السبت، 1 أكتوبر 2005

ترجمة لقصيدة "صريع النجمة: تلميذ الفلكي ثابت بن قرة"

صريع النجمة
تلميذ الفلكي ثابت بن قرة
قصيدة للشاعر الأمريكي ناثانيل باركر ويليس
ترجمة عبدالله الحراصي






الشاعر
ولد ناثانيل باركر ويليس في بورتلاند في مين بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1806، وقد كان كل من أبيه وجده صحفيين ومحررين في صحف تصدر في بوسطن. درس الشاعر في إحدى أشهر مدارس بوسطن هي مدرسة بوسطن اللاتينية، ثم قضى شطراً من حياته في أندوفر تحضيراً للدراسة الجامعية. كتب في سنوات مراهقته الشعر، وأثناء دراسته في جامعة ييل نشرت بعض قصائده في دورية "بوسطن ريكوردر" التي أنشأها أبوه، ونشرت هذه القصائد في مجموعة شعرية عند تخرجه من جامعة ييل عام 1828.
عقب تخرجه عاد ويليس إلى بوسطن حيث ساعدته علاقات عائلته في بواكير محاولاته الأدبية، فعمل محرراً لدى أحد أشهر الكتاب والناشرين الأمريكان آنذاك وهو صمويل ج. غودريتش، وتمكن في عام 1829 من نشر دوريته "ذي أمريكان مونثلي ماجازين" (المجلة الشهرية الأمريكية)، وهي مجلة استمرت لعامين ونصف تمكن ويليس خلالها من ترسيخ نفسه باعتباره شخصية معتبرة في المجتمع البوسطني المحافظ، فعرف عن ويليس في تلك الفترة اهتمامه الشديد بالأزياء والتأنق، وهو ما جعل هذا المجتمع يطلق عليه اسم "داندي" (الذي يعني بالعربية "الغندور" أو الشخص المتأنق).
انتقل ويليس عام 1831 إلى مدينة نيويورك حيث عمل محرراً مشاركاً في جريدة "نيويورك ميرور"، وكان دوره في الجريدة يتمثل في كتابة مقالات عن رحلات يقوم بها إلى أماكن مختلفة في العالم، وقد أحرز في مهمته نجاحاً كبيراً فبعثته الجريدة إلى انجلترا وغيرها من دول أوروبا لكتابة سلسة من المقالات حملت عنوان "أمريكي في الخارج". استمرت إقامة ويليس خارج أمريكا ما يربو على خمس سنوات عاد بعدها إلى الولايات المتحدة وبرفقته زوجته الانجليزية ماري ستيس.
بدأ ويليس أثناء إقامته في انجلترا في كتابة بعض القصص القصيرة قام بنشرها عام 1836 تحت عنوان "إيماءات المغامرة" وهي قصص سارت أسلوبياً على خطى الروايات الرومانسية من ناحية قلة تطوير الشخصيات وعدم الاهتمام بالواقعية واعتماد القصص على بيئات غريبة. كما قام ويليس أثناء عمله محرراً لعديد من المجلات بنشر مجموعته الثانية من القصص القصيرة تحت عنوان "غرام السفر" عام 1840، ثم نشر في عام 1845 مجموعته الأخيرة من القصص القصيرة التي حملت عنوان "الحياة مع قلم رصاص حرّ"، وقد شهد هذا العام وفاة زوجته الانجليزية. وقد حاول ويليس كتابة المسرحيات فاشتهرت مسرحيتين من مسرحياته هما "فيانسا فيسكونتي" و"تورتيسا".
في عام 1845 اشترك ويليس مع جورج بوب موريس في تحرير مجلة "هوم جورنال" وهي مجلة كانت تنشر آخر الكتابات الأدبية من شعر وقصص قصيرة إضافة إلى كتابات ويليس نفسه عن المشهد الاجتماعي، وقد قضى ويليس وموريس بقية عمرهما في تحرير هذه المجلة كما اشتركا في مشاريع أخرى من بينها أنطولوجيا أدبية هي "نثر وشعر أوروبا وأمريكا" التي نشرت عام 1857. في عام 1853 تقاعد ويليس من عمله وعاد إلى بيته الريفي على نهر هدسون وهناك استمر في الكتابة للصحف والمجلات، وكان اهتمامه يتركز آنذاك على تعريف القراء بالشباب الواعدين في الكتابات القصصية والروائية. وقد توفي هذا الشاعر في يوم عيد ميلاده الحادي والستين في عام 1867.
بلغت شهرة ويليس مبلغاً عظيماً في حياته فقد كان يظهر في كثير من الجرائد والمجلات، وقد انتقد من قبل الكثيرين لكونه يراعي الذوق العام في اختيار مواضيعه، ولمحافظته الشديدة في أسلوبه، إلا أن كتاباته، على الرغم من كل سهام النقد، ساعدت في ذيوع أدب الرحلات والقصص القصيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، كما أنها شرعت الأبواب أمام كثير من المواهب القصصية الشابة. (ملاحظة: اعتمد المترجم في المعلومات أعلاه حول الشاعر على سيرته الذاتية المنشورة في موقع ليون تشادويك على شبكة الانترنتwww.lion.chadwyck.co.uk) )).

صريع النجمة
تلميذ الفلكي ثابت بن قرة
الجزيرة العربية ليلاً: منذ ساعة
أفُلَت "ديان" (1) الشاحبة من السماء،
طارحة حزامها على البحر،
والنجوم العَليَّة، إذ أزُفَت نوبة حراستها،
تقف متيقظة وحيدة، أما الأرض المتنفسة،
الغارقة في نومها والراقدة في نداها الفضي،
فلا ظل يتحرك على صدرها،
فيما يتضوع العبير الحبيس ويغادر زهوره صوب الأحلام،
مرتعشاً في أجنحته الخفية التي لا عدّّ لها،
ويتسلل مع النسيم العليل.
هو ذا برج ثابت بن قرة الشامخ تدثره الظلمة،
في أشد دروب مكة وحشة.
وحينما يدلهم الليل يشعل قنديله
بثبات كأنه "الدب الأصغر"،
ومن نافذته ينصب أنابيبه النحاسية.
كانت بغيته دائماً النجمة الوسطى
في تلك الغيمة السديمية الخافتة،
التي تعلو الآن فوق جبل عرفات. لم يكن ظلام السماء
أكثر حلكة من هذه الليلة قط،
وفي قلب أعماقها تومض النجوم الملونة كأنها اللئالئ (2)،
فـ"قلب العقرب" المتلون (3)،
يتوهج ثم يخفت في القوس الجنوبي
ونجمة "النسر الواقع" اللازوردية
تتقد، كعين امرأة، في تَلألُؤ أزرق خافت،
و بعيداً فوق الصحراء يومض نجم القطب الساطع،
أبيضَ كدلاة جليدية مومضة، وها هنا،
يتدلى المريخ ببريقه الداكن
كأنه قنديل معلق فوق بحر العرب، أما أجملها طُرَّاً
فهي "الشعرى اليمانية" الوديعة (4) بلونها البنفسجي الندي،
كأنها زهرة على نهد حواء،
وفي سمت الرأس تتدلى "الثريا" الفاتنة (5)
(يا حسرتا! حتى النجوم قد تشق طريقها مغادرة السماء،
دون أن نفتقدها)، وكوكبة "الثريا" المترافقة معاً،
تتجلى هناك، رغم أن أبهى الأخوات قد أفُلَت.
وبعيداً إلى الجنوب
تقف كوكبة السنونو (6) قليلة الرفاق،
والفيستاء، بيضاء الحواجب، تشع في دربها،
وحيدة مطمئنة وبعرض السماء.
تحتشد الليلة حتى تكاد أن تنطق
كأنها ملائكة طاهرة تلقي على نبي وحياً.
جثا ابن قرة امام تلسكوبه (7
محدقاً، بخشوع وصمت، في النجوم
خصلات شعره الأشيب، التي شقت طريقها من تحت طيات عمامته،
تتلاعب بها نسائم الهواء على خده،
أما لحيته المهيبة فتنحدر فضفاضة
ببياضها السحري على صدره،
وقد تورم جلده الأسود عند أشرطة حذائه،
الذي شدته وقفته المؤلمة وميلان جسمه.
وأصابعه الذاوية على ركبته،
والأهداب الرقيقة فوق عينه المحملقة،
تلتصق جامدةً بعدساته،
وقد تصلبت عيناه من شدة النظر للأعلى. وساعة إثر أخرى،
إلى أن تذوب النجوم في حضن النهار،
يجثو الفلكي العجوز بلا حراك،
وقد أنسته النجوم المذهلة آلامه.
وساعة إثر أخرى، وبذات التأمل الصبور،
استغرق تلميذه الشاحب الوجه في حروف
مخطوطة كلدانية، وإذ أرهقه التحديق،
وضع العربي أسود العينين
رأسه على النافذة، ونظر هنيهة إلى السماء،
حتى رطب جفني عينيه الندى
وحُسنُ تلك الليلة المتدثرة بالصمت،
ثم عاد إلى شغله الشاغل،
بجَلَدٍ وصَبرٍ.
وميض الزهرة المتألق
يخترق سعف نخلة شامخة،
على حافة جبل عرفات،
وما أن وقعت عليها عينا التلميذ المنتشي حتى هبَّ،
وعلى عجل ولهفة أغلق السِّفرَ،
وإذ علت النجمة البهية،
وشقت طريقها إلى السماء العليا،
حدق فيها، حابساً أنفاسه، وقال: ـ ـ ـ
"يا نجمة الشعاع الفضي!
ساطعة أنتِ مثل الله، وعند ميقاتك كأنك عبد،
أي روح توجهك في صراطك المستقيم
وهبك ناموس الأزل ؟
أي روح، تمتطي سهام نورك،
تلك التي تجوب السماوات والأرض هذه الليلة ؟
"نعلم متى سترتفعين
فوق الجبل – ونعلم تغيرك، وموضعك، وميقاتك –
كله مُسَطَّرٌ في هذه الأسجوعة الصوفية الكلدانية،
وهو علم نفيس لا يقدر بثمن!
لقد عرفت عنك الكثير في عباءتي البدوية،
حين كنت أطوي الفيافي فوق صهوة جوادي الطائر!
"كم ذرعت رمال الصحراء وحيداً
بين الخيام طوال الليل
في انتظارك أيتها المتألقة!
بأي جلال انبجس حسنك المتقد في السماء
على عيني الظامئتين،
في فترات المراقبة الأخيرة!
"رباه! ان روحي لتطير
الى جلالِكِ – تسمو عُلُوَّاً في شعاعِكِ-
تخفقين، وأنت تسبحين في فلكك،
وكأن جبروتك،
تلك الروح المستغلقة التي ليس إليها من سبيل،
قد نصّبَ شِرْعَته المشعةَ حاكمةً على عقلي!
"من بين كل نجوم السماء
أشعر بك في قلبي! وغدا عشقك جنوناً،
وأفناني لهيبهُ.
أجل، حتى في الصحراء،
حين يعدو حصاني "عبرة" الداكن العينين على جانبي-
فإنت من سلب لبي، لا حصاني، ولا المجد الأثيل!
"لم يعد لعبرة وجود!
"طائر الصحراء" أمسى في مربط شخص غريب،
وقبيلتي وخيمتي: لقد ضحيت بهم جميعاً
من أجل علم يفني القلب!
أجل، إن طعم الحكمة يظل هو الأحلى في الوجود.
كنت الطالع عند ميلادي، أيها النجمة البهية!
"الكلدانيون يقولون انني لَكِ
وفي هذا اللحظة، عليَّ أن أنفلت،
وأستحيل روحاً على أجنحة من النور مثلك.
إنني أشعر الآن بأنك لي!
رباه! أما آن لهذه الأصفاد الثقيلة ان تبلى
وتعتقني لأقتفي شعاعك الفضي!"
[...] قام بن قرة
وصوب، صامتاً، بصره شرقاً.
كان الفجر ينسل بقدميه الرماديتين
خلسة إلى السماء، وسرعان ما خبت النجوم،
وأفلت، ولم تبق إلا الزهرة وحيدة،
خافتةَ، كأنها وهج ماس مذاب
وقد اشتعل في السماء. غدا الصبح أعذب،
وقد طلى الذهب حواف السحب العَليَّة،
وسعف النخيل يهسهس مع نسائم الصباح.
وانتشر نور الصباح طرياً في التلال،
وما زالت النجمة هناك متجلية،
وما زال البدوي الصغير، بعين محملقة،
يحتسي في روحه نورها الراحل.
ها قد توارت، ذابت،
وبزغت الحافة المتقدة في الشمس الجلية،
وضغط التلميذ العاشق، بألم، على عينيه
بأصابعه القاتمة وبأطراف واهنة،
كأنها أطراف طفل هدَّهُ المرض، وسقط على أريكته،
ونام. [...]
II
[...] أنها نوبة المراقبة الصباحية مرة أخرى:
كانت السحب تنساق سريعة في الأعالي،
تخترقها النجوم المتلألئة باهتة سريعة
وفيما حفت الريح المتقطعة باكية حزينة
اهتز مصراعا النافذة، وعلى السقف المائل
انهمرت قطرات مطر كبيرة متباعدة،
ثم هبط السكون مرة أخرى. جلس ابن قرة
بقرب القنديل الخافت، فيما رقد تلميذه عند قدميه،
ممعناً فكره في الحكمة الكلدانية.
استلقى الصبي العربي على حصير من القش،
مغمغماً بسرعة في نومه المضطرب،
محركاً، بتشنج، أصابعه الداكنة في راحتي يديه.
وشفتاه الشاحبتان كانتا واهنتين،
وفيما تحركت شفتاه، برزت أعماق فمه من بين أسنانه،
تلك الأسنان البيضاء كعظام المقابر.
وفيما كان جفناه ملتصقين بعينيه الغائصتين،
كأنما يضغطان على صورة مرعبة في مقلتين محتقنتين بالدم،
سرت رعشة، لوهلة، على جفنيه،
ثم استرخيا، نصف مفتوحين، في رقدة أهدأ.
حدق بن قرة في الرمال التي نزلت
من الساعة الفائتة. نزلت آخر حبات الرمل الأبيض
وبيد مرتعشة أكل الدهر عليها وشرب
قلب الفلكي العجوز الساعة الرملية.
وفيما استمرت المراقبة الصامتة،
ومع تناقص لحظات الساعة الثمينة،
نظر إليها بشفة مضطربة
ثم قلب نظره إلى السماء
صاباً جام لعناته القانطة على السحب.
"انه أوانها"
غمغم التلميذ المحتضر، ثم أزاح
الشعر الكث من أمام عينيه السوداوين
ثم استند على ثنايا ثوب بن قرة
وغالب نفسه ليقوم على قدميه، ثم جثم
على إفريز النافذة، وحدق، بثبات جأش،
الى الشرق: --
"ثمة سحابة تغطيها
انها تجلس هذه اللحظة على حافة الجبل،
وهذا الخمار المظلم يواري بهاؤها الآن،
إلا أنها تسبح بجلال
صوب السماوات. رباه، كم بودي لو أطير
في سحابة روحي، وأمضي!
"ها قد أخذت السحابة تنفسح!
آه، تباعدي أيتها السحب، إنها النجمة، إنها السماء!
المسيني أيتها الأم الخالدة، وسأطير!
انفسح، أيها الصدع بين السحب!
انفسح، فهذا المجد لابد أن يجد متسعاً لنوره!
انفسح، فالنجمة-الطفلة تؤوب على أجنحة النور إلى موطنها!
"حدثنني! أيتها الأخوات الساطعات!
انتن يا من تسبحن في هذه الأنوار الحية!
انت يا من تزرنني في أحلامي النجمية!
انت يا من تطرن على أجنحة أمنا المنيرة
بأفكارها التي نقشت من الألق--
"أخبرنني، أي جبروت لديكن؟
إلى أي سمو تصلن بأجنحتكن؟
ما الذي تعرفنه من عجائب الكون الهائلة،
التي أفنى كي أراها؟
هل أنتن سريعات كلمح الخواطر؟ هل تطرن مثلها بعيداً،
بسرعة الخواطر، من نجمة إلى نجمة؟
"اين ذهبت الثريا؟"
أين وجدت النجوم المفقودة (8) نوراً ووطناً؟
من الذي يأمر نجمة "الاعجوبة" (9) ان تأتي وتذهب؟
من الذي علَّقَ نجمة القطب وحيدة؟
ولماذا تمضي النجوم الرائعة خلال الهواء
في جحافل منيرة، كأنها أخوات متعانقات؟
"هل لحظت هذا يا ابن قرة؟
النجمة! النجمة؟ رباه! لقد أخفتها السحب ثانية!
لقد مضت-- وأنا حي! كلا، هل سيزداد خفقان فؤادي؟
انظر أيها المعلم! لقد حلت ظلمة مدلهمة!
لقد حلت الظلمة الحالكة! إن مقلتي عيني تضيقان!
هيا اخترقي السحب ثانية! يا أمي النجمة!
"سأضطجع ولكن لن أنام!
إن المطر يطلق العبير من الصمغ
وتأتي الليلة رياح الطيب عليلة كما لم تأتِ من قبل!
إنني دائما أغدو طفلاً
حينما تكون هي قبالة جبهتي! أواه يا "عبرة" العزيز!
كم أود لو كنت أجوب فيافي الصحراء فوق صهوتك!
"يا حصاني، أيها الجواد الرائع!
يخيل إلي أن روحي سترتقي في إثره
بمزيد من السرعة، كم أود لو أموت على صهوتك!
كيف لسرعتك المجيدة
أن تثير نبضي وتسرعه! -- يا الله! – ها قد هاج فؤادي!
آه، لو أعود طفلا في صحرائي ثانية!
"كلا، كلا، لقد نسيت
أمي! أمي النجمة! آه، نفسي يتقطع،
أريد هواءً، مزيداً من الهواء، انه -- انه الموت يا ابن قرة!
المسني! -- إنني لا اشعر بك!
إنني أموت! وداعاً، أيها المعلم العظيم! -- الأرض تضيق، أريد فسحة
"عبرة"، كم عشقتك! وأنت أيتها النجمة، أيتها النجمة المنيرة! إنني ... قادم!
ما أكثر ما نتحدث عبثاً عن قلب الإنسان!
ما أسوأ وأتفه العظة
التي تُعلِّمنا أن ثمار جنات عدن
لا يمكن قطفها بحرية من "شجرة الخير والشر".
إن الحكمة تظل وحيدة
في السماء في أعلى عليين، إنها نور الحكمة، إلهتها!
وفي قلب الإنسان تسمو،
برغم أن العيون المتذللة طالما نسيتها،
ولا ترى إلا أوثان هذه الدنيا.
أما البصيرة الصافية فتراها للأبد.
وفي شبابنا نأتي مملوءين بجذلها القدسي،
ونركع، نعبد الله من خلال نيران مذبحها العذبة،
حينها تكون الحكمة هي "الخير". لطالما جئنا --
ويزداد مجد الفؤاد المنتشي،
وسرعان ما ننظر بحرية طليقة إلى العذراء
الجالسة على العرش في البهاء السماوي. هناك تجلس
مرتدية ثوب فتنتها الملائكية البديعة
تأمر وتغفر، ونحن نحدق
حتى تجيش فينا الرغبة، وأيدينا
ممسكة بأرديتها، فتهلكنا نار تهوي علينا من السماء،
ولكن، آه، إن نغمات الحكمة الهادئة
لتتنفس الموسيقى من شفتيها! إن إطراء البشر
عذب، حتى يشينه الحسد، ولمعان الذهب
يزعزع خفقان الفؤاد،
وعشق النساء، لو كان في قنديل متسول،
لأضاء، وربما أنا لنا سبيلنا في دروب العالم،
غير إن للحكمة لساناً إغواءه أعظم وأشد.
ستهبط الحكمة وستقودك إلى النجوم
وستفتنك بألغازها، حتى يغدو الذهب
خبثاً منسياً، وتصبح السلطة والشهرة
متعة ساعةـ وعشق النساء
واهياً كنفخة الهواء التي تبعثره.
أما من عقد روحه بالمعرفة فإنه قد سرق مفتاح الجنان،
ولكن ما أمرها من خديعة: أن تتدلى الثمرة
في متناول يد المرء، وحينما يستبد به الظمأ
ويدفعه إلى الجنون ويحاول أن يتذوق طعمها،
فإنها تحرق شفتيه وتحيلهما رماداً!
----------------------------
حواشي
(1) Dian (ديان) او Diana (ديانا) هي الإلهة-القمر عند الرومان، وتعادل أرتميس Artemis الاغريقية، وتستخدم الكلمة في الشعر للإشارة إلى القمر حينما يشخص باعتباره إلهة. [المترجم]
(2) "تبدو النجوم حتى للعين المجردة متباينة الألوان على نحو جلي، إلا انه حينما يراها الإنسان عبر قطعة زجاج منشورية فإن الألوان تتضح ويمكن تقسيمها الى الأحمر والأصفر والأبيض اللامع والأبيض الخافت وألوان متداخلة. ويصدق هذا كذلك على الكواكب التي تصدر شعاعها بعكسها للضوء، ولا ريب أن اختلاف الألوان يعتقد أن مرده اختلاف قواها في تلقي وعكس أشعة الشمس. إن تكوين النجوم الأصلي والقوى المشتتة في أغلفتها الجوية المختلفة يمكن أن يعد سبباً لهذه الظاهرة." [المؤلف]
(3) لهذه النجمة سمة تميزها عن سواها من النجوم وهي التغير الجميل والسريع في ألوان ضوءها، حيث يحدث تناوب في ألوان ضوءها من اللون القرمزي المحمر الكثيف الى اللون الأبيض الساطع [المؤلف]
(4) تشع الشعرى اليمانية حينما ترى عبر قطعة زجاج منشورية حزمة كبيرة من الأشعة الجميلة البديعة. [المؤلف]
(5) تقع "الثريا" في موقع عمودي في الجزيرة العربية. [المؤلف]
(6) كوكبة عربية تعد بديلاً عن كوكبة Piscis Australis، لأن طائر السنونو يصل إلى شبه الجزيرة العربية في وقت الارتفاع الشمسي لبرج الحوت. [المؤلف]
(7) الكاتب على وعي بأن التلسكوب لم يتم اختراعه الا بعد قرن او قرنين بعد زمن ثابت بن قرة. [المؤلف]
(8) يكثر الحديث عن "النجوم المفقودة" في كتب الفلك القديمة، فيذكر هيبارقوس Hipparchus نجمة ظهرت ثم سرعان ما اختفت، وفي مطلع القرن السادس عشر اكتشف كبلر Kepler نجماً جديداً قرب القدم الأيمن للمجموعة النجمية Serpentarius، وهو نجم "في غاية السطوع والتألق على نحو يفوق كل ما رآه من قبل". ولاحظ "أن لونه يتغير في كل لحظة إلى لون من ألوان قوس قزح، إلا حينما يكون قرب الأفق، حينما يكون أبيض اللون في الأغلب." ثم اختفى في العام الذي تلاه، ولم يراه أحد بعد ذلك.
(9) نجم مدهش في رقبة الحوت، اكتشفه فابريقيوس Fabricius في القرن الخامس عشر. وقد يظهر ويختفي سبع مرات خلال ست سنوات، ويستمر في لمعان وبريق عظيمين لمدة خمسة عشر يوماً معاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق