الفلسفة الذرائعية والأمل الاجتماعي (2)
عبدالله الحراصي
تحدثت في الاسبوع الماضي عن اهم اطروحات الفلسفة الذرائعية من خلال عرض لبعض أفكار مقدمة كتاب الفيلسوف الامريكي المعاصر ريتشارد رورتي "الفلسفة والأمل الاجتماعي"، وانتهيت بالقول ان هذه الفلسفة، رغم عدائها الصريح لأي "حقيقة" تتجاوز المنفعة البشرية، الفردية والجماعية، تقدم نفسها على انها تسعى حثيثة نحو غاية كريمة هي تعظيم سعادة الانسان والتقليل من آلامه. وهنا أود الاشارة الى أمر حاسم يعين على فهم اطروحات الفلسفة الذرائعية ورؤيتها للأمل الاجتماعي وهو ان هذه الفلسفة تنتمي الى الفلسفات التي يشار اليها على انها "لا جوهرية" واطروحاتها تضاد اطروحات المدارس الفلسفية "الجوهرية". ترى الفلسفات "الجوهرية" ان في الكون جوهر خارج نطاق الانسان وان الانسان، من خلال التأمل العميق، يستطيع ان يتوصل الى هذا الجوهر الخارجي، كما ترى ان المباديء الاخلاقية لها جوهر حقيقي منفصل عن الأوضاع الانسانية المتغيرة، أما الفلسفات "اللاجوهرية" فترى ان لا جوهر خارج نطاق الانسان وترى استحالة التوصل الى "الحقيقة" من خلال العقل البشري، لأن تلك "الحقيقة" غير موجودة أصلا، كما انها لا ترى وجود قيم أخلاقية منفصلة عن واقع الانسان المتغير.
وإذا عدنا للفلسفة الذرائعية فإن السؤال الذي يبزغ عند الحديث عن جوهرها المنفعي هو التالي " كيف يمكن التوفيق بين السعي نحو منفعة الانسان وتحقيق سعادته في جانب والتخلي عن القيم الانسانية بإعتبارها حقائق موضوعية من جانب آخر؟" سأتقصى بعض جوانب الاجابة على هذا السؤال من خلال استعراض أفكار رورتي في الفصل الرابع الذي يحمل عنوان "الاخلاق بلا مباديء" حيث يتوسع رورتي في الرؤية الذرائعية التي لا ترى وجود قيم أخلاقية عليا تحكم، او ينبغي ان تحكم، السلوك الانساني، وان السعي نحو المنفعة يكفي ليحل محل أي قيم ذات طابع ميتافيزيقي.
يعود رورتي في هذا الفصل الى أحد أعمدة الفكر الذرائعي وهو الانطلاق من اطروحة دارون التي ترى ان الانسان مرحلة من مراحل التطور الحيواني، ويؤكد هنا على الخطأ الفكري الذي وقع فيه، حسبما يرى، فلاسفة الاغريق (وعلى الأخص افلاطون وأرسطو) الذين اعتقدوا ان ثمة فرق جوهري بين الانسان والحيوان، حيث رأوا ان الحيوان يعيش وسط عالم يتعامل معه بحواسه، فيما لدى الانسان العقل الذي يستطيع به اختراق حجب الحواس ورؤية الحقيقة كما هي. على عكس هذا يرى رورتي والذرائعيون عموماً ان أي نشاط عقلي ليس الا مسعى يقوم به الانسان للتكيف مع العالم من حوله، وهذا المسعى مظهر من مظاهر عملية التطور الكبرى التي يتحول فيها الانسان من مرحلة معينة الى مرحلة أفضل منها. وهنا فإن البحث العقلي لا يهدف للوصول الى أي حقيقة علمية كانت او أخلاقية، كما ينعدم هنا اي فارق بين ما هو "حقيقي" وما هو "نافع"، فكل "حقيقة" يصل اليها الانسان هي تعبير عن أمر "نافع" يستطيع به التأقلم مع العالم من حوله.
ويتطرق هذا الفصل لقضية "حقوق الانسان غير المشروطة" اي تلك الحقوق التي لا تتأثر بشرط حياتي معين او غيره بل تعلو على كل الظروف الانسانية المتغيرة زماناً ومكاناً. يرى رورتي ان اعتقاداً بوجود مثل هذه الحقوق اعتقاد لا جدوى من وراءه، فالحديث عن هذه الحقوق يشبه الحديث عن "شرف العائلة" او "الخطر الذي يتهدد الوطن" حديث في انه نقاش حول قضايا لا تنفع ان تكون محاور تحليل فلسفي، ذلك انها مواضيع "منتهية" لا جدوى من التفكير فيها لأنها مواضيع مبتوت فيها ومن يعتقدها لا يرى أي ضرورة لأي حوار فلسفي يتقصى جوانبها. يرى رورتي ان القضية المحورية التي تتخفى خلف قضية "حقوق الانسان" هي ما اذا كانت المجتمعات تقبل الافراد المختلفين فيها ام انها تقصيهم، فهل المجتمع متسامح يقبل بالأجنبي ان يعيش بين أفراده ويقبل بالافراد المختلفين عن الأغلبية ان يمارسوا حياتهم فيه بيسر ودون عائق ما أم انه مجتمع يقوم على الانسجام الاجتماعي الذي لا يقبل المختلف الاجنبي او الداخلي؟ والاجابة على هذا السؤال لا ترتبط بطبيعة الحال بأي قيمة عليا حول حقوق الانسان بل بتطور المجتمع ذاته ورؤيته لنفسه وللآخرين. وهنا يتخذ رورتي موقفاً عملياً في قضية حقوق الانسان فيرى ان أهم امارات هذه الحقوق ان أردنا التقدم بإتجاهها حقيقة تتمثل في "ان نتوقف عن التدخل في أمر زواج ابنائنا وبناتنا لأسباب تتعلق بالاصل القومي او الدين او العرق او المستوى المادي للطرف الذين يرغبون الاقتران به"، اي ان رورتي لا يود الدخول في القضايا المجردة التي لا تجدي الانسان ولا المجتمع نفعاً حول حقوق الانسان المنبتة عن أي واقع حقيقي، بل يربطها بقضايا معاناة الانسان الموجودة حقيقة.
يناقش رورتي أنصار البحث عن أساس عقلاني لموضوع "حقوق الانسان غير المشروطة" فيسألهم عن الأمر الذي يشترك فيه كل البشر، فيرى انه ان كان المشترك بين البشر هو الشعور بالألم كما يرى الكثيرون فإن هذا يقتضي "ان حماية الارانب من عدوان الثعالب هو أمر يساوي في أهميته حماية اليهود من عدوان النازيين" ذلك ان الارانب تشعر بالالم من وحشية الثعالب أيضاً. اما اذا كان العقل هو المشترك بين بني البشر فإن رورتي يرى ان المظهر الذي يتم ادراك العقل به ليس الا اللغة، فبها نعبر عن "العقل"، وهنا يقول رورتي ان اللغة الانسانية كما تعبر عن المشترك بين بني البشر فإنها تعبر كذلك عن الرفض لهذه المشتركات، حيث نجد اللغة العنصرية على سبيل المثال التي لا ترى الحق الا عند أصحابها. وهنا يقترح رورتي رؤية لا تركز على المشتركات بين بني البشر بل على ضرورة تعايش اختلافاتهم، ويفضل رورتي منطلقاً آخر للأمل الانساني يتمثل في التركيز على "قدرتنا على جعل الامور الصغيرة التي تفرق بيننا تبدو غير ذات أهمية- وهذا لا يتم بمقارنتها بذلك الشيء الكبير الذي يوحدنا بل بمقارنتها بأشياء صغيرة أخرى."
هذه الفلسفة، التي لا تتمحور على ربط الانسان بجوهر متعال يجعل الانسان انساناً وغيابه يجعله حيواناً غير ناطق، لا تنطلق من العقل بل من الوجدان، وترى ان السعي نحو التقدم الفكري والأخلاقي لا يعني بحال من الاحول الاقتراب من "الحق" او من "الخير" بإعتبارهما جوهرين متعاليين منفصلين عن الانسان ذاته، بل ان هذا السعي هو "زيادة في القدرة التخيلية"، وهذا يعني ان الخيال هو آخر مراحل تطور الانسان من حالته السابقة بحسب النظرية الدارونية، وهذا الخيال، حينما يعيش في أمن وسلام ورفاهية، يستطيع ان يجعل من الحاضر أكثر ثراء وحيوية من الماضي، ويضيف "ان الخيال هو مصدر الصور العلمية الحديثة للكون الفيزيائي وكذلك فإنه هو مصدر التصورات الجديدة للمجتمعات الانسانية التي يمكن ان توجد. الخيال هو الامر المشترك بين نيوتن والمسيح وبين فرويد وماركس، انه القدرة على اعادة وصف الامر المألوف بعبارات غير مألوفة."
تتمثل الاجابة على السؤال المتعلق بكنه الأمل الاجتماعي الذي تطرحه الفلسفة الذرائعية في ان هذه الفلسفة، برفضها القيم الاخلاقية المكتملة والحقائق الميتافيزيقية حول الانسان، ترفض السكون واليقين وتفتح للإنسان، كما يقول رورتي، أبواب أمل لا تحده حدود. معنى هذا ان هذه الفلسفة تطرح تجاوز الواقع والسعي نحو الأنفع للإنسان إنطلاقاً من ظروفه المباشرة فرداً او جماعةً وليس سعياً وراء مثال ميتافيزيقي متوهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق