الأربعاء، 29 أكتوبر 2003

المرأة والكتابة



المرأة والكتابة

عبدالله الحراصي

[يمكنك الحصول على النسخة الأصلية هنا]



يعد اختراع الكتابة نقطة تحول كبير في تاريخ البشرية بإتجاه توثيق الفعل البشري في وسيلة توصيل للأفكار أكثر بقاء وتأثيرا من وسائل التوصيل الاخرى. كانت هناك أشكال متعددة للكتابة كاستخدام التصوير والحروف غير انها كلها ارتبطت دائماً بالسلطات بأشكالها، فأقدم الكتابات والنقوش توجد في الصروح التي ترتبط بالسلطة الدنيوية والدينية كالمعابد والقلاع والقصور وسواها. وارتباط الكتابة بالقوة الاجتماعية بهذا الشكل يعني أن الكتابة كانت تُهمِّش ايضا الغالبية التي لم تكن تستطيع ولم يسمح لها بتوثيق التعبير عن ذاتها. غير ان على المرء ان يتذكر كذلك ان هامشية المرأة كانت هامشية مضاعفة، ففيما ارتبطت الكتابة بالسلطة والقداسة والعقل وتجاوز المحسوس المباشر الى التجريد تمحورت النظرة الى المرأة على انها تمثل النقيض المباشر لكل ما تمثله الكتابة، فالمرأة تمثل العاطفة والمادة والمحسوس، وهكذا كان ابتعادها عن الكتابة هو الامر الطبيعي في زمن سيادة هذه الرؤى الاجتماعية التي لم تسع المرأة الى إثارة التساؤل حولها والتشكيك في مشروعيتها.

غير ان ما شهدته عملية الكتابة نفسها في العصور المتأخرة من تطورات تقنية جعلت النشر في متناول الجميع فتحت أبواباً كانت موصدة أمام المرأة للتعبير عن نفسها وإثبات حضورها في التاريخ، ولعل في ظهور المطبعة والثورة الالكترونية المعاصرة أبرز الامثلة على تلك التطورات التي مكنت المستضعفين من البشر (كالطبقات الاجتماعية الدنيا والفقراء والنساء والأقليات العرقية على سبيل المثال) من رفع أصواتهم ونشر آرائهم في المجتمع مما أدى، من بين تأثيرات عوامل أخرى، الى حراك اجتماعي وثقافي ضخم شهدته المجتمعات البشرية، وهي تغييرات بدأت في الغرب غير انها سرعان ما انتشرت الى شتى بقاع الأرض ومنها العالم العربي.

غير ان قرار المرأة العربية الكتابة لم يكن قرارا يسير الممارسة ولم يكن يسير العواقب كذلك. يشير محمد برادة (استاذ جامعي مغربي) في مقال له عن المرأة والابداع الى ظهور صوت "الأنا العميق" للمرأة التي عقدت العزم على استغلال الكتابة لمساءلة الاوضاع الاجتماعية التي تهمشها أو تلغيها، ويشير برادة الى نموذجين لكاتبتين عربيتين تمكنتا من تأكيد حضورهما الكتابي وسط المجتمع الكتابي الرجالي، هما مي زيادة وليلى بعلبكي. لم تدعُ مي زيادة الى "كتابة نسائية" غير ان لغتها وحساسيتها وتعاملها مع من عاصرها من الكتَّاب والشعراء بحرية غير مألوفة جعلت مجتمع الرجال يلفظها مما أدى بها الى ان تنزوي عن الحياة "وهي تشارف الجنون"، أما ليلى بعلبكي فقد حوكمت بعد ان أصدرت مجموعة قصصية عنوانها "سفينة حنان الى القمر" عام 1964 بتهمة انتهاك قيم المجتمع وأعرافه وخصوصاً فيما يتعلق بالجنس، غير ان المحاكمة، كما يشير برادة، تعبر عن ضيق المجتمع الذكوري التقليدي بالمرأة التي تثير الاسئلة عن وجودها الفردي والاجتماعي.

وفي هذا السياق تنبغي الاشارة الى مفهوم ملتبس يتعلق بممارسة المرأة للكتابة هو مفهوم "الكتابة النسائية" او "الكتابة النسوية" وهو مفهوم تتبناه كثير من الكاتبات والنقاد للإشارة الى ما تنتجه المرأة من كتابة، وهو مفهوم أرى ان على المرأة نفسها ان ترفضه، فالكتابة هي الكتابة، وأحرف كتابة المرأة هي نفسها أحرف كتابة الرجل برغم ما يمكن ان يوجد من اختلاف اهتمامات ومواضيع كل منهما، هذا من جانب، اما من الجانب الآخر وهو الأخطر فإن هذا المفهوم يثبت الوضع التقليدي الذي يضع المرأة على هامش الحياة الانسانية، بإعتبارها كائنا مختلفا ينبغي ان نضع لكتابته أطرا مختلفة عن السائد في الكتابة، أي الكتابة الذكورية، وإلا لم لا يشار الى كتابة الرجل بإعتبارها "كتابة رجالية"؟!! أَضف الى ذلك ان هذا المفهوم يجعل من كتابة المرأة ظاهرة اجتماعية منزوعة الابداع، فكل نص كتبته انثى يمكن ان يوضع في إطار "الكتابة النسائية" دون تمييز تفضيلي بين كتابة امرأة وكتابة أخرى. ما تحتاجه المرأة الكاتبة هو تأكيد حضورها الابداعي في التاريخ لا تأكيد أنوثتها إزاء الرجل فحسب.

هنا تنبغي الاشارة الى ذلك الستار الفولاذي الذي يفصل بين ممارسة المرأة المبدعة للكتابة ذاتها والنشر، فهناك كثير من النساء المبدعات اللاتي يكتبن ولكن يمتنعن عن نشر ما يكتبن بسبب انهن لا يردن ان يعرف المجتمع عن كتابتهن، وهي ظاهرة ينبغي التوقف أمامها ملياً، حيث ان المانع في كثير من الاحوال هو المجتمع الذي ما زال يرى في المرأة امتدادا ينبغي ان يظل خفيا للرجل وان قيامها بنشر عمل ادبي ما في جريدة او مجلة سيكشف هذا الامتداد الخفي أمام المجتمع. كما ينبغي الالتفات الى ظاهرة اخرى تتمثل في رد فعل المجتمع نفسه في حالة ان اقدمت امرأة على نشر قصة او قصيدة ما، وهي ردود فعل قد تكون خطيرة أحياناً مثل الضغوط النفسية والاجتماعية التي تتعرض لها المرأة من قبل اسرتها أو مجتمعها، بما يتبعه من تدخل في طرق معالجتها لبعض القضايا التي لم يألف المجتمع إثارة التساؤل حولها والدعوة الى رفضها، وقد تكون ردود الفعل تلك أقرب للفكاهة أحياناً، كأن يغار زوج قاصّة او روائية من الشخصيات الرجالية التي تظهر في قصتها او روايتها، وهو ما يعني فرض قيم المجتمع السلبية التقليدية حتى على العمل الكتابي الذي هو في الأصل رفض لتلك القيم.

وإذا خصصنا الحديث عن عمان لوجدنا ان عام 1970 كان نقطة تحول محورية في علاقة المرأة العمانية بالكتابة، حيث فُتِحَت المدارس على أوسع نطاق ودعت الدولة المجتمع الى تعليم الانثى، وهي دعوة مثلت هزة كبرى لمجتمع لم يتعلم الكتابة فيه من الذكور الا ذوي النفوذ وعلماء الدين، كقاعدة عامة، رغم وجود استثناءات هنا وهناك. تردد المجتمع في تعليم المرأة قليلا لكنه حسم أمره لاحقاً فدخلت الانثى المدرسة وتعلمت الكتابة. غير ان المرأة بالرغم من هذا غابت عن الكتابة الابداعية، او لنقل ان غيابها كان اكثر بروزا من غياب الرجل، ولعل مما ساهم في هذا ما قُدِمَ على انه "تشجيع" لكتابة المرأة لكي "تشارك أخيها الرجل" في "النشاط الأدبي والثقافي"، وهذه الممارسة هي نوع من "الاستطفال" (التعامل مع شخص ما بإعتباره طفلا تعوزه التجربة) للمرأة، فلا ينبغي تشجيع أحد على الكتابة، ذلك ان الكتابة قرار وجودي في تاريخ المرأة وعلى المرأة القادرة ان تتخذه بنفسها دون تشجيع من أحد، وما حدث ان هذا التشجيع قد أدى الى ظهور نصوص أدبية نسائية غاية في الركاكة والتهلهل اللغوي والابداعي عموماً تم تقديمها للمجتمع على انها نصوص تحمل شعلات إبداعية حقيقية.

لا أرى ان مثل هذه الكتابات هي التمثيل الحقيقي لحضور المرأة في التاريخ وليست التعبير الملائم عن رفض المرأة لقيم التغييب والاقصاء التي ترسخت في بنى المجتمع لقرون عديدة. على المرأة ان تكتب، ولكن المرأة التي تكتب ينبغي ان تكون تلك المرأة التي تشعر ان كتابتها تغيير ودعوة للتغيير في آن واحد.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق