نسأل الله العافية
عبدالله الحراصي
بدءا لا أود ان اشارك في جوقة قرع الذات وجلدها لكني أرى ان المشهد العربي مذهل في غرابته وغرائبيته، جمع المتناقضات جميعا وآلف بينها، وهو مشهد ديمقراطي، يوفر لكل انسان ان يمارس ما يريد وان يكون ما يريد، فمن أراد الضحك سيجد في حال العرب ما يضحكه بلا توقف، ومن أراد البكاء فلن يجد حالا في الكون بأكمله مثل حال العرب يثير العبرات والبكاء الذي لن يتوقف كذلك، ومن يؤثر الصمت فحسبه أن يتأمل ويتألم ويصمت، ومن أراد ان يتبنى صوت "العقل" ففي حال العرب ما يكفي للمواعظ وأخذ الدروس وإعطائها، أما من يريد ان يرمي العقل وراء ظهره فيمكنه ان يمارس الجنون الى لا نهاياته.
يعيش المجتمع العربي لحظات وجودية صعبة، فهو غارق في وضع حضاري متخلف ينقصه العلم والانتاج والاقتصاد الآمن المتعدد الموارد الذي يمكنه ان يسند تنمية مستديمة، ويغيب عنه الفهم الواعي لما يحدث، وهو غارق كذلك في هزيمة حضارية وصلت الى سويداء القلب وتكاد ان تقضي على ما تبقى من الانسان العربي، وهنا تُطرح رؤيتان إزاء هذا الواقع المتخلف المنهزم، اولاهما تنطلق من القبول به قبولا تسليميا تاما يرفع الانسان العربي من خلاله راية ناصعة البياض في واقع فاحم السواد، وثانيهما تنطلق من مبدأ الثأر، وتقوم على أساس ان هناك عناصرا أكثر أصالة في المجتمع العربي هي التي ينبغي ان تسود كالعنصر القومي او الديني او الطائفي، ولا يمكن لهذه العناصر ان تسود دون أن تتجذر في جوهر حياة هذا المجتمع وأن تتخلص من العناصر الأخرى التي تعتبر أقل أصالة او غير ذات أصالة في المجتمع، وينبغي للعناصر الأساسية في المجتمع العربي، بحسب هذه الرؤية، ان تثأر لكرامتها ولذاتها الجريحة من كل من امتهنها، غير ان الرؤيتين قاصرتان في جوانب كبيرة لعل أهمها انهما لا يستطيعان انقاذ المجتمع العربي مما هو فيه ونقله نقلة حضارية متقدمة عبر نشر قيم انتاج وحضارة لا قيم تسليم او ثأر وتعصب.
يصور الكثير هذه اللحظة من التاريخ العربي على انها لحظة هزيمة ولحظة احباط، وهي كذلك حقا، ولكنها لا ينبغي ان تستمر كذلك، وأول ما ينبغي فعله لتجاوزها هو فهم ما حدث وما يحدث. وهذا الفهم ليس الفهم السطحي المباشر، بتجلياته السياسية الفجة التي تتجلى في الانفعال بالاحداث المتفرقة، بل الفهم العميق للخطوط التي تحكم تلك الاحداث المتفرقة التي يقر الجميع بتخلفهما وانهزاميتها، أي فهم للأسباب الأكثر عمقا التي جعلت من الأحداث التي وقعت وتقع والاوضاع التي سادت وتسود أمرا ممكنا وواقعا مقبولا لا يثير التساؤل العميق. وفي حالة حضور مثل هذا الفهم الأعمق لأسباب ما يحدث فإن المجتمع عندها سيستبدل فهمه المؤقت المباشر للأمور بفهم أفضل حتى للهزيمة الحضارية ذاتها وأسبابها ومداها وأبعادها. هذا الفهم العميق للأمور سيعين في تحديد من الذي هزم المجتمع العربي وكيف ولماذا، فالهزيمة الحضارية ليست هي بطبيعة الحال الهزيمة العسكرية والسياسية، والعدو في حالة الهزيمة الحضارية ليس هو العدو السياسي والعسكري.
وتنقسم القيم التي تحكم سلوك الجماعات الى نوعين رئيسيين (وربما وجدت بينهما تدرجات مختلفة). النوع الاول هو القيم المنتجة الايجابية، اي القيم التي تتمظهر مثلا في الآية القرآنية الكريمة "إقرأ" وسواها من الآيات الكريمة التي تحض على النظر في الكون واستخدام العقل والتسامح مع الذات ومع الاخر. هذه القيم هي التي قادت الازدهار الحضاري الذي ظهر في فترات مختلفة من التاريخ العربي، وكان من أبرز تجلياتها الحياة العلمية والازدهار والتسامح الحضاري كما نجدها في العهد العباسي على وجه الخصوص، وهي نفس القيم التي كانت وراء حركة التأليف والبحث العلمي والترجمة التي أفاد منها الكون بأكمله. أما النوع الثاني من القيم فهي القيم التي تحد من قدرة الانسان على استخدام قدراته، وهي القيم التي تنحو بالانسان الى التقوقع على الذات والى حِدِّية الرؤية وأحاديتها، اي القيم التي تغلق أبواب شرعتها قيم الحضارة المنتجة.
والجانب المتخلف المنهزم من الحالة الحضارية العربية المعاصرة هو نتاج حضور قيم تنتمي الى النوع الثاني، اي قيم التخلف التي تحد من قدرة المجتمع العربي على تجاوز الواقع السلبي. ان الاخطر في أمر قيم التخلف والهزيمة هو انها لا تتسبب في انتاج الواقع المتخلف المنهزم فحسب، بل انها تعمل على نحو يعمي أعين المجتمع من أن ترى ما وصل اليه من تخلف وهزيمة حضارية، فيعيش الناس حياة عادية وكأن كل شيء يسير على ما يرام. هذه القيم تفقد حساسية الانسان تجاه ظروفه وتضرب في الصميم قدراته النقدية في كشف المدى الذي وصل اليه هذا التخلف ومدى الهزيمة الحضاريين.
ومن ابرز تجليات هذا العمى الحضاري رفض المقارنة بين حال العرب وحال الامم المتقدمة، وهو رفض يقوم على رؤية احادية لا ترى الا الذات المتضخمة التي تعتقد انها الافضل والانقى والابلغ والاكثر علما والارفع خلقا، وهي رؤية (او حالة عمى) تمنع الانسان من أن يرى حقيقة أمره، فهو لا يشاهد نفسه على حقيقتها بل انه يرى صورة النفس المثالية، كما انه يرى الاخر كما يريده هو لا كما هو في الواقع والحقيقة، اي انه لا يدرك حقيقة الاخر الذي تقدم علينا تقدما لا يمكن قياسه الا بمقاييس سنين ضوء الحضارات ان جاز التعبير.
إضافة الى ما تلحق مثل هذه القيم بالمجتمع من عمى يمنع هذا المجتمع من ان يرى نفسه ويرى الاخر على حقيقتهما (اي بمقاييس التطور الحضاري للأمم من تعليم وعلم وانتاج وسواها) فإنها تنتج في الان ذاته تيارات فكرية ذات طبيعة هشة وإن علا صوتها، تتطرف حينا في يمينيتها فتقسم الكون الى معسكرين متحاربين ضرورةً وتضع نفسها وهماً في موقع المنتصر النهائي الذي بنصره ينتهي التاريخ، وتتطرف في يساريتها حينا، فتغفل النظر عن عناصر أساسية من عناصر هوية المجتمع العربي.
هذه لحظة هزيمة أجل، ولكن على المجتمع العربي بكل مؤسساته الفكرية والسياسية والاجتماعية ان يتآلف مع نفسه لمناقشة سبل تجاوزها ودراسة أمر المستقبل. ان الأمر المخيف يتمثل في ان من يصرحون بأنهم سيعيدون ترتيب خرائط جغرافيتنا يقرون بأنهم، قبل هذا وذاك، قد عزموا امرهم على تغيير خرائط تفكيرنا، وعلى تحديد من نكون وكيف نكون. ومما يثير الدهشة ان المجتمع العربي لم ينتبه مؤسسيا لهذه الرغبة المصرح بها، والتي تتمظهر بدعوات لتغيير مناهج المدارس والجامعات وتغيير اسس الثقافة وعناصر الدين التي ينشأ عليها الشباب العربي، وهي دعوات يتجاوز تأثيرها البنى السياسية العربية من دول وأحزاب، وحكم ومعارضة، ويمس أسس المجتمع العربي في عناصر بنيته الجوهرية.
ولا ريب ان الهوية تحتوي على عناصر ثابتة واخرى متغيرة، والتغير من طبائع الاشياء، الا ان هذا التغير لن يكون طبيعيا حينما يأتي من الخارج على ظهر دبابة سياسية او دبابة عسكرية كما يحدث الان. وتَدَخُّل القوى السياسية الغربية في الواقع الفكري في المجتمع العربي بفرض تيار علماني يخدم اهداف السياسة الغربية هو أمر ينبغي الانتباه له من قبل نخب المجتمع العربي السياسية والفكرية، فالتغيير الذي يتم بهذه الصورة لن يكون الا تأجيلا لإنفجار كبير، ولخراب حضاري أكبر مما نعيشه الان.
يكمن جزء كبير من الحل لتلافي هذا الانفجار الكبير والخراب الحضاري الأكبر في ان يتصالح المجتمع العربي مع نفسه، وان يتناقش الجميع في امر هذا المستقبل الشديد التعقيد، والمبادرة بطبيعة الحال لا بد ان تأتي ممن يستطيع الدعوة الى مثل هذه المصالحة وهي مؤسسات الدول في المجتمع العربي. تنطلق مثل هذه المصالحة على اساس ان آفاق ما هو قادم تتجاوز كما ذكرت هوامش السياسة الى متن حياة المجتمع، وتتجاوز سطح الاشياء وأعراضها الى أعماقها وجواهرها. ما هو قادم هو رغبة في تغيير المجتمع العربي وهويته الى مجتمع يشكل بحسب رغبات الاخرين ومصالحهم، لا بحسب ما يحتاجه المجتمع نفسه حسب عناصر وجوده الجوهرية وبما يفيده في رؤيته للمستقبل.
ولا بد في مثل هذا الحوار والمصالحة ان يعطي كل طرف في المجتمع العربي الأمان للأطراف الاخرى، وان يجبّ الواقع الحالي ما قبله، فينطلق الجميع في نقاش وتدارس لفهم القيم السلبية التي قادت المجتمع العربي الى ما هو فيه من تأخر حضاري عظيم. ما يحدث الان لا ينبغي ان يفتح باب الثأر الداخلي ومحاسبة طرف او آخر على أخطاء الماضي، فما يجري وما هو قادم يتجاوز كل ذلك، ويتجاوز القائم من انقسامات فئات المجتمع ونخبه، ويتجاوز آليات صراع وتآلف القوى القديمة. ما يحدث الان بمنزلة "النازلة"، وفي أوقات النوازل والنوائب ينبغي الترفع عن ترهات تفاعلات الاحداث البسيطة وتفاصيلها الى المبادرة الى فهم ما يقع وتلافي تطوره الى ما هو أخطر وأصعب (يقول ابن منظور في "لسان العرب": النازلة الشديدة تنزل بالقوم وجمعها النزال المحكم والنازلة الشدة من شدائد الدهر تنزل بالناس، نسأل الله العافية).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق