الفلسفة والأمل الاجتماعي
عبدالله الحراصي
يتحدث الكثير من الكتاب والمفكرين العرب عن ضرورة الحوار مع الغرب ومع أمريكا على وجه الخصوص، غير ان هذا الحوار يختزل في أغلبه في الحوار السياسي والديني ولا يتجاوزه الى حوار مع فلسفة الحياة الامريكية، أي ان القليل فقط يغوص الى أعماق هذه الحياة فيتتبع خيوط السياسة الى الفلسفات الفاعلة في هذه الحياة. ورغم محورية دور الجانب السياسي حالياً في تحديد كنه هذا الحوار ومستوياته الا ان السياسة وما تخرجه عبائتها من حروب ومواقف لا تخلو من العداء والعنف السافر عسكرياً واقتصادياً بل وحتى فكرياً هي الا إنعكاس لفلسفة يسير على هديها المجتمع الامريكي، وينبغي قبل أي حوار فهمها لكي تتوفر كل أركان الحوار، وحتى نفهم الأسباب الأكثر عمقاً لمواقف تكتسح آثارها كثير من مظاهر حياتنا ومستقبلنا. أعني هنا ان غياب الوعي بفلسفات الحياة في أمريكا فإن فهمها وفهم مواقفها سيظل أمراً غير مكتمل.
وأهم الفلسفات الفاعلة في الحياة الامريكية هي بطبيعة الحال الفلسفة الذرائعية (التي تسمى أيضا "البراجماتية") التي ترى ان الحقيقة لا تكمن في الصدق المجرد لأمر من الامور وأخلاقيته بل في مدى نفعه للإنسان وإمكانية إعمال الفكر لفائدته، ولهذا كان السعي نحو المصلحة هو الأساس الذي يميز هذه الفلسفة. سادت هذه الفلسفة، كما تذكر دائرة المعارف البريطانية، أمريكا على وجه الخصوص في الربع الأول من القرن العشرين فظهرت أبعادها في كثير من مظاهر حياة الانسان ونظمه كالقانون والتعاليم والسياسة والمجتمع والفن والدين. وتقوم أساساً مجموعة من الاطروحات الاساسية، أولها ان الافكار ينبغي ان ترتبط بالأعمال، وان لا نفع لأي فكرة ما لم يتم إثبات عمليتها، وفي الإطار العملي فإن على الانسان ان يستغل التغير الذي لا بد وأن يقع نتيجة لأي فعل لفائدة ما على الصعيدين الشخصي والاجتماعي. معنى هذا ان هذه الفلسفة ترفض التفكير المجرد الصافي الذي لا نفع منه. الاطروحة الثانية هي ان الذرائعية استمرار للفلسفة العملية النقدية التي ركزت على أولوية التجربة الحقيقية على المباديء المجردة، فالمهم ليس الحديث عن أخلاقيات ومباديء فكرية مجردة بل ارتباطها وثبات نفعها من خلال التجربة. الاطروحة الثالثة هي التعريف الذرائعي للأفكار، فالفكرة ذات المعنى هي تلك التي يمكن استخدامها وتطبيقها عملياً، ولهذا فإن اي فكرة (وعلى الأخص الفكرة الميتافيزيقية المتجاوزة) لا يمكن ان يوجد لها تطبيق عملي نافع ليست فكرة ذات معنى. الاطروحة الرابعة تتعلق بقضية صدق الافكار، فالفكرة الصادقة ليست تلك تصف واقعاً ما وصفاً دقيقاً، بل تلك التي تثبت قابليتها للتطبيق، ولهذا فإن الحقيقة هي بحسب هذه الفلسفة هي تلك التي "تعمل" وكل فكرة لا يمكن تطبيقها عملياً فليست فكرة حقيقية. وهذا يرتبط بالاطروحة الخامسة التي تفيد بأن الافكار ليست وصفاً لحقيقة مجردة، بل ان الفكر وسيلة وأداة لتحقيق هدف عملي، وهو ما يقضي على الفكر المجرد "الصافي".
هذه المقدمة حول الفلسفة الذرائعية تقودني الى الكتاب الذي أود الحديث عنه وعنوانه "الفلسفة والامل الاجتماعي" ومؤلفه هو فيلسوف امريكي ذرائعي معروف اسمه ريتشارد رورتي، وصدر عن دار بنجوين الشهيرة عام 1999. من المعروف عن رورتي عدائه الشديد للفكر الميتافيزيقي المجرد الذي لا يرتبط بنفع وفائدة عملية للانسان والمجتمع، وهذا الكتاب يحوي مجموعة من المحاضرات العامة التي ألقاها رورتي في غير مكان وعلى مقالات كتبت للقاريء العام وليس الفيلسوف المتخصص. سأحاول في هذا المقال ان استعرض بعض الافكار التي طرحها رورتي في مقدمة كتابه، وهي مقدمة توجز فكر رورتي وأهم الفروق بين الفلسفة الذرائعية والفلسفات الاخرى.
يبدأ رورتي مقدمته بحديث عن الفيلسوف "النسبي" اي ذلك الذي لا يعتقد بوجود حقيقة للفكر الميتافيزيقي المجرد، ويسمى الفلاسفة نسبيين حينما يرفضون التقسيم الفلسفي الشهير بين حقيقة الاشياء كما هي وبين العلاقات بينها وبين اشياء اخرى، وعلى الاخص حاجات الانسان ومصالحه، وهذا يستدعي طبعاً الحديث عن الاختلاف بين الفلسفة الذرائعية التي تربط الحقيقة بالمنفعة والفلسفات الموضوعية التي ترى ان حقيقة الاشياء كامنة في ذاتها وليست بالضرورة في مدى نفعها للانسان، ففضيلة "الصدق" على سبيل المثال صادقة في ذاتها على وجه الاطلاق، ولا علاقة لصدق هذه الفضيلة بنفعها أو ضررها على الانسان في حالاته المحددة، ولهذا فإن على الانسان ان يسعى الى تطبيق هذه الفضيلة في كل ظرف ومكان. أما الفلاسفة النسبيون والذرائعيون مثل رورتي فيرون ان علينا ان نرفض مثل هذه المعتقدات المتجاوزة للواقع البشري الملموس حول صدق الاشياء والافكار، فلا فائدة من فضيلة الصدق الا اذا ثبت نفعه وفائدته للانسان وليس لانه يحمل قيمة صادقة في ذاته. غير ان رورتي لا يرى الخطأ الكلي للفلسفات الموضوعية، فربما كانت هذه الفلسفات ذات جدوى فكرية في الماضي لكنها بكل تأكيد تخلو من الفائدة حالياً. يبسط رورتي هذا يقوله بأن "اجدادنا تسلقوا سلماً نحن الان في وضع التخلص منه، وسنرميه بعيداً ليس بسبب اننا قد وصلنا الى المكان النهائي الذي نود الوصول اليه بل لأن لدينا مشاكل أخرى يتوجب معالجتها تختلف عن المسائل التي حيرت أسلافنا".
بالنسبة للانسان يرى الذرائعيون عدم محورية عقل الانسان كموصل للحقيقة بل يفضلون، كما يقول رورتي، التفسير الدارويني الذي يرى في الانسان حيواناً يبذل أقصى جهده في التعامل مع البيئة بإنتاج أفضل الوسائل التي تمكنه من العيش بأقل قدر من الالام وبأكبر قدر من المتع. واعتبار الافكار أدواتاً من أهم الطروحات التي يتعرض لها الكتاب، فبالنسبة للمعتقدات لا حديث لدى البراجماتيين عن صدقها الجوهري الذاتي بل ان السؤال الصحيح يتحول الى التالي "لأي غرض سيكون الايمان بهذا المعتقد مفيداً؟"، وهو تساؤل لا يختلف كثيرا عن السؤال عن نفع أمور مادية بسيطة كفائدة تحميل برنامج جديد الى جهاز حاسوب. النفع هو الاساس في استغلال الانسان لكل شيء سواء كان هذا الشيء معتقداً ايمانياً او فكرياً او شيئا مادياً صرفا. وهو ما يقود رورتي الى القول بأن الفرق بين الاسلاف الذي يعتقدون بصدق المعتقدات، بغض النظر عن فائدتها، وعن الذرائعيين هو ان الاخيرين يرون ان اي معتقد قد يصبح معتقدا حقيقياً، لا لوجود حقيقة كامنة فيه، بل لأنه لا يوجد معتقد بديل بحسب علمنا أكثر فائدة منه.
يرفض البراجماتيون هذا بطبيعة الحال، فهم يرفضون قضية الحقيقة المجردة من النفع، بل ان رورتي يمضي الى مدى أبعد حين يقول ان اي بحث يهدف الى التوصل الى اتفاق بين بني البشر حول ما ينبغي فعله وللوصول الى اجماع حول الاهداف التي ينبغي الوصول اليها وحول الادوات التي ستستخدم للتوصل الى هذه النتائج، وأن اي محاولة للبحث خارج اطار المنفعة هذا ليست الا لعباً بالكلمات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق