الثلاثاء، 8 يوليو 2008

الإسلام والعرب في كتاب فوكوياما "ما بعد المحافظين الجدد"

الإسلام والعرب في كتاب فوكوياما "ما بعد المحافظين الجدد"

عبدالله الحراصي

ليس من المألوف أن ينقلب المفكر على نفسه، خصوصاً إن كان هذا المفكر من الصنف الذي يعد من "المتشددين" فكرياً وذوي المواقف الحدّية، غير أن فرانسيس فوكوياما في كتابه الجديد "ما بعد المحافظين الجدد" (نشر عام 2007، والناشر دار بروفايل بوكس بلندن) قد قدم، وبشجاعة منقطعة النظير، نقداً قاسياً معمقاً لأفكار المحافظين الجدد، تلك الأفكار التي كانت قطب الرحى في فكره حين كان من أبرز حملة لواءها في أمريكا والعالم من خلال كتاباته المتعددة وأشهرها كتاب "نهاية التاريخ". ففوكوياما القديم كان يتبنى نظرة ثقافية للوضع السياسي في العالم الاسلامي، وتتجلى هذه النظرة على سبيل المثال في قوله "يبدو بالفعل أن هناك شيئاً ما يتعلق بالاسلام، أو بصور الاسلام المتشددة التي انتشرت في الأعوام الأخيرة، يجعل المجتمعات الاسلامية تحديداً مقاومة للحداثة"، أما فوكوياما الجديد فلا يرى الخلل في الاسلام ذاته ولا يعده خطراً بل أن مكمن الخطر هو الحركة الجهادية التي ينبغي النظر اليها في سياقها التاريخي وليس باعتبارها تعبر عن الاسلام ذاته.

يقدم فوكوياما في الفصل الثالث الذي يحمل عنوان "الخطر والمخاطرة والحرب الوقائية" تحليلا لما تسميه دوائر متعددة في الغرب "الخطر الاسلامي" الذي عبر عن نفسه في هجمات مختلفة على المصالح الغربية كان أبرزها أحداث 11 سبتمبر، وهذه الهجمات قد أثبتت بأن المفاهيم الراسخة في دراسة العلاقات الدولية لم تعد ذات جدوى في فهم الواقع السياسي الدولي وفي التفاعل معه، فقد أثبت الفاعلون السياسيون خارج إطار الدول (مثل تنظيم القاعدة) قدرتهم على التسبب في فوضى عارمة في السياسة العالمية، وهذا يعكس عدم الجدوى النظرية والفعلية للتصور التقليدي القائل بأن الدول هي وحدها الفاعلة على الساحة الدولية، كما أن مفهوم "الردع" لم يعد ذا جدوى كذلك لأنه يقوم على فكرة الدولة الفاعلة.

وحقيقة ما حدث صبيحة 11 سبتمبر هو موضوع خلاف بين الأمريكان والاوروبيين، ففيما يرى الامريكان بأن هذه الهجمات فاتحة لهجمات أخرى ومعركة ضخمة بين الغرب الديمقراطي والارهاب الاسلامي وبأن الأسوأ قادم لا محالة، بل أن هذا الأسوأ قد يتخذ شكل هجوم نووي على أمريكا، فان الاوروبيين الذين خبروا الارهاب في أراضيهم (في ايرلندا واقليم الباسك في اسبانيا مثلاً) لا يرون في أحداث 11 سبتمبر الا "حدثاً ناجحاً منقطع النظير" أي أن العالم لن يشهد حدثاً إرهابياً بنفس درجته.

ويتساءل فوكوياما عن حقيقة الخطر الاسلامي: أيتمثل في مجموعة من الناس الخطرين الذين تصادف أنهم مسلمون، أم أن الخطر يتمثل فعلاً في جزء كبير من مسلمي العالم؟ يرفض فوكوياما الاحتمال الثاني ويقول بأن أمريكا لا تحارب الاسلام أو المؤمنين به بل أن ما تحاربه هو "عقيدة راديكالية تستهوي أقلية صغرى من المسلمين"، ولهذا فانه يدعو إلى توخي الحذر في التعامل مع المصطلحات واستخدامها، ويفضل استخدام "الجهاد" (أو "الاسلام الراديكالي") عوضاً عن "الاصولية الاسلامية" لأن "الأصولية الاسلامية" تدعو إلى حياة إسلامية لا تشوبها الشوائب، وعوضاً عن مفهوم "الاسلاميين" الذي يشير إلى أولئك السياسيين الذين يستخدمون العملية الديمقراطية لجلب الدين إلى الحياة العامة "ولكن ليس بطرق معادية للديمقراطية بالضرورة".

كما أن فوكويا يسلط الضوء على الآراء المتعلقة بخطر الجهاديين على الغرب، ويقول بأن إحدى الرؤى تضخم هذا الخطر ويمثل هذه المدرسة بعض المفكرين مثل تشارلز كراوثامر الذي يعتقد بأن الحركة الجهادية تقوم على الاسلام ذاته وخصوصاً على "عقيدة الشهادة"، ويرى فوكوياما بأن مثل هذه الرؤى تتعامل مع خطر الجهاديين على الولايات المتحدة على نحو يفوق حجمه الحقيقي.

أما أبرز تحليلات فوكوياما حول الحركة الجهادية وأكثرها إثارة للدهشة في كتاب "ما بعد المحافظين الجدد" فيتمثل في اعتقاده بأن للغرب نصيب من نشوء وتطور الجهاديين يماثل نصيب الاسلام ذاته، وبأن الجهاد "يستهوي ذات الافراد المهمشين الذين لو عاشوا في أجيال سابقة لجذبتهم الشيوعية أو الفاشية"، فكثير من الجهاديين، بحسب فوكوياما، لم يأتوا من الأراضي الاسلامية بل انهم من المسلمين الذين تربوا وترعرعوا في اوروبا الغربية، كما أن الظاهرة الجهادية هي ظاهرة غربية فهي نتاج للحداثة لأنها، مثل الشيوعية والفاشية، تحاول عولمة معتقدها وتبحث عن هوية خاصة في عالم متعدد الثقافات. كما أن المفاهيم التي تتكرر في الخطاب الجهادي هي مفاهيم غربية و ماركسية-لينينية في الأصل، مثل مفاهيم "الثورة" و "المجتمع المدني" و"الدولة".

ولكن ما علاقة هذا بالسياسة الخارجية الغربية وخصوصاً تلك الخاصة بالولايات المتحدة الامريكية؟ ينبغي أولا تتبع العقيدة الجهادية في أوروبا الغربية وليس في العالم الاسلامي. إضافة إلى ذلك فإن الديمقراطية ليست حلاً، لأن من هاجم نيويورك وواشنطن ومدريد وأمستردام ولندن عاشوا أغلب حياتهم في الغرب أو أنهم قد خبروا الحياة في المجتمعات الديمقراطية. وعلى العكس من ذلك فإن بحوثاً جادة قد أجريت وأوضحت بأن أغلب العرب والمسلمين لا يكنون حقداً أو عداءً للولايات المتحدة، لكنهم يكرهون السياسة الخارجية الأمريكية، وخصوصاً ذلك التأييد غير المحدود لاسرائيل والدكتاتوريات في العالم العربي.

بل أن فوكوياما يرى في الاسلاميين المعاصرين بشير خير لمستقبل العالم الاسلامي، ويقتبس من أوليفر روي الذي يرى أوجه شبه بين الاسلاميين والسني الأولى في حركة الاصلاح البروتستانتي، فالاثنان يرغبان في صور أكثر عالمية للدين من تلك الموجودة، والاثنان يفهمان الدين باعتباره التزاماً شخصياً، "وهذا يضع الاساس للفردية الحديثة، حيث تتحول الهوية الدينية خيار يرتبط بنمط حياة الفرد وليس شرطاً اجتماعياً إلزامياً". ويتنقد فوكوياما المفكرين الغربيين الذين سفحوا الدموع على غياب مارتن لوثر المسلم لأن هؤلاء المفكرين نسوا بأن لوثر لم يبشر بالليبرالية بل بموجة من التشدد والتعصب (مارتن لوثر هو المفكر الذي قاد عملية الاصلاح ضد الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر). وقد هيأت البروتستانتية السياق لحياة علمانية حديثة من خلال عملية طويلة الأمد استمرت لقرون عديدة استطاعت من خلالها فصل الدولة عن الكنيسة. وفي حالة الاسلام فاننا لا نملك، بحسب فوكوياما، إلا "أن نأمل في جدول زمني أكثر تسارعاً" من ذلك الذي شهده الغرب.

إن هذا "الأمل" الذي يعبر عنه فوكوياما هو مؤشر على تراجع عن عقيدة المحافظين الجدد التي تقوم على ترجمة "الآمال" إلى واقع ملموس من خلال فرضهم لرؤيتهم حول نشر الديمقراطية ومنازلة الدكتاتوريات في العالم، وخصوصاً في العالمين العربي والاسلامي بعد 11 سبتمبر. تبدو آراء فوكوياما حول الاسلام والعرب واقعيةً، بل أنها أقرب للرؤية الواقعية السياسية (التي يتبناها كسنجر مثلاً) التي ترى بأن العالم مكون من نظم حياة وأنظمة حكم تختلف عن بعضها البعض نتيجة لاختلاف التراث والتاريخ.

ها نحن إذاً أمام فوكوياما جديد. كان فوكوياما القديم يشدد على كراهية عربية اسلامية لأمريكا و"ما تمثله" من قيم، أما فوكوياما الجديد فيرى بأن الوقائع والدراسات تفيد بأن معظم المسلمين "لا يكرهون الولايات المتحدة ولا الغرب في ذاتهما، بل [انهم يكرهون] السياسة الخارجية الأمريكية". كذلك فإن فوكوياما القديم يعتقد بأن الاسلام "هو المنظومة الثقافية الوحيدة التي يبدو بأنها تنتج على نحو منتظم أناساً مثل اسامة بن لادن أو طالبان الذين يرفضون الحداثة بقضها وقضيضها.

ولكن برغم كل الرؤى الإيجابية التي طرحها فوكوياما حول العرب والمسلمين في كتابه "ما بعد المحافظين الجدد" إلا أن آراءه حول دور اسرائيل في العلاقة العربية الأمريكية تستحق وقفة خاصة، ويمكن ضرب مثالين من الكتاب لتوضيح أهمية هذه الوقفة. ففوكوياما الذي يعتقد أن العرب يكرهون السياسة الخارجية الأمريكية وليس أمريكا ذاتها يوافق كلاً من باري روبن وماكس بوت في رأيهما القائل بأن نقد العرب لمساندة الولايات المتحدة لاسرائيل "ليس الإ تعويض عن عدم رضاهم عن نظم حكمهم غير الديمقراطية التي لا يستطيعون مهاجمتها مباشرة"، والحقيقة التي يشعر بها أغلب العرب والمسلمون هي أن هذا الاستنتاج ليس استنتاجاً صائباً فقضية العرب والمسلمين مع اسرائيل هي قضية تختلف عن قضيتهم مع نظم الحكم غير الديمقراطية السائدة في العالم العربي والاسلامي، فاسرائيل نشأت في أرض عربية هي أرض فلسطين التي لها قدسية دينية اسلامية، كما أنها ما تزال تحتل أراضٍ عربية، ولهذا فإن كره الدعم الأمريكي لإسرائيل هو رفض لحقيقة أن أمريكا تدعم دولة محتلة وليس غطاءاً لكراهية الحكام العرب.

إضافة إلى ذلك فإن فوكوياما يعترف بأن دعم امريكا غير المحدود لاسرائيل هو سبب الكراهية المنتشرة في أوساط العرب والمسلمين للسياسة الخارجية الأمريكية، غير أنه سرعان ما يتراجع عن ما يمكن أن يفهم على أنه نتيجة منطقية لهذا الاستنتاج بقوله "غير أن هذا لا يعني أن نجادل بأن على الولايات المتحدة أن تتخلى عن اسرائيل لتهدئة غضبهم [أي العرب والمسلمين]، بل [أن على الولايات المتحدة] أن تدرك لذلك الدعم أثمان [يتوجب عليها أن تدفعها]". إننا لو أغفلنا موضوع أهمية ووزن الأثمان التي يتوجب على أمريكا دفعها لقاء دعمها غير المحدود لإسرائيل، وهذا بطبيعة الحال موضوع كبير يتجنب أغلب المفكرين الغربيين والأمريكان خصوصاً الدخول فيه مباشرة لأسباب معروفة يأتي على رأسها التأثير الضخم للوبي الاسرائيلي، فإن من المستغرب حقاً أن مفكراً بحجم فوكوياما لا يجد نفسه في موضع من يستطيع أن يرى "طريقاً ثالثاً" لممارسة سياسة خارجية يمكنها أن تناغم بين إرضاء العرب والمسلمين وعدم التخلي عن اسرائيل. إن عدم القدرة على رؤية مثل هذا الطريق الثالث من قبل المفكرين والسياسيين الغربيين، وخصوصاً الأمريكان، هو، ويا للأسى، جزء لا يتجزأ من أسباب التوتر وغياب الثقة السائدين حالياً بين العرب والمسلمين في جانب والغرب والولايات المتحدة في الجانب الآخر.

هناك تعليق واحد:

  1. قراءة رصينة ومحكمة لكتاب فوكوياما! ومن خلال دراستي في أمريكا تعلمت أن أغلب (ولا أقول جميع) الشعب الأمريكي ودود ويتعاطف مع العرب المسلمين في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من البلدان مسلوبة الحقوق ويجد هؤلاء العرب هنا ترحيبا واسعا ويعطون حق التعليم والعمل وامتلاك العقارات وغيرها من الحقوق!

    ردحذف