الأربعاء، 3 مارس 2004

حول نفسية المبدعين

حول نفسية المبدعين

عبدالله الحراصي

التوتر النفسي والاجتماعي هو السمة المميزة الرئيسة التي تميز حياة أغلب المبدعين طوال التاريخ، حيث يحل التأزم محل السكون والقبول في علاقة المبدع بالمجتمع من حوله، كما يحل نوع من التأزم كذلك في علاقته بالوضع الفكري الذي يجد هذا المبدع نفسه فيه. في البداية يجد الانسان المبدع نفسه في حالة اختلاف مع أغلب الافراد الذين يعيش بينهم ثم تنقلب هذه الحالة في الغالب الى حالة تضاد وتأزم تفضي بهذا المبدع الى هوامش الحياة الاجتماعية المتحققة، بما يدفعه الى توسيع المساحة الضيقة المتاحة له من خلال ابداعه، فكلما زادت عزلة المبدع (والعزلة المقصودة ليست بالضرورة عدم الاختلاط بالافراد الاخرين، بل عزلة عن طبائع الحياة الاجتماعية وأعرافها) كلما توسعت رؤاه وتوهج الابداع في انتاجه. كما ان المبدع يجد نفسه كذلك في حالة اختلاف، وتضاد وتأزم احيانا، مع الانماط الفكرية والعلمية والادبية وسواها السائدة في زمنه، وهو ما يدفعه كذلك نحو اللجوء الى الابداع الذي يؤدي في نهاية المطاف الى تحريك الساكن في المجتمع والمعرفة والادب، وهو ما يضمن حركية الحياة البشرية وانتقالها من طور إبداعي الى آخر.

والمترجم ضرب خاص من المبدعين، فهناك خلاف حول مدى أصالة دوره الابداعي حينما يقارن بالمبدع الاديب او المبدع المخترع او المبدع الفيلسوف مثلا، ذلك ان الصورة العامة هي ان المترجم لا يقوم بدور ابداعي أصيل، أي ان دوره يقتصر على نقل ما كُتِبَ بلغة ما الى لغة اخرى، فما هو الا وسيط ينتهي دوره عند انتهاء الترجمة. غير ان هذه الصورة المبسطة تنطوي على كثير من التجني على محورية عمل المترجم وكنه دوره الثقافي والحضاري، ونستطيع تبين محورية دور المترجم هذه لو تخيلنا الحال الثقافي والحضاري العربي بغياب المترجمين في الفترة العباسية، حيث ان غياب المترجم هنا يعني غياب أحد المحركين الرئيسيين، وليس الناقل الوسيط فحسب، للحركة الثقافية والفكرية التي قادت فيما بعد الى الانتاج العلمي العربي. معنى هذا اننا نستطيع إدراك دور المترجم حين ننظر الى فعله في إطار تاريخي، أي على مستوى التفاعل بين الحضارات المختلفة التي لا يمكنها ان تتفاهم لولا ما يقوم به هذا المترجم. المترجم يشارك، مع المبدعين الاخرين، في صنع التاريخ الحضاري للأمم.

غير انه على الرغم من هذا الدور الحضاري المحوري الذي يقوم به المترجم فإن الاستخفاف بدوره ظل دائماً موجوداً طوال التاريخ، وتقدم حياة المترجم العباسي حنين بن اسحق أنموذجا على الانتاج الابداعي الضخم للمترجم وعلى التجاهل المتعمد له، وما تبع إبداعه من غيرة وحسد ومكائد من قبل الاخرين، وما ينتج عن هذا وذاك من تأزم نفسي في حياته. يبدأ التأزم في علاقة حنين بالآخرين منذ سني حياته الاولى، فحينما قدم الى بغداد من الحيرة، مسقط رأسه، حاول تعلم الطب على يد يوحنا بن ماسويه، الذي تعود اصوله الى جند يسابور، وهو آنئذ من هو في علم الطب وتعليمه، وكان حنين كثير السؤال، وهو ما لم يكن يجد صدى طيباً عند الاستاذ، لأنه لا يعتقد بأن أهل الحيرة، غير المعروفين بطلب العلم، يمكنهم ان يتعلموا الطب. أنفجر الموقف بينهما ذات يوم حينما استفهم حنين عن مسألة صعب عليه إدراكها فغضب يوحنا وسأل ساخرا "ما لأهل الحيرة ولتعلم الطب؟" ثم أتبع هذا السؤال بأن اقترح على حنين اقتراحاً يدل على احتقاره له ولبذور الابداع لديه حيث يقول "صر الى فلان قرابتك (اي قريبك) حتى يهب لك خمسين درهماً تشتري منها قفافاً صغاراً بدرهم، وزرنيخاً بثلاثة دراهم، وإشتر بالباقي قلوساً (وهي حبال غليظة تستخدم في السفن) واقعد على الطريق وصِحْ "القلوس الجياد" ، فإنه أعود (انفع) عليك من هذه الصناعة (يعني من الطب)" ثم طرد حنيناً من داره فخرج حزيناً باكياً.

لن يجد الانسان حالة تمثل المثل "رب ضارة نافعة" مثل هذه الحادثة التي كان لها تأثير عظيم الشأن في نفس حنين، حيث انها دفعته الى تعلم اليونانية، في الاسكندرية بمصر كما يقال، حتى نبغ فيها نبوغاً كبيراً جعله ينشد بعض قصائد هوميروس. كما ان الحادثة دفعته كذلك الى تعلم العربية فنبغ فيها كذلك، واستمر في طلب العلم لمدة تقارب الست سنوات، عاد بعدها الى بغداد معززا مكرما لدى الخلفاء وخصوصاً المأمون الذي جعله بمثابة المترجم الاول للعلوم من الاغريقية والسريانية الى العربية في أكاديمية "بيت الحكمة".

هذا النجاح الباهر لحنين بن اسحق لم يكن دون ثمن، فقد بدأت نيران الغيرة والحسد تشتعل في قلوب منافسيه، والظريف ان حنيناً أحصاهم عدداً فهم كما يقول "ستة وخمسون رجلاً جملتهم من أهل المذهب" أي انهم كانوا من النصارى مثله. ويحدد حنين سبب هذه الغيرة في قوله انهم رأوه فوقهم وعاليا عليهم بالعلم والعمل وترجمة "الكتب الفاخرة من اللغات التي لا يحسنوها ولا يهتدون اليها ولا يعرفون شيئا منها" في لغة جميلة لا لبس فيها مما يجعل من يطلع على ترجماته يفضلها على كل ترجمة سبقتها. وإزاء إعجاب القراء بترجمات حنين لم يكن أمامهم بد من البحث عن مدخل آخر للهجوم عليه، فأهتدوا الى القول بتهمة تتجاوزه هو وتتعلق بدور الترجمة في خدمة الثقافة العلمية، فقالوا ان حنيناً ليس الا مترجما وليس في عمله أي إبداع ذاتي: "يقولون من هو حنين؟ إنما حنين ناقل لهذه الكتب ليأخذ على نقله الأجرة كما يأخذ الصناع الأجرة على صناعتهم ولا فرق عندنا بينه وبينهم". كانت حجتهم إذا ان دور حنين يقتصر على ترجمة ما فعله الاخرون ليأخذ ثمن ترجمته مالاً، ويشبهونه كصانع السيوف الذي لا يعرف الضراب بها، فدوره ينتهي عند صنع السيف أما استخدامه فهو مهمة يقوم به آخرون أقدر منه.

من الطبيعي ان يتأثر حنين بن اسحق بكل هذا الهجوم القاسي عليه وعلى دوره الحضاري في نقل العلوم فيكشف في عبارة قصيرة عما كما يشعر به من تأثر وتوتر نفسي بسبب ذلك في قوله "فكنت كلما سمعت شيئا من هذا ضاق به صدري وهممت أن اقتل نفسي من الغيظ"، غير انه، إزاء هذا، لا يسلك سلوك الفرد العادي بل سلوك العالِم فيقرر بدل الاستسلام ليأس المهزوم ان يحول حسد الحاسدين الى امر ينبغي دراسته وفهمه، فوجد ان هذه الغيرة أمر طبيعي وليست بِدعاً في الحياة البشرية فهو موجود منذ ان قتل قابيل أخاه هابيل، أضف الى هذا ان هؤلاء الحساد يعلمون حق العلم قبح أفعالهم غير انهم أقرب للمرضى الذين لا يستطيعون ان يتخلصوا من مرضهم كما يقول حنين.

واليوم، اي بعد حوالي اثني عشر قرناً من العصر الذي عاش فيه حنين بن اسحق، لا نجد أثراً لحاسديه، وكل ما بقي هو ما قام به من انتاج ابداعي توزع بين الترجمة والكتابة الاصيلة، في مجال الطب على وجه الخصوص. بعد هذه القرون نرى ان حياة حنين الشخصية والابداعية تقدم تجربة تبرز دور المبدع المنتج وعلاقته المتأزمة مع الافراد الذين يعيش بينهم والذين لا ينفكون يدبرون له المكائد، واحدة تلو الاخرى، كما تقدم لنا الأثر النفسي لهذه المكائد التي كادت، كما يقول حنين نفسه، ان تؤدي به الى الانتحار غيظاً وكمداً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق