الاثنين، 20 ديسمبر 2004

حول تغير الأخلاق في المجتمع العماني

حول تغير الأخلاق في المجتمع العماني

عبدالله الحراصي

نشر ملحق "شرفات" الثقافي مقالاً مهماً للكاتب العماني حسين العبري حول تغير "سقوط" الأخلاق، سعى فيه إلى تبيان بعض معالم ما اعتبره تغيراً للأخلاق في المجتمع العماني، وخلاصة مقاله هو "أن هناك تغيرا حاصلا في الأخلاق التي ينتهجها المجتمع العماني في هذه الآونة وهذه اللحظة من التاريخ... ثمة تغير بإيقاع سريع حاصل في المجتمع العماني هنا والآن"، وقد استطاع بطرحه الأدبي الطريف المبتعد عن التعقيد الذي يرافق الكتابات التي تتعرض لمثل هذه المواضيع (خصوصاً الأكاديمية منها) أن يتوغل في مساءلة كنه التغير واتجاهه وبعض تجلياته. غير أني أجد نفسي بعد قراءة هذا المقال مستثاراً ببضعة آراء حول بعض ما ورد في هذا المقال وحول موضوع الأخلاق والتغير الاجتماعي في عمان.

استوقفتني بدءاً كلمة "الأخلاق" نفسها، والأخلاق كما هو معروف قضية لها أبعاد كبيرة تخص كل مستوى من مستويات الحياة البشرية، ويتجلى أهمية هذا البعد من أبعاد الحياة في مبحث كبير من مباحث الفلسفة يحمل اسم "فلسفة الأخلاق"، وهو مبحث يختص بجوانب الكيفية التي ينبغي أن يعيشها بها الإنسان، ويسأل أسئلة مثل "ما هي السعادة؟ أهي سعادة الفرد، بما يتبعها من سلوكيات فردية، أم سعادة المجتمع أو الكل بما يتبعها من خضوع؟ هل من الصواب أن يكذب المرء بنية حسنة؟ هل من العدل أن أعيش غنياً وسط مجموعة من الفقراء؟ وأسئلة كثيرة تختص بالحياة كما ينبغي أن تكون. وتثار فلسفة الأخلاق في حياتنا المعاصرة في حالات يدخل العلم الحديث طرفاً فيها، فهل يجوز القتل "الرحيم" على سبيل المثال؟ أهو جريمة قتل صريحة أم رحمة ورأفة؟ وهل ينبغي للإنسان أن يقبل الاستنساخ أم يرفضه؟

أقول استوقفتني كلمة "الأخلاق" لأن ما فهمته من حديث حسين العبري هو التركيز على "السلوكيات" وليس على "الأخلاق" ذاتها. الأخلاق هي محددات الصحة والخطأ في السلوك، وهي محددات يتفق عليها الأغلبية في المجتمع إلى أن تأتي لحظة تأزم في قبول هذه المحددات، وما يبرز في مقال حسين العبري هو في السلوكيات وتغيرها، وما أراه هو أن الأمثلة التي ضربت على هذه التغيرات في السلوك الفردي أو الجمعي في المجتمع لا تعني أبداً أن هناك حالة تغير في الأخلاق حيث لا تتغير الأخلاق إلا بأزمة يمر بها المجتمع. ربما يحمل الابن العماني جهاز الحاسوب في حضنه بينما لم يكن يعرف أبوه كيف يفك رموز الحروف، وربما يستبدل السيارة بالجمل إلا أن هذا كله لا يعني أبداً، كما ذكر حسين، أن هذه الاختراعات، وقد اختزلت في أربعين سنة أو أقل، قد بعثرت كيان وعقل العماني. عقل الإنسان العماني لم يتغير في جوهره، ولم تتغير الأخلاق، وإنما تغيرت التمظهرات التي تتجلى فيها القيم الأخلاقية. لا ريب أنه قد حدثت بعض التغيرات السلوكية التي لا يمكن إنكارها (النقاش حول تغير الأخلاق هو تغير في حد ذاته) إلا أن مفاصل الصحة والخطأ المقبولة اجتماعياً لم تتغير كثيراً.

لا أرى المجتمع في السلوكيات البارزة لدى أفراده، بل أفضل قياسه في السلوكيات غير البارزة. أعني أنني أفضل ألا نركز على البقعة البسيطة المساحة التي يضيئها مصباح التطورات الاجتماعية العصرية (الكمبيوتر، مقاهي مسقط، القرصنة الانترنتية) بل على تلك المساحة القاتمة المهولة التي ما تزال على حالها (وأنا هنا لا أعطي حكماً قيمياً تفضيلياً لأي من المساحتين). المجتمع لم يتغير (كثيراً، على أقل تقدير) فحال بنيته هو نفسه، وما زال الفرد مغيباً لأن هويته مرتبطة بالجماعة التي ينتمي إليها (أسرة، قبيلة، مذهب ديني، عرق)، وما زال المجتمع ذاته بنفس البنية البطركية القديمة التي احتفظت بنمط تراتبيتها التي تمنح الرجل-الأب السلطة المطلقة وصولاً إلى قمة الهرم الاجتماعي.

أجل ثمة أحلام بالتغيير في الأخلاق الاجتماعية تصطدم بالعادة بصخرة أخلاق المجتمع الثابتة، وتظهر هذه الأخلاق الحلمية الطابع في حالات تأزمية مثل الرغبة في الزواج بين طرفين "ينتميان" إلى موقعين في البنية الاجتماعية القائمة. هنا تظهر الأزمة وينكشف الثبات في الأخلاق الاجتماعية، فتبدأ لدى الطرف الأقوى عملية تقصي في تاريخ الطرف الآخر، وكلما وصل الاستقصاء إلى التاريخ الأقدم في أسرته كلما وفر خلفية أكثر دقة تحدد عملية اتخاذ القرار الرهيب. قد يقال أن ثمة حالات كسر حدثت لهذه البنية، ولكنها حالات قليلة تثبت أكثر ولا تنفي الأخلاق المهيمنة.

يمكن للمرء أن يضرب أمثلة أخرى على الثبات الاجتماعي. لنأخذ وضع المرأة مثلاً: ما زال الكثيرون (وإن لم يكن الجميع) ينظرون إلى المرأة من خلال نفس النظرة الوظيفية القديمة التي تتجلى في أمثلة شائعة مثل "ثوره من بقرته وبيداره من حرمته" (أي أن المزارع يعيش حالة اكتفاء ذاتي فثور الحراثة ستأتي به البقرة التي يربيها، وستأتي زوجته بطفل سيكون في المستقبل هو العامل الذي سيتولى شؤون المزرعة). المعنى الاجتماعي لهذا المثل يجد صداه في بعض العبارات الشائعة بين أوساط معاصرة (من الشباب في الأغلب) في عمان مثل الحديث عن المرأة العاملة بأنها "سكني تجاري" وفيه طبعاً إسقاط لتجربة الأرض التي يمكن استغلالها سكنياً وتجارياً، وكذلك القول "تزوج معلمة واحصل على سيارة كامري" بما فيه من نظرة منفعية صرفة للمرأة تنزع عنها الإنسانية الفردية. تغير الأخلاق كان سيفترض وضعاً آخر (ليس بالضرورة "مساواة"، وهو مفهوم غائم الدلالة) يختلف عن الوضع القديم، ولكن كل ما حدث هو أن الحروف تغيرت فيما تبقت المعاني ذاتها.

هل تبعثر كيان وعقل العماني؟ أبداً. كل ما تبعثر هو الشكل القديم لحياة ذلك الإنسان، وحل محله شكل جديد. يرى حسين العبري أن ثمة تغيراً قد حدث بالانتقال إلى المدينة فقد فقدنا الأخلاق القروية، ولكن هل هذا صحيح؟ هل لدينا مدينة حقاً؟ مسقط، أهي مدينة، أم أنها قرية كبيرة (ومرة أخرى بدون حكم تفضيلي)؟ التحول لحال المدينة من حال القرية له شروط لا تتحقق هنا، لأسباب عديدة منها غياب المجتمع الرأسمالي الصناعي الذي يحدد "أخلاق" المدينة، ومنها كذلك محدودية عدد السكان في عمان كلها بما لم يسمح (حتى الآن على الأقل) بتغيير في محددات الصحة والخطأ الاجتماعيين. ما زال العماني الذي يقطن خارج مسقط يعود إليها بين فترة وأخرى ويسميها "البلاد" ويصلي فيها "وطن" بما تحمل هذه المفاهيم من ثبات ورسوخ في عمق الرؤى والأخلاق. تسأل إنساناً يعيش في روي أو القرم عن بلده فيقول لك انه من الرستاق أو بخا أو رخيوت برغم أنه من الجيل الثالث (إن أردنا أن نستخدم المصطلحات المستخدمة في الغرب المديني)، وكأنه يشعر بعار خفي من أن يقول أنه من مسقط (التي لم تصل لمرتبة المدينة بالمقاييس العالمية أصلاً).

أجمل هذا المقال القصير فأقول أنه ينبغي علينا ألا نمضي بعيداً في تخيلنا للتغير الاجتماعي أو في تغير الأخلاق الاجتماعية، فما حدث ليس سوى تغيرات تمس السطح والقشرة والشكل ولا تصل إلى العمق والمعاني الاجتماعية الراسخة الثبات. كذلك فإن التغيرات الاجتماعية هذه لم تغير المفاهيم الأساسية في حياة المجتمع العماني، وما يراه المرء من تحولات متسارعة في بعض "جيوب" مسقط (المجمعات التجارية وأماكن المهرجانات مثلاً) ليست إلا بقعة شكلية بسيطة تخفي وراءها قارة هائلة المساحة في الحالة الاجتماعية التي لم تمسها يد التغيير لا أخلاقاً ولا سلوكاً.

هناك تعليق واحد:

  1. قرأتي للمثل العماني "ثوره من بقرته وولده من حرمته" تخلف عما ذهبت إليه في مقالك

    فهو لا يحمل أي توجهات عنصرية ضد المرأة بل يعني الأعتماد الكلي على الفرد في تسير حياته ومعاشة

    النصف الأول من المثل اساسي يكمن فيه المعني العام من المثل أما النصف الثاني فهو مكمل على نفس الصيغة

    بهذا المثل يقول العماني القديم بأنه لا يعتمد على أي موارد خارجية في تسيير حياته فالثور الذي يحرث به الأرض قد جاء من بقرته الذي تتكفل هي الأخرى بأمداده باللبن واللحم والزبد

    والولد الذي يساعده في أعماله وزراعته أنجبته زوجته فهو ليس بحاجه لتأجير شخص آخر

    ردحذف