الثلاثاء، 11 مايو 2010

قبل أن تحمل لغاتنا الرمز الأسود، فلنفعل شيئاً


قبل أن تحمل لغاتنا الرمز الأسود، فلنفعل شيئاً: 
حول اللغات العمانية المعرضة للانقراض

عبدالله الحراصي

تحدثت مجلة "ذ كرستيان ساينس مونيتور" الأمريكية في أحد أعدادها الأخيرة (19 ابريل 2010) عن لغة من لغات كمبوديا تسمى "ساوخ" لم يبق من يجيد الحديث بها بطلاقة سوى عشرة أشخاص فقط، وبرحيل هؤلاء الأشخاص العشرة سوف تختفي هذه اللغة إلى الأبد، وخسارة لغة من اللغات هي خسارة كبيرة ليس لمتحدثيها فحسب، بل هي خسارة إنسانية عظمى لأن اللغة، أي لغة، هي تراث إنساني يحمل في عناصره اللغوية آثار جوانب متعددة من التجربة الإنسانية كالتاريخ وأنماط العيش والأدب وسواه.
أعاد لي هذا المقال الذاكرة لمقال نشرته في جريدة عمان عام 2005 كان عنوانه "دعوة للحفاظ على لغات ظفار"، باعتبارها جزءاً أصيلاً من تراثنا العماني والعربي غير المادي. أجد نفسي هنا مضطراً لاستعادة مقدمة ذلك المقال لأنها تحمل قصة ذات دلالة حول بقاء اللغات وانقراضها:
في إحدى قمم الجبال في ظفار استضافتني قبل أشهر أسرة كريمة تعيش في خيمة متواضعة. كنت وما أزال معجباً بنمط المعيشة في تلك البيئة البِكر، غير انه كان يقودني في زيارتي الأخيرة اهتمام شخصي بأثر الحياة الحديثة في هذا المجتمع المرتحل القديم. سألت فتاة في المرحلة الأخيرة من مراحل المدرسة عن بعض المسميات الجبالية (الشحرية) لبعض النباتات وكانت في الأغلب تقول أنها لا تعرفها فتحيلني لأمها التي كانت تذكرها جميعاً. سألت نفس الفتاة، التي كانت تتباهى بإصرارها على التحدث معي باللغة الانجليزية الخالية من الأخطاء (بعد أن أخبرتها أني ادرس في قسم اللغة الانجليزية بالجامعة)، إن كانت تسمع أشرطة محاد الفهد، وهو منشد قصائد دبرارت المعروفة في ظفار، فما كان منها إلا أن هبت غاضبة وأخرجت من تحت أكوام من الجلد شريطاً لفيروز وقالت ما أنقله بالحرف "نحن خلاص تحضرنا".
ما كانت تقوله تلك الفتاة هو أنه لم يعد هناك داعٍ للحفاظ على الإرث الثقافي للغة الشحرية/الجبالية لدواعي "التحضر" والاندماج، وهو رأي لا أرغب إلى المسارعة في تخطئته، بل أني أرى أنه يحمل بعض الصواب عند من يعتقد به، فثقافة اللغة العربية تكتسح اللغات الأخرى بحيث لا يجد متحدثو تلك اللغات بدّاً من الإندماج والتخلي عن لغاتهم لكي يتعايشوا مع الأوضاع الجديدة المتغيّرة.
أعود إلى هذا الموضوع ثانية لأن خطر ضياع اللغات في عمان بثقافاتها المختلفة ما زال قائماً، بل أن الخطر يتضاعف يوماً بيوم، برحيل الأجيال الأقدم من متحدثيها، وهؤلاء هم حملة تلك الثقافات التقليدية وممثلو التجربة البشرية المتعددة الأبعاد التي تمثلها.
تعد اليونسكو اللغات من أهم عناصر التراث البشري غير الملموس، وقد اهتمت اهتماماً كبيراً بأمر اللغات المعرضة للإنقراض، وأعدت أطلساً تفاعلياً على شبكة الإنترنت يظهر هذه اللغات ومستوى الخطر الذي يداهمها (يمكن زيارة هذا الأطلس بالضغط هنا).
يقسم الأطلس درجة الخطر إلى خمسة مستويات بألوان مختلفة تظهر في الخارطة لرموز هذه اللغات كالتالي:
-         : vulnerable (اللون الأبيض، معرضة للخطر)
-         : definitely endangered (اللون الأصفر، معرضة للخطر بصورة أكيدة)
-         : severely endangered (اللون البرتقالي، معرضة للخطر بدرجة كبيرة)
-         : critically endangered (اللون الأحمر، معرضة للخطر بدرجة خطيرة)
-         : extinct (اللون الأسود، منقرضة)
 ويبيّن أطلس اليونسكو أن هناك ثمان لغات في عمان معرضة لخطر الانقراض  بثلاثة ألوان من ألوان الخطر (ليس من بينها اللون الأسود حتى الآن) كما يلي:
1. اللغة الكمزارية (عدد المتحدثين بها: 1.700 شخص، ومستوى الخطر برتقالي اللون أي أنها "معرضة للخطر بدرجة كبيرة")
2. اللغة الزدجالية (عدد المتحدثين بها: غير معروف، ومستوى الخطر أحمر اللون أي أنها "معرضة للخطر بدرجة خطيرة")
3. لغة الخوجة، وهي التي تسمى أيضاً "اللغة اللواتية" (العدد التقديري للمتحدثين بها: بين 7000 و 12000، ومستوى الخطر برتقالي اللون أي أنها "معرضة للخطر بدرجة كبيرة")
4. اللغة الحرسوسية (عدد المتحدثين بها: بين 3500 و4000، ومستوى الخطر أصفر اللون أي أنها "معرضة للخطر بصورة أكيدة")
5. اللغة البطحرية (عدد المتحدثين بها: 400 شخص تقريباً، ومستوى الخطر أحمر اللون أي  أنها "معرضة للخطر بدرجة خطيرة")
6. اللغة الشحرية/الجباليّة (عدد المتحدثين بها: نحو 5000 شخص، ومستوى الخطر برتقالي اللون أي أنها "معرضة للخطر بدرجة كبيرة")
7. لغة الهوبيوت (عدد المتحدثين بها: غير معروف ولكن يقدر بـ 400 شخص، ومستوى الخطر برتقالي اللون أي أنها "معرضة للخطر بدرجة كبيرة")
8. اللغة المهرية (عدد المتحدثين بها: 100 ألف شخص، ومستوى الخطر أصفر اللون أي أنها "معرضة للخطر بصورة أكيدة")
إن وضع لغاتنا المعرضة للخطر يدعونا إلى الإسراع في عمل شيء عاجل لحفظ هذه اللغات وتوثيقها بكل أشكال التوثيق الموجودة حتى لا نصل إلى لون الانقراض الأسود. 
إن هذا يتطلب تدخلاً إنقاذياً عاجلاً من قبل مؤسسات الدولة ذات الصلة، إضافة إلى الأدوار التي يمكن أن تؤديها المؤسسات الأكاديمية مثل الجامعات ومجلس البحث العلمي وغيرها من المؤسسات التي تستطيع أن تخصص بعض مراكزها البحثية أو مشاريعها الاستراتيجية في هذا الشأن.
كما أن للكتّاب من متحدثي هذه اللغات دوراً حاسماً في الحفاظ على هذه اللغات بالاسراع في تدوين ما يمكن تدوينه منها واستخدامها في النصوص الأدبية والتعريف بثقافة هذه اللغات ومخاطر انقراضها.

ويتطلب التدخل العاجل التعاون مع المؤسسات الدولية ذات الخبرة في هذا الإطار، إذ تشير اليونسكو مثلاً إلى بعض الإجراءات التي يمكن اتباعها للحفاظ على  مثل هذه اللغات وحمايتها، ويمكن التعاون في هذا الشأن مع اليونسكو التي تقوم ببرامج مثل "سجل الممارسة الجيدة في حفظ اللغة" كمشاريع دراسات اللغات المعرضة للانقراض أو القيام بإعداد قواميس لمفرداتها ودراسة قواعدها المختلفة أو جوانبها الثقافية المتعددة.
يمكن أيضاً التعاون مع بعض المؤسسات الأكاديمية العريقة في شأن دراسة وتوثيق اللغات المعرضة للخطر مثل جامعة لندن، وبالأخص مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية SOAS  التي لديها ثلاثة برامج يمكن الاستفادة منها في شأن التعامل مع اللغات العمانية المعرضة للإنقراض هي البرنامج الأكاديمي الذي يؤهل الباحثين في الدراسات الميدانية في التعامل مع اللغات، وبرنامج التوثيق الذي يقدم منحاً دراسية لتوثيق اللغات، وبرنامج الارشيف (المحفوظات) الذي يحفظ البيانات اللغوية الموثقة ويقدم دورات تقنية في هذا المجال.

قبل أن تحمل لغاتنا الرمز الأسود، فلنفعل شيئاً

هناك 6 تعليقات:

  1. مما قرأته .. أن اللغات في النهاية ستنقرض جميعها .. وستبقى لغتين فقط بعد مرور 100 سنة على بدء الألفية الثانية وهما اللغة العربية واللغة الإنجليزية .. وبما أن القرآن الكريم أنزل بلسان عربي وليس إنجليزي .. فستبقى فقط اللغة العربية الفصحى اللغة الخالدة في الفردوس الأعلى.

    تحياتي على المعلومات الجديدة.

    ردحذف
  2. يعقوب المفرجي17 مايو 2010 في 9:09 م

    كعادتك.. الجديد شعارك

    دكتور: أتذكر قرأت مقالك السابق يومها، وصدمته فعلا ما زالت قابعة في الجانب الأيسر من مؤخرة رأسي.

    أما هذه الأخبار الجديدة فيبدو أنها تنذر بكارثة، ولابد من وجود مؤسسة رسمية تتبنى المشروع، لأننا من عادتنا أن ننتظر أمريكيا أو ألمانيا أو أيا من أبناء الشعر الأشقر كي يقوموا لنا بذلك.

    تحياتي

    ردحذف
  3. بإعتقادي الشخصي بأن المسؤل الثاني بعد الحكومات عن إنقراض مثل هذه الغات هم الفئة المثقفة من المتحدثين بهذه اللغات .

    ردحذف
  4. مسلم الكثيري15 سبتمبر 2010 في 1:31 ص

    هذا تراث ثقافي وحضاري( غير مادي ) بتعريق اليونسكو. مثله مثل التراث المادي كالاثار وغيرها..
    اللغة تحمل ثقافة وتجربة موسيقية.. فمتى فقدنا اللغة الكلامية فقدنا ثقافة وموسيقى.. وهكذا.
    نحن نعرف هذا في مركز عُمان للوسيقى التقليدية،ولكن للاسف لا أحد يهتم، وخاصة المؤسسات العلمية مثل جامعة السلطان قابوس.. فماذا تفعل كلية الأداب والعلوم الاجتماعية؟؟
    مركز عُمان للموسيقى التقليدية متواضع في أمكانياته وليس له موازنة..ولكن أرشيفه الموسيقي حافظ للكثير من عناصر اللغات الكلامية والموسيقية..وهو يجاهد في الحفاظ على التراث الموسيقي التقليدي العٌُماني لجميع الثقفات واللغات العُمانية.

    ردحذف
  5. مسلم الكثيري15 سبتمبر 2010 في 1:32 ص

    هذا تراث ثقافي وحضاري( غير مادي ) بتعريق اليونسكو. مثله مثل التراث المادي كالاثار وغيرها..
    اللغة تحمل ثقافة وتجربة موسيقية.. فمتى فقدنا اللغة الكلامية فقدنا ثقافة وموسيقى.. وهكذا.
    نحن نعرف هذا في مركز عُمان للوسيقى التقليدية،ولكن للاسف لا أحد يهتم، وخاصة المؤسسات العلمية مثل جامعة السلطان قابوس.. فماذا تفعل كلية الأداب والعلوم الاجتماعية؟؟
    مركز عُمان للموسيقى التقليدية متواضع في أمكانياته وليس له موازنة..ولكن أرشيفه الموسيقي حافظ للكثير من عناصر اللغات الكلامية والموسيقية..وهو يجاهد في الحفاظ على التراث الموسيقي التقليدي العٌُماني لجميع الثقفات واللغات العُمانية.

    ردحذف
  6. اشكرك لأنك طرحت هذا الموضوع المهم واتمنى ان نرى جهود اكبر لإنقاذ هذه اللغات التي يجب ان تعتبر كنوزا.بالفعل فإننا سنخسر الكثير اذا لم نسارع بإنقاذ هذه اللغات الثرية في السلطنة.

    ردحذف