نحو تعظيم الايجابيات
عبدالله الحراصي
ما الذي كان سيكتبه قسطنطين زريق لو كان حيا هذه الايام؟ قسطنطين زريق كاتب عاش عروبته دما يجري في شرايينه وشعورا يلتهب في كل حرف من حروفه، عايش نكبة 1948 من ألفها الملتبسة بالمخاوف والشكوك الى يائها المنهزمة الحزينة، وكتب الكثير عن تلك الفترة الحاسمة من تاريخ العرب، أهمها كتابه "معنى النكبة" الذي صدر في طبعته الاولى في بيروت عام 1984. كان كتابه هذا محاولة منه لتصفية تفكيره في أزمة خانقة "يترتب فيها على كل فرد من أفراد الأمة قسطه من الواجب ونصيبه من التبعة" كما يقول في مقدمته.
لاحظ زريق الانتكاس المعنوي والروحي الذي أصاب العرب في مقتل في عام النكبة، فسعى الى تحليله سائلا عن كنه الداء وطبيعة الدواء، ورأى ان من الواجب، اضافة الى الاقرار بقوة العدو الهائلة، أن نقر بأخطائنا ونتبين مصادر الضعف في كياننا، وان نعرف مدى مسؤوليتنا في هذه الكارثة التي أصابتنا، ويضيف "وإذا كان التهرب من الواقع، وإلقاء العبء على الغير، شرا خطرا في الأيام العادية، فهو في إيام المحن والشدائد أصل العلة ومصدر الفساد. وليس أفضل من هذه الأيام فرصة لمحاسبة النفس، ولاستكشاف مواضع الضعف والعمل على مداواتها، أو البدء بذلك على الأقل".
حلم قسطنطين زريق ان ما حل بفلسطين عام 1948 كان معركة في حرب طويلة الأمد، وان الهزيمة فيها لا تعني بحال خسارة الحرب كلها ولا تعني هزيمة لن تقوم للعرب قائمة بعدها، ولهذا رأى ان على العرب ان يتعلموا من أعدائهم "النظر البعيد والترتيب المحكم والخطة المدبرة، والسعي الحثيث سنوات، بل أجيالا، لتحقيق المطلوب وبلوغ الغاية"، وفي وصفه لحال فكر الشباب العربي آنذاك يصفه بأنه "مضطرب البال، موزع الفكر، مشتت الارادة. اجلس في أي من مجالسه شئت، تر هذا الاضطراب قائما، وتلمس البلبلة الشديدة الأليمة في تعليل الوضع الحاضر، وفي تحري سبل الخلاص".
ما أشبه الليلة بالبارحة!
والحق ان الانسان ليس في حاجة ليقرأ ما كتبه قسطنطين زريق حول نكبة فلسطين ليدرك المأساة وحالة الضياع الحضاري المهول التي يعيشها العرب هذه الايام بعد سقوط بغداد المدينة، وسقوط بغداد الانسان، وحلول حالة من العمى والفوضى لم تحركها غرائز الاجرام في حقيقة أمرها كما يقال لنا (وإلا أي غرائز إجرام لدى طفل لا يتجاوز عمره السنوات الأربع او الخمس يدفع كرسياً أخذه من دائرة حكومية او من مدرسة سيدرس فيها يوما ما؟) بل ان ما حركها هو ضياع البوصلة الحضارية التي تقود الانسان وقت الكوارث والنوازل. لسنا بحاجة لنقرأ قسطنطين زريق لنعرف ما وصل اليه الحال العربي، فعين البصيرة الفطرية تمَكِّن المرء من أن يرى الامور على حقائقها، ولكننا نقرأ قسطنطين زريق لنعرف أمرا واحدا هو انه بعد خمسة وخمسين عاما لم يبق الحال كما هو بل انه تردى في هاوية حضارية أكبر وأعمق مما كان في إيامه، ولنعرف كذلك ان سبل الخلاص التي حلم بها نأت ونأى العرب عنها، وبعد ان كان العرب يعرفون انهم في طور هزيمة فإنهم نأوا حتى عن طور الهزيمة هذا وانتقلوا الى عصر تيه حضاري مهول.
النوازل تأتي وتذهب، ويتجاوز الناس آثارها، الا ان نازلة التيه العربي تبدو نازلة مقيمة لا تود ان تزول. ولن تزول هذه النازلة الا بيد الانسان.
التيه الذي نعيشه جميعا أبرزته وأعطته زخما كارثيا عظيما يوميات الحزن العراقي التي تكتبها الصواريخ وغرائز الفوضى، وأبرزته وأعطته زخما كارثيا كذلك أحلامنا بنصر مخاتل يأتينا من أيام الفتح العربي الاولى وسقوط هذه الاحلام، وهي أحلام وآمال يكشف لنا حتى وجودها ذاته عن هول ما نحن فيه. أقول ان هذه الاحداث ما هي الا تجليات متفجرة للحالة الحضارية العربية، وما ينبغي التشديد عليه هو ان ما يحدث في ميادين السياسة والحروب ليس الا تجليات، كما ذكرت قبل اسبوع، لخطوط انحدار حضاري أخطر في تأثيراتها بعيدة المدى، وهي تجليات لقيم تجعل الانسان العربي متبلد الاحساس أمام التاريخ، فيعمى عن دوره في صنع التاريخ ويتحجر.
هذا هو مربط الفرس. المشكلة ليست في النظم السياسية، ولا في المثقفين ودورهم وصدقهم وكذبهم وحضورهم وغيابهم، ولا في المجتمع نفسه وأمراضه الاجتماعية وأعراضها. المشكلة تكمن في هيمنة قيم سلبية تفقد حساسية الانسان الفرد تجاه وضعه في التاريخ، وتفقد كذلك حساسية الامة العربية تجاه وضعها في التاريخ الحضاري الانساني.
ما الحل؟ السؤال عن طبيعة الحل والمخرج يستلزم تحديد المشكلة، وهنا مربط فرس آخر. فتبسيط الحالات الحضارية التي هي نتاج قيم انهيار تمنع الانسان والامة من حضورهما التاريخي بربطها بسياسي عابر او حالة سياسية عابرة في مقاييس التاريخ أو بأدوار مثقفين ومفكرين او وسائل إعلام زاعقة تبسيط هو ذاته جزء من أوضاع الانهيار. مثل هذه التحليلات التبسيطية تنطلق في أحيان كثيرة من سيادة الثأر الذي يتجلى في إلقاء اللوم، كل اللوم، على طرف واحد، وهو إلقاء يكشف حينما يتم تحليله تحليلا حصيفا عن حالات خلاف انسانية من تدافعات الحياة اليومية الضيقة الأفق، وتخلو في الحقيقة من أي رؤية ذات شأن تضع الاحداث في خط التاريخ الطولي.
ينبغي هنا الاشارة هنا الى ان حقائق التاريخ وحركته لا ترتبط بصدق أحاسيس الانسان ومشاعره، كالشعور الرهيب بالحزن تجاه رؤية طفل مقطوف اليدين، او بالهزيمة المرة بما يشبه العار تجاه رؤية العراق يتداعى ورؤية بغداد بالحال الذي كانت عليه يوم الاربعاء الفائت، ذلك الحال الذي تكثر عليه تسمية حال السقوط. هذا الشعور لا ريب في صدقه وعنفوانه، الا ان رد الفعل هذا لا ينبغي ان يعمي المرء عن الأسباب الأعمق لمآل الحال العربي.
لا ريب ان الكثير من المفكرين العرب شعروا بالخلل وأدركوا الاتجاه الذي تشير اليه بوصلة التاريخ العربي وحللوا أسباب الانهيار الحضاري الذي يعيشه المجتمع العربي، واقترحوا، كل من منظوره، ما رأوه حلولا بعيدة المدى لتجاوز حالة الانهيار هذه، الا انه في وقت مثل هذا يسأل المرء عادة عن الحلول القصيرة المدى، اي ان ما يريده هو حلا خيميائيا، تستحيل به حالة التيه الحضاري العربي الى حالة فضلى يسود فيها وضع الانتاج والعلم وكل مظهر من مظاهر مثالية التاريخ، الا ان التاريخ يبرز لنا ان الطفرات لا تحدث دفعة واحدة، وانما ينبغي ان يقدم لها بمقدمات تتمثل في شكل قيم تحكم سلوك الناس، وتشمل سلوك كل انسان، فحياة المجتمعات وحدة واحدة، ولا يبرز في الميادين السياسية الا تجليات لا يمكن فصلها عن سلوك الانسان الفرد.
ليس هناك مشروع اصلاح قيمي عربي شامل الان، ولكن المخرج من الوضع الحالي يكمن في جانب كبير منه في تعظيم الايجابيات، اي ان نكثر من الظواهر الايجابية ونقلل من السلبيات. ولا ينبغي للعرب في المرحلة الحالية الدخول في سفسطة مفرغة حول كنه ما هو ايجابي وما هو سلبي وحول التباس التخوم الفاصلة بينهما، فرغم صحة هذا نظريا، الا انه في ميدان الواقع يمكن تمييز خيط الحضارة الابيض من خيط الانهيار الاسود، والاعمى فقط هو الذي لا يستطيع رؤية الانهيار الحضاري الذي يمكن اقتفاء آثاره في كل مظاهر الحياة العربية، الفردية والجماعية.
تتعظم الايجابيات حينما تحل قيم انتاج تحكم كل السلوك الانساني كما تتجلى مثلا في إستغلال الوقت وقدرات العقل وإمكانياته والتسامح بين خطوط الفكر والحياة المختلفة وتعايشها، وعدم تسييس ظواهر الحياة وردها فقط الى تدافعات السياسة الفجة. التغيير الشامل للحياة العربية يحتاج الى رؤى شاملة، لكنها ليست بالضرورة رؤى سياسية مباشرة، فقد جرب العرب ما بدا يوما انه تغيير سيقلب موازين حياة العرب المنهارة رأسا على عقب، الا انه تبين ان الامر لا يعدو كونه امعانا في حالة الخراب الحضاري.
أخيرا أعود اليوم لأشدد على أمر ذكرته الاسبوع الماضي، وهو ضرورة التصالح الاجتماعي والسياسي في المجتمع العربي، وضرورة التفاف المجتمع العربي على ذاته بحوار بين عقلائه، وهو حوار ينبغي ان يتجاوز التفاصيل والاحداث، وينبغي ان يتجاوز الثأر والبحث عن من يتحمل الأخطاء، الى مناقشة اتجاهات التاريخ وصنع المستقبل. مثل هذا التصالح والحوار هو احد تجليات تعظيم الايجابيات الذي ينبغي ان يسود. فلنجرب تعظيم الايجابيات.
(نشر هذا المقال في ملحق شرفات ص 10، الأربعاء 16 ابريل 2003)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق