلك فليعلم ان لكل فضيلة طرفين محدودين يمكن الاشارة اليهما وأوساطا بينهما كثيرة لا نهاية لها ولا يمكن الاشارة اليها, الا ان الوسط الحقيقي هو واحد وهو الذي سميناه فضيلة (ابن مسكويه 1985: 159-160) يستخدم ابن مسكويه, مثله مثل الغزالي, كلمة »مثال« حين يشبه وسطية الفضيلة بمركز الدائرة, الا ان الحقيقة ان هذا اسقاط استعاري خالق لمفهوم الوسطية, ذلك ان فكرة الوسطية التي أتى ابن مسكويه بمثال الدائرة لتوضيحها هي أصلا فكرة مادية صرفة, ولذا فإن المثال لا يخدم غرضا تشبيهيا لعدم وجود اي شبه بين موقع الوسط المادي وبين الفضائل بل ان الاستعارة لازمة هنا لأننا نسقط تجربة الوسطية المادية لنشكل مفهوم الوسطية الاخلاقية. نخلص من هذا التحليل الموجز لبعض الاستعارات المستخدمة في التعامل مع مفاهيم الاخلاق لدى ابن مسكويه الى جوهرية دور التجسد في تشكيل هذه المفاهيم. ورغم تأكيد ابن مسكويه على الانفصال التام بين الجسد والنفس, الا ان المفاهيم المتعلقة بالنفس تقوم على استعارات مفهومية تعتمد على التجربة المادية الصرفة كالقوى واللذة المادية والصحة والمرض وإتخاذ المواقع وسواها, وهو ما يعني ان العلاقة بين الجسد والنفس ليست بتلك القطيعة التي يطرحها ابن مسكويه, وان كل مفاهيم النفس وتصوراتنا عنها انما تقوم أساسا على تجربتنا المادية الصرفة, وهو الامر ذاته الذي رأيناه لدى أبي حامد الغزالي. لقد كان تحليل بعض جوانب فلسفة الاخلاق العربية/الاسلامية جانبا من المنهج الذي اتبعناه في هذه الدراسة لإثبات تجسد مفاهيم الاخلاق في الثقافة العربية. وقد أثبت هذا المنهج الفرضية التي قدمناها حول الدور الذي تلعبه الاستعارة في تشكيل الاخلاق, فقد تبين من التحليل السابق لجانب بسيط من فلسفة الاخلاق عند ابي حامد الغزالي وعند ابن مسكويه ان هذه المفاهيم متجسدة الى حد بعيد, بمعنى ان وجود هذه المفاهيم يعتمد على اسقاط استعاري من تجربة الحياة المادية وتفاعلاتها. أما الجزء التالي من هذه الدراسة فيسعى الى تبين تجسد الاخلاق في التعابير التي يستخدمها عامة الناس في حديثهم عن المواقف الاخلاقية وغير الاخلاقية, والامثلة التي سنقدمها مستمدة من اللغة العربية على وجه العموم, غير ان اغلب الامثلة مستمدة من اللهجة العمانية, وهي تعبيرات قد توجد او توجد شبيهاتها بلا ريب في اللهجات العربية الاخرى. الاخلاق الاستعارية في اللغة العربية وفي اللهجة العمانية هنالك ضربان من الاخلاق: الاخلاق التجربية (المادية), والاخلاق الاستعارية, ومرد ذلك الى ان الاخلاق »أساسها تعزيز رفاهية الاخرين الدنيوية وتحاشي إلحاق الضرر المادي بهم والحول دون ذلك« (لاكوف 1996). فنظرة الى المستوى الدنيوي المادي من الاخلاق تظهر ان المرء يفضل ان يكون معافا لا مريضا, موسرا لا ذا فاقة, قويا لا ضعيفا وهلم جرا, وهو ما يعني ان الصحة ويسر الحال والقوة والأمن والسعادة (وأشياء اخرى) هي عوامل تحدد الاخلاق التجربية, وهذا يستلزم ان اي فعل يرمي الى إلحاق الاذى بأي من هذه العوامل او حرمان انسان من واحد او اكثر منها هو فعل غير اخلاقي. فمن غير الاخلاق فعل شيء يجعل امرءا ما يفقد ماله, او يضر بجسمه بإعطائه طعاما يسممه او يصيبه بمرض من الامراض, او يحرمه من احساسه بالأمن والطمأنينة. الا ان الاخلاق لها جانب آخر هو الجانب الاستعاري, وهو الجانب الذي لا يعنى بمظاهر الاخلاق المادية التي تتعلق بجسم الانسان من صحة وأمن وقوة وغيرها, بل بالجانب المجرد غير المادي من حياة الانسان, وهو ما سيتبين في التحليل التالي لبعض الاستعارات المستخدمة في فهم الأخلاق. استعارة »المحاسبة الاخلاقية« تعتبر استعارة ]المحاسبة الاخلاقية[ من أكثر الاستعارات شيوعا في فهم الاخلاق في كثير من الثقافات, فقد تحدث لاكوف (b - Lakoff. 1996) عن وجودها في الثقافة الامريكية على سبيل المثال, ويظهر الجدول التالي عناصر الاسقاط الاستعاري في استعارة ]المحاسبة الاخلاقية.[ وسنتعرض فيما يلي لبعض العناصر التي يتم اسقاطها من مجال التملك والمحاسبة المادية على مجال الاخلاق والسلوك الاجتماعي. تملك الاشياء الاخلاقية تعتبر الاخلاق في اللهجة العمانية مجازيا أشياء يمتلكها الشخص, ففلان يصبح ؛راعي معروف« أي انه يمتلك المعروف, وهو خصلة اخلاقية. اما اؤلئك الذين يأتون أفعالا تعتبر غير أخلاقية فـ»تنقصهم« الاخلاق, وهو ما يتبدى في القول مثلا ان فلان ؛ما عنده احترام؛, او ان فلان »بدون اي اخلاق« او ؛ما عنده ذرة اخلاق؛. وكما لا يتساوى الناس في ممتلكاتهم المادية فإنهم ايضا لا يتساوون في »ما يمتلكونه« من اخلاق, ففلان قد يكون »غني نفس« اي ان نفسه »غنية«, وهو ما يتبدى ايضا في المثل العماني »الغنى غنى النفوس ما الفلوس«, وهو, ان نظرنا الى اللغة وتفاعلات الذهن نظرة سياسية, ما يمكن ان يعتبر ضربا من ضروب نمط الاخلاق البرجوازية التي تبعد الناس عن الرفاهية المادية وإلهائهم بمادية اخلاقية في مستوى الاستعارة, ولذا فإن الشخص وان كان أفقر الناس وأعوزهم فإنه ؛غني بمعانيه« وان صاحب المال الذي يأتي منكرات الافعال »ما يسوى بيسة« (و»البيسة« هي أصغر وحدات العملة في عمان), ويقابله في اللهجات العربية الاخرى »ما يسوى فلس« او »ما يسواش تعريفة«, بل ان بعض العمانيين يضيف كلمة »حليانة« (وتعني صدئة) فيقول عن فلان انه »ما يسوى بيسة حليانة«, إمعانا في التقليل من »قيمته« الاخلاقية. وكما هو حال التملك المادي فإن التملك الاخلاقي يمايز بين من يمتلكون القليل من الاخلاق وغيرهم ممن يمتلك الكثير, وهكذا فإن فلان »كثير معروف« اي انه يمتلك الكثير من القيمة الاخلاقية المستحسنة, اما الاخر فإن »قليل« الادب, او »قليل السنع«, والسنع, كلمة تستخدم في عمان للإشارة الى الادب, وهذا يستلزم انه ان كان الشخص »قليل« أدب فإنه لا يستطيع ان يأتي الافعال الحسنة التي تعتبر مجازيا أشياء يعطيها المرء للآخرين, وهو ما يبرزه المثل العربي المعروف »فاقد الشيء لا يعطيه«. وكما يحدث في التملك المادي فإن البعض قد »يتخلى« عن طيب معانيه وهو ما نجده في التعبير »صعب تشوف انسان يتخلى عن كل اخلاقه«. تبادل المنافع الاخلاقية يعتبر تبادل المنافع الاخلاقية أحد العناصر الاساسية في استعارة ]المحاسبة الاخلاقية[, فإن الفعل الحسن أخلاقيا يعتبر حسب هذه الاستعارة شيئا تعطيه الاخرين الذين سيكونون »مدينين« لك, كما في القول »اني مدين لك«, وفي عملية »مسك الدفاتر« الاخلاقية هذه فإن هذا يعتبر وضعا غير متوازن, وان التوازن لا يتحقق الا بأن »يدفع« الشخص الذي فعلت له الخير بأن يقوم بعمل خير شبيه لك. ومن أمثلة الدين الاخلاقي المثل العربي المعروف, والشائع في عمان, الذي يقول ان »وعد الحر دين عليه« الذي يمكن تفكيك بنيته المجازية كما يلي: (1) إتيان زيد فعل خير هو اعطاء شيء طيب لعمرو (2) ان اعطاء زيد لعمرو شيئا من قبيل الايثار يعني ان على زيد ألا ينتظر مقابلا, وان الشيء الذي أعطاه لم يعد ملكا له بل ملكا لعمرو. (3) ان الوعد, الذي لا يمثل اعطاء مباشرا لشيء بل تأجيلا لإعطاء عمرو الى المستقبل, يعني ان زيدا يحتفظ بشيء لم يعد يملكه بل انه من ممتلكات عمرو, ولذا فإنه يشكل, استعاريا, دينا على زيد لعمرو. (4) ان فعل زيد للشيء الذي وعد عمرو به يعني دفع الدين لعمرو. وفكرة الجزاء هي ايضا من قبيل الرد على الفعل, ففاعل الخير سيجد خيرا, وفاعل الشر سيجد شرا, كما يتمثل في المثل العماني ؛كما تفعل تجازى«, وكما في المثل العماني الاخر ؛صديق ما نافع كما عدو ما ضار«, والذي يفترض ان الاصدقاء ينبغي ان يكونوا نافعين بفعل خير الامور لأصدقائهم (إعطاؤهم اشياء حسنة) بينما يتوقع ان يتسبب الاعداء في الاذى والضرر (اعطاؤهم اشياء سيئة, او اخذ شيء حسن منهم). والمثل يعيد الحالة الى التوازن, حيث لا يستفيد المرء بشيء من اصدقائه (لا يربح شيئا) كما انه لا يتضرر بفعل من قبل أعدائه (لا يخسر شيئا), وإنعدام الربح والخسارة يعني وجود حالة التوازن. المجازاة حسب مفاهيم المحاسبة الاخلاقية فإن إتيان الافعال التي تتسبب في الضرر يعني اما اعطاء شيئا سيئا لشخص ما, او اخذ شيء حسن منه. وهو ما يوجد في التعبير العربي ؛يرد له الصاع صاعين«, والصاع (المكيال) يفترض ان الفعل هو شيء يعطى وله وزن, وحيث ان الفعل السيئ حسب هذا المثل هو إعطاء شيء سيئ فإن الفاعل عليه ان يتوقع ان الشخص المتضرر »سيعطيه« بمقدار الضعف من الشيء الذي تلقاه. التعويض حينما يكون فعل امر سيئ استعاريا اخذ شيء حسن من الشخص المتضرر فإن على هذا الشخص ان يعطي الاخر الذي تسبب في الضرر شيئا يساوي الشيء الذي أخذه. ومن هنا نجد في اللغة العربية وفي اللهجة العمانية الحديث عن القيمة والثمن للفعل السيئ, كما في »بخليك تدفع الثمن غالي« (سأجعلك تدفع الثمن غاليا), وكأن الفعل السيئ هو اخذ شيء والرد عليه هو دفع لثمنه, او في القول الشائع »تستاهل, هذا ثمن اللي عملته«. ومن التعابير الشائعة التي تعبر عن هذا المفهوم الاستعاري في اللهجة العمانية كلمة »ستافاه« التي تقال بصيغة الامر, وتعود الى المصدر العربي »استوفى« التي تعني في العربية ان يأخذ المرء حقه كاملا. فكلمة »ستافاه« (التي تنطق بتسكين السين) تعني حرفيا »خذ حقك كاملا غير منقوص«, والمفهوم المجازي الذي تعبر عنه هذه الكلمة يقتضي بعض التحليل لأنه يقوم على منطق مضاد للمنطق الذي تقوم عليه فكرة التعويض الاخلاقي في صورتها المعتادة, فالمعتاد كما ذكرنا آنفا ان الشخص الذي أساء هو الذي »يدفع الثمن«, بينما هنا فإنه هو الذي »يستلم الثمن«, فكيف يتم ذلك? النقاط التالي توضح كيفية »يستلم« من أخطأ ثمن فعلته: (1) زيد يقوم بفعل غير اخلاقي يضر بعمرو يعني انه اعطاه شيئا. (2) عمرو سيقبل بالعطية لأنه لا يستطيع ردها (حيث ان عمرو ليس بمقدوره منع الفعل غير الاخلاقي المضر لسبب ما, كأنه يكون في وضع الاضعف بينما زيد هو الاقوى اجتماعيا في فترة زمنية ما). (3) من منظور الثروة المادية فإنك ان اخذت شيئا ما من شخص ما فإن عليك ان تدفع له قيمته او تعوضه بشيء يساويه في القيمة). (4) على اساس ذلك فإن عمرو سيكون ملزما بأن يدفع لزيد قيمة ما أخذه لأنه في الاصل حق لزيد. (5) وعلى زيد ان ؛»يستافى« حقه, لأن عمرو الان في وضع اجتماعي ومالي (اخلاقيا) يمكنه من دفع ما عليه من دين لزيد. كما نجد في اللهجة العمانية التعبير »أتوخض سهمك وافي« (ستأخذ سهمك كاملا) الذي يقال على سبيل الانذار من ان الفعل السيئ الذي تأتيه الان لن يمر هكذا دون ان »تأخذ« ما يساويه من عقاب, وكأن الفعل غير الاخلاقي هو نوع من المال المستثمر (السهم او النصيب) الذي سيجنيه الانسان لاحقا. كما نجد معنى قريبا من هذا في التعبير القائل »صاك تضاول حال عمرك« (انظر, انك تجمع لنفسك) الذي يعني ان الافعال السيئة هي نوع من تكديس الاشياء التي على المرء ان يأخذها في النهاية, ولأن هذه الاشياء سترد لفاعلها ليس بشكل منفرد بل على نحو متجمع فإن ذلك يعني ان جزاء الافعال السيئة سيأتي قاصما للظهر لأنه حصيلة كوم كبير من الامور السيئة. استعارة [الاخلاق صحة, واللاأخلاق مرض] تعتبر هذه الاستعارة المفهومية من الاستعارات الاساسية في فهم الاخلاق في عمان, والصحة كما أشرنا هي أحد الاسس التي تقاس بها الرفاهية فالصحيح خير من المريض, والانسان يتمنى ان يبقي على صحته وان يتجنب الامراض ما استطاع. والصحة والمرض يسقطان كمجال مصدر لتشكيل المفهوم الاستعاري الذي يعتبر الاخلاق مظهرا من مظاهر الصحة والافعال غير الاخلاقية مظهر مرض من امراض النفس. فالشخص المعروف بفعل الامور التي لا تعتبر اخلاقية من وجهة نظر المجتمع يوصف في عمان بأنه »ما صاحي« او »مريض«, او ان اخلاقه ؛مريضة« وانه ذو ؛فؤاد مريض« او ؛نفس مريضة«. واستعارة ]الاخلاق صحة[ تنسحب ايضا على المجتمع بأسره, وهي حالة من حالات الاستعارة الكبرى المعروفة ]المجتمع جسم[ التي يتم من خلالها اسقاط بنية الجسم البشري وما يصيبه من امراض وسواها على المجتمع بأسره, فالممارسات غير الاخلاقية توصف بأنها »امراض« تصيب المجتمع, ولذا فإن السلطات الدينية والاخلاقية في المجتمع تعتبر تحقيق خطابها في السلوك الاجتماعي ضربا من ؛وقاية« المجتمع من »الامراض« حتى يتجنب المجتمع وضعا صعبا »حين يستفحل الداء«. ومن امثلة ذلك نجد الحديث عن »مرض المخدرات«. ان هذه الاستعارة تشكل جزءا من الخطاب المرتبط ارتباطا وثيقا بوضع السلطات الاجتماعية في المجتمع وطبيعة تفاعلاتها, فالسلوكيات التي يمارسها بعض افراد المجتمع ان لم تكن تطبيقا لخطاب السلطة الاجتماعية القائمة او كان انعكاسا او تطبيقا لخطاب قوة اخرى تسعى نحو السيطرة على المجتمع ينظر اليها ويتم الحديث عنها بإعتبارها مرضا يصيب الجسم الاجتماعي. ولا يتوقف دور الاستعارة هنا على وصف الحالة الآنية لظاهرة اجتماعية ما فحسب, بل ان الاستعارة, ان نجحت في الذيوع في المجتمع, ستشكل ارضية يتم على اثر مستتبعاتها القيام بممارسات سياسية معينة تحد من الخروج على السلطة الاجتماعية القائمة او من القوى الاجتماعية التي تكون في طور النمو. فالمرض الذي يصيب الجسم البشري ينبغي علاجه, وان ادى ذلك الى طرق مؤلمة للجسم كالكي وحتى قطع عضو من الاعضاء, وكذا المرض الذي يصيب جسم المجتمع ينبغي علاجه ايضا, غير ان العلاج في الحالة الاولى ليس ايديولوجيا فيما في الحالة الثانية فإن تحديد المرض (ما هي الظاهرة الاجتماعية التي يمكن اعتبارها مرضا? ومن الذي يمكنه البت في ذلك) وطبيعة التعامل معها (كالتخلص من بعض الافراد ان كانوا يعتبرون, مثلا, »سرطانا« سينتشر ان لم يردع في وقته في كل الجسم الاجتماعي) يعتمد على الرؤية الاجتماعية التي يتبناها المتحدث ويود فرضها على المجتمع. واستعارة ]الاخلاق صحة, وعدمها مرض[ تمكن المتحدثين من فهم طرق التعامل مع الممارسات الفردية غير الاخلاقية بإعتبارها محاولة لـ»معالجة« المرض الاخلاقي, نجد هذا مثلا في النهي عن صحبة غير الاخيار كما في المثل العماني »لا ترابع الايرب لا تصير شرواه« (لا تصاحب الشخص المصاب بالجرب حتى لا تصير مثله), فممارس الافعال التي تعتبر غير اخلاقية يعتبر مصابا بالمرض المعروف ؛الجرب« ولذا ينصح الناس بعدم الاقتراب منه والتعامل معه ومصاحبته حتى لا ينتقل المرض اليهم. وان تعذرت الوقاية كما في المثل السابق فإن العلاج هو الحل, وهنا فإن طرق التعامل مع السلوكيات غير الاخلاقية بإعتبارها سبيلا لعلاج المصاب بها, كما في التعبير العماني »أنا اعرف كيف اطلع منك هذا المرض« او »اخوز منك ذا العوق« (أخوز تعني أزيل) او »انا اداويه« او »دواه عندي«, والضرب هو احدى الوسائل التقليدية التي يستخدمها الاباء لتحديد سلوك ابنائهم ولذا يتم التعامل مع الضرب بإعتباره دواء كما في »دواه الضرب بالعصا«. ومن التعابير المتكررة في اللهجة العمانية عند الحديث عن امر غير محبذ وقع لشخص يعرف بإتيانه الافعال غير الاخلاقية او غير المستحبة كلمة »دواه« حيث تعتبر المشكلة التي يقع فيها هذا الشخص بمثابة »دواء« قد يساعد في الحد من سلوكياته الشائنة غير المرغوبة وتبنيه للممارسات التي تقرها اعراف المجتمع. وكما ان ليس كل من يصاب بالمرض الجسمي يحتاج الى الاخرين ان كان عارفا بطرق العلاج كالطبيب فإن بعض الناس العقلاء الذين يستطيعون التحكم في انفسهم ودرء أنفسهم عن اتيان شائن الافعال يعتبرون اطباء اخلاقيين, ولذا نجد المثل العماني ؛العاقل طبيب نفسه«. استعارة (الانسان شيء يعمل: السلوك الاخلاقي هو عمل الشيء, والسلوك غير الاخلاقي عطل) في التجربة المادية يكون المرء في وضع أفضل ان كان يمتلك شيئا يعمل بالطريقة المنتجة او المستحبة, اي ان يعمل جهاز الحاسوب الذي استخدمه أفضل من انه لا يعمل, وان تعمل السيارة افضل من ان يصيبها عطل فتتوقف. هذه التجربة المادية يتم اسقاطها استعاريا لتشكيل فهم للإنسان بإعتباره شيئا يعمل, تكون فيه الاخلاق دلالة على العمل السوي الطبيعي للشيء فيما تكون الافعال التي تعتبر غير اخلاقية دلالة عطل به, وهكذا فإن الشخص الذي يقدم على اتيان افعال يراها المتحدث غير اخلاقية يشار اليه في اللهجة العمانية على انه »مخترب« (اي أصابه عطل), وتوازيا مع تجربة المرض والعلاج, فإن العطل يمكن اصلاحه ولذا نجد التعبير القائل »أنا أعرف كيف أصفدلك اياه (أي اصلحه لك) «. نجد ذلك في الامثال فالانسان غير الاخلاقي نجده انسانا لم يعد »يصلح« للاستخدام, كما في المثال العماني »ضاع ضياع الخل« وهنا فإن هذا الانسان قد أصابه ... كما يصيب الخلل الخل المصنوع محليا, وهو ما نجده ايضا في المثل العماني الاخر القائل »ضاع ضياع النيل في الخروس«. استعارات [الحاوية] و[القوى] يعكس كثير من التعبيرات المستخدمة في الحديث عن الاخلاق استعارات تعتمد على كل من تجربتي الاحتواء والقوة الماديتين, حيث تحدد الحاويات مفهوم ]الحدود الاخلاقية[, فيما تحدد القوى, كما رأينا في تحليلنا فيما سبق لبعض مظاهر مفاهيم الاخلاق لدى ابي حامد الغزالي وابن مسكويه, بعض المظاهر الداخلية التي تؤثر في سلوك الفرد وتدفعه لفعل أخلاقي او غير اخلاقي او تمنعه من فعله. وبربط هذين المفهومين الاستعاريين بالاستعارة المفهومية المعروفة ]الافعال تحرك نحو هدف[ فإن الافعال تصبح حركات ذات أهداف استعارية, وان الفعل الاخلاقي هو تحرك ضمن حدود الاخلاق فيما يكون الفعل غير الاخلاقي خروجا على الحدود الاخلاقية. ففي اللغة العربية نجد التعبير الذي يصف الشخص الذي يأتي الافعال غير الاخلاقية بأنه »خرج على التقاليد والأعراف« وفي اللهجة العمانية نجد التعبير »تعدى الحوز« والحوز في اللهجة العمانية تعني الحد(5), وهكذا فإن مضي المرء في الافعال غير الاخلاقية يعني انه »ما لاقي حد يرده« (لم يجد من يرده), وهو »قليل الراد«. والاخلاق تفهم ايضا بإعتبارها قوى تؤثر في سلوك الانسان بدفعه الى فعل شيء ما او منعه من فعله, وهذه الاستعارة شائعة جدا في اللغة العربية, فنجد متحدثا يقول مثلا ان »اخلاقي تمنعني من فعل ذلك« حيث تكون الاخلاق قوة تمنع الفعل, وفي اللهجة العمانية نجد تعبيرات مثل »أخلاقه هي بو تخليه يسوي الخير« (أخلاقه هي التي تجعله يفعل الخير), او التعبير »جوره ما يخليه ما يظلم الناس« حيث يصبح الرذيلة »الجور« قوة تمنع الانسان من ان يسلك السلوك الاخلاقي المستحسن, كما في اللغة العربية نجد ان الظواهر الاجتماعية تعتبر استعاريا قوى تؤثر في السلوك فنجد مثلا ان »تيار الفساد الاخلاقي يجرف ضعاف القلوب« حيث التيار/القوة الاجتماعية تؤثر في السلوك الاخلاقي الفردي. كذلك نجد ان السلوك غير الاخلاقي قد يشكل »عقبة« نفسية اجتماعية في طريق الاخرين, وهكذا يقال عند اختفاء او موت الشخص الذي يمارس سلوكيات غير اخلاقية التعبير »شبقة وانزاحت عن الطريق« والشبقة في اللهجة العمانية هي بقايا الشجر الجاف المليء بالشوك الذي يمنع حركة الناس. استعارة ]الفضائل والرذائل اشياء داخل الانسان[ كذلك نجد الاحتواء في استعارة ]الانسان حاوية[ حيث يكون الانسان استعاريا ذا حدود, وتكون الاخلاق والفضائل أشياء داخل هذا الانسان, حيث البعض, كما في اللهجة العمانية, ؛فيه أدب« او »فيه سنع« حيث يشير حرف الجر »في« الى وجود الفضائل داخل الانسان, بل ان قلة الادب ينظر اليها استعاريا على انها شيء داخل الانسان فيقال »فيه قلة أدب«. كذلك فإن الفضائل والرذائل قد لا تكون موجودة فيكون الانسان »خالي من الاخلاق« او »خالي من العيوب«. ومن التعبيرات العمانية التي تدخل على الاحتواء الاخلاقي الفردي التعبير المتكرر القائل »العيب ما فيك, فبو يماشيك« (العيب ليس فيك, ولكن في الشخص الذي يمشي معك). استعارة ]السلوك الاخلاقي نقاء, والسلوك غير الاخلاقي قذارة[ الاخلاق حسب هذه الاستعارة تعتبر نقاء روحيا فيما ان انعدامها يعتبر قذارة, فالشخص ذو الاخلاق يعتبر »نقيا« و»طاهرا« وان »قلبه نظيف« فيما ان من يسلك السلوكيات الشائنة يعد »وسخا« او »قذرا« وفي اللهجة العمانية »وصخ«, او »حص« (قذر) او انه »زبالة«. والافعال غير الاخلاقية تأتي ايضا بنتائج غير نظيفة كالتلوث, كما في القول »انك لوثت سمعتنا«. ومن مستتبعات هذه الاستعارة ان الاستجابات الجسمانية للأمور غير النظيفة تسقط استعاريا على الاخلاق, ففي عمان نجد ان كلمة »أخيي« او »أ« تقال للدلالة على تقزز من سلوك ما. وقد تكون الاستجابة تتعدى الكلام فيتحدث البعض قائلا ؛جاي ازوع يوم سمعت انه هو بو سوا هذي الفعلة« (كدت ان أتقيأ حينما سمعت انه هو الذي قام بهذه الفعلة), حيث نجد ان التقيؤ وهوالاستجابة الجسمانية التي تلازم عادة رؤية او شم الاشياء غير النظيفة او الملوثة تسقط استعاريا على مجال الاخلاق. استعارة [الجوهر الاخلاقي] الجوهر الاخلاقي الاستعاري يسمى في اللهجة العمانية وفي اللغة العربية »طبيعة« فلكل انسان »طبيعة« او »طبع« تميزه عن غيره وتحدد سلوكه الاخلاقي, وهكذا نجد الناس »معادن«, وحيث ان المعادن كثيرة مختلفة, منها الثقيل ومنها الخفيف, الغالي وغير ذي القيمة, كذلك نجد البشر ذوي جواهر تميزهم عن بعضهم البعض, وتحدد سلوكهم الاخلاقي وتبرره. ان فكرة الجوهر الاخلاقي الاجتماعي ذات بعد ايديولوجي خطير, حيث ان بعض السلوكيات ترد الى جوهر الفرد الاخلاقي, فيتوقع سلوكيات معينة من فئة اجتماعية او من فرد معين لإعتقاد البعض استعاريا بأن جوهر تلك الفئة او الفرد تلزمه فعل ذلك الشيء, وهكذا قد يقال عن سلوك مستقبح من قبل فرد ينتمي الى مجموعة اجتماعية ما فيقال في عمان ؛مو أيسوي غير كذاك? ما (ما الذي يمكنه ان يفعل غير ذلك? أليس هو ...?) وهنا فإن الفراغات تملأ عادة بذكر ما يدل على طبقة الفرد او قبيلته او غير ذلك من التمايزات الاجتماعية, التي تعتبر ذات جواهر محددة للسلوك الاخلاقي. وخطورة استعارة الجوهر هذه تتمثل ايضا في ظواهر اجتماعية بأكملها كرفض التزاوج بين المجموعات الاجتماعية على اساس رؤية مجموعة من المجموعات بأن »جوهرها« أفضل او أكثر أصالة من »جوهر« المجموعات الاخرى, وهو جانب آخر يبرز دور الاستعارة في تحديد السلوك الاجتماعي والظواهر الاجتماعية الكبرى. ان كون الجوهر أمرا ثابتا لا يمكن ان يتغير يجعل من الصعب رؤية التغير السلوكي في سلوك المرء الذي يعتبره بقية الناس او مجموعة منهم ذا جوهر سيئ, وهكذا نجد التحذير من الاغترار بالسلوك الظاهري المستحسن لشخص معين لأن »جوهره« سيئ, فـ»ما كل ما يلمع ذهبا (6), وبذا فإن الجوهر الاستعاري يصبح ضربا من القدر الذي لا يمكن تغيره او لا يمكن على المجتمع تصور او تقبل تغييره. وهكذا نجد المثل العماني »لو الماي يروب الماكرة (او القحبة) تتوب« حيث نجد ان العهر او المكر يعتبران جوهرا لازما في شخصية المرأة المقصودة لا يمكن ان يتغير, واستحالة تغيره كاستحالة ان يصبح الماء روبا. استعارة [الأخلاق كمال] في هذه الاستعارة ينظر الى الاخلاق بإعتبارها نوعا من الكمال واللااخلاق نوعا من الفساد او النقص, لذا يجري الحديث عن فلان على انه »شخص منحل« او ان »اخلاقه ناقصة« او انه هو »شخص ناقص«. ان فقدان الكمال الاخلاقي يؤدي الى التأثير في افراد المجتمع لكمالهم الاخلاقي فنجد التعبير العماني »التفاحة بو خربانة تخرب التفاح كله« حيث ينظر الى السلوك غير الاخلاقي بإعتباره فسادا في شخصية المرء قد ينتقل الى الاخرين. غير ان الكمال الاكبر دائما غير موجود, فـ»النقص« ينظر اليه بإعتباره صفة بشرية فـ»الكمال لله؛, ونجده في التعبير ؛سبحان الله, الزين ما يكمل« في الحديث عن اكتشاف »نقيصة« في سلوك امرئ طالما اعتبر نموذجا للأخلاق. استعارة »الاخلاق جمال, واللا اخلاق قبح« يرى الناس حسب هذه الاستعارة الافعال الاخلاقية أمرا جميلا وغير الاخلاقية بإعتبارها قبحا, فتوصف الاولى بأنها »حلوة« و»جميلة« فيما توصف الافعال الاخرى بأنها »قبيحة« و»بشعة« وفاعلها »انسان قبيح«. 5 - ولكن ماذا عن الانانية الاخلاقية? الاستعارة المفهومية أمر خطير, حيث يتحكم في عقل الانسان في مستواه غير الواعي. وخطورة الاستعارة تتمثل في انها في الوقت الذي تبرز جانبا من جوانب المجردات الا انها في الان ذاته تخفي جوانب أخرى قد لا تكون محبذة, وقد تؤدي الى سلوكيات غير مرغوبة من قبل المجتمع. وسنضرب مثالا على هذا بسؤال قدمه سائله الى العلامة العماني نور الدين عبدالله بن حميد السالمي (الذي توفي في مطلع القرن العشرين) حول رفض البعض الصفح عن اخطاء الاخرين لأن الصفح يعني انقطاع حسنات تأتي لهم من أخطاء الاخرين. قبل ان نطرح تحليلنا للوضع الاستعاري الذي يحمله الاشكال الموجود في السؤال, نشير بإيجاز الى ان التبادل الاخلاقي الاسلامي يعتمد على ضربين من ضروب ؛مسك الدفاتر«. يقوم الاول على مفهوم العدالة الالهية السماوية (وسنطلق عليها فيما يتبع »المحاسبة السماوية«) والاخر على الاخلاق الاجتماعية بين الافراد (ولنسم هذه »المحاسبة الاجتماعية«). فعلى الرغم من ان التبادل الاخلاقي بين الافراد أساسي في الاسلام, الا ان الطرح الاسلامي يرتكز على أصل من الاصول وهو ان الله هو العادل المطلق الذي سيعطي لكل ذي حق حقه, ان لم يكن في الدنيا ففي الحياة الاخرة, فسينعم في جنة الخلد من فعل الخير, وان عاش عيشة تعيسة في الدنيا, وسيحيق العذاب بفاعل المنكر الاخلاقي (اضافة الى المنكر الديني بعدم الايمان), وان كان لا حد لمتعته الدنيوية. وان عدنا الى استعارة ]المحاسبة الاخلاقية[ لوجدنا ان المرء حينما يفعل فعلا اخلاقيا مستحسنا لشخص اخر, فإنه لا يضيف فحسب الى رصيده في ميزان العلاقات الفردية المتبادلة بل انه »سوف يكسب« رصيدا جديدا في حساب العدالة الالهية. وأثر الربح الاخلاقي في الدنيا, من منظور الاسلام, محدود بحياة الفرد اما رصيد الاخرة فهو »خير وأبقى« (سورة الاعلى:17, سورة الشورى: 36, سورة القصص: 60). فالمرء عليه ان يتجاهل »حساب« الاخلاق في الدنيا فإن ان عليه ان يضع نصب عينيه »حساب« الآخرة (7) المذكور في كثير من الآيات القرآنية كالآية الاولى من سورة الانبياء »اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون« (21:1). وفي يوم »الحساب«. ان هذه المقدمة الموجزة ضرورية لفهم الاشكال الناتج عن الاستعارة المفهومية في السؤال الذي قدم الى نور الدين السالمي: السؤال: وجدت في كتاب الإحياء عن ابن الجلاء أن بعض اخوانه اغتابه فأرسل إليه يستحله فقال: لا أفعل في صحيفتي حسنة أفضل منها فكيف أمحوها, وقال غيره: ذنوب اخواني من حسناتي أريد أن أزين بها صحيفتي فكيف تبقى عليه بعد المتاعب أم تبقى لهذا حسنة ولا تبقى لذاك سيئة? ومن باب الأفضل قال الله تعالى (وإن كان ذو عسرة فنظرة الى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم) وقال (أن تعفوا أقرب للتقوى) وقال (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) أليس الصفح والعفو والسماحة والحل مطلقا أفضل من التقصي والانقباض والامتناع? ... (السالمي 1999, ج 5: 407-408) لا يمكن فهم السؤال فهما عميقا دون رؤية الاستعارة على مستويي المحاسبة السماوية والمحاسبة الاجتماعية. يمكننا ان نفكك السؤال في النقاط التالية: - الشخص الاول (س) يفعل شيئا غير أخلاقي يضر بالشخص الآخر (ص): على مستوى المحاسبة الاجتماعية فإن (س) يأخذ شيئا ذا قيمة من (ص), أما على مستوى المحاسبة السماوية فإن رصيدا (حسنة) قد أضيف الى (ص) ولذلك لموازنة ما خسره حسب المحاسبة الاجتماعية, ودينا (سيئة) قد كتب على (س), وكلما طال هذا الوضع زادت الحسنات في رصيد (ص). - سعي (س) من (ص) ان يسامحه على ذنبه يعني في مستوى المحاسبة الاجتماعية ان (س) يطلب دفع قيمة ما أخذه من (ص) بحيث يحل التوازن في هذا المستوى, اما في مستوى المحاسبة السماوية فإنه يعني ان (س) يطلب دفع الدين الذي عليه بحيث يحل التوازن هنالك أيضا, وهو ما يعني ان (س) سيحصل على حسنة توازن السيئة الاولى. يتفق الطرفان على هذا الواقع الاستعاري, الا ان المشكلة تتمثل في رد (ص) على اعتذار (س), وهو ما يدفع بالسائل الى سؤال نور الدين السالمي بحثا عن حل. ويمكننا ان نحلل العملية الذهنية التي جرت في عقل (ص) كما يلي: لقد اعتبر (ص) هذا الوضع الاستعاري وضعا حقيقيا, وحسب استعارة ]المحاسبة الاخلاقية[ نجد ان: (1) يجب على المرء ان يزيد من سعادته بزيادة رصيده. (2) ينبغي على المرء ألا يسمح بأي نقص في رصيده الاخلاقي. ان رفض (ص) اعتذار (س) يقوم على اساس انه, اي (ص), سيحافظ على الدين الذي له على (س) في مستوى المحاسبة الاجتماعية, حيث ان هذا الوضع تتم موازنته في مستوى المحاسبة السماوية بالحسنات التي سيغدقها الله عليه وهو ما يزيد من سعادته ورصيده, اما قبوله لإعتذار (س) فإنه يعني ان مصدر الحسنات سيتوقف لإنعدام سببها, بل ان هذا القبول قد يعني ازديادا في رصيد (س) الذي أدرك ذنبه واعتذر عنه. وبناء على كل هذه الحسابات الاستعارية يقرر (ص) عدم قبول اعتذار (س) لأن هذا ليس في مصلحته. ان هذا المثال يعكس حالة من الوضع الاشكالي الذي قد ينتج من تصديق البعض للاستعارات, والتعامل معها بإعتبارها حقائق, وهو وضع اشكالي لأنه قد ينتج نمطا من التعامل لا يحدده السلوك الاخلاقي المثالي (ان وجد) بل تحدده طبيعة الاستعارة التي يفهم من خلالها المرء واقعا اجتماعيا-اخلاقيا معينا. فصاحبنا (ص) هنا يرفض فعلا اخلاقيا مستحسنا وهو قبول اعتذار المسيء عن اساءته على أساس مستببعات الاستعارة التي تحكم رؤيته للواقع, فالواقع, بحسب استعارة ]المحاسبة[ تقتضي ان يبحث كل انسان عما يزيد رصيده لا ما ينقص هذا الرصيد, وحيث ان قبول الاعتذار سيعني استعاريا نقصانا او توقفا لسيل الحسنات المنهمر عليه فإنه يعمد الى عدم الصفح بقبول الاعتذار, على الرغم من ان الصفح ؛قيمة« اخلاقية مستحسنة في ذاتها. وقد أدرك هذا الاشكال الاستعاري نور الدين السالمي في رده على السائل, فقال ما نصه: نعم العفو أقرب للتقوى, والصفح عن الزلة مع التوبة منها خير لصاحبه, لكن هذا القائل انما قال ذلك عن اجتهاد منه ومنشأ اجتهاده أنه لما كانت غيبة المغتاب له زيادة حسنة له رأى ان العفو عن الغيبة نقصان لتلك الحسنة, ولم ينظر الى عظيم درجة العفو وعلو منزلة الصفح, فقوله ذلك مع قطع النظر عن هذه الرتبة وهو معارض بما ذكرت من الآيات, وكذلك قول الآخر ؛ذنوب اخواني من حسناتي أريد ان ازين بها صحيفتي« ومعناه ان ذنوب اخوانه التي اذنبوها في جنابه تكون في حسناته. والحاصل ان كل واحد منهما نظر الى انتفاعه دون انتفاع أخيه ورأى ان منفعة نفسه في بقاء تلك الحسنات التي كتبت له من قبل خطيئة صاحبه مع قطع النظر عن فضل العفو ولا شك أنه أفضل من ذلك. (السالمي 1999, ج 5: 408) غير ان السالمي, على الرغم من انتقاده للرؤية القائمة على النفعية الذاتية المتمثلة في عدم الصفح, لا يرى بأسا في الاستعارة ذاتها, بل انه يقر جانبها الذي سبب الاشكال الذي يطرحه السؤال المتمثل في مسعى زيادة رصيد المرء من الحسنات, فهذا الرد يعتمد على الاستعارة ذاتها, ويقول ان الصفح والعفو يجلب عددا أكبر من الحسنات من عدم الصفح حيث ان العفو »لا شك أنه أفضل من ذلك«. نخلص من تحليلنا للحالة المطروحة في السؤال ان الاستعارة التي يستخدمها انسان ما لفهم حدث اجتماعي يتطلب موقفا اخلاقيا معينا تشكل طبيعة تعامله مع ذلك الموقف, فالسؤال يطرح كما رأينا رفض البعض الصفح عن اخطاء الاخرين على اساس ان هذه الاخطاء تشكل مورد حسنات في حين ان الصفح يعني انقطاعا لهذه المورد المستديم. ان الاستعارة ]اخطاء الاخرين مورد حسنات[ التي تعتبر جزءا من الاستعارة ]المحاسبة[ التي تأتي على مستويين هما ]المحاسبة السماوية[ و]المحاسبة الاجتماعية[ لا تحدد فهم ذلك الشخص للظرف الاخلاقي فحسب بل انها تحدد طبيعة التعامل الاجتماعي الفعلي بين الافراد, فلكي »يزيد« المرء من رصيده من الحسنات فإنه يبقي على رفضه الصفح عن شخص أعلن خطأه بما يستتبعه ذلك من مشاكل نفسية واجتماعية تنتج عن هذا الرفض. ان الاستعارة اذن خطيرة حين نتعامل معها وكأنها حقيقة وليست اسقاطا لمجال على مجال آخر, وهي بذا تبرز جوانب من الموضوع المطروح لكنها قد تعمي العيون عن جوانب اخلاقية واجتماعية اخرى, وتدفع الى أوضاع اجتماعية إشكالية. 6 - الخلاصة قد يسأل سائل وقد قرأ التحليل السابق »ولكن ما فائدة كل هذا المنهج في تحليل الاستعارة المفهومية الاخلاقية? أليس الاخلاق هي الاخلاق? أليست الفضائل هي الفضائل والرذائل هي الرذائل, وستظل كذلك الى أبد الابدين? « والجواب على السؤال الاخير لا. لا توجد فضائل عليا ولا رذائل عليا. فالتقييم الاخلاقي في وصف موقف ما ليس تقييما مباشرا مثل ما نصف كوبا منكسرا بأنه كوب ؛منكسر« فعلا, بل ان التقييم الاخلاقي يمر عبر ؛مصفاة« استعارية تحدده, والاستعارة تفرض منطقها على التقييم. ان اعتبار الفعل غير الاخلاقي بأنه »شيء قذر« مثلا يشييء (يجعل شيئا) مقطعا بسيطا من عمليات اجتماعية ونفسية واقتصادية (وسواها) كبرى. ان استعارة ]الفعل غير الاخلاقي شيء قذر[ تفرض بنية الشيء المادي (المحدد والذي يمكن عزله عما حوله من اشياء ويمكن وصفه بنفسه) على ما لا يمكن عزله من سلوك اجتماعي مرتبط بعمليات حياتية كبرى لا يمكن في حقيقة الامر تشظيتها الى مقاطع صغيرة. وكذلك الامر في استعارة ]المحاسبة الاخلاقية[, فإن اعتبار القيام بفعل غير اخلاقي ضد شخص على انه اخذ لشيء حسن يفرض بنية الشيء هنا ايضا, وهو ما يغفل حقيقة ان تحديد بداية الفعل الاخلاقي ونهايته ليست أمرا يماثل سهولة تحديد حدود شيء مادي, فالفعل الاجتماعي هو مقطع في عملية تفاعلية تتفاعل فيها سائر مستويات الحياة كما ذكرنا. بدأنا هذه الدراسة في عنوانها بسؤال »من أين تأتي الاخلاق? « والجواب عليه هو انها تأتي من تجربتنا المادية الصرفة. ولا ينبغي هنا ان يفهم من كلامنا هذا ان الاخلاق غير موجودة, ولكن ينبغي ان يفهم ان وجود الاخلاق ليس وجودا جوهريا وانما هو وجود استعاري تفرض فيه التجارب المادية التي يتم اسقاطها من خلال الاسقاط الاستعاري على المجردات. ولا ينبغي ان يفهم من هذا ايضا ان المقصود هنا ؛التقليل« من الاخلاق بإبراز جوهرها المادي. كلا, فالاخلاق ضرورية لتحديد السلوك الفردي في مجتمع من المجتمعات, الا انه ينبغي علينا ان نخفف من غلواء عدائنا للمادة وتجارب الجسد, فهي كما تبين في هذه الدراسة وفي دراسات الاستعارات المفهومية, ذات أثر بعيد في حياتنا يتجاوز التفاعلات المادية الخالصة, ليتحكم في رؤيتنا وفهمنا للتجارب المجردة وتعاملنا معها وحديثنا عنها. لقد تبين الان ايضا ان التجارب المجردة ليست خالصة التجريد فهي تقوم كما ذكرنا على استعارات تعتمد تجربتنا المادية أساسا وجوهرا. لقد تبين من تحليلنا ايضا ان الاخلاق في الثقافة العربية استعارية الجوهر, فالامثلة التي حللناها سواء في فلسفتي ابي حامد الغزالي وابن مسكويه وفي اللهجة العمانية واللغة العربية تثبت كلها مدى تغلغل المادة في تحديد جوهر المفاهيم الاخلاقية, فمفهوم قوى النفس التي ينبغي على المرء ان يتحكم فيها ليست الا استعارة تقوم على تجربة القوى المادية وتفاعلاتها من صدام وغلبة قوة مادية على اخرى. والامر نفسه ينسحب على التعبيرات التي يستخدمها الناس في اللغة العربية واللهجة العمانية تحديدا في تقييم السلوكيات الاجتماعية ومدى اخلاقيتها, فكلها تعكس استعارات مفهومية تعتمد المجالات المادية أساسا. الا انه ينبغي علينا في هذا الموضع الاشارة الى محدودية المادة التي درست في هذه الدراسة, فهي دراسة استكشافية في آفاق الاخلاق الاستعارية في الثقافة العربية, والاخلاق قضية كبرى من قضايا الانسان والفكر الانساني عموما, لذا ينبغي على البحث العلمي ان يتطرق الى دراسات أكثر تركيزا في هذا الاطار, بحيث تتناول استعارية نظريات الاخلاق لدى فلاسفة او مفكرين او فقهاء عرب معينين, وربط نتائج مثل هذا التحليل بتفاعلات الحياة الاخرى. كذلك ينبغي دراسة مظاهر الاستعارة في لهجات عربية اخرى قد تلقي الضوء على جوانب اخرى من جوانب تجسد الاخلاق. المراجع : ابن مسكويه, احمد بن محمد (1985): تهذيب الاخلاق في التربية, بيروت: دار الكتب العلمية. الجرجاني, بدون تاريخ: أسرار البلاغة في علم البيان, مكان النشر غير مذكور: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. الحراصي, عبدالله (1999-أ): الاستعارة: التجربة والعقل المتجسد (عرض لمسار الفلسفة التجريبية 1980-1999), مجلة نزوى, العدد 20 (صص 25-35). الحراصي, عبدالله (1999-ب): التحليل النقدي لصدام خطابين ودلالاته الاجتماعية, مجلة نزوى, العدد 18 (صص 63-78) الحراصي (2000). السالمي, نور الدين عبدالله بن حميد (1999): جوابات الامام السالمي, (تنسيق ومراجعة: د. عبدالستار أبو غرة, اشراف: عبدالله السالمي), مكان النشر والناشر غير مذكور. الغزالي, أبو حامد (1995): ميزان العمل, بيروت: دار ومكتبة الهلال. Johnson, M. (1987): The Body in the Mind: The Bodily Basis of Meaning, Imagination, and Reason, Chicago and London: Chicago University Press. Johnson, M. (1993): Moral Imagination: Implications of Cognitive Science for Ethics, Chicago and London: The University of Chicago Press. Lakoff, G. (1996a): شSorry, Iصm Not Myself Today: The Metaphor System for Conceptualizing the Selfص, in Gilles Fauconnier and Eve Sweester, Spaces, Worlds and Grammar, Chicago and London: The University of Chicago Press. Lakoff, G. (1996b): The Metaphor System of Morality, in Adele E. Goldberg, Conceptual Structure, Discourse and Language, California: CSLI publications, pp.249-266. Lakoff, G. and Johnson, M. (1980): Metaphors We Live by, Chicago: Chicago University Press. Lakoff, G. and Johnson, M. (1999): Philosophy in the Flesh, New York: Basic Books. - الس ن ع في اللغة العربية يعني الجمال, والسنيع كما يقول لسان العرب هو الحسن الجميل, اما في القاموس المحيط فنجد ان ؛هذا أسنع« تعني أفضل وأطول. 1 - للإستزادة حول استعارة ]الشخص المنقسم[ انظر )-a (Lakoff 1996 2- انظر تحليل جونسون لأنماط القوة في .(Johnson 1987) 3- يشارك ابن مسكويه الغزالي في استعارة [التركيب] حيث تتكون النفس من اكثر من قوة متنازعة, فيقول ؛ان هذه الانفس الثلاث اذا اتصلت صارت شيئا واحدا ومع انها تكون شيئا واحدا فهي باقية التغاير وباقية القوى تثور الواحدة بعد الواحدة حتى كأنها لم تتصل بالاخرى ولم تتحد بها وتستجدي ايضا الواحدة للاخرى حتى كأنها غير موجودة ولا قوة لها تنفرد بها. وذلك ان اتحادها ليس بأن تتصل نهاياتها ولا بأن تتلاقى سطوحها كما يكون ذلك في الاجسام. بل تصير في بعض الاحوال شيئا واحدا وفي بعض الاحوال أشياء مختلفة بحسب ما تهيج قوة بعضها او تسكن« (ابن مسكويه 1985: 44). 4- الخروس: جمع خرس وهو إناء فخاري كبير يحتفظ بالسوائل من ماء وغيره فيه. 5- احد معاني الحوز في »لسان العرب« يتعلق بالارض المحددة الحدود »والحوز من الأرض أن يتخذها رجل ويبين حدودها فيستحقها فلا يكون لأ حد فيها حق معه«. 6 - نجد هذا ايضا في المثال العماني »الشيفة شيفة والمعاني ضعيفة« (المظهر مظهر ]عظيم, جميل[غير ان المعاني [الاخلاق] ضعيفة). 7 - تنبغي الاشارة في هذا الموضع الى ان »الحساب« الالهي حسب الطرح الاسلامي لا »يتأخر« دائما الى يوم القيامة, بل انه قد يتم في الدنيا نفسها, كما في الاية القرانية وكأين من رية عتت ع أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا (8) فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا (9) (سورة الطلاق: 8-9). فهنا نجد بعض عناصر استعارة [المحاسبة] في ؛حاسبنها حسابا شديدا« الذي نتج عنه ان عاقبة الامر كانت »خسرا« في الدنيا. |
الثلاثاء، 1 يناير 2002
من أين تأتي الأخلاق؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق