أصواتُ قرية
عبدالله الحراصي
هي ذي الشمس تأتي على "جَمَّاء" مرة أخرى. أغلب أهل القرية قد استيقظ قبل قدوم الشمس.
كما ان الشمس قلب الكون وعينه، فإن النخلة هي قلب القرية. تسمع منذ الفجر أغاني الأطفال الذين يذهبون ليجمعوا "الرَّقاط" (البلح المتساقط ليلا من أشجار النخيل). كان الكثير منهم يعود الى بيته ليفرغ الوعاء الذي حمله (والذي صنع من خوص النخيل) ويرجع مرة أخرى الى الحقول في دورة "رقاط" اخرى.
يوم اسطوري منذ بدايته. حوار يدور بين اثنين:
"سمعتها ذِك المقوعَة (انثى الثعلب) الليلة؟"
"سمعتها. يالله بخبر الخير"
كان صوت "المقوعة" نذير شؤم عظيم حيث يُرعَب الناس منها ويعتبرون صوتها في الليل إعلاناً عن قرب موت أحد أفراد القرية، وكان الكثير منهم يتطوعون بمطاردتها لتبتعد عن مناطق سكناهم.
الموت مخيف، وكانت الطبيعة تُقَدِّم رموزاً تدل على اقتراب موكبه يفهمها القرويون جيداً.
يطل الطفل على قريته من علياء هضبة جبلية تمنحه حقاً نظرة "عين الطائر"، فالمشهد بأكمله تحت عينه. ينظر أولا الى الحصن الغربي القريب من بيته. ما زال في مكانه، كأنه الأصل الذي تكونت حوله الاشياء. يهيأ له ان هذا الحصن جرم سماوي كان يسبح في الفلك ثم ما لبث ان جذب اليه كوكبا آخر هو الأرض فالتصق به. مدفعه المتجه شرقاً ما زال في مكانه يطل من طرف الهضبة على القرية بأكملها. لم يسمع الطفل أبداً أي طلقة من هذا المدفع، فيستعيض عن رعب الحقيقة بأصوات تأتيه من تاريخٍ أسطَرَهُ سكان القرية. لكنه يتساءل في نفسه "من؟ من كان الأعداء ايها المدفع القادم من الماضي؟"
ينظر الى بيوت القرية الكبيرة نسبياً مقارنة بالقرى المحيطة بها. مجرى الوادي القادم من جبال الرستاق يقسم جمّاء الى قسمين، الشرقي والغربي. والوادي حين "يهبط" يكون كبيراً وهائلا يُسمَع هديره من بعيد. ويستخدم أبناء القرية مصطلحات عديدة للحديث عن الاودية فمنها "الشرجة" و"الوادي" و"الجرفة" بحسب كمية المياه التي تحول ذلك المجرى الى مرجل ماء فيضاني الحركة لا يمكن لإنسان او حيوان او نبات ان يقف في طريقه، والغرق مصير من يقدر له الله ان لا يبتعد عن طريق الوادي.
لكن المطر لم يهطل ولم يأتِ الوادي منذ زمن بعيد، ومياه الفلجين اللذين يسقيان طرفي القرية أخذا في التناقص. يسمع جده يدعو بين فنجان قهوة صباحية وآخر "يالله بالسيل (المطر)، يالله بالسيل. يا رب رحم عبادك". كان غياب الماء عن القرية يعني غياب الحياة ذاتها بدءا من ماء شرب الانسان والحيوان الى سقي النخيل. حكى له جده يوماً عن فترة جفاف مرت بها القرية ولم يجد الناس الماء لسقي نخيلهم فأخذت تموت. موت النخلة في القرى العمانية يعني حلول الموت الشامل، وليس من الغريب ان تجد الرجل يبكي عند جذع نخلته العطشى التي بدأت تصفر أطرافها وأوراقها.
"يالله بالسيل يا ربي، يالله بالوديان" يقولها الجد بالرغم من ان الماء متوفر، ولكنه الخوف من الموت الشامل.
يسمع أصواتاً أخرى قادمة من أنحاء مختلفة من القرية.
عائلة بأكملها في احد الحقول. كانوا "يَجِدُّون" (يقطعون عذوق ثمار النخيل). أصوات أطفال لاهية وصوت أم تصرخ في كبار الاطفال ان يقوموا بـ "رقط" كل"خلالة" وكل "رطبة" تسقط من النخلة.
"برغام" (صوت يصنع بالنفخ في محارة ضخمة) يُسمع من الطرف الشرقي من القرية. انه "عبيد بن سليمان" يعلن ان اليوم سيشهد حفلة "زار". صوت "البرغام" كان بمثابة الدعاية للحفلة وبطاقة الدعوة في آن صوتي واحد.
أصوات سيارات في الهضبة نفسها. سيارات كثيرة. يسأل عن الأمر فيقال له انهم "جايين من الباطنة" لينذروا عند "مسجد بو طوالع". و "مسجد بو طوالع" مسجد أثري يبدو من بناءه انه قديم جداً. لم يعد يستخدمه أحد للصلاة ويبدو انه كان ذات يوم مركز تجمع من البيوت تهدمت بأكملها لسبب مجهول. بعض آثار المسجد باقية حتى الان وهي التي يتجمع فيها كثير من الناس الذين يؤمون المسجد من بعض مناطق الباطنة. لسبب أو لآخر يعتقد هؤلاء الزوار ان لمسجد "بو طوالع" قدرات اسطورية خفية، ولهذا فإنهم ينذرون في مناسباتهم ان يذبحوا وأن يولموا عنده وأن يدعوا أكبر عدد من الناس، ولهذا كانوا يأتون بأعداد كبيرة (ليس أقل من عشر سيارات في الزيارة الواحدة).
كان الطفل وأقرانه (بل حتى الكبار) يضحكون من لهجة هؤلاء القادمين من الباطنة، وخصوصاً القادمين من بعض مناطقها المتميزة بلهجة تختلف لفظاً وجرساً عما عداها. يسمع أحد أبناء الجيران يقول "جيوا رعاة "كُوُن هَذيه" (أي "ها هم قد أتوا أصحاب عبارة "كُون هَذيه""، والتي تعني "ما هذا؟") فيضحك الاخرون.
* * *
يأتي العصر فيسمع صوت "البرغام" مرة أخرى معلناً بأن حفلة "الزار" قد أزفت. كان حفلات الزار تقام تحت شجرة سدر قديمة كأنها لم تنبت بل وجدت هناك منذ وجود الكون نفسه. ها قد تجمع أغلب أهل القرية لمشاهدة الزار. كانت هذه الحفلات تقام لعلاج شخص مريض يعتقد انه مصاب بمس من الجن، وكانت الفكرة هي ان ينشد المشاركون أناشيداً تطلب من هذا الجني الخروج من جسد المريض. كان الامر يتم بالتدريج، فلحظة بلحظة ترتفع الاصوات بالاناشيد التي تختلط في نصوصها أسماء الجان بأسماء البلدان وأسماء اسطورية قادمة من التاريخ العربي مثل طلب العون من الحسن والحسين:
"وا شيب راسي وا شيب راسي
راجي حسن وحسين والوقت ماسي"
أو بعنترة:
"يو عنتر بن زبيبة يو عنتر بن زبيبة
شال سمرة فوق راسه متلحَّف بالحضيبة"
في غمرة الاناشيد يأخذ البعض بما يسمى "النعيش" وهو ان يهز المرء رأسه هزاً عنيفاً على نحو لا شك انه غير الوضع النفسي العادي. يبدأ أحدهم بضرب المريض بالعصا ضرباً لو وصف بكلمة "مبرح" لكان تقليلاً من عنفه، وبصفعه على وجهه الى ان يصدر من المريض صوت فيسأله الرجل (المتيقن ان المتحدث ليس الا الجني) عن هويته:
"من نته؟"
"أنا مهند بن عنتر، وجاي من مرباط، سامحوني، سامحوني"
"أقتلك" (ويصفع المريض صفعات مهولة أخرى) "صاني أقتلك (للتأكيد على النية على قتله، اي الجني)"
"الشيمة الشيمة أنا خارج"
يخرج الجني فيعود الوعي الى المريض وينهض كأنه لم يكن مصاباً بشيء. وإن عادَ عادوا.
* * *
اختفت الآن أصوات القرية تلك. أخفاها الموت وتَحَوُّل القرية الى حارة متناهية الصغر في قرية كونية متناهية الكبر. اختفت تلك الاصوات الى الابد ولم يبق الا اصداءها في ذاكرة من عاش تلك الايام.