برنارد لويس في مسقط
عبدالله الحراصي
شهد الاسبوع الفائت زيارة لمسقط قام بها، بدعوة من وزارة الاوقاف والشؤون الدينية، مؤرخ بارز من مؤرخي الغرب الذين تخصصوا في دراسة التاريخ العربي والاسلامي هو برنارد لويس الاستاذ في جامعة برنستون الامريكية الذي يقوم الان، إضافة الى إنشغاله بكتاباته التاريخية، بدور مستشار للرئاسة الامريكية الحالية للشؤون المتعلقة بالعرب والمسلمين. وقد كتب برنارد لويس كثيرا عن التاريخ العربي ومن أهم كتبه "العرب في التاريخ" (1950) و"الحشاشون" (1967) و"اكتشاف المسلمين لاوروبا" (1982) و"لغة الاسلام السياسية" (1988) و"العرق والرق في الشرق الاوسط: مبحث تاريخي" (1990) و"مستقبل الشرق الاوسط" (1997) و"الهويات المتعددة في الشرق الاوسط" (1998).
أيا كانت النظرة التي يحملها المرء تجاه قراءة لويس للتاريخ العربي وللواقع العربي ومواقفه التي لا خلاف حول يمينيتها فإن زيارته تظل حدثاً ثقافياً كبيراً مكننا هنا في مسقط من سماع صوته والتحاور معه عن قرب حول كثير من القضايا التي يطرحها في كتاباته التاريخية. تنبع أهمية صوت لويس من أمرين مهمين، أولهما انه درس التاريخ العربي دراسة معمقة وألف فيه كثير من الكتب والدراسات ذات الشأن من الناحية العلمية والمعرفية، وثانيهما تأثير موقعه الفكري في السياسة، فهو من الدائرة الفكرية الضيقة التي تقدم المشورة للحكومة الامريكية الحالية في تعاملها مع القضايا العربية والاسلامية، ومن هذا المنظور فإن الاستماع اليه يحمل أهمية مضاعفة فيما يتعلق بفهم المحركات الفكرية لطبيعة هذا التعامل، وهي محركات تخفى على الراصد للسياسة وتفاعلاتها المباشرة حيث يتم انتزاعها من إطارها التاريخي الأشمل.
قرأت اسم برنارد لويس أول مرة في كتاب "الاستشراق" لادوارد سعيد، حيث اتهمه ادوارد سعيد بأنه يمثل احدى قمم العداء للعرب والمسلمين في مؤسسة خطاب الاستشراق ووصف كتاباته بأنها تدعي الانتماء الى الكتابة التاريخية الليبرالية الموضوعية بينما هي في حقيقة الأمر اقرب الى الدعاية الاعلامية التي يشنها الكاتب على الاسلام والعرب وانها تفيض عنصرية بغيضة تتقنع بقناع البحث التاريخي الموضوعي. ويقول سعيد ان لب ايديولوجية لويس حول الاسلام هو انه [اي الاسلام] لا يتغير على وجه الاطلاق، وكل رسالته هي تعريف العناصر المحافظة في الجمهور اليهودي القاريء خصوصاً، وكل من يستمع له على وجه العموم، ان اي تفسير سياسي وتاريخي وبحثي للمسلمين لا بد أن ينطلق وأن ينتهي عند حقيقة ان المسلمين مسلمون، اي ان هناك أمراً جوهريا في أصل الاسلام يجعل من وضع المسلمين الحالي كما هو، وهو وضع غير قابل للتغير.
بعد التعرف على برنارد لويس من خلال ادوارد سعيد، قرأت بعض كتبه (التي لم يترجم أغلبها الى العربية) ومقالاته التي نشرتها كثير من المجلات الامريكية والبريطانية. ومن المقالات التي لا قت ذيوعاً في الغرب مقال يحمل عنوان "جذور الغضب الاسلامي" نشر في عدد سبتمبر 1990 في مجلة "ذي أتلانتك" الامريكية. في هذا المقال يتتبع لويس أسباب الغضب اللاهب في قلوب كثير من المسلمين والذين يجد تجلياته، حسب رأيه، في الجماعات الاصولية المتشددة، ويناقشها، سبباً سبباً، مناقشة تفصيلية ليخلص ان الظروف والاحداث السياسية والاقتصادية المباشرة ليست هي الاسباب الحقيقية لهذا الغضب بل ان لهذا الغضب "جذوراً" تاريخية تتعلق بهزيمة العرب والمسلمين عموماً أمام الغرب الذين كانوا قد استعمروه حيث وصلت جيوش العثمانيين الى قلب أوروبا (بل انها وصلت حتى ايسلندا عام 1627).
يتحدث لويس دائماً عن حدثين مفصليين في تاريخ علاقة الاسلام بالعالم الخارجي عموماً وبالغرب على وجه الخصوص، أولها فشل العثمانيين في احتلال فيينا بعد حصارها عام 1683، وثانيهما احتلال مصر من قبل قوة فرنسية صغيرة يقودها نابليون بونابرت عام 1789. الحدث الاول كان هزة للمسلمين حيث ادركوا ان الغرب قادر على ايقاف تقدمهم وهزيمتهم وهو ما أدركه المؤرخ التركي سلحدار محمد أغا الذي وصف هذه الهزيمة بأنها "هزيمة كارثية" لم تشهد لها الامبراطورية العثمانية مثيلا لها قط. اما الحدث الثاني فقد علمهم ان الغرب لا يهزمهم فقط في قلب اوروبا بل انه قادر ان يحرك قواته وان يحتل قطعة في قلب الاسلام ذاته هي مصر، كما علمهم ايضاً ان قواهم المحلية لا تستطيع تحرير ارضهم بل ان هذا العدو الاجنبي لا يخرج من أراضيهم الا بيد عدو أجنبي آخر. تأثير هذه الاحداث الجسام توج في الزمن المعاصر بالتأثير الهائل الذي خلفه انتصار الغرب في كل المجالات السياسية والعسكرية والعلمية مما أدى الى تفاقم المرارة الاسلامية، وبحسب برنارد لويس كان المسلمون يسعون الى الحفاظ على بعض الاستقلالية باللعب بين توازنات القوى الغربية المتنافسة غير ان سقوط الاتحاد السوفيتي جعلهم بمفردهم أمام امريكا فما كان امامهم الا الرد على الغرب بإستخدام قواهم الذاتية وهو ما تجلى في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001.
ومن القضايا التي يركز عليها لويس دائماً ضرورة تقديم الغرب العون للديمقراطيات العربية والاسلامية، فيقول في مقال له عنوانه "ثورة الاسلام" (نشر في نوفمبر 2001 في مجلة "ذي نيو يوركر") انه يوجد في بلدان عربية كثيرة "أفراد يشاركوننا قيمنا ويتعاطفون معنا ويرغبون في ان يشاركوننا في نمط حياتنا. ان هؤلاء الافراد يفهمون الحرية ويرغبون في ان يستمتعوا بها في بلادهم" ولهذا فإن على امريكا ان لا تعوق مثل هؤلاء الافراد في مسعاهم هذا لنشر هذه القيم ذلك انهم ان وفقوا في هذا المسعى فإنهم سيكونون أصدقاء وحلفاء حقيقيين وليسوا اصدقاء وحلفاء في المستوى الدبلوماسي فحسب.
في محاضرتيه اللتين ألقاهما في جامع السلطان قابوس الأكبر في مسقط تحدث لويس عن ذات الافكار التي لخصتها أعلاه، كما تحدث عن الفهم المختلف للتاريخ بين العرب والغرب، ففيما يرى الغرب ان التاريخ أمر قد انقضى وان المستقبل هو ما ينبغي ان يشغل المجتمع به نفسه فإن العرب والمسلمين على وجه العموم يرون التاريخ أمراً حاضراً يتمثل أمامهم دائماً، وهو ما يتسبب في كثير من المشاكل السياسية المعاصرة. تحدث أيضا عن الدولة والاسلام وذكر بعض الظواهر التي يمكن تفعيلها لبناء نوع من الديمقراطية التي تنبع من التاريخ العربي ذاته كفكرة الحكم المحدود الذي يقوم على مباديء اسلامية مثل "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" وفكرة الشورى وغيرها. وخلاصة المحاضرتين هو ان العرب ان ارادوا النهوض فإن عليهم ان يتحركوا بأنفسهم ومن خلال تاريخهم الخاص دون ان يتم فرض ديمقراطية غربية صرفة عليهم، ذلك ان هذه الديمقراطية نبتت في تربة غربية تختلف تاريخيا عما شهده العالم العربي والاسلامي من تطورات تاريخية ونظم حكم تختلف جذرياً عما عرفه تاريخ الغرب.
برنارد لويس مؤرخ كريه لدى الغالبية ا لعظمى من المثقفين العرب بسبب مواقفه الفكرية والسياسية، والقاريء لكتبه ومقالاته لن يجد الكثير الذي يجعله يأمن لهذه المواقف خصوصاً فيما يتعلق بقضايا تراها الثقافة العربية أبرز محركات عملية التفاعل السياسي والفكري مع الغرب مثل قضية فلسطين. جزء كبير من المشكلة التي تبرز حين نستمع او نقرأ لمثل برنارد لويس لا يكمن فيما يقوله من فكر ورؤى تاريخية بل في افتراض كثير منا انه ينبغي ان يُسمعنا ما نريد، وفي افتراض أخطر منه وهو ان بيديه هو الحل لمشاكلنا. الثقافة العربية ينبغي ان تدرك أمراً أصبح إغماض العين عنه مشاركة في الوضع الحضاري الخطير الذي نعيشه وهو انه ليس بيد برنارد لويس وسواه من مفكري الغرب وصفة سحرية للنهوض الحضاري العربي، كما ان على الثقافة العربية كذلك ان لا تجعل لب همها الجدل حول عنصرية زيد او عمرو ويمينيته بل ان تركز على فعلها الحضاري الداخلي، أي التوصل الى اجابة تقوم على رؤية عقلية هادئة على السؤال "ها نحن قد وصلنا الى هذا المأزق الحضاري فإلى اين نمضي من هنا؟"، وكما قال برنارد لويس في نهايتي محاضرتيه (ما معناه) "ما ستفعلونه للخروج من هذا المأزق أمر متروك لكم، لكم وحدكم".