عن الصوت والقول في الثقافة العربية
عبدالله الحراصي
المتابع لوسائل الاعلام العربية ولما تصدره دور النشر العربية يذهل لكمية الأصوات المكتنزة والمتزاحمة. أصوات لا أول لها ولا آخر، تتصارع فيما بينها وتختلف في كل شيء، غير أن العجب العجاب هو أنها في الآن ذاته تتشابه في كل شيء وأهم ما تتشابه فيه هو أنها لا تقول شيئاً له معنى. تفتح جهاز التلفاز لتشاهد "حواراً" (هكذا يسمى) فتعجب أن المتحدث أو المتحدثين يكررون أصواتاً سمعتها من قبل، ليس مرة أو مرتين بل ربما مئات أو آلاف المرات. كما أنك تقرأ جريدة أو كتاباً فترى أحرفاً سوداء تغطي عشرات الصفحات دون أن يستوقفك كاتبٌ ترى أنه يقول شيئاً له معنى يختلف عن بقية الأصوات (إلا من رحم ربك).
لقد فقدت الأغلبية (المتحدثين والمستمعين، والكتاب والقراء) الشعور بأنهم يتعاملون مع أصوات فقدت معانيها الحقيقية لتكرارها وذيوعها. وفقدان الشعور هذا هو الأخطر في أمر هذه الظاهرة، وهو لا يخص مستخدمي اللغة (كتاباً ومتحدثين) بل يرتبط كذلك بالمتلقين (القراء والمستمعين) الذين لا يلاحظون أن ثمة أمراً إشكالياً خطير الشأن يحدث، فهم يتلقون هذه الأصوات دون أن يسألوا عن سببها أو عن سبب تلقيهم لها عن طيب خاطر، بل واستمتاعهم بها في كثير من الأحيان.
ينطلق هذا المقال إذاً من تفرقة أساسية بين حالتين من حالات استخدام اللغة هما حالة "الصوت" وحالة "القول". تتميز حالة "القول" بوجود إنسان يستخدم قدراته العقلية التحليلية أو التركيبية ليخرج بنتيجة قد تكون تحليلاً لموضوع معين أو حلاً لمعضلة ما، ويكون هذا "القول" متميزاً بحيث يستوقف الآخرين ويجعلهم يتأملون فيما قال ويجعلهم يقبلون على مستقبل حياتهم بتغيير ما، وإن كان ضئيلاً. أما في حالة "الصوت" فإن هناك إنساناً يردد صدى لصدى لصدى لصدى لقول (وعدد الأصداء ليس بذي بال هنا، فالمهم أنه لا يقول بنفسه شيئاً).
الفرد الصوتي يسعى ليقول ما تقوله الأغلبية وما تتوقعه الأغلبية، ويسعى للتميز أحياناً عن طريق واحد هو أنه يغالي في إنغماسه في ما هو متوقع، وربما صارع أصواتاً أخرى لأنها خانت قليلاً الأصوات المتوقعة، وهو بهذا يسعى الى أن يجعل سامعيه يرددون نفس "الأصوات" لتستمر الحياة الصوتية المألوفة. "الصوت"، إنتاجاً واستقبالاً، يصبح بهذا المعنى تجميداً للأوضاع الآسنة المألوفة على كل المستويات. أما الفرد الذي يقول فهو متميز أصلاً بطبيعة تفكيره وبما يقول، كما أنه يسعى من خلال قوله إلى إحداث تغيير في توقعات القراء والمستمعين ونظرتهم لحياتهم. وبهذا فإن "القول"، إنتاجاً واستقبالاً، هو فعل تغييري يسعى الى أن يكون العالم قبل "القول" مختلفاً عن العالم بعده (وكلمة "العالم" هنا تشمل صغرى الأمور وكبراها).
لنضرب مثالاً على حالة "الصوت". لنتخيل الأصوات التالية: "إن الحالة المعيشية في الوطن العربي من الخليج إلى المحيط مزرية ترتبط باقتصاد متهالك ونظام تعليمي يدمر القدرات، كما ان الحياة العربية تخلو من الديمقراطية واحترام حقوق الانسان، ويشعر الانسان الفرد فيها بالضياع وفقدان الوعي بحقوقه". لا ريب أن هذه ليست أول مرة تسمع أو تقرأ فيها مثل هذا الكلام، بل ربما قرأته أو سمعته مئات إن لم يكن آلاف المرات. لماذا إذاً يقوله من يقوله؟ ولماذا لا يحتج من يسمعه ويقول لقائله "كفى، قل شيئاً أو اكتب شيئاً مختلفاً أو فاصمت"؟ المسألة ذات جانبين: الجانب الأول هو أن إصدار "الأصوات" المكررة هو ظاهرة "طبيعية" في الثقافة العربية، والجانب الثاني يتمثل في أن تلقي هذه الأصوات هو نفسه ظاهرة "طبيعية" لا تستوقف أحداً.
توجد مدرستان تفسران الوضع الصوتي العربي (أي كون العرب يصدرون أصواتاً ولا يقولون شيئاً). ترى المدرسة الأولى بأن سبب إنتشار الأصوات في الثقافة العربية المعاصرة يكمن في خلل أصيل في جوهر "العقل العربي" أو في قلب "الذهنية العربية"، وهو خلل لا يمكن إصلاحه لأن هذا العقل وهذه الذهنية يخلوان من عناصر التفكير الأصيل ولهذا فإن كل اللغة التي تنتج عن هذا الوضع هي لغة مكررة لحديث سابق. معنى هذا أن العرب مهما فعلوا فإنهم سيظلون إلى أبد الآبدين يصدرون أصواتاً ويكرروها ولا يقولون برغم هذا شيئاً. لا حاجة لبذل كثير جهد للقول بأن هذه المدرسة خطيرة لأنها عنصرية في منطلقها، حيث أنها تفترض درجات للتفكير بين الأقوام المختلفة وتبايناً لا يمكن تغييره في طبيعة استخدام اللغة يميز بين هذه الأقوام. كما أن هذه المدرسة خطيرة لأنها تشكل برؤيتها القائمة على سكونية العقل العربي وذهنيته مهاداً لتسكين الأوضاع العربية، بمعنى أنها تقول أن على العرب الاستسلام لهذا الوضع الصوتي التكراري لأنه لا يوجد أمامهم خيارٌ حضاري آخر.
بخلاف المدرسة العنصرية هناك مدرسة أخرى أكثر واقعية واكثر مصداقية فيما أرى تقوم على أن الوضع الصوتي العربي هو نتاج لعمليات واقعية ترتبط بمنظومة الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية العربية (أي أن هذا الوضع "نتيجة" نشأت عن "أسباب" تدافعية تحدث في الواقع لظروف معينة في الثقافة العربية وتوجد، وإن كانت بدرجة أقل أو أكثر، في ثقافات أخرى)، وهو ما يبريء العرب من الخلل الجوهري الذي يجعلهم يكررون أصواتاً ولا يقولون شيئاً.
وماذا عن التلقي؟ تفسر هذه المدرسة استمراء العرب تلقي الأصوات وعدم اعتراضهم عليه، بل واستمتاعهم به أحياناً دون أن يقول المتحدث أو الكاتب شيئاً ذا بال بنفس الأسباب التاريخية. فالعمليات الواقعية التي لا تسمح إلا بنشوء "الأصوات" وتمنع نشوء "الأقوال" توفر بالنتيجة بيئة لا يجد فيها العربي المتلقي أي شيء سوى هذه "الأصوات"، وهو ما يجعله يتوهم أن هذا هو الوضع الطبيعي، كما أن هذا المتلقي يرفض "القول" وينعته بالتعقيد أو بفقدان المعنى. كأن المتحدث الصوتي يقول للمتلقي "لا تخشى، سأقول لك ما تتوقع من أصوات" وكأن المستمع يقول للمتحدث "قل لي بحق الله الكلام الذي أتوقعه ولا تقل ما يهز توقعاتي، ولا تقل لي كلاماً لا أفهمه فإني قد أَلِفتُ هذا الوضع وأنا أستمتع به". بكلمات بسيطة أصبح هذا الوضع هو المتحكم بمنظومة استخدام اللغة في الثقافة العربية، فالجميع (إلا من رحم ربك بطبيعة الحال) يعيشون هذا الوضع الصوتي والجميع (مع بقاء الاستثناء السابق) يعملون على مده بالحياة والاستدامة.
هل سيكون العرب دائماً "ظاهرة صوتية" كما قال عبدالله القصيمي؟ هل سيستمرون في انتاج الأصوات وفي استهلاكها دون أن يقولوا أو يسمعوا شيئاً له معنى؟ الإجابة على هذه التساؤلات ليست سهلة، ولكن بكلمات بسيطة يمكن القول بأنه لا يوجد شيء خللي كامن في جوهر "العقل العربي" يجعله يصدر أصواتاً ولا يقول شيئاً، كما أنه لا محل للصدفة هنا، وهو ما يقودنا الى أن نسأل عن المستفيد من هذا الوضع. من صاحب الفائدة من استمرار إنتاج "الأصوات" وتقبلها عن طيب خاطر من قبل الغالبية من العرب؟ ومن صاحب الفائدة في ألا يستخدم الإنسان العربي قدراته العقلية وألا "يقول" شيئاً يغير به حياته وحياة الآخرين؟
الاجابة "الحقة" على مثل هذه التساؤلات ستكون "قولاً" ولن تكون "صوتاً" بطبيعة الحال.