حول بعض مدلولات خطاب التنصيب الثاني للرئيس بوش
عبدالله الحراصي
من استمع أو قرأ خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن في حفل تنصيبه لولايته الثانية الخميس الفائت سيفاجأ بأن هذا النص ليس خطاباً سياسياً من النوع المألوف، أي أنه لا يتناول قضايا من الواقع السياسي المحلي أو الدولي، بل أنه خطاب تبشيري مقعقع بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالات. قطب الرحى في هذا الخطاب هو أن أمريكا أخذت على عاتقها تنفيذ مهمة إلهية الأصل أخلاقية الطابع وهي القضاء على الطغيان ونشر الحرية في ربوع الكرة الأرضية، كلها.
والحقيقة أن هذا الخطاب يحمل كثيراً من الدلالات التي لا يمكن إحتواءها في مقال واحد، ولا حتى في دراسة مفصلة واحدة، فهو محمل بأفكار المحافظين الجدد، وبالايحاءات الدينية والقيم الأخلاقية والمعاني السياسية والأبعاد العسكرية المتعددة الأبعاد. يبدو هذا الخطاب في الظاهر وكأنه رسالة فيما يجب أن يكون عليه العالم كتبها أحد الأنبياء أو عظام الفلاسفة وليس رئيس دولة لها السطوة الكبرى على العالم بأكمله في كل الميادين وعلى الأخص في الميادين السياسية والعسكرية بكل ما يتبع هذا من تفاعلات وصراع وتآلف مصالح تشمل العالم بأكمله.
هذا الشرخ بين صفة القول (الأخلاقي التبشيري) وصفة القائل (رئيس دولة هي الولايات المتحدة الأمريكية) يكشف عن تبني الرئيس الأمريكي لخطاب المحافظين الجدد تبنياً تاماً ونهائياً، وهو ما ينبغي على العالم كله أن ينتبه له وأن لا يصعر خده عنه، فالرئيس بوش يصرح بكل وضوح ان المعاني التي قدمها في خطابه هي التي ستحدد السياسة الخارجية الأمريكية في فترة ولايته الثانية، كما أن على العالم ألا يصعر خده عمّا يقول بوش لأنه (سواء اتفقنا أم أختلفنا مع سياسته) يقول ويفعل، ففي فترته رئاسته الأولى (وبعد ما أسماه بـ"يوم النار" في سبتمبر 2001) غزت الولايات المتحدة دولتين وغيرت نظامي الحكم فيهما، كما أن دعواتهما لمحاربة الإرهاب أمست إجراءات فعلية تمس الحياة بكل أوجهها في كثير من دول العالم. معنى هذا إن على العالم أن يستمع لما يقوله بوش وأن يتهيأ لما بعده.
يحتوي الخطاب كما ذكرت أعلاه على أمنيات تبشيرية، فبوش يقول بأن الطغيان قد أمسك بتلابيب كثير من بقاع العالم وأن هذا الطغيان الذي يرزح تحته الملايين من الناس لا يكبح نزعات الحرية "الطبيعية" عن الناس فحسب بل أنه يؤدي إلى تأثر الولايات المتحدة ذاتها بالحنق الناتج عن تخلي أمريكا عن دورها في نشر الديمقراطية والحرية. هذا الخطاب يحمل بذور فشله النظري والواقعي داخله، فمنبعه ليس أخلاقياً كما يدعي بل هو ما حدث في "يوم النار" وهو حدث سياسي بطبيعة الحال. أضف إلى ذلك فإن هذا الخطاب يفشل لأننا حتى ولو صدقناه ومضينا معه في الحلم فإن كل الدعوات الحلمية الطابع طوال التاريخ قد فشلت في أن تستحيل واقعاً يعيشه الناس كما يدعو إليه الدعاة، فالحلم البشري، وخصوصاً ذلك الحلم الذي ينوي تغيير العالم بأكمله نحو عالم أفضل، يغض النظر في كثير من الأحيان عمّا يفرضه الواقع من تفاعلات تؤدي في نهاية المطاف إلى هيمنة قوى الواقع وتلاشي الحلم، وهو ما حدث مثلاً في حالة الشيوعية التي كانت تحلم بعالم عادل يخلو من المظالم فأنتهت إلى واقع مأساوي وهزيمة منكرة أمام الرأسمالية.
من جانب آخر، فإن أمريكا (وهذا يصدق على الغرب بأكمله) برغم تقدمها الحضاري لا تقدم بالضرورة الصورة النهائية لما يجب أن يكون عليه الإنسان، وديمقراطيتها تفشل كثيراً عند المحك. ألم تخالف أمريكا، في عصر بوش نفسه، الإجماع العالمي على عدم الإقدام على غزو العراق وذهبت منفردة؟ ألم يتبين بعد حين حجم الخداع والخطأ والتضليل الإعلامي والإستخباراتي والسياسي الذي وقعت فيه المؤسسات الأمريكية (والبريطانية) في حملتها لتبرير غزو العراق؟ إن أمريكا إذاً لا تقدم النموذج الأمثل والأنجع للديمقراطية والحرية (برغم نجاح كثير من أوجه النظام الديمقراطي الداخلي في أمريكا بطبيعة الحال، وهذا ليس محور الحديث هنا). أضف إلى ذلك فإن نشر الحرية والديمقراطية في العالم لن يجلب بالضرورة نظماً تمضي يداً بيد مع الحلم الأمريكي، فلو أعطيت كثير من الشعوب الحرية الحقة لكان أول ما تفعله هو تحويل حنقها السياسي على أمريكا إلى واقع، وهو ما سيحول حلم بوش إلى كابوس بطبيعة الحال.
إننا لا نعيش في عالم المثاليات، وعالم الواقع يقول لنا أن رئيس أقوى دولة في العالم قرر، كما يقول، أن ينشر شيئاً يسميه هو "الحرية" في الكون بأسره، وأن لديه من القوة والبأس ما يمكنه من أن يتدخل في شؤون الدول الأخرى لنشر هذه "الحرية". معنى هذا إن الفشل النظري لأطروحة بوش لا يعني أبداً تجاهل هذا الخطاب، بل أن العكس هو الصحيح فعلى العالم، وفي مقدمته الدول العربية (وهي محور اهتمامنا هنا)، أن يتهيأ لعواقب هذا الشرخ الجلي بين الحلم الأمريكي الذي يشمل العالم والمسنود بقوة عسكرية وسياسية لا مثيل لها وضرورات الواقع التي لا تبشر إلا بفشله نظرياً وواقعياً.
هنا تنبغي الإشارة إلى أمر ذي بال عن الدول العربية ذاتها. تُوفِّر الدول العربية أرضية نظرية مناسبة لبوش لكي يسعى ليحقق حلمه فيها، فالحرية والديمقراطية والأقتصاد المنتج السليم وتنمية الإنسان والحياة الكريمة الحقة كلها أندر من الزئبق الأحمر. كما تبدو الدول العربية بعد مشاريع الشرق الأوسط الكبير ودعوات التحرير الأمريكية "كما الفار السكران" كما يقول المثل العماني، فسلوكها السياسي الداخلي هو خبط عشواء يخلو من أي وعي عميق بعيد المدى، حيث أخذت كثير من الدول بسياسة ترقيع الثوب المهلهل بدلاً من السعي إلى نسج ثوب جديد، وهي سياسات داخلية لا تؤدي في نهاية المطاف إلى الإصطدام بضرورات الإصلاح الحقيقي الذي يفرضه الشعور الإنساني الحقيقي بالاغتراب وبفقدان تمكين الإنسان والمجتمع وما تفرضه العولمة واقتصادها من إلحاحات وضرورات معيشية.
إن الإصلاح وتغيير منظومة الحياة العربية المعاشة حالياً ليس مجرد رد فعل آني على دعوات أمريكية، بل أنه ضرورة حضارية ذاتية. تعيش الدول العربية حالة حضارية بائسة ومأساوية، فحالها السياسي والعسكري على نعرف جميعاً، والحال في النواحي الأخرى ليس بأحسن حالاً فالإقتصاديات العربية منهارة على وجه العموم، ومؤسسات الدول العربية تنخرها رمّة الفساد الاداري والمالي الذي لا يبدو له صادّ ولا رادّ، وحال الإنتاج الفكري هو إنهيار تام، فما أقل الكتب والدراسات العلمية والترجمات، وحينما توجد فما أقل جودتها حينما نضعها في موازين قيم الجودة العالمية! هذا الواقع المأساوي يدفع بإتجاه دعوات إصلاح وتغيير حقيقية عربية أصيلة منفصلة عن الدعوات الأمريكية. ولا ريب أن دعوة أمريكا للإصلاح والحرية لن تسعى إلى إصلاح حقيقي للبنى العربية النخرة بل أنها ستصلح ما يتناسب مع مصالحها وستُفسِد كذلك ما لا يتناسب مع مصالحها، وهنا مكمن (بعض) الخطر في هذا النوع من "نشر الحرية".