عبدالله الحَرَّاصي
نشر الأستاذ خميس بن راشد العدوي مقالا بعنوان "الموسيقى والفكرة" في ملحق شرفات بهذه الجريدة (جريدة عمان) يوم الاثنين 2 أغسطس 2010. ومقالي هذا تتبع وتوضيح لبعض الجوانب التي أراها إشكاليّة في مقال العدوي.
سأبدأ بإلقاء ضوء بسيط على مراحل عمليّة التفكير عند خميس العدوي من خلال بعض الإشارات هنا وهناك في مقاله، وخصوصًا في المقدمة، إذ يبدأ الأمر بإشكال معلق في ذهن العدوي يسعى للحصول على إجابة عليه، وتأتي الإجابة بعد “طول التفكير والتأمل” وهو أمر يستمر “طيلة الشهور الماضية” ويتم حلّ الإشكال حينما “يقف” العدوي على حلّ مقنع له. لا مراء في أن هذه المراحل (أي تبيّن الإشكال، ثم التأمل، ثم الوصول للحلّ) هي مراحل إنسانية مشتركة في التفكير وحلّ كثير من المشاكل، غير أن المعضلات تكمن هنا في ما لا يقال، أعني ما يستتر خلف هذه العملية التي تبدو طبيعية. تكمن أهم المعضلات في تحديد الإشكال ذاته، وفي حالة المقال فان الإشكال يكمن في أن العدوي يعتقد بأن الإنسان ينقسم إلى عصب وفكرة، ولا يعتقد بوجود الوجدان منفصلا عند الإنسان، وهو بالرغم من ذلك يرى أن الكثير من الناس يعدّون الموسيقى شأنًا وجدانيًّا بدليل أنها “ترقق الشعور وتغلظه، وتريح البال وتوتره، وتهدئ الأعصاب وتهيجها”، وهو ما يدفع العدوي إلى محاولة فض “التشابك”، كما يسمّيه، بين الفكرة والوجدان.
سأسعى في هذا المقال إلى تفكيك ما يعدّه العدوي إشكالا، لا من خلال تحليل موضوع علاقة الموسيقى بالوجدان وبالفكر ذاته، بل من خلال نقض منهج العدوي في تحديد الإشكالات وفي طريقة حلّها. وسيتم هذا من خلال توضيحي أن رؤية العدوي بأكملها لِمَا يعدّه تقسيمًا للإنسان إنما هي رؤية تقوم على الخيال المجازي الذي ينطلق من خبرتنا بتجزئة الأشياء المادية، كما أُوضِّح أيضًا أن العدوي الذي ينطلق علنًا من أن حلول الإشكالات العقليّة تأتي من خلال “التأمل” الفردي يغرف حينًا من العلم الحديث الذي لم تستكشف دراساته بعض جوانب القضايا التي “يتأمل” فيها العدوي بل أنه (أعني العلم الحديث) قد طوَّرَ علومًا بأكملها لدراسة هذه القضايا، ويظل غَرف العدوي من العلم الحديث انتقائيّا غير منتظم، فلا نحن بتأمل عقليّ منفرد صرف، ولا بتتبع وتطوير لما تحقق من معرفة علميّة في تلك القضايا. ومن أشكال الخلل التي تسبب الإرباك لدى القارئ عند قراءة مقال العدوي هذا عن الموسيقى والفكرة أنه لا يقدم تعريفات لتقييد دلالة الاصطلاحات التي يستخدمها، كما أنه يخلط أحيانًا بين دلالات الاصطلاحات، بل وحتى دلالات الكلمات العادية، خلطًا يُضلِّل القارئ ويؤول به إلى فساد الفهم، ويُعسِّر من تتبع القارئ لتطوير العدوي لأفكاره وصولا إلى ما يطرحه من استنتاجات.
إنسانُ العدوي مجازيٌ خياليٌّ
الأساس الذي ينبغي بيانه وتفكيكه في الحديث عن مقال خميس العدوي "الموسيقى والفكرة" هو فهمه المفترض والمصرح به للإنسان: فما الإنسان؟ ومِمَّ يتركب عند خميس العدوي؟ قبل أن نمضي قدمًا في تقديم إجابات على هذه الأسئلة ينبغي بيان أمر مهم: وهو أن هذه الأسئلة إشكاليّة على مستوى الجوهر، إذ إنها تقوم على أساس فهم مجازي ينطلق من المادة وتفاعلاتها وإدراك الإنسان لها. فكلمة "الإنسان" تشير إلى "مشار إليه"، كما تشير كلمة "قلم" إلى المشار إليه الذي هو الأداة المعروفة التي تستخدم في الكتابة، وكما تشير كلمة "سيّارة" إلى مشار إليه هو الآلة المعروفة التي نستخدمها لننتقل من مكان لآخر.
غير أن الإشكال هنا يكمن في أن كلمة "الإنسان" لا تشير إلى شيء مادي ملموس مقاس متفق عليه، فالإنسان برغم ما يبدو من يسر مفهومه إلا أنه يعسر إدراكه تمامًا لعدة أسباب، أولها أننا نحن الذين نتحدث عن الإنسان ـ ومنهم خميس العدوي والقارئ الكريم أو القارئة الكريمة وعبدالله الحرّاصي كاتب هذا المقال ـ ننتمي كلنا إلى مدلول هذا المفهوم، بمعنى أن كلمة "إنسان" تنطبق على كل واحد منا، والإشكال الواقع هنا هو أننا جزء من الموضوع لا منفصلين عنه مثل انفصالنا عن القلم والسيّارة، وهو ما يعقّد أي محاولة تتطلب الموضوعية في فهم الإنسان، لأن الإنسان هنا هو المُفَكِّر وهو المُفَكَّر فيه في آن واحد، وعدم الانفصال بين المُفَكِّر والمُفَكَّر فيه يربك التفكير والاستنتاج إذ لا مسافة آمنة تضمن تمكننا من الحصول على قدر مقبول من الموضوعيّة، مثل تلك التي يمكن أن نحققها حينما نتحدث عن القلم أو السيارة على سبيل المثال.
والسبب الثاني الذي يعيق مسعى الفهم، إضافة إلى الخلل المتمثل في وِحدَة المُفَكِّر/المُفَكَّر فيه، هو أن مشاهداتنا، إضافة إلى ما توصلت إليه العلوم والمعارف طول تاريخ البشرية تبيّن لنا أن الإنسان ظاهرة شديدة التعقيد، كثيرة العناصر، مركّبة التفاعلات، وهو ما يجعل المحاولات الإجمالية للحديث عن عموميّات ظاهرة الإنسان محاولات اجتزائية لجانب أو لجوانب على حساب جوانب أخرى كثيرة، فالحديث عن الإنسان والموسيقى ستجنب ضرورةً الحديث عن الإنسان والمرض، أو عن الإنسان والزراعة، أو الإنسان والفلك، وهذه محض أمثلة على تعدد أوجه الإنسان، ولا ريب أن هذه التجزئة لجوانب حياة الإنسان تدفع إلى الحصول على معرفة جزئية ضروريةً.
كما أن المحاولة يعتريها خلل آخر يتمثل في "تاريخيتها"، والمقصود بالتاريخية هنا هو أنها تعكس مرحلة من مراحل فهم الإنسان للإنسان، وهذا الفهم هو في مسيرة مستمرة، تقودها كل أشكال المعارف الإنسانية ومؤثراتها من خرافات وعلم ودين وغيره. وهنا فإن الانطلاق من هذه المرحليّة التاريخية للتوصل إلى مطلقات عن الإنسان لا ترتبط بزمن أو بمكان، لهو أمر يحمل الخلل في جوهره، فالمعرفة حول الإنسان ناقصة ضرورةً.
نعود إلى المجاز تفصيلا لنقول بأن اللغة تمارس خداعًا وتضليلا عظيمين ولكنهما مختلفان، إذ توحي الأسماء في اللغة إلى استقرار ما تشير إليه من ناحية إدراكه من قِبَل الإنسان، فكلمة "قلم" تفترض معرفة لدى الإنسان بالعناصر التي تجعل القلمَ قلمًا، وأهم هذه العناصر أنه شيء يمسك باليد لغرض الكتابة، كما أن هناك عناصر أخرى قد تتغير عبر التاريخ مثل الحبر المستخدم وموضع هذا الحبر في القلم، وأنواع الأقلام. وكلمة "حصان" تفترض معرفة مكتملةً لدى الإنسان عن العناصر التي تجعل الحيوان المقصود حصانًا لا حِمارًا أو جملا أو ابن آوى، ومثل هذه المعرفة المكتملة التي تفترضها الأسماء في اللغة تصبح إشكاليّة حين يتعلق الأمر بأسماء لها دلالات غير ماديّة بل معنوية مجردة، وهذا هو شأن كلمة "الإنسان"، إذ أن هذه الكلمة تشير بحسب ما استقر عليه الفهم الدلالي العام والمتخصص إلى أمر معنوي وليس ماديًّا، بعكس كلمات أخرى مرتبطة بالإنسان مثل كلمة "الجسد" التي وإن تقاطعت مع بعض العناصر الدلالية لكلمة "الإنسان" إلا أنها ذات عناصر أكثر تحديدًا لأن مدلولها ملموس وقابل للقياس المتفق عليه.
تأتي الاستعارة المفهومية ـ والتي سأشير إليها في أغلب المواضع في هذا المقال بكلمة "المجاز" لغرض الاختصار ـ لتقدم عونًا للمفكر في محاولة فهم الإنسان. كيف يتم ذلك؟ باستثمار تجارب المواد المادية الملموسة المقاسة في تشكيلِ فهمٍ للإنسان يقوم على تلك التجارب المادية. يتم هذا أولا بفهم الإنسان على أنه "شيء" منفصل يمكن البحث فيه بالتحليل وتتبع العناصر والتفاعلات، وهذا أمر ليس باليسير القطع فيه، فقد أشرت فيما تقدم إلى صعوبة فهم الإنسان للإنسان لأنه هو المُفَكِّر وهو المُفَكَّر فيه في آن واحد، بعكس فهم الإنسان للأشياء المادية، كما أن من العسير تشيئة الإنسان وفصله عن الكون والطبيعة والتعامل معه على أنه حالة منتهية، فهل الإنسان منفصل عن الكون والطبيعة، وهل هو حالة منتهية أم متطورة؟ بمعنى أن الذي يجعل الشيء شيئًا هو انفصاله عن الأشياء الأخرى، فالافتراض بانفصال الإنسان عمّا عداه هو افتراض مجازي يقوم على تعاملنا مع الأشياء المادية. كما أن الحديث عن الإنسان بهذه الصورة يفترض أن الإنسان حالة منتهية يمكن تفحصها، وليس تمثيلا لعمليّة مستمرة التحول. وبطبيعة الحال فإن القطع بأي من هذه الرؤى هو قطع إيماني ينطلق من الأديان ومن الاعتقادات المتوارثة، وقد ينبع ذلك القطع من المعتقدات المنطلقة من بعض النظريات العلمية مثل "نظرية النشوء والارتقاء" التي ترى الإنسان في حالة تطور مستمرة.
كما أن المجاز هو الأساس الذي يقوم عليه التفكير في، والحديث عن العناصر أو الأجزاء المشكلّة للإنسان. لنتذكر في هذا السياق العبارة المأثورة القائلة أن "الإنسان ينقسم إلى روح وجسد". تمثل هذه العبارة تجليًّا للفهم المجازي للإنسان انطلاقًا من فهم الأمور المادية، إذ إن تجربتنا المادية تفيدنا بأن الأشياء تتكون من أجزاء وحين تجتمع هذه الأجزاء بصيغة معينة فإنها تُكوِّن الأشياء، واختلاف الصيغ يؤدي إلى اختلاف الأشياء. قلم الرصاص (العادي) يتكون مثلا من عنصرين أساسيين هما العمود الخشبي الرفيع والجرافيت (وهو نوع من الكربون)الذي يستخدم في الكتابة. أما الإنسان فشأن آخر كما ذكرت أعلاه، إذ أنه ينطوي على جوانب معنوية مجرّدة وليست مادية منظورة ملموسة كالعمود الخشبي والجرافيت في قلم الرصاص، وهنا فإن محاولة تجزئة الإنسان إلى عناصر هي بالضرورة محاولة مجازية تنطلق من معرفتنا بأجزاء الأشياء المادية. إن التجزئة المادية يسيرة المنال من ناحية الإدراك، إذ أن إدراك أجزاء قلم الرصاص بالعين المجردة وباللمس أمرٌ يسير، أما الاعتقاد أصلا بتجزئة الإنسان فأمر مجازي يفترض في المعنوي والمجرد، وهو الإنسان، ما ينسحب على المادي (مثل قلم الرصاص) من وجود الأجزاء، وتكاملها مُشَكِّلةً الكل الذي هو الشيء.
إن محاولةً البحث في العناصر أو الأجزاء المشكلة للكل الذي هو الإنسان هي محاولة لا تتقصى بالفعل والحقيقة أجزاءً حقيقية يتكون منها الإنسان، كما نتثبت بالفعل من أن قلم الرصاص يتكون من عمود خشبي رفيع وجرافيت، بل أنها عملية تصنع الفهم، بمعنى أن السعي لفهم الأجزاء المشكلة للإنسان هو الذي يصنع تلك الأجزاء، ولا يتقصى أمرًا موجودًا حقيقة.
لقد سقت المقدمة السابقة لتكون إطارًا نفهم به تقسيم خميس العدوي للأجزاء المشكّلة للإنسان، وسأحاول الآن تتبع تأثير الفهم المجازي المنطلق من تشيئة الإنسان وتجزيئه في ما طرحه من أفكار حول الموسيقى والفكرة وما يعتري تلكم الأفكار من إشكالات متعددة. نرى الفهم الاستعاري المجزئ للإنسان في ما يبتدئ به الكاتب من تقسيم تقليدي للإنسان إلى فكر ووجدان وعصب. هنا إذًا نجد أنفسنا أمام تشيئة للإنسان وتجزيئه إلى ثلاثة أشياء منفصلة عن بعضها البعض وإن "تفاعلت" معًا. ويمضي العدوي ليقدم تصورًا يختلف عن هذا الفهم التقليدي إذ أن فهم العدوي ثنائي وليس ثلاثيًا، ذلك أنه يقصر تجزئة الإنسان على جزئي الفكر والعصب، وينفي الوجدان، وإن قبل ببعض مظاهره من مشاعر وأحاسيس بنسبتها إلى تفاعل بين عنصري الفكر والعصب. نحن إذًا أمام تقسيم مجازيّ محض لعناصر الإنسان، ولا يمتاز العدوي بشيء هنا إلا أنه اقتصر على عنصرين بدلا من ثلاثة عناصر.
يمضي العدوي وراء هذا الفهم التجزيئي فيفصل فصلا تامًا بين جزئين واضحي المعالم هما العصب والفكر إذ يقول "أما كون الإنسان كائنًا مفكرًا ذا عصب فهو أمر جلي فيما يبدو، إذ الإنسان كائن "مادي" متركب من دم ولحم وعظام، وكائن "معنوي" شكلته الأفكار وتحركه الأفكار تحت قيادة عليا توجد به تسمى العقل". وهذا فصل يمضي وراء المجاز لأنه فيما أن جسد الإنسان مركب حقيقةً من دم ولحم وعظام وبقية الأعضاء فإن القول بالحقيقة يتوقف هنا وتبدأ مرحلة الانسياق وراء المجاز بالقول أن الإنسان "تشكله" الأفكار. المجاز هنا مصدره أن خميس العدوي، ووراءه بطبيعة الحال فهم تقليدي متوارث، ينطلق من أن الأفكار هي أشياء وأن لها تفاعلاً مثل ما نراه ونلامسه في الماديات من تفاعلات، ولذا فإن الإنسان "بناء" يتم "تشكيله" بأعمدة هي الأفكار، وأن هذه الأفكار متمايزة مجازيًّا في وجود مستقل خاص بكل منها مثل الأشياء. كما أن الأفكار تتفاعل كما الأشياء فتتدافع وتقوم بـ"تحريك" الكائن المعنوي تحت "تأثير" العقل الذي هو "القائد".
والجزء الأخير الخاص بـ"قيادة" العقل للأفكار ينطلق مجازيّا من الخبرة المتوارثة من تجربة القائد العالِم الموجِّه الذي يتحكم في الأفراد الذين يقعون تحت سلطته، وهي بطبيعة الحال تجربة تقليدية سلطويّة في القيادة والإدارة، تفترض أن القائد هو فعلا المسيطر على أولئك الأفراد الذين لا يملكون سوى الامتثال لتلك القوة وأمرها. ولم لا وهي كما يقول العدوي "قيادة عليا"؟
وإضافة إلى كشف أوجه المجاز المستتر التي أشرت إليها أعلاه فإن هذا تقسيم لو قبلناه جدلا لغرض متابعة الفكرة لوجدنا أنه تقسيم يفتقد النظم والترابط الفكري الداخلي، إذ إن القول بأن الإنسان فكر وعصب، وتقسيم الإنسان إلى مادي ومعنوي على الإطلاق هكذا لا يطرح العلاقة الوثيقة بين "الدماغ" المادي (أهو عصب؟؟) و"العقل" المعنوي، كما أن الفصل التام بين الجسد المكون من الأعضاء المختلفة والدماغ والعقل هو فصل بدائي للغاية، وإني لأستغرب أن يقدم خميس العدوي على قبوله قبولا تسليميًّا راميًا وراء ظهره بكل توغلات العلم الحديث واستكشافاته في علاقة عناصر الجسم وتفاعلاته بما يحدث في الدماغ من عمليّات معقدة.
يقود هذا التفريق التجزيئي إلى تورط العدوي في البحث عن "موضع" للجزء الثالث في ما يسمّيه التقسيم التقليدي، أعني الوجدان، إذ أنه يرفضه دون أن يشرح الأسباب، ثم يأخذ، جَريًا وراء المجاز، في البحث عن مكانه، إذ يقول "ويبقى السؤال: أين الوجدان؟" ويلاحظ أن المشاعر "لا محلّ لها في عصب الإنسان" وكأن الوجدان والرسائل العصبية والأفكار أشياء تتموضع مكانيًّا، ونسي أن الأين والمحلّ ليستا إلا تفاصيل من صنيعة المجاز ما كانت لتظهر لولا التقسيم التجزيئي للإنسان، ولولا رؤية المجردات، مثل المشاعر، وكأنها أمور مادية تتخذ مكانًا لا بد أن يعيّن موضعه.
والإشكال الذي يحدده العدوي موضوعًا لمقاله ليس إلا نتاجًا للتقسيم التجزيئي القائم على المجاز، فلأن العدوي قرر، دونما تعليل واضح، أن يقبل تقسيمًا ثنائيًّا للإنسان إلى فكرة وعصب، ثم لأنه لاحظ أن الناس يتأثرون وجدانيًّا بالموسيقى، لذا أصبحت المشكلة لديه هي أن الوجدان موجود في مشاعر الناس وليس موجودًا في تقسيمه هو، وأخذ في التأمل المجرد باحثًا عن "موضع" له في هذا التقسيم الثنائي الذي يوحي بأن هذه الأمور المعنوية المجردة موجودة وجودًا حقيقيًّا انفصاليّا استقلاليّا وليست موجودة وجودًا مجازيًّا محضًا.
والحقيقة أننا يمكن أن نأخذ نفس تقسيم العدوي لنقترح عليه أن يتأمل في قضايا شبيهة مثل الذاكرة، فالناس يتذكرون خبراتهم السابقة، وهو ما يسبب إشكالا فأين الذاكرة، أهي في العصب أم في الفكرة؟ أشير هنا على سبيل المفارقة أن العدوي نفسه يستدعي في مقاله الذاكرة، فهو يُذكِّر القارئ في أحد مواضع المقال بما سبق أن قرره في موضع متقدم من المقال فيما يخصّ تأثير الموسيقى على الإنسان بصفته حزمة أفكار. ترى أين يضع العدوي ذاكرته وذاكرة القارئ؟ أهي في جزء العصب أم في جزء الفكرة؟ ثم هل الزمن جزء آخر تم تغييبه بسبب التقسيم الثنائي؟ وإلا لماذا يذكّر العدوي قارئه بما "سبق" أن قرره "سابقًا"؟ وهل الزمن عصب؟ أم أنه فكرة؟ أم أنه إطار يعيش فيه الإنسان؟ أم أنه جزء من وعي الإنسان أو لاوعيه؟. كما أن هناك المحفزات السلوكية المتوارثة والمكتسبة التي تدفع الإنسان إلى مسلك نفسي وسلوكي معين، فأين تقع تلك المحفزات، أفي الفكرة أم في العصب؟ كل هذه أسئلة ما كانت لتظهر لو انتبهنا إلى أننا نتعامل مع قضايا ذهنية معنوية وأن ما نقوم به ليس إلا محاولة فهمها بتقريبها إلى خبرتنا التجزيئية البشرية، وإلا فإن المعضلات التبسيطية مثل هذه كثيرة ولا حدّ لها، و"التأمل" المجرد فيها ليس إلا إضاعة للجهد العقلي فيما لا يتعدى أن يكون نتيجة لفهم قائم على المجاز ثم التعامل معها على أنها نتيجة حقيقية، والحقيقة بعيدة عنها بعد الحقيقة الماديّة عن المجاز المتخيّل.
كما أن الانسياق وراء المجاز التجزيئي للإنسان إلى فكر وعصب يجعل العدوي يمضي أحيانًا وراء ما يفرضه ذلك المجاز من استبساط شديد مخلّ للعمليات الذهنية والعصبية، وليس أدل على ذلك من حديث العدوي عما يدعوه "التشابك" بين الفكرة والعصب، إذ نجد أنفسنا أمام ما يمكن أن يكون سيناريو مختصرًا لفلم يتحدث عن بشر وتعاركاتهم وتعبهم وراحتهم، وليس عن ظواهر وعمليات ذهنية-عصبية كبرى معقدة. يقول العدوي: "واستطرادًا يقتضيه الحال، علينا أن نلحظ بأن التشابك بين الفكرة والعصب عميق جدًا، بحيث إن أي ملامسة من قِبَل الفكرة للعصب تؤثر عليه، حتى أنه بعد برهة من زمن الملامسات وتعددها يحتاج العصب إلى دورة من السبات تعيد له حيويته المزهقة من عراك هذا الملامسات، وأيضًا الأفكار كثيرًا ما توهم العصب بأمور لم تحصل له كبعض من أنواع المرض ونحوه، وفي المقابل، فإن العصب كثيرًا ما يشوش على الفكرة بحيث قد يشعر الإنسان بالبرد وقت الحر، ويتصبب عرقًا في الليلة القارسة".
ومن ذلك الانجرار وراء التقسيم الحاسم بين العصب والفكرة قول العدوي بأن الموسيقى قد تؤثر على العصب استقلالا من دون فكرة "وهذا ما قد يؤدي إلى الشعور بالألم أو اللذة أو هما معًا، بحسب الموجات الواقعة عليه، دون أن يرتبط الألم أو اللذة بفكرة ما"، ويمثل على ذلك بشعور الإنسان بالألم عند وخزه بشيء حادّ فيشعر بألم غير مرتبط بفكرة. في حديث العدوي هنا استبساط مخلّ للغاية للتجربة الموسيقية، وتشبيه ما يراه من عدم ارتباطها بالفكرة أحيانًا واقتصارها على ما يسميه بالعصب استقلالا بما يحدث للجسم من استجابة غير واعية لدى وخزه بابرة مثلا يعبر عن خلط عجيب، إذ إن أمر الوخز والشعور بالألم هو قضيّة استجابة عصبية بالفعل، أما الاستجابة العصبية التلقائية للموسيقى فأمر آخر، إذ كيف يمكن أن يشعر المرء لدى سماعه للموسيقى باللذة مثلا دون فكرة؟ مرّة أخرى مرد الخلل هنا هو التقسيم التجزيئي الاستبساطي بين العصب والفكرة، وإلا فإن بالإمكان القول بأن ما يبدو في السطح على أنه شعور بلذة غير مرتبط بفكرة، وكما تظهر الدراسات العلمية المتوالية، إنما هو قضية فعل للاوعي الفردي أو الجمعي الذي يدفع الإنسان أن يتلذذ بموسيقى معينة دون أن يُعمِل عقله وفكره، فالأمر هنا يتعلق بتراث تفضيل جماليّ موروث يعمل على مستوى عميق بشكل غير واعٍ، وليس محض استجابة عصبية بلا تاريخ فردي أو جمعي، وهذه أمور قد ناقشها العلم الحديث، وخصوصًا في علوم النفس والأعصاب والذهن، في دراسة مناطق الوعي واللاوعي، وأنماط استجابات الإنسان لمختلف المثيرات حوله.
غير أن الإشكال هنا يكمن في أن كلمة "الإنسان" لا تشير إلى شيء مادي ملموس مقاس متفق عليه، فالإنسان برغم ما يبدو من يسر مفهومه إلا أنه يعسر إدراكه تمامًا لعدة أسباب، أولها أننا نحن الذين نتحدث عن الإنسان ـ ومنهم خميس العدوي والقارئ الكريم أو القارئة الكريمة وعبدالله الحرّاصي كاتب هذا المقال ـ ننتمي كلنا إلى مدلول هذا المفهوم، بمعنى أن كلمة "إنسان" تنطبق على كل واحد منا، والإشكال الواقع هنا هو أننا جزء من الموضوع لا منفصلين عنه مثل انفصالنا عن القلم والسيّارة، وهو ما يعقّد أي محاولة تتطلب الموضوعية في فهم الإنسان، لأن الإنسان هنا هو المُفَكِّر وهو المُفَكَّر فيه في آن واحد، وعدم الانفصال بين المُفَكِّر والمُفَكَّر فيه يربك التفكير والاستنتاج إذ لا مسافة آمنة تضمن تمكننا من الحصول على قدر مقبول من الموضوعيّة، مثل تلك التي يمكن أن نحققها حينما نتحدث عن القلم أو السيارة على سبيل المثال.
والسبب الثاني الذي يعيق مسعى الفهم، إضافة إلى الخلل المتمثل في وِحدَة المُفَكِّر/المُفَكَّر فيه، هو أن مشاهداتنا، إضافة إلى ما توصلت إليه العلوم والمعارف طول تاريخ البشرية تبيّن لنا أن الإنسان ظاهرة شديدة التعقيد، كثيرة العناصر، مركّبة التفاعلات، وهو ما يجعل المحاولات الإجمالية للحديث عن عموميّات ظاهرة الإنسان محاولات اجتزائية لجانب أو لجوانب على حساب جوانب أخرى كثيرة، فالحديث عن الإنسان والموسيقى ستجنب ضرورةً الحديث عن الإنسان والمرض، أو عن الإنسان والزراعة، أو الإنسان والفلك، وهذه محض أمثلة على تعدد أوجه الإنسان، ولا ريب أن هذه التجزئة لجوانب حياة الإنسان تدفع إلى الحصول على معرفة جزئية ضروريةً.
كما أن المحاولة يعتريها خلل آخر يتمثل في "تاريخيتها"، والمقصود بالتاريخية هنا هو أنها تعكس مرحلة من مراحل فهم الإنسان للإنسان، وهذا الفهم هو في مسيرة مستمرة، تقودها كل أشكال المعارف الإنسانية ومؤثراتها من خرافات وعلم ودين وغيره. وهنا فإن الانطلاق من هذه المرحليّة التاريخية للتوصل إلى مطلقات عن الإنسان لا ترتبط بزمن أو بمكان، لهو أمر يحمل الخلل في جوهره، فالمعرفة حول الإنسان ناقصة ضرورةً.
نعود إلى المجاز تفصيلا لنقول بأن اللغة تمارس خداعًا وتضليلا عظيمين ولكنهما مختلفان، إذ توحي الأسماء في اللغة إلى استقرار ما تشير إليه من ناحية إدراكه من قِبَل الإنسان، فكلمة "قلم" تفترض معرفة لدى الإنسان بالعناصر التي تجعل القلمَ قلمًا، وأهم هذه العناصر أنه شيء يمسك باليد لغرض الكتابة، كما أن هناك عناصر أخرى قد تتغير عبر التاريخ مثل الحبر المستخدم وموضع هذا الحبر في القلم، وأنواع الأقلام. وكلمة "حصان" تفترض معرفة مكتملةً لدى الإنسان عن العناصر التي تجعل الحيوان المقصود حصانًا لا حِمارًا أو جملا أو ابن آوى، ومثل هذه المعرفة المكتملة التي تفترضها الأسماء في اللغة تصبح إشكاليّة حين يتعلق الأمر بأسماء لها دلالات غير ماديّة بل معنوية مجردة، وهذا هو شأن كلمة "الإنسان"، إذ أن هذه الكلمة تشير بحسب ما استقر عليه الفهم الدلالي العام والمتخصص إلى أمر معنوي وليس ماديًّا، بعكس كلمات أخرى مرتبطة بالإنسان مثل كلمة "الجسد" التي وإن تقاطعت مع بعض العناصر الدلالية لكلمة "الإنسان" إلا أنها ذات عناصر أكثر تحديدًا لأن مدلولها ملموس وقابل للقياس المتفق عليه.
تأتي الاستعارة المفهومية ـ والتي سأشير إليها في أغلب المواضع في هذا المقال بكلمة "المجاز" لغرض الاختصار ـ لتقدم عونًا للمفكر في محاولة فهم الإنسان. كيف يتم ذلك؟ باستثمار تجارب المواد المادية الملموسة المقاسة في تشكيلِ فهمٍ للإنسان يقوم على تلك التجارب المادية. يتم هذا أولا بفهم الإنسان على أنه "شيء" منفصل يمكن البحث فيه بالتحليل وتتبع العناصر والتفاعلات، وهذا أمر ليس باليسير القطع فيه، فقد أشرت فيما تقدم إلى صعوبة فهم الإنسان للإنسان لأنه هو المُفَكِّر وهو المُفَكَّر فيه في آن واحد، بعكس فهم الإنسان للأشياء المادية، كما أن من العسير تشيئة الإنسان وفصله عن الكون والطبيعة والتعامل معه على أنه حالة منتهية، فهل الإنسان منفصل عن الكون والطبيعة، وهل هو حالة منتهية أم متطورة؟ بمعنى أن الذي يجعل الشيء شيئًا هو انفصاله عن الأشياء الأخرى، فالافتراض بانفصال الإنسان عمّا عداه هو افتراض مجازي يقوم على تعاملنا مع الأشياء المادية. كما أن الحديث عن الإنسان بهذه الصورة يفترض أن الإنسان حالة منتهية يمكن تفحصها، وليس تمثيلا لعمليّة مستمرة التحول. وبطبيعة الحال فإن القطع بأي من هذه الرؤى هو قطع إيماني ينطلق من الأديان ومن الاعتقادات المتوارثة، وقد ينبع ذلك القطع من المعتقدات المنطلقة من بعض النظريات العلمية مثل "نظرية النشوء والارتقاء" التي ترى الإنسان في حالة تطور مستمرة.
كما أن المجاز هو الأساس الذي يقوم عليه التفكير في، والحديث عن العناصر أو الأجزاء المشكلّة للإنسان. لنتذكر في هذا السياق العبارة المأثورة القائلة أن "الإنسان ينقسم إلى روح وجسد". تمثل هذه العبارة تجليًّا للفهم المجازي للإنسان انطلاقًا من فهم الأمور المادية، إذ إن تجربتنا المادية تفيدنا بأن الأشياء تتكون من أجزاء وحين تجتمع هذه الأجزاء بصيغة معينة فإنها تُكوِّن الأشياء، واختلاف الصيغ يؤدي إلى اختلاف الأشياء. قلم الرصاص (العادي) يتكون مثلا من عنصرين أساسيين هما العمود الخشبي الرفيع والجرافيت (وهو نوع من الكربون)الذي يستخدم في الكتابة. أما الإنسان فشأن آخر كما ذكرت أعلاه، إذ أنه ينطوي على جوانب معنوية مجرّدة وليست مادية منظورة ملموسة كالعمود الخشبي والجرافيت في قلم الرصاص، وهنا فإن محاولة تجزئة الإنسان إلى عناصر هي بالضرورة محاولة مجازية تنطلق من معرفتنا بأجزاء الأشياء المادية. إن التجزئة المادية يسيرة المنال من ناحية الإدراك، إذ أن إدراك أجزاء قلم الرصاص بالعين المجردة وباللمس أمرٌ يسير، أما الاعتقاد أصلا بتجزئة الإنسان فأمر مجازي يفترض في المعنوي والمجرد، وهو الإنسان، ما ينسحب على المادي (مثل قلم الرصاص) من وجود الأجزاء، وتكاملها مُشَكِّلةً الكل الذي هو الشيء.
إن محاولةً البحث في العناصر أو الأجزاء المشكلة للكل الذي هو الإنسان هي محاولة لا تتقصى بالفعل والحقيقة أجزاءً حقيقية يتكون منها الإنسان، كما نتثبت بالفعل من أن قلم الرصاص يتكون من عمود خشبي رفيع وجرافيت، بل أنها عملية تصنع الفهم، بمعنى أن السعي لفهم الأجزاء المشكلة للإنسان هو الذي يصنع تلك الأجزاء، ولا يتقصى أمرًا موجودًا حقيقة.
لقد سقت المقدمة السابقة لتكون إطارًا نفهم به تقسيم خميس العدوي للأجزاء المشكّلة للإنسان، وسأحاول الآن تتبع تأثير الفهم المجازي المنطلق من تشيئة الإنسان وتجزيئه في ما طرحه من أفكار حول الموسيقى والفكرة وما يعتري تلكم الأفكار من إشكالات متعددة. نرى الفهم الاستعاري المجزئ للإنسان في ما يبتدئ به الكاتب من تقسيم تقليدي للإنسان إلى فكر ووجدان وعصب. هنا إذًا نجد أنفسنا أمام تشيئة للإنسان وتجزيئه إلى ثلاثة أشياء منفصلة عن بعضها البعض وإن "تفاعلت" معًا. ويمضي العدوي ليقدم تصورًا يختلف عن هذا الفهم التقليدي إذ أن فهم العدوي ثنائي وليس ثلاثيًا، ذلك أنه يقصر تجزئة الإنسان على جزئي الفكر والعصب، وينفي الوجدان، وإن قبل ببعض مظاهره من مشاعر وأحاسيس بنسبتها إلى تفاعل بين عنصري الفكر والعصب. نحن إذًا أمام تقسيم مجازيّ محض لعناصر الإنسان، ولا يمتاز العدوي بشيء هنا إلا أنه اقتصر على عنصرين بدلا من ثلاثة عناصر.
يمضي العدوي وراء هذا الفهم التجزيئي فيفصل فصلا تامًا بين جزئين واضحي المعالم هما العصب والفكر إذ يقول "أما كون الإنسان كائنًا مفكرًا ذا عصب فهو أمر جلي فيما يبدو، إذ الإنسان كائن "مادي" متركب من دم ولحم وعظام، وكائن "معنوي" شكلته الأفكار وتحركه الأفكار تحت قيادة عليا توجد به تسمى العقل". وهذا فصل يمضي وراء المجاز لأنه فيما أن جسد الإنسان مركب حقيقةً من دم ولحم وعظام وبقية الأعضاء فإن القول بالحقيقة يتوقف هنا وتبدأ مرحلة الانسياق وراء المجاز بالقول أن الإنسان "تشكله" الأفكار. المجاز هنا مصدره أن خميس العدوي، ووراءه بطبيعة الحال فهم تقليدي متوارث، ينطلق من أن الأفكار هي أشياء وأن لها تفاعلاً مثل ما نراه ونلامسه في الماديات من تفاعلات، ولذا فإن الإنسان "بناء" يتم "تشكيله" بأعمدة هي الأفكار، وأن هذه الأفكار متمايزة مجازيًّا في وجود مستقل خاص بكل منها مثل الأشياء. كما أن الأفكار تتفاعل كما الأشياء فتتدافع وتقوم بـ"تحريك" الكائن المعنوي تحت "تأثير" العقل الذي هو "القائد".
والجزء الأخير الخاص بـ"قيادة" العقل للأفكار ينطلق مجازيّا من الخبرة المتوارثة من تجربة القائد العالِم الموجِّه الذي يتحكم في الأفراد الذين يقعون تحت سلطته، وهي بطبيعة الحال تجربة تقليدية سلطويّة في القيادة والإدارة، تفترض أن القائد هو فعلا المسيطر على أولئك الأفراد الذين لا يملكون سوى الامتثال لتلك القوة وأمرها. ولم لا وهي كما يقول العدوي "قيادة عليا"؟
وإضافة إلى كشف أوجه المجاز المستتر التي أشرت إليها أعلاه فإن هذا تقسيم لو قبلناه جدلا لغرض متابعة الفكرة لوجدنا أنه تقسيم يفتقد النظم والترابط الفكري الداخلي، إذ إن القول بأن الإنسان فكر وعصب، وتقسيم الإنسان إلى مادي ومعنوي على الإطلاق هكذا لا يطرح العلاقة الوثيقة بين "الدماغ" المادي (أهو عصب؟؟) و"العقل" المعنوي، كما أن الفصل التام بين الجسد المكون من الأعضاء المختلفة والدماغ والعقل هو فصل بدائي للغاية، وإني لأستغرب أن يقدم خميس العدوي على قبوله قبولا تسليميًّا راميًا وراء ظهره بكل توغلات العلم الحديث واستكشافاته في علاقة عناصر الجسم وتفاعلاته بما يحدث في الدماغ من عمليّات معقدة.
يقود هذا التفريق التجزيئي إلى تورط العدوي في البحث عن "موضع" للجزء الثالث في ما يسمّيه التقسيم التقليدي، أعني الوجدان، إذ أنه يرفضه دون أن يشرح الأسباب، ثم يأخذ، جَريًا وراء المجاز، في البحث عن مكانه، إذ يقول "ويبقى السؤال: أين الوجدان؟" ويلاحظ أن المشاعر "لا محلّ لها في عصب الإنسان" وكأن الوجدان والرسائل العصبية والأفكار أشياء تتموضع مكانيًّا، ونسي أن الأين والمحلّ ليستا إلا تفاصيل من صنيعة المجاز ما كانت لتظهر لولا التقسيم التجزيئي للإنسان، ولولا رؤية المجردات، مثل المشاعر، وكأنها أمور مادية تتخذ مكانًا لا بد أن يعيّن موضعه.
والإشكال الذي يحدده العدوي موضوعًا لمقاله ليس إلا نتاجًا للتقسيم التجزيئي القائم على المجاز، فلأن العدوي قرر، دونما تعليل واضح، أن يقبل تقسيمًا ثنائيًّا للإنسان إلى فكرة وعصب، ثم لأنه لاحظ أن الناس يتأثرون وجدانيًّا بالموسيقى، لذا أصبحت المشكلة لديه هي أن الوجدان موجود في مشاعر الناس وليس موجودًا في تقسيمه هو، وأخذ في التأمل المجرد باحثًا عن "موضع" له في هذا التقسيم الثنائي الذي يوحي بأن هذه الأمور المعنوية المجردة موجودة وجودًا حقيقيًّا انفصاليّا استقلاليّا وليست موجودة وجودًا مجازيًّا محضًا.
والحقيقة أننا يمكن أن نأخذ نفس تقسيم العدوي لنقترح عليه أن يتأمل في قضايا شبيهة مثل الذاكرة، فالناس يتذكرون خبراتهم السابقة، وهو ما يسبب إشكالا فأين الذاكرة، أهي في العصب أم في الفكرة؟ أشير هنا على سبيل المفارقة أن العدوي نفسه يستدعي في مقاله الذاكرة، فهو يُذكِّر القارئ في أحد مواضع المقال بما سبق أن قرره في موضع متقدم من المقال فيما يخصّ تأثير الموسيقى على الإنسان بصفته حزمة أفكار. ترى أين يضع العدوي ذاكرته وذاكرة القارئ؟ أهي في جزء العصب أم في جزء الفكرة؟ ثم هل الزمن جزء آخر تم تغييبه بسبب التقسيم الثنائي؟ وإلا لماذا يذكّر العدوي قارئه بما "سبق" أن قرره "سابقًا"؟ وهل الزمن عصب؟ أم أنه فكرة؟ أم أنه إطار يعيش فيه الإنسان؟ أم أنه جزء من وعي الإنسان أو لاوعيه؟. كما أن هناك المحفزات السلوكية المتوارثة والمكتسبة التي تدفع الإنسان إلى مسلك نفسي وسلوكي معين، فأين تقع تلك المحفزات، أفي الفكرة أم في العصب؟ كل هذه أسئلة ما كانت لتظهر لو انتبهنا إلى أننا نتعامل مع قضايا ذهنية معنوية وأن ما نقوم به ليس إلا محاولة فهمها بتقريبها إلى خبرتنا التجزيئية البشرية، وإلا فإن المعضلات التبسيطية مثل هذه كثيرة ولا حدّ لها، و"التأمل" المجرد فيها ليس إلا إضاعة للجهد العقلي فيما لا يتعدى أن يكون نتيجة لفهم قائم على المجاز ثم التعامل معها على أنها نتيجة حقيقية، والحقيقة بعيدة عنها بعد الحقيقة الماديّة عن المجاز المتخيّل.
كما أن الانسياق وراء المجاز التجزيئي للإنسان إلى فكر وعصب يجعل العدوي يمضي أحيانًا وراء ما يفرضه ذلك المجاز من استبساط شديد مخلّ للعمليات الذهنية والعصبية، وليس أدل على ذلك من حديث العدوي عما يدعوه "التشابك" بين الفكرة والعصب، إذ نجد أنفسنا أمام ما يمكن أن يكون سيناريو مختصرًا لفلم يتحدث عن بشر وتعاركاتهم وتعبهم وراحتهم، وليس عن ظواهر وعمليات ذهنية-عصبية كبرى معقدة. يقول العدوي: "واستطرادًا يقتضيه الحال، علينا أن نلحظ بأن التشابك بين الفكرة والعصب عميق جدًا، بحيث إن أي ملامسة من قِبَل الفكرة للعصب تؤثر عليه، حتى أنه بعد برهة من زمن الملامسات وتعددها يحتاج العصب إلى دورة من السبات تعيد له حيويته المزهقة من عراك هذا الملامسات، وأيضًا الأفكار كثيرًا ما توهم العصب بأمور لم تحصل له كبعض من أنواع المرض ونحوه، وفي المقابل، فإن العصب كثيرًا ما يشوش على الفكرة بحيث قد يشعر الإنسان بالبرد وقت الحر، ويتصبب عرقًا في الليلة القارسة".
ومن ذلك الانجرار وراء التقسيم الحاسم بين العصب والفكرة قول العدوي بأن الموسيقى قد تؤثر على العصب استقلالا من دون فكرة "وهذا ما قد يؤدي إلى الشعور بالألم أو اللذة أو هما معًا، بحسب الموجات الواقعة عليه، دون أن يرتبط الألم أو اللذة بفكرة ما"، ويمثل على ذلك بشعور الإنسان بالألم عند وخزه بشيء حادّ فيشعر بألم غير مرتبط بفكرة. في حديث العدوي هنا استبساط مخلّ للغاية للتجربة الموسيقية، وتشبيه ما يراه من عدم ارتباطها بالفكرة أحيانًا واقتصارها على ما يسميه بالعصب استقلالا بما يحدث للجسم من استجابة غير واعية لدى وخزه بابرة مثلا يعبر عن خلط عجيب، إذ إن أمر الوخز والشعور بالألم هو قضيّة استجابة عصبية بالفعل، أما الاستجابة العصبية التلقائية للموسيقى فأمر آخر، إذ كيف يمكن أن يشعر المرء لدى سماعه للموسيقى باللذة مثلا دون فكرة؟ مرّة أخرى مرد الخلل هنا هو التقسيم التجزيئي الاستبساطي بين العصب والفكرة، وإلا فإن بالإمكان القول بأن ما يبدو في السطح على أنه شعور بلذة غير مرتبط بفكرة، وكما تظهر الدراسات العلمية المتوالية، إنما هو قضية فعل للاوعي الفردي أو الجمعي الذي يدفع الإنسان أن يتلذذ بموسيقى معينة دون أن يُعمِل عقله وفكره، فالأمر هنا يتعلق بتراث تفضيل جماليّ موروث يعمل على مستوى عميق بشكل غير واعٍ، وليس محض استجابة عصبية بلا تاريخ فردي أو جمعي، وهذه أمور قد ناقشها العلم الحديث، وخصوصًا في علوم النفس والأعصاب والذهن، في دراسة مناطق الوعي واللاوعي، وأنماط استجابات الإنسان لمختلف المثيرات حوله.
العدوي والعلم الحديث: بين صَدًّ ووصال
لا خلاف بطبيعة الحال حول الحق في الاستكشاف الفردي بغض النظر عن المعرفة الإنسانية المتراكمة، بل حتى بتجاهلها، إذ أن مثل هذه الاستكشافات الفكرية الفردية ربما أثمرت جوانب جديدة للموضوع نابعة من رؤى خاصة يتفرد بها المفكّر، كما أنها برغم ما يبدو من تفرد فكري ظاهري ليست فرديّة تمامًا إذ إن الكاتب لا يمكنه أن ينبتّ تمامًا عن المعرفة المتحققة برغم سعيّه إلى الانفراد الفكري. غير أن الإشكال في مقال خميس العدوي يكمن في عدم انسجامه في هجران العلم الحديث وصدّه بالشروع في الاستكشاف الفكري التأملي المنفرد، إذ أنني تتبعت المقال فوجدت العدوي يجود بالوصال على العلم الحديث في غير موضع، ثم وكأنه عاشق مدنف مستهام يتعمد الهجران بعد ذلك الوصال، لربما استمتاعًا بالشوق، كما قال الشاعر:
ولو دام في الحبِّ الوصالُ ولم يكنْ
فِراقٌ ولا هجرٌ لما اشْتاق مشتاقُ
فِراقٌ ولا هجرٌ لما اشْتاق مشتاقُ
غير أن الشوق الذي يمتزج فيه الصدّ والوصال يأتي مرتبكًا هنا، فالعدوي يستخدم بالفعل بعض المصطلحات العلمية الحديثة والصيغ العلمية في بناء المصطلح مثل حديثه عن الوعي واللاوعي، وحديثه عن "التفاعلات الكيميافكرية" ومصطلح "السَيَّال العصبي" و"الفعل النفسحركي"، كما أنه يتحدث عن بعض مكتشفات علماء النفس في تأثيرات الموسيقى، وينبه إلى أن "البحوث العلمية" تشير إلى عدم تجريد الحيوانات من الفكرة، ويتحدث كذلك عن بعض ما رصده علماء الصوتيات في دراسة الأصوات، وعن العلماء الذين حددوا كثيرًا من مناطق التحكم العصبي في الدماغ.
كل هذه الغرف من اصطلاحات العلم الحديث وبعض نتائجه يتضاد مع بدائية وما-قبل-علمية الاصطلاح والطرح اللتين تهيمنان على المقال كله. فعلى مستوى الاصطلاح نجد العدوي مستخدمًا مصطلحات عفا عليها الزمن العلمي والمعرفي، وهي وإن استخدمها العلماء والفلاسفة القدماء إلا أن تطور العلم والفكر عبر التاريخ وتراكم المعرفة البشرية في شتى الأمور جعلت من استخدام ذات المصطلحات أمرًا مربكًا للغاية في بناء الفكر، كما أن ما يزيد من الإرباك والتشويش أنها هي ذاتها مستخدمة في الحديث والتفكير العوامّيين (نسبة إلى العَوَامّ) بما يجعل الأمر مختلطًا لدى القارئ إن كان العدوي يستخدمها بدلالات تشبه أو هي ذاتها الدلالات العوامّية أو أنه يستخدمها على نحو يختلف بشكل أو بآخر عنها. ومن الأمثلة على الاصطلاحات البدائية ما-قبل-العلميّة مصطلح "العصب"، ومصطلح "المعنوي" (في "كائن معنوي")، ومصطلح "الفكرة". ولو أخذنا مصطلح العصب على سبيل التمثيل لأشكل علينا نحن القرّاء إدراك المعنى المقصود منه: أهو العصب كما يفهمه العوامّ والذي يرتبط عادة بالغضب (ولذا نجد كلمة "عصبي")؟ أم أنه يقصد العصب المستخدم في العلم والذي هو مفرد "الأعصاب" والذي يدور حوله علم الأعصاب؟ إن فهمنا يتشوش لا بسبب عدم قدرتنا على الفهم بل بسبب عدم معرفتنا بالمرجعية الدلالية لاستخدام المصطلح.
وقد تتبعت استخدام مصطلح العصب نموذجًا على الضبابية الاصطلاحية والدلالية في مقال العدوي فوجدته ينطلق من أن العصب شيء له نشاط تأثيري وتأثري، فهو يهدأ ويهيج بفعل الموسيقى، وهو يذوب حينًا ويستشيط حينًا ويتم ضبطه حينًا آخر، وله أحيانًا "القدرة على الأداء الصوتي"، كما أنه حامل للفكر (بطريقة مجهولة للعدوي كما يصرّح في المقال). إن هذه الاستخدامات الضبابية تتضاد مع استخدام العدوي لبعض الاصطلاحات المحددة القادمة من علم الأعصاب المعاصر، ومنها مثلا مصطلح "السيّال العصبي" الذي يعني انتقال النبضات العصبية من عصبون (خلية عصبية) إلى عصبون آخر.
وبرغم إمكانية أن يقوم كاتب ما بالتفكير المنفرد المنبتّ عن المعرفة الإنسانية المتحققة إلا أن تطرقه لموضوع درسه العلماء من قبل بتفصيل وتحليل تجريبي عميق يجعل من ذلك التطرق المنفرد بدائيًا، كما أنه، وإن لم يقصد الكاتب نفسه، يحمل تضليلا لبعض القرّاء الذي قد يتبادر إلى أذهانهم أن موضوع الكاتب الذي بين أيديهم هو أرضٌ معرفيةٌ بكرٌ لم يصل إليها قبله أحدٌ من الإنس. هنا، وبلا إطالة، أشير إلى أن علم الأعصاب المعاصر قد درس وبالتفصيل أمر الموسيقى وعلاقتها بالدماغ والأعصاب، ويمكن في هذا المقام الإشارة إلى كتاب مهم يتناول هذا الموضوع صدر عام 2003 عن مطبعة جامعة أكسفورد عنوانه The Cognitive Neuroscience of Music ("علم أعصاب الموسيقى الذهني")، أعدته إيزابيل بيريتز وروبرت ج. زاتور، وكما يقول التعريف بهذا الكتاب في موقع مطبعة جامعة أكسفورد على الانترنت فإن الكتاب يقدم دراسات لعدد من كبار العلماء من حقول الموسيقى وعلم الأعصاب وعلم النفس وعلم الأمراض العصبية، وهي دراسات تصف التطورات المذهلة التي قام بها العلماء في فهم العلاقة المعقدة بين الموسيقى والدماغ، والكتاب بهذا يضع الأسس التي سيقوم عليها علم أعصاب الموسيقى. وتقدم موسوعة الويكيبيديا مدخلا بذات عنوان الكتاب المشار إليه أعلاه يصف هذا العلم وتطوراته ومناهج ونتائج دراساته.
كل هذه الغرف من اصطلاحات العلم الحديث وبعض نتائجه يتضاد مع بدائية وما-قبل-علمية الاصطلاح والطرح اللتين تهيمنان على المقال كله. فعلى مستوى الاصطلاح نجد العدوي مستخدمًا مصطلحات عفا عليها الزمن العلمي والمعرفي، وهي وإن استخدمها العلماء والفلاسفة القدماء إلا أن تطور العلم والفكر عبر التاريخ وتراكم المعرفة البشرية في شتى الأمور جعلت من استخدام ذات المصطلحات أمرًا مربكًا للغاية في بناء الفكر، كما أن ما يزيد من الإرباك والتشويش أنها هي ذاتها مستخدمة في الحديث والتفكير العوامّيين (نسبة إلى العَوَامّ) بما يجعل الأمر مختلطًا لدى القارئ إن كان العدوي يستخدمها بدلالات تشبه أو هي ذاتها الدلالات العوامّية أو أنه يستخدمها على نحو يختلف بشكل أو بآخر عنها. ومن الأمثلة على الاصطلاحات البدائية ما-قبل-العلميّة مصطلح "العصب"، ومصطلح "المعنوي" (في "كائن معنوي")، ومصطلح "الفكرة". ولو أخذنا مصطلح العصب على سبيل التمثيل لأشكل علينا نحن القرّاء إدراك المعنى المقصود منه: أهو العصب كما يفهمه العوامّ والذي يرتبط عادة بالغضب (ولذا نجد كلمة "عصبي")؟ أم أنه يقصد العصب المستخدم في العلم والذي هو مفرد "الأعصاب" والذي يدور حوله علم الأعصاب؟ إن فهمنا يتشوش لا بسبب عدم قدرتنا على الفهم بل بسبب عدم معرفتنا بالمرجعية الدلالية لاستخدام المصطلح.
وقد تتبعت استخدام مصطلح العصب نموذجًا على الضبابية الاصطلاحية والدلالية في مقال العدوي فوجدته ينطلق من أن العصب شيء له نشاط تأثيري وتأثري، فهو يهدأ ويهيج بفعل الموسيقى، وهو يذوب حينًا ويستشيط حينًا ويتم ضبطه حينًا آخر، وله أحيانًا "القدرة على الأداء الصوتي"، كما أنه حامل للفكر (بطريقة مجهولة للعدوي كما يصرّح في المقال). إن هذه الاستخدامات الضبابية تتضاد مع استخدام العدوي لبعض الاصطلاحات المحددة القادمة من علم الأعصاب المعاصر، ومنها مثلا مصطلح "السيّال العصبي" الذي يعني انتقال النبضات العصبية من عصبون (خلية عصبية) إلى عصبون آخر.
وبرغم إمكانية أن يقوم كاتب ما بالتفكير المنفرد المنبتّ عن المعرفة الإنسانية المتحققة إلا أن تطرقه لموضوع درسه العلماء من قبل بتفصيل وتحليل تجريبي عميق يجعل من ذلك التطرق المنفرد بدائيًا، كما أنه، وإن لم يقصد الكاتب نفسه، يحمل تضليلا لبعض القرّاء الذي قد يتبادر إلى أذهانهم أن موضوع الكاتب الذي بين أيديهم هو أرضٌ معرفيةٌ بكرٌ لم يصل إليها قبله أحدٌ من الإنس. هنا، وبلا إطالة، أشير إلى أن علم الأعصاب المعاصر قد درس وبالتفصيل أمر الموسيقى وعلاقتها بالدماغ والأعصاب، ويمكن في هذا المقام الإشارة إلى كتاب مهم يتناول هذا الموضوع صدر عام 2003 عن مطبعة جامعة أكسفورد عنوانه The Cognitive Neuroscience of Music ("علم أعصاب الموسيقى الذهني")، أعدته إيزابيل بيريتز وروبرت ج. زاتور، وكما يقول التعريف بهذا الكتاب في موقع مطبعة جامعة أكسفورد على الانترنت فإن الكتاب يقدم دراسات لعدد من كبار العلماء من حقول الموسيقى وعلم الأعصاب وعلم النفس وعلم الأمراض العصبية، وهي دراسات تصف التطورات المذهلة التي قام بها العلماء في فهم العلاقة المعقدة بين الموسيقى والدماغ، والكتاب بهذا يضع الأسس التي سيقوم عليها علم أعصاب الموسيقى. وتقدم موسوعة الويكيبيديا مدخلا بذات عنوان الكتاب المشار إليه أعلاه يصف هذا العلم وتطوراته ومناهج ونتائج دراساته.
ما الموسيقى؟
انطلاقًا مما تقدم يتبدى لقارئ المقال أن خميس العدوي يتحرك وحيدًا في بادية فكريّة معرفيّة، وأنه قرر أن يتأمل في أمر جديد هو علاقة الموسيقى بالفكرة، برغم المعرفة الإنسانية المتحققة في الموضوع، مما يجعل من تأملاته تأملات بدائية بسيطة قادمة تنكشف أخطاؤها أمام أبسط وقفة متساءلة، ويتبدى هذا مثلا في التعريف الذي يقدمه للموسيقى التي يعرفها على أنها "مجموعة ألحان يؤلف بينها الموسيقار والعازف بشكل فردي أو جماعي". والحقيقة أنني توقفت مليًّا أمام هذا التعريف إذ أنه لا يعرّف الموسيقى أبدًا، فالموسيقى تُعرَّف عمومًا على أنها الفن الذي وسيلته الصوت والإيقاع، كما أن الأدب فنّ وسيلته اللغة، والرسم فنّ وسيلته الفرشاة والألوان، وما الألحان إلا أحد العناصر المستخدمة في الموسيقى من بين عناصر عديدة مثل الإيقاع والأداء.
والحقيقة أن خميس العدوي لا يتحدث عن الموسيقى هنا بل يتحدث عن "الغناء"، إذ أن الغناء هو الذي يرتبط بالتأليف والموسيقار والعازف والأداء الفردي أو الجماعي (برغم التباس استخدام تعبير "بشكل فردي أو جماعي" الذي يوحي في الجملة وكأنه يشير إلى التأليف وليس إلى الأداء). أقول أن العدوي لا يتحدث عن الموسيقى بل عن الغناء انطلاقًا من التعريف الذي يضعه، وانطلاقًا من كشفه عن ذلك مباشرة في الجملة التالية للتعريف إذ يقول "وعلينا أن نخرج كلمات الغناء بكونها لغة، لأن اللغة محض أفكار"، ثم يأخذ في الحديث عن المغني وعن إطراب المستمع، وقصرُ فهمِ العدوي للموسيقى على الغناء لا غير من أشكال الموسيقى له تأثيره على مجمل المقال، وهو أمر مربك آخر إذ أن عنوان المقال والعناوين الفرعية تضلل القارئ الذي يتوهم أن المقال يتحدث عن الموسيقى عمومًا لا عن الغناء بالتحديد.
ومن تأثيرات ذلك تقريره أن الإسلام لم يحتف بالموسيقى، وبطبيعة الحال فإننا بحاجة إلى فهم مقصوده بكلمة "يحتفي"، فإن كان يقصد الغناء فإن الأمر فيه نقاش كبير ما زال مستمرًا حتى يومنا هذا بين علماء الإسلام، وأما إن كان يقصد بعض جوانب الموسيقى فإن القرآن الكريم نفسه يحمل موسيقى داخليّة، وهو ما يشير إليه العدوي نفسه نقلا عن سيد قطب، وتلاوة القرآن جليّة الموسيقى، كما أن الأذان ينطوي على مستويات موسيقية واضحة، وكذلك الأمر في التلبية في الحج، إذ أنها تعتمد على الموسيقى، وإن لم تكن غناءً. كما أنه مما يبدو بدائية في القول والفكر أن نفصل بين الغناء واللغة كما فعل العدوي، وهو فصل ينتج عن التقسيم المجازي بين العصب والفكر الذي أقره في مطلع المقال، إذ يقول أن كلمات الغناء ليست "من جنس الموسيقى"، فالكلمات لغة واللغة "محض أفكار". أقول أن هذا ينطلق مما يبدو بدائية في القول والفكر لأن الغناء هو جملة تآلف اللغة مع اللحن والأداء، ولا يمكن بأي حال من الأحوال فصل اللغة عن الغناء والقول أنها ليست من الموسيقى. لربما يقصد العدوي أن الكلمات ليست من الأصوات المنتجة للألحان، غير أنه حتى هذا لا يمكن قبوله لأن كلمات الأغاني تنتمي في العادة إلى الشعر الغنائي، والشعر الغنائي ليس محض "أفكار" بل أن الأفكار تتداخل فيه في انسجام مع الموسيقى الداخلية المتمثلة في بناء الشعر، خصوصًا في حالة الشعر العمودي القائم على الوزن والقافية. لذا فإن الكلمات في الشعر تنتظم انتظامًا موسيقيًّا، مشكلًة معاني تتكون دلالاتها الكليّة لدى متلقيّها من ذلك الانتظام الموسيقي. لننظر مثلا في جزء من قصيدة سعيد عقل "غنيّت مكة":
والحقيقة أن خميس العدوي لا يتحدث عن الموسيقى هنا بل يتحدث عن "الغناء"، إذ أن الغناء هو الذي يرتبط بالتأليف والموسيقار والعازف والأداء الفردي أو الجماعي (برغم التباس استخدام تعبير "بشكل فردي أو جماعي" الذي يوحي في الجملة وكأنه يشير إلى التأليف وليس إلى الأداء). أقول أن العدوي لا يتحدث عن الموسيقى بل عن الغناء انطلاقًا من التعريف الذي يضعه، وانطلاقًا من كشفه عن ذلك مباشرة في الجملة التالية للتعريف إذ يقول "وعلينا أن نخرج كلمات الغناء بكونها لغة، لأن اللغة محض أفكار"، ثم يأخذ في الحديث عن المغني وعن إطراب المستمع، وقصرُ فهمِ العدوي للموسيقى على الغناء لا غير من أشكال الموسيقى له تأثيره على مجمل المقال، وهو أمر مربك آخر إذ أن عنوان المقال والعناوين الفرعية تضلل القارئ الذي يتوهم أن المقال يتحدث عن الموسيقى عمومًا لا عن الغناء بالتحديد.
ومن تأثيرات ذلك تقريره أن الإسلام لم يحتف بالموسيقى، وبطبيعة الحال فإننا بحاجة إلى فهم مقصوده بكلمة "يحتفي"، فإن كان يقصد الغناء فإن الأمر فيه نقاش كبير ما زال مستمرًا حتى يومنا هذا بين علماء الإسلام، وأما إن كان يقصد بعض جوانب الموسيقى فإن القرآن الكريم نفسه يحمل موسيقى داخليّة، وهو ما يشير إليه العدوي نفسه نقلا عن سيد قطب، وتلاوة القرآن جليّة الموسيقى، كما أن الأذان ينطوي على مستويات موسيقية واضحة، وكذلك الأمر في التلبية في الحج، إذ أنها تعتمد على الموسيقى، وإن لم تكن غناءً. كما أنه مما يبدو بدائية في القول والفكر أن نفصل بين الغناء واللغة كما فعل العدوي، وهو فصل ينتج عن التقسيم المجازي بين العصب والفكر الذي أقره في مطلع المقال، إذ يقول أن كلمات الغناء ليست "من جنس الموسيقى"، فالكلمات لغة واللغة "محض أفكار". أقول أن هذا ينطلق مما يبدو بدائية في القول والفكر لأن الغناء هو جملة تآلف اللغة مع اللحن والأداء، ولا يمكن بأي حال من الأحوال فصل اللغة عن الغناء والقول أنها ليست من الموسيقى. لربما يقصد العدوي أن الكلمات ليست من الأصوات المنتجة للألحان، غير أنه حتى هذا لا يمكن قبوله لأن كلمات الأغاني تنتمي في العادة إلى الشعر الغنائي، والشعر الغنائي ليس محض "أفكار" بل أن الأفكار تتداخل فيه في انسجام مع الموسيقى الداخلية المتمثلة في بناء الشعر، خصوصًا في حالة الشعر العمودي القائم على الوزن والقافية. لذا فإن الكلمات في الشعر تنتظم انتظامًا موسيقيًّا، مشكلًة معاني تتكون دلالاتها الكليّة لدى متلقيّها من ذلك الانتظام الموسيقي. لننظر مثلا في جزء من قصيدة سعيد عقل "غنيّت مكة":
غنيت مكة أهلها الصيدا
والعيد يملأ أضلعي عيدا
فرحوا، فلألأ تحت كل سما
بيتٌ على بيت الهدى زيدا
وعلى اسم رب العالمين علا
بنيانهم كالشهب ممدودا
من راكع ويداه آنستاهُ
ألّيس يبقى الباب موصودا
أنا أينما صلى الأنام رأت
عيني السماء تفتحت جودا
والعيد يملأ أضلعي عيدا
فرحوا، فلألأ تحت كل سما
بيتٌ على بيت الهدى زيدا
وعلى اسم رب العالمين علا
بنيانهم كالشهب ممدودا
من راكع ويداه آنستاهُ
ألّيس يبقى الباب موصودا
أنا أينما صلى الأنام رأت
عيني السماء تفتحت جودا
هذه القصيدة الغنائية الجميلة لا تشكل معناها إلا بالموسيقى، وليست مجرد أفكار مجردة موجودة قبل الموسيقى ومنفصلة عنها، فالأفكار، بمعنى دلالة الألفاظ والدلالة الكليّة، لا تتكون لدى القارئ إلا من خلال الإطار الموسيقي الذي يوفره العمود والوزن والقافية، فالشعور بالعيد في البيت الأول ينسجم تمامًا مع انفتاح رؤية السماء وقد تفتحت جودًا في البيت الخامس، وهذه الدلالة الكليّة تتكون جزئيًّا لدى القارئ نتيجة لقافية الدال التي تقوم عليها القصيدة، كما أن البحر الشعري وانتظام الأبيات الشعرية تبعًا له يساهم في تكوين هذه الدلالات الكليّة، وهنا فإن اللغة (التي يفهمها خميس العدوي بالكلمات وما وراءها من أفكار) تتشكل من جديدة حاملة دلالات تعالقية أي بين كلمة وأخرى بحسب القصيدة، فمعنى كلمة "ممدود" المنفصلة كما نجدها في المعجم يختلف عن المعنى الجديد المتكون من وصفها للشهاب الممدود المشبه به بيوت الله في مكة، كما أن كلمة "موصود" تحمل دلالة شعرية جديدة عند التصاقها بكلمة "باب" الذي يقصد به باب الرجاء الذي يسعى المؤمن إلى انفتاحه لتحقيق المأمول في الدعاء.
وإضافة إلى ما تقدم فإن غناء فيروز للقصيدة يمنحها دلالات جديدة، ليس على مستوى دلالات الألفاظ، ولا حتى على الدلالات الكليّة للقصيدة ذاتها، بل بفعل دخول القصيدة في حالة الغناء التي تتحول فيها القصيدة من قصيدة غنائية إلى حالة جديدة تتفاعل فيها تلك القصيدة مع الألحان مع صوت فيروز، إضافة إلى التراث الموسيقي العربي الذي تُغَنَّى ضمنه الأغنية، والذي يتموضع فيه تلقي المستمع لتلك الأغنية. كما أن التلقي، أي الاستماع، هنا ليس حالة سلبية منبتّة عن القصيدة والأغنية، بل هي جانب متفاعل معها على نحو شديد التركيب، متعدد الأبعاد والمستويات. هذا إذًا دليل على أن قبول التقسيمات الاستبساطية قد يؤدي إلى خلل في جوهر فهم الظواهر، فتقسيم العدوي للأغنية إلى لحن وكلمات، وفصله الكلمات فصلا تجزيئيًا واضحًا أدى به إلى أن تغييب الفكر عن الألحان، وحصرها في الكلمات فحسب.
الخلاصة هنا هي أن العدوي قد خلط خلطًا مخلا بين الموسيقى والغناء، فالغناء شكل من أشكال الموسيقى وليس كل الموسيقى، وهذا الخلط سبب إشكالات متتابعة من بينها تقريره عن عدم احتفاء الإسلام بالموسيقى. كما أن هذا الخلط قد أدى به أيضًا إلى إقرار بعض النتائج الخلافية كالفصل الحاد بين كلمات الغناء وألحانه، وأن الكلمات المغناة ليست من صنف الموسيقى وإنما هي من اللغة المرتبطة بالأفكار، وكأن الفصل بينهما فصلٌ نهائي يضع الأشياء إما في هذه السلة أو تلك، وما هو إلا تقسيم مجازيّ متخيّل يورط صاحبه ويربك أفكاره، كما رأينا هنا، حين يأخذ المجاز مأخذ الحقيقة.
وإضافة إلى ما تقدم فإن غناء فيروز للقصيدة يمنحها دلالات جديدة، ليس على مستوى دلالات الألفاظ، ولا حتى على الدلالات الكليّة للقصيدة ذاتها، بل بفعل دخول القصيدة في حالة الغناء التي تتحول فيها القصيدة من قصيدة غنائية إلى حالة جديدة تتفاعل فيها تلك القصيدة مع الألحان مع صوت فيروز، إضافة إلى التراث الموسيقي العربي الذي تُغَنَّى ضمنه الأغنية، والذي يتموضع فيه تلقي المستمع لتلك الأغنية. كما أن التلقي، أي الاستماع، هنا ليس حالة سلبية منبتّة عن القصيدة والأغنية، بل هي جانب متفاعل معها على نحو شديد التركيب، متعدد الأبعاد والمستويات. هذا إذًا دليل على أن قبول التقسيمات الاستبساطية قد يؤدي إلى خلل في جوهر فهم الظواهر، فتقسيم العدوي للأغنية إلى لحن وكلمات، وفصله الكلمات فصلا تجزيئيًا واضحًا أدى به إلى أن تغييب الفكر عن الألحان، وحصرها في الكلمات فحسب.
الخلاصة هنا هي أن العدوي قد خلط خلطًا مخلا بين الموسيقى والغناء، فالغناء شكل من أشكال الموسيقى وليس كل الموسيقى، وهذا الخلط سبب إشكالات متتابعة من بينها تقريره عن عدم احتفاء الإسلام بالموسيقى. كما أن هذا الخلط قد أدى به أيضًا إلى إقرار بعض النتائج الخلافية كالفصل الحاد بين كلمات الغناء وألحانه، وأن الكلمات المغناة ليست من صنف الموسيقى وإنما هي من اللغة المرتبطة بالأفكار، وكأن الفصل بينهما فصلٌ نهائي يضع الأشياء إما في هذه السلة أو تلك، وما هو إلا تقسيم مجازيّ متخيّل يورط صاحبه ويربك أفكاره، كما رأينا هنا، حين يأخذ المجاز مأخذ الحقيقة.
لنبتعد عن "التهجّيلة" لأجل الحقّ
أختم مقالي هذا لأقول أن كل مقال العدوي يقوم أساسًا على مجاز ذهني يقسم به الإنسان إلى أجزاء وهو تقسيم خلق الورطة العقلية التي سعى العدوي إلى حلّها في شأن "موضع" الوجدان و"علاقته" بالفكرة. كما أقول بأن التأمل العقلي الصرف الذي اتبعه العدوي كان تأملا متورطًا، فهناك عدم الانتظام في الاستفادة أحيانًا من العلم الحديث وتركه أحيانًا أخرى، وهناك الاضطراب في الدلالة كما في دلالة "العصب"، وهناك الخلط الكبير بين الموسيقى والغناء.
ولربما يقول قائل بأننا لسنا في دراسة علمية محكمة تتطلب تحديدًا دقيقًا للاصطلاح، ومنهجًا منتظمًا في تطوير الأفكار، بل نحن إزاء مقال في جريدة فحسب، فلماذا نكلف الكتاب ما لا ينبغي أن نكلفهم به، ولماذا نلزمهم ما لا يلزم؟ غير أني أردّ على مثل هذا المعترض بأن هذه الرؤية تحطّ من قدر مقالات الجرائد وتجلب الضرر على الكاتب والقارئ والفكر المقدم في مثل هذه المقالات، إذ أن التصدّي لقضايا مركّبة ومتشابكة الجوانب مثل موضوع علاقة الأفكار بالموسيقى يتطلب التحديد الاصطلاحي ووضوح البناء الفكري، ودعك من ضرورة الاغتراف من المتحقق من الخبرة والمعرفة والعلم، وإلا تحولت مثل هذه المقالات إلى محض ترفيه آني تداعب حروفه العيون ولا تتجاوزها إلى العقول والأفهام، ولبقيت المقالات الفكرية المنشورة في الجرائد محض تضييع ترفيهي للوقت، أو "تَهجِّيلة" كما نسميّه في بعض مناطق شمال عُمان.
ويزيد من رفضنا لهذه النظرة المهينة لمقالات الجرائد حين يكون الكاتب، مثل خميس العدوي، مخلصًا لا مِراء في إخلاصه للفكر وللتطور الفكري، وهذا الإخلاص يدفعنا نحن القراء والكتّاب إلى الأمل بمقالات أكثر تركيزًا في أطروحاتها وفي منهجها، تُحرِّك فكر الإنسان الفرد، والفكر الإنساني عمومًا، إلى تخوم جديدة، فالكاتب رمزٌ يتابع ويتبع كتاباته الكثيرون، بالانقياد الأعمى أو بالمساءلة وبالحوار معه. والكتابة الحقّة أمر له قدسية يدركها كل من يأخذها على محمل الجدّ، خصوصًا بعد أن ركب مركبها كل من أستطاع أن يمسك بالقلم أو يضغط بأصابعه على مفاتيح الحواسيب.
ولن نتغيّر، أفرادًا ومجتمعات، إلا بالتمسك بأهداب الحقّ: الفكر الحقّ والكتابة الحقّة، وأن نتشبث بهما كما نتشبث بالجمر، فرحى الفتنة، فتنة الجهل والتجهيل والخراب والتخريب، دائرةٌ، تكاد تطحننا جميعًا، وتحيلنا إلى جثث روحيّة وفكريّة هامدة، وتدفعنا كل لحظة وكل يوم من حفيرة إلى حفرة، ومن حفرة إلى هاوية، ومن هاوية إلى داهية أكبر منها وأعتى. وما الأمل الباقي إلا في تلك الجمرة الحارقة التي لا نملك سوى أن نتشبث بها صادقين إلى أن نودِّع هذه الحياة. والقصدُ هو الحقُّ لا غيره.
ولربما يقول قائل بأننا لسنا في دراسة علمية محكمة تتطلب تحديدًا دقيقًا للاصطلاح، ومنهجًا منتظمًا في تطوير الأفكار، بل نحن إزاء مقال في جريدة فحسب، فلماذا نكلف الكتاب ما لا ينبغي أن نكلفهم به، ولماذا نلزمهم ما لا يلزم؟ غير أني أردّ على مثل هذا المعترض بأن هذه الرؤية تحطّ من قدر مقالات الجرائد وتجلب الضرر على الكاتب والقارئ والفكر المقدم في مثل هذه المقالات، إذ أن التصدّي لقضايا مركّبة ومتشابكة الجوانب مثل موضوع علاقة الأفكار بالموسيقى يتطلب التحديد الاصطلاحي ووضوح البناء الفكري، ودعك من ضرورة الاغتراف من المتحقق من الخبرة والمعرفة والعلم، وإلا تحولت مثل هذه المقالات إلى محض ترفيه آني تداعب حروفه العيون ولا تتجاوزها إلى العقول والأفهام، ولبقيت المقالات الفكرية المنشورة في الجرائد محض تضييع ترفيهي للوقت، أو "تَهجِّيلة" كما نسميّه في بعض مناطق شمال عُمان.
ويزيد من رفضنا لهذه النظرة المهينة لمقالات الجرائد حين يكون الكاتب، مثل خميس العدوي، مخلصًا لا مِراء في إخلاصه للفكر وللتطور الفكري، وهذا الإخلاص يدفعنا نحن القراء والكتّاب إلى الأمل بمقالات أكثر تركيزًا في أطروحاتها وفي منهجها، تُحرِّك فكر الإنسان الفرد، والفكر الإنساني عمومًا، إلى تخوم جديدة، فالكاتب رمزٌ يتابع ويتبع كتاباته الكثيرون، بالانقياد الأعمى أو بالمساءلة وبالحوار معه. والكتابة الحقّة أمر له قدسية يدركها كل من يأخذها على محمل الجدّ، خصوصًا بعد أن ركب مركبها كل من أستطاع أن يمسك بالقلم أو يضغط بأصابعه على مفاتيح الحواسيب.
ولن نتغيّر، أفرادًا ومجتمعات، إلا بالتمسك بأهداب الحقّ: الفكر الحقّ والكتابة الحقّة، وأن نتشبث بهما كما نتشبث بالجمر، فرحى الفتنة، فتنة الجهل والتجهيل والخراب والتخريب، دائرةٌ، تكاد تطحننا جميعًا، وتحيلنا إلى جثث روحيّة وفكريّة هامدة، وتدفعنا كل لحظة وكل يوم من حفيرة إلى حفرة، ومن حفرة إلى هاوية، ومن هاوية إلى داهية أكبر منها وأعتى. وما الأمل الباقي إلا في تلك الجمرة الحارقة التي لا نملك سوى أن نتشبث بها صادقين إلى أن نودِّع هذه الحياة. والقصدُ هو الحقُّ لا غيره.
قرأت هذا المقال بتمعن شديد، من الواضح تماما أنك أنت تعرف ما تتحدث عنه ولا يخفى استخدامك المجاز بطريقة واعية جدا كما لو كنت انت نفسك غير واقع تحت تأثيره وهذا ذكاء حاد أحسبه لك.
ردحذفأجد أجزاء منك مشتتة هنا وهناك في كتابات العديد من العمانيين والعمانيات والان استطعت فهم السبب الذي جعلهم هكذا
يبدو لي أنني أمام دماغ قوي للغاية يتمكن من سبر أغوار كتابات فكرية قد تبدو للآخرين لوهلة موغلة في الصحة والدقة بينما هي في الحقيقة كما تصف أنت مشي في بادية الأفكار.
أرجو أن تسمح لي أيها الصديق العزيز بهذ التعليق المختصر لعله يكون مفيدا في سياق مقالكم المهم هذا:
ردحذفالصوت هو نتيجة مباشرة للحركة، واختلافه وتنوعه في الحدّة والنعومة، والقوة والضعف وغير ذلك من الصفات له علاقة بنوع الجسم وطبيعته الفيزيائية. [ ملاحظة: لا يمكن مثلا، لصانع آلة موسيقية مهما بلغ من علم أن يصنع آلتين موسيقيتين من نفس النوع ـ وترية أو نفخ أو إيقاعية ـ متطابقتين كليا في الصوت، كما أن العازف على هذه الآلات يضع بصمته عبر اسلوبه، فنستطيع بالسمع معرفة اسم العازف كما نعرف نوع الآلة.. وكذلك الحال مع الغناء].
وكل الأصوات الموسيقية هي " بداخلنا "، فالإنسان نفسه أفضل وأبدع آلة موسيقية، فهناك أصوات كثيرة تصدر عن الطبيعية المحيطة لا يستصيغها الإنسان بل وحتى لا يستطيع سماعها من شدّتها أو ضعفها بسبب قدرات جهازه السمعي المحدودة، لذلك يستعين الإنسان ببعض الحيوانات أو الأجهزة؛ أما تلك التي نتمكن من سماعها لا نستصيغها جميعها، لأنها لا تتطابق مع تلك التي " بداخلنا "( فالانسان ظاهرة موسيقية )، فنحن نميل أو نستحسنها فقط عندما تقترب من طبيعة أصواتنا الموسيقية الطبيعية البشرية من ذلك مثلا: أصوات بعض الطيور؛ فالقياس هو الأصوات الموسيقية التي تصدر عن حلوق البشر كأقدم آلة موسيقية [ ملاحظة: الأصوات الموسيقية الطبيعية هي غير الاصوات الموسيقية التي تم تنظيمها وتحديدها وتم تدربت الحلوق على أدائها والأذون على تقبلها وهذا موضوع آخر].
ما يجري على الموسيقية يجري على اللغة الكلامية، لذلك قالوا: من فقد موسيقاه فقد لغته والعكس صحيح، ومن لا يسمع لا يتكلم ... فكل شعب ابتكر لغته الموسيقية، وعمل علماء الموسيقى والفلاسفة باستمرار على التنظير للتجربة الموسيقية [ ملاحظة: توقف التنظير الموسيقي العربي المستقل منذ حوالي القرن السادس عشر، فأصبح منذ ذلك الوقت صداء متوتر للعلم والتجربة الموسيقية الغربية، وهذا مثال للتبعية والهيمنة الثقافية والعلمية التي نحن فيها اليوم.. إلخ].
الألحان مركبة من الأنغام وهي الأصوات الموسيقية وتؤلف في صيغ موسيقية لحنية وإيقاعية ( كالجمل التي تؤلف من الحروف ) وهي بطبيعة الحال تختلف في سرعتها وحساب ازمنتها الإيقاعية ( قارن مع التفعيلة في الشعر). والموسيقى تشتمل على: الآلحان التي تؤلف فقط للآلات الموسيقية، وتلك التي يؤديها الإنسان بصوته بمصاحبة آلات موسيقية أو من غير آلات موسيقية، وفي هذا السياق طور الإنسان بناء على تجربته وعلومه فنون موسيقية متعددة، تتجلى في مستوى تأليف الالحان واساليب الأداء.
ويجري على الموسيقى من وسائل التعبير والتقبل والتأثير ما يجري على الكلام وفنونه من شعر وخطابة وغير ذلك من ناحية التعقيد في فهم المضمون والبساطة في الشكل الظاهر الذي يصلنا عبر السمع. ولكن الموسيقى ليست كلاما ولا شعرا فاستعصت علينا اليوم، وقد كانت يسيرة الفهم، ومن دعائم الحضارة العربية الإسلامية.
المجال واسع ومعقد جدا.. ولكم الشكر التقدير.
مشكور استاذي على النقل ومقال جميل
ردحذفأستاذي...أتمنى أن نقرأ لك المزيد!
ردحذفعسى أن يحمل غيابك أخبارا جميلة