رحيل رجل "ينظر بنور الله"
عبدالله الحراصي
غيب الموت علماً كبيرا من أعلام الثقافة والأدب العربي هو الناقد احسان عباس، وكلمة "ناقد" حينما تطلق على احسان عباس انما تستخدم استخداما مجازياً فقد كان الرجل موسوعة شملت كل صنوف المعرفة، وكان فريق عمل انتج بنفسه ما تعجز مؤسسات ثقافية عربية مجتمعة عن انجاز النزر اليسير منه. كان هذا الرجل العظيم "ينظر بنور الله" كما وصفه المستشرق مانفريد اولمان، فما ان يُذكَر فرع من فروع الأدب او الثقافة على وجه العموم الا كان لهذا الرجل فيه انتاج أصيل يدل على عبقرية في الرؤية وعلى جهد عظيم صبور.
ولد إحسان عباس في قرية عين غزال في فلسطين عام 1920، ودرس في كل من حيفا وعكا ثم انتقل الى القدس ليدرس في الكلية العربية بين عامي 1937- 1941 ثم اتجه الى القاهرة ليتم دراسته الجامعية في جامعة القاهرة عام 1946 ثم الماجستير عام 1952 والدكتوراة عام 1954، ودَرَّسَ في جامعات السودان والاردن ولبنان وغيرها.
ربما لا يعرف الكثيرون ان احسان عباس بدأ شاعراً فقد كتب الشعر وهو في الخامسة عشرة غير انه تركه لا لإخفاق ولكن لسبب آخر حيث يقول "لم أتوجه الى النقد والترجمة والتحقيق بسبب اخفاقي في الشعر، ولا اعتقد انني اخفقت شعريا. لقد كتبت قصائد كانت في حينها ذات قيمة كبيرة ومتميزة، لكنني قتلت الموهبة. رأيت انني لن اخدم قضيتي وقضايا امتي بالشعر". هذه الرؤية قادت احسان عباس الى فنون اخرى من بين اهمها النقد والتحقيق والترجمة. فقد عرف عن احسان عباس موقفه النقدي المدافع عن القصيدة العربية الجديدة فأصدر عام 1955 كتابه "عبدالوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث"، ثم أصدر عام 1969 كتاباً آخر حمل عنوان "بدر شاكر السياب"، وكانت كتابه "اتجاهات الشعر العربي المعاصر" الذي أصدرته عام 1978 سلسلة عالم المعرفة في الكويت تتويجا لرؤيته حول كنه القصيدة الحديثة والتطور الذي شهدته القصيدة العربية على وجه العموم في القرن العشرين حيث درس فيه تناول الشعر الحديث لظواهر مهمة كالزمن والتراث والحب وغيرها.
وإضافة الى ما قدمه احسان عباس في ميدان النقد فإنه وهب جانبا كبيرا من جهده لتحقيق الكتب التراثية العربية، حيث حقق أكثر من خمسين كتابا تراثيا، منها على سبيل المثال كتاب "خريدة القصر وجريدة العصر" (قسم مصر) للعماد الأصفهاني (مع احمد امين وشوقي ضيف)، وكتاب "فضل المقال في شرح كتاب الأمثال" لأبي عبيد البكري (مع عبدالمجيد عابدين)، وكتاب "وفيات الأعيان" لإبن خلكان. كما حقق عددا من الدواوين الشعرية مثل ديوان ابن حمديس الصقلي وديوان الرصافي البلنسي وديوان القتال الكلابي وديوان لبيدة بن ربيعة العامري وشعر الخوارج. والتحقيق عند احسان عباس لا يهدف الى مجرد اخراج الكتب التراثية وتوضيح مجاهلها بل انه يقوم بدور حضاري مهم يرتبط بمبدأ "المعرفة قبل الحكم"، اي اننا لا يمكننا ان نحكم على اي فترة من فترات تاريخنا الا بدراسة وفهم ما دونه كتاب تلك الفترة، ويقول في حوار مع مجلة "نزوى" حول هذا الموضوع "درست ما أسداه العرب في النقد الأدبي من خلال الرؤية العصرية، فوجدت أنهم قاموا بدور كبير جدا لا يقل عن دور اية أمة أخرى، ولولا هذه الرؤية للتراث ظل النظر إلى دورهم في الفكر النقدي إما اتهامات جائرة أو تفريطات مرتجلة، كل دراسة - في رأيي- لا بد أن تكون كشفا جديدا، وما دام الأمر كذلك، فلا كشف يتحقق على أصول علمية دون إحياء التراث، عند من يؤمنون بجدوى تلك الدراسات، أما رفض التراث - انقيادا لنزوة قلقة أو نزعة منحرفة - فانه لا يخطر ببالي، ولا أستطيع تصوره لأنه ينم عن تنكر للانسان وجهوده على هذه الأرض". هذه الرؤية للدور الحاسم للتحقيق في فهم تاريخ الحضارة العربية هي نفسها التي كانت وراء أعماله الأندلسية، فإحسان عباس عالم ضليع بتاريخ الأندلس وآدابها، حيث كتب عنها مؤلفا يتكون من جزئين هو "تاريخ الأدب الأندلسي" وهو كتاب يعد من أهم الكتب المرجعية في هذا الموضوع.
وتتجلى موسوعية احسان عباس كذلك في ترجماته، حيث نقل الى العربية "فن الشعر" لأرسطو، وكتاب ستانلي هايمن "النقد الادبي ومدارسه الحديثة"، وكتاب "يقظة العرب" لجورج انطونيوس، وكتاب "دراسات في الأدب العربي" لفون جرنباوم، و"دراسات في حضارة الاسلام" لهاملتون جب، الا ان ترجمته لرواية هرمان ملفل "موبي ديك" تظل الدرة النفيسة بين منجزات احسان عباس فحسب، بل انها درة من درر الترجمة التي انجزها العرب على الاطلاق طوال تاريخهم. ويشرح احسان عباس رؤيته للترجمة فيفرق بين ترجماته النقدية وترجماته الأدبية، فالترجمات النقدية كان هدفها تعريف القاريء العربي بشتى المذاهب النقدية دون ان يكون لعباس اي حضور يدعم به منهجا نقديا معينا وأن مال الى هذه المدرسة النقدية او تلك في بعض الأحيان. أما فيما يتعلق بالترجمة الأدبية فهو مع الالتزام بالنص الأصلي ولكن هذا الالتزام ينبغي ان يوازيه ابداع في صياغة لغة النص المترجم بتعدد مستوياتها، إضافة الى ضرورة الابداع في انتاج مصطلحات ربما لا تعرفها الثقافة التي يترجم اليها النص، وهو ما قام به احسان عباس حينما ترجم رواية "موبي ديك" الى العربية حيث وجد اللغة العربية فقيرة في ميدان صيد الحيتان فما كان منه الا أبدع بنحت كثير من الكلمات التي لم تعرفها العربية من قبل.
أنهي هذا المقال بمقطع من ترجمة احسان عباس لـ"موبي ديك" عن الموت نفسه: "طوبى لمن لم يسمع في الحق لومة لائم وانما يقتل الآثام ويحرقها ويهدمها، وإن كان يستلها من تحت ثياب القضاة والحكام -. طوبى – شاهقة نبيلة – لمن لا يقر بشرع سوى شريعة الله وبرب سوى ربه ومن أخذته الحمية للسماء وحدها -. طوبى لمن اذا احتشدت كل امواج بحار الرعاع الهائجة المائجة لم تزحزحه عن قاعدة سفينة الأجيال -. طوبى خالدة لذيذة لمن يقول حين يضجعونه في لحده: رباه – انت يا من عرفتك بصولجان سطوتك – ها هنا أرقد، خالداً كتب لي ان أكون أو فانياً. لقد سعيت لأكون من حزبك لا لأكون من حزب الدنيا أو من حزب نفسي. غير ان هذا ليس أمراً ذا بال فإني لا حق لي بالخلود، إذ الخلود لوجهك، وما هو الانسان حتى يطلب البقاء، والبقاء صفة خالصة لربه".
طوبى لك أيها الحراصي وطوبى لإحسان عباس الذي مات فقيراً لا يجد ثمن دواءه.
ردحذف