الجمعة، 17 يوليو 2009

نسخة أم أصل؟!!





(كلمة للقارئ: ما ستقرأه فيما يلي ليس مقالاً بل هو تفكير في الموضوع بصوتٍ عالٍ، وربما سأعود إليه كتابةً على هيئة مقالٍ ذات يوم)

آلات النسخ: الورقي والبشري

الاستعارات ورطات، ولكنها ورطات ضرورية لا فكاك منها، وإلا انعدم الفهم وانعدم الكلام. من هذه الاستعارات استعارة الأصل والنسخة التي نستخدمها في فهم عدد من الأمور غير المادية (وسأضرب عليها بعض الأمثلة)، وقد أتت هذه الاستعارة من عالم التكنولوجيا، وتحديداً من فعل أجهزة نسخ الأوراق حيث هناك "أصل" تقوم هذه الأجهزة بانتاج "نسخ" منه.

سريعاً أقول بأن هذه الأستعارة تدلل على أمر مهم وهو أن التكنولوجيا لا تؤثر على حياتنا المادية فحسب، بل كذلك في الطريقة التي يعمل بها ذهننا في سعيه لتشكيل فهم للكون، وخصوصاً في ظواهره غير المادية.

نستخدم هذه الاستعارة لفهم كثير من أمور حياتنا، فنحن نقول مثلاً أن فكرة فلان هي الأصل وما فكرة علّان إلا نسخة من فكرة فلان، كما نقول أيضاً أن ما يطرحه عمرو ليس إلا نسخة مشوهة من ما قاله زيدٌ قبله، ونصف برنامجاً تلفازياً في قناة عربية بأنه نسخة متأخرة من برنامج تلفازي في قناة أجنبية شهيرة.

أتذكر هنا بيت لصديقنا المتنبي من قصيدة ألقاها أمام سيف الدولة:

وَدعْ كلَّ صوتٍ غيرَ صوتي فإنَّني ** أنا الطَّائرُ المحكِيُّ والآخر الصَّدى

انه شكل آخر من أشكال ذات الاستعارة: الأصل والنسخة، ولكن باستخدام تصوير آخر مستمد من عالم الأصوات: الصوت الأصلي والصدى.

إضافات قيمية

عموماً أياً كانت الصورة المستخدمة (الصوت/الصدى، الاصل/النسخة، أو صور أخرى شبيهة) فانها على اختلافها تعكس نفس الانقسام بين أمر أصلي وأمر غير أصلي يقلد الأصل.

ولكن إضافة إلى هذا الانقسام ثمة إضافة قيمية مفترضة في استخدام هذه الاستعارة، أعني أن الأصل دائماً هو الأفضل والنسخة أسوأ (مهما اقتربت من الأصل). كما أن هناك بعداً آخر وهو عجز النسخة عن أن تكون أصلاً في ذاتها: أنها مجرد "نسخة" ليس لها في ذاتها قيمة، وقيمتها مستمدة من الأصل.

الأصل/القول والنسخة/الصوت

يشغلني أمر الأصول والنسخ حينما أتأمل في كثير من الناس وما يقولونه وما يفعلونه.

تجد الأغلبية نسخاً من آخرين، والأقلية أصول.

كتبتُ ذات مرّة عن الفرق في الكتابة بين الصوت والقول. أقف احتراماً لمن يقول شيئاً، أعني من ينتج أصلاً كتابياً (يعكس بالضرورة أصلاً إنسانياً)، فيما أستغرب كثيراً من الذين ينتجون أصواتاً، أعني أؤلئك الذين يقولون الكلام الذي قاله الكثيرون قبلهم.

الأمر ذاته يوجد في السلوك: تجد الكثيرين يستقتلون كي يفعلوا ما يفعله الآخرون، مقلدين، بل، وبما يشبه الوعي، مصرّين على أن يكون ما يفعلونه نسخةً مما يفعله الآخرون، وما يقولونه نسخة صوتية لأصوات سابقة.

ما الخطر في النُسَخ؟

أستغرب من النُسَخ! أشعر أنهم يضيعون حياتهم! الإنسان لا يستخدم إلا نسبة ضئيلة من قدراته الدماغية، أعني أن "الأصول" ليسوا، مع قلتهم، الا نتاج تشغيل شيء بسيط من القدرات الكامنة في دماغ الإنسان (القدرات التي قد تأتي على شكل حلّ معضلات واقعية أو في اتخاذ موقف معين)، ورغم هذا فان الغالبية ترفض حتى استخدام هذه النسبة الدماغية الضئيلة، بل وتمضي في اتجاه معاكس هو التناسخ الاجتماعي السلوكي والصوتي.

ولكن هذا أمر طبيعي رغم كل شيء. في تاريخ العالم النسخ كثيرة والأصول قليلة.

الصورة الكبرى

هذه استعارة تعجبني كثيراً: الحياة صورة كبرى والواحد منا عنصر بسيط غير مرئي في هذه الصورة الكبرى.... ولكن كلا، هذا خطأ فيما أرى. الإنسان سيكون ضئيلاً وغير مرئي فقط حينما يقرر أن يكون نسخة لا أصلاً وصوتاً لا قولاً.

هل يستطيع الإنسان إن يقرر إن كان نسخة أم أصلاً؟

ذكرت في الفقرة السابقة أن الإنسان سينكمش حجمه إن قرر أن يكون نسخة وليس أصلاً وصوتاً وليس قولاً، ولكن هل بمقدور الإنسان أن يعي حجمه الحقيقي (أعني الحجم الذي ينبغي أن يكون عليه) وأن يقارنه بحجمه الواقعي (الذي هو عليه)؟

ليس دائماً: النسخ "الحقيقية" صغيرة وغير منظورة وضئيلة الحجم، ليس باختيارها المباشر ولكن لأنها وجدت نفسها هكذا، وهي على هذا الوضع ليس بقبولها، لأنها لو ملكت زمام القبول والرفض لكانت أصولاً بشكل من الأشكال. وهذه لا تشغلني هنا.

ما يشغلني حقاً هو الأصول التي تقبل برضاها أن تكون نسخاً، أعني الأصول القادرة على أن تكون أصولاً وأن يكبر حجمها ودورها في الصورة الكلية فيما تقدم نفسها وفعلها وما تقول على أنها نسخٌ وأصوات مكررة مستهلكة.

اتخاذ قرار أن يكون المرء أصلاً

ربما تكمن الصعوبة في اتخاذ القرار الوجودي بأن يكون المرء أصلاً دائماً، وأن يتحدث بالقول دائماً، لا أن يكون نسخةً تصدر أصواتاً.

ولكن على المرء الذي يلتمس في نفسه أصليته وهو يعيش حالة النسخة أن يسأل نفسه أسئلة من قبيل:

(1) هل أنا نسخة أم أصل؟

(2) من أخدم بكوني نسخة؟ (إن كنت نسخة)

(3) هل أنا واعٍ بنسخيتي؟

(4) إن كنت واعياً انني أصل ولست نسخة (في سلوكي وقولي) فكيف أغيّر وضعي ليكون أصلاً دائماً؟ ماذا أفعل لأكون أصلاً دائماً؟ ماذا أفعل لأقول لا لأصدر صوتاً ("صدى" بحسب المتنبي)؟

هناك 4 تعليقات:

  1. معظم الناس هم أناس آخرون آرائهم آراء شخص آخر حياتهم تقليد وعشقهم إقتباس .

    (أوسكار وايلد)

    ردحذف
  2. أستاذي

    كنت أكثر التفكير في زاوية قريبة من هذا الموضوع مؤخرا، ألا وه المحددات والمفترضات الإجتماعية.

    لكي لا أوغل في الفلسفة..أقصد أن هناك قيما اجتماعية مفترضة تحدد سلفا "النجاح" والحياة السعيدة أو الحياة المستقرة بأشياء معينة. منها النجاح في الدراسة مثلا والحصول على عمل أو القيام بواجبات اجتماعية متوقعة منه كالزواج مثلا.
    هذه هي الصورة الأصلية للناجح .. يجب أن "أستنسخها" لكي أوصم بأني "ناجح" أو "غير مختلف" أو "منتمي"
    أما حينما لا أوف بمتطلبات هذه الصورة فإني لا أصل لهذا الوصف..

    الأسئلة التي تقلقتني، من الذي وضع هذه "الصورة" المطلوب الوصول إليها؟
    هل بالضرب عرض الحائط بالصور القديمة.. ننتج أصلا؟

    وهنا أيضا أنا لا أكتب إنما أفكر بصوت مسموع.

    هلال المعمري

    ردحذف
  3. امكن النسخ والتقليد موجود في الجينات البشرية وتطور عبر الزمن حسب نظرية دارون ويعتبر نوع من الذكاء www.mimetictheory.org

    ردحذف
  4. مرحبا دكتور
    هناك فيلم سينمائي روائي قصير مميز اسمه (دكان النسخ)
    Copy Shop
    له علاقة وثيقة بموضوع الأصل والصور
    عندي نسخة ذات جودة بصرية جيدة منه، ولكن بالإمكان مشاهدته على الرابط التالي
    http://www.spike.com/video/copy-shop/2421320
    وتحياتي لك

    عبدالله خميس

    ردحذف