الثلاثاء، 5 يناير 2010
كيف شق آينشتاين صفّ يهود أمريكا؟
الجمعة، 1 يناير 2010
حول السنين الضوئية والعيش في الماضي
حول السنين الضوئية والعيش في الماضي
عبدالله الحراصي
من أجمل ما قدمه لنا علم الفلك المعاصر معرفة أن الضوء يخترق الفضاء إلى أعيننا قادماً من النجوم وأن ما نراه ليس سوى الماضي. كيف عرف العلماء هذا؟ ببساطة، بمعرفة حركة الضوء وسرعته، أي أن الضوء يتحرك من نقطة إلى نقطة أخرى بسرعة محددة حيث يقطع الضوء مسافة ما يزيد على 299 مليون متر في الثانية، وبحساب هذه السرعة تمكن العلماء من معرفة المسافة بين أعيننا والنجم مصدر الضوء.
يتمثل الأمر المذهل هنا في أن ما يصل إلى أعيننا من ضوء ليس في حقيقة الأمر إلا الضوء الذي وصل للتو بعد رحلة استغرقت ملايين السنين. والأمر الأكثر إذهالاً وجمالاً هو أن النجم نفسه قد لا يكون موجوداً الآن، واختفى من الوجود لسبب من أسباب الفلك والطبيعة، ولكننا مع ذلك نراه متألقاً في لمعانه البديع. أليس من عجائب الأمور أن ترى بأم عينك شيئاً لم يعد موجوداً أبداً؟
إنها لعبة من لعب الفلك، وفيها، فيما أرى، عظة –بل عظات– في حياتنا الشخصية والاجتماعية، وفي مستويات أعلى وأخطر. أعني إنّ أُلفتنا الأشياء تجعلنا نراها هي ولا نرى غيرها، وهنا فإن الأمور التي اعتاد على رؤيتها جيل من الأجيال تبقى راسخة في ذهن ذلك الجيل، بل ويقوم دون وعي منه بتوريثها إلى الجيل التالي، فتبقى حيّة جيلاً بعد جيل. ومن هذه الأمور المتوارثة الاعتقادات القائمة على خرافات صدقها الناس حيناً بسبب غياب المعرفة العلمية أو العملية عن الجيل السابق، ومع ذلك يتم توريثها للأجيال التالية برغم ثبوت خطئها وضلالها وتضليلها. ومن هذه الأمور القادمة من الماضي على أجنحة سرعة الضوء الإنساني العابر للأزمنة الإصطفاف وبقوة وعنف فكري أو واقعي مع أحد فريقين اختلفا حول قضية سياسية-دستورية في عهود الإسلام الأولى، ومثله انتماء البعض، وبإخلاص منقطع النظير، إلى أحلاف قبلية كان وجودها الواقعي قبل قرون ولم يعد لها وجود في عالم منطلق إلى المستقبل بسرعة ضوئية لا يمكن لمن يعيش في الماضي أن يجاريها أبداً.
تلك إذاً أمثلة على بعض أشكال التصديق الاجتماعي لأحداث وظواهر حدثت في الماضي السحيق ولم يعد لشخوصها الحقيقيين وجود فعلي، ومع ذلك فإن الناس يصدقونها، بدرجة تصديق من يظن أن ضوء النجم الماثل أمامه يلتمع فعلاً وواقعاً في لحظة رؤيته له، وليس في تاريخ النجوم السحيق.
العظة التي أدعو إليها هي أن علينا، ونحن نرى الأحداث الماضية حيّة برغم غيابها، أن ننتبه إلى أنها لم تعد موجودة بل ذهبت مع أصحابها، ومن عبثي الأمور أن ينشغل أناس في عصر معين بآثار أحداث وقعت قبل سنين طوال من زمنهم الذي يعيشون فيه وكأنهم أطرافٌ فيها، وكأن تلك الأحداث لم تنتهِ بل هي باقية وستبقى إلى أبد الآبدين.
علينا إذاً أن نفرز جانباً الأعراف والقيم والأحداث والصدامات والتحالفات القادمة من الماضي والتي نراها حيةً لامعةً بيننا، وأن ندرك أنها ليست إلا آثاراً لماضٍ لم يعد موجوداً، وأن أخذها على محمل الجدّ بناءً عليها هو ضرب من ضروب الأفعال الدون كيشوتية. و"دون كيشوت" لمن لا يعرفه هو بطل رواية للروائي الأسباني سرفانتس، وقد اعتاد هذا "البطل المغوار" قراءة كتب الفرسان الجوّالين الذين انتشروا في القرون الوسطى في أوروبا وكانوا يحاربون الأشرار انتصاراً للضعفاء والمساكين. لقد انغمس المسكين دون كيشوت بكل عقله (أو جنونه، إن شئت) في ذلك الماضي المجيد، فعقد عزمه على أن يكون أحد أولئك الفرسان الأشاوس، واختلط عليه ما يفصل ما بين خيط الصواب/الواقع/المعاش وخيط الخطأ/الماضي/المتوهم، فعاش حياته يناضل في حروب مأساوية ضد أبطال توهمهم وهم غير موجودين في الواقع، فكان من بين أعدائه الذين صال معهم بسيفه وجال قطيع خراف كان يرعى في البرية، وطواحين الهواء المتحركة، ورجال يحملون شخصاً ميتاً يريدون دفنه، وأعداء آخرون كُثُر.
دون كيشوت كان حالماً ولم يكن يرى واقعه أبداً، بل كان يرى الماضي (أي أؤلئك الأشرار الذين يتوجب عليه محاربتهم) غير أنه بدلاً من أن يدرك أنه ماضٍ لن يعود، على النحو الذي ندرك به اليوم أن ما نراه في السماء ليس إلا ضوءاً وصلنا بعد رحلة طويلة ملايينية السنين، فقد تعامل معه على أنه حاضرٌ ينبض بالحياة، فصدقه وهندس حياته على أساس أن زمن الفرسان أسود الوغى وحماة الضعفاء وأباة الذلّ لم ينقضِ بل ما زال موجوداً، فحمل سيفه يحارب الأشرار الذين توهمهم عقله الذي يعيش في ماضي الشجاعة والبأسِ والإِقدام.
نرى كثيراً في حياتنا مثل هؤلاء الذي يعيشون في الماضي، ويتفاعلون مع تفاصيل مضى عليها مئات السنين، ويستجيبون لها بالمساندة أو المعارضة، ومع ذلك فهم لا يلتفتون إلى أحوال حاضرهم والمشاكل التي يعيشونها، بل ولا يرون أبداً الأشياء الجميلة التي تنبض بها الحياة الواقعية حولهم: فلا هم يعيشون الماضي حقيقة، فهذا أمرٌ محال، وفي الآن ذاته يفوّتون على أنفسهم عيش الحاضر والاستمتاع بجماله أو معالجة أمر قبحه!!!!
والأخطر بطبيعة الحال ليس هؤلاء الأفراد، ولكن الأخطر هو أن تتم هندسة المجتمعات ويتم تجميدها عند لحظات ماضوية لا تستطيع أن تفك نفسها من أسرها، فتعيش تلكم المجتمعات، دون وعي منها، ماضٍ لا يوجد إلا في مقبرة الزمان، تعيشه كأنه حاضر ماثل أمامها، وفي ذلك تنسى يومها، بجماله وقبحه، وغدها الذي يمكنها أن تخطط له وتشيّده كي يكون زماناً أفضل وأجمل. وهندسة المجتمعات كي تعيش الماضي وتعمى عن الحاضر وتنسى أمر المستقبل هي موضوع مقال آخر.
للتعليق على هذا المقال اضغط هنا
ملاحظتان:
(1) نشر هذا المقال في جريدة "الرؤية" العمانية يوم الخميس 31 ديسمبر 2009
(2) نشرت في هذه المدونة مسودة لهذا المقال هنا.