الجمعة، 1 يناير 1999

حوار مع فرد هاليداي














فرد هاليداي :
الثراء العظيم للعالم الاسلامي يكمن في تنوعه

حوار :عبدالله الحراصي
وعبدالملك الهنائي
(باحثان من سلطنة عمان )


مقدمة
تحولات كثيرة جذرية في الواقع والأفكار عصفت بفكر هاليداي, طالت بناه الأساسية في الصميم, لم تعد الماركسية منهجا أكيدا ولم يعد اليسار طرقا للتغيير. والأنظمة الشرقية التي كان يدينها أصبحت "سيدة مصيرها"، وربما انتقل من نقد هذه الأنظمة إلى نقد حضارة بعينها. وربما صار أقرب إلى مركزيته الأوروبية, تلك التي كان ينطلق من مقابلها ونقيضها.
يبقى هاليداي ذلك المفكر اللامع والمرجعية التي لا غنى عنها في شؤون العرب والمسلمين والشرق بصفة عامة.
يعمل فرد هاليداي أستاذا للعلاقات الدولية في مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.
حصل على البكالوريوس من جامعة أكسفورد وعلى الماجستير من مدرسة الدراسات الأفريقية والشرقية التابعة لجامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية وكان موضوع رسالته العلاقات الخارجية للتنمية الديمقراطية.
يتقن عدة لغات شرقية وأوروبية من أهمها العربية والفارسية والفرنسية والألمانية والروسية.
يعتبر من أهم الخبراء بالمنطقة العربية وله عدة إسهامات ومؤلفات في هذا المجال من أهمها
1- الثورة الأثيوبية.
2- الإسلام والغرب: خرافة المواجهة.
3- إعادة التفكير في العلاقة الدولية.
4- إيران: الثورة والتنمية.
نص الحوار
انطلاقا من الرأي الذي يقول إن السياسة استمرار سلمي للحرب غدت اللغة عاملا مهما في السياسة المعاصرة في المعالم العربي، فهي السلاح بيد مستخدميها وهي الميدان الذي يجري فيه كثير من الصراعات .هل تتفق مع هذه الرؤية التي ترى وجود امتداد أو بعد لغوي للتطورات السياسية في العالم العربي؟
اتفق مع هذا ولكن إلى حد معين فقط. أجل أن اللغة، مثلها مثل التاريخ، مكوّن مهم من مكونات السياسة - الصراع بين الدول، والصراع داخل الدول بين القوى السياسية والاجتماعية المتنافسة، أضف إلى هذا أن اللغة جزء مهم في تحديد الشعوب والمجتمعات وتفاعلها الاجتماعي، ذلك أن كل من بيدهم مقاليد السلطة (كالدول، والآباء، والسلطات الدينية، والمدرسين) يسعون إلى غرس فهمهم لما يرونه صحيحا من الكلام والمفردات والأداء اللغوي فيمن هم تحت سلطتهم. هكذا ظل الأمر دائما، إلا أن عالم الإعلام المعاصر قد أبرز هذا وأكده بدءاً بالصحافة المعاصرة، فالإذاعة ثم التلفاز والقنوات الفضائية، والآن عبر الانترنت.
إلا أنني لا أظن أن هذا يعني أن اللغة، في العالم العربي أو في غيره، هي ميدان مستقل للسلطة أو أنها عامل قائم بذاته. إن اللغة أداة يستخدمها من في يدهم السلطة، أو من يريدون تحدي السلطة. واللغة لا يمكنها أن تشكل الأحداث، ولا يمكن بحال من الأحوال مقارنتها بعوامل القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية. إذن، أنا أقول "نعم"، ثمة بعد لغوي للسياسة في العالم العربي، كما هو الحال في بقية أنحاء العالم، لكن اللغة ليست عاملا مستقلا، كذلك فأنا لا أعتقد أن العالم العربي مختلف جذرياً عن بقية أنحاء العالم في هذا الشأن، فالخلافات التي تنشب حول المصطلحات وشرعية الدول أو عدم شرعية الخصوم من خلال استخدام مفردات معينة هي ظاهرة كونية. وثمة نقطة أخرى أن الحرب هي استمرار للسياسة وليس العكس .
تميز التاريخ العربي المعاصر بـ" الثراء" في الخطاب السياسي القائم, غير أن هذا الثراء لا ينعكس على الأحداث الحقيقية. ما مرد هذه الهوة بين ما يقال وما يحدث في الواقع؟ أيمكننا أن نقول أن ثمة فصاما تاريخياً يعيشه العالم العربي في الوقت الحالي ؟
مرة أخرى أعتقد أنك بهذا تخاطر بالتعامل مع العالم العربي وكأنه حالة استثنائية أو مختلفة جذريا، وهذا غير صحيح. إن اللغة السياسية العربية ثرية، وكذلك حال اللغات السياسية لدى الأمم الأخرى. إن لكل مجتمع لغة شرعية عامة، وتشكيلا تاريخيا، منقطعات عن الواقع. وقد حدد بيغوت Bagehot محرر مجلة الايكونومست في القرن التاسع عشر عنصرين من عناصر الدستور البريطاني - الكفاءة والتبجيل. إن ملكة بريطانيا تبدو وكأنها تحكم، لكن الأمر ليس كذلك في الواقع، وفي كل موقع في العالم تدعي القوى السياسية، تلك التي تملك مقاليد السلطة والتي لا تملكها، إنها تمثل المصالح "الوطنية" في حين أنها تدافع في واقع الأمر عن مصالحها الخاصة ليس إلا. لقد كتب الكتاب الايرانيون مثل داريوس شايجان Dariush Shayegan  عن الانفصام الذي يحدثه الصدام بين الثقافتين الغربية والإيرانية، ليس أقلها في الممارسات الأسرية وفي الطموح التعليمي. ولقد مزق الرياء السياسي المجتمعات الشيوعية - حيث تدعي الدعاية الرسمية انجاز ما يقترب من حالة الاشتراكية المتقدمة، بينما أظهرت الحقيقة التي يعلمها الجميع أمراً مختلفاً.
هل تتفق مع من يقول بأن الغرب يتقدم في حين أن العرب في حالة تخلف؟
قد تكون مصيباً غير أني لا أحب هذا السؤال. بادئ ذي بدء لا يوجد هناك "غرب" واحد، كما لا يوجد "شرق " واحد أو عالم عربي واحد. توجد ثقافات وشعوب مختلفة داخل الغرب نفسه، ورؤى مختلفة، من المحافظة على الليبرالية والاشتراكية، حول الكيفية التي ينبغي بها تنظيم العالم. وطوال التاريخ المعاصر، فإن الصراع بين الشرق والغرب قد وازنته صراعات داخل الغرب نفسه - الثورات العظام والحركات الاشتراكية، التي مازالت برامجها مستمرة إلى يومنا هذا من خلال الحروب، والمناقشات التي تدور حول كيفية تنظيم المجتمع، كذلك فإن تاريخ العالم العربي يتميز هو الآخر بمثل هذه الثورات والمناقشات. إن ما يهمني هو هذه النقاشات التي تدور داخل أوروبا أو العالم العربي أو إيران، لا الصراع بين الشرق والغرب .
إن كل دول العالم تشكل جزءا من اقتصاد عالم واحد، ومنظومة معلوماتية واحدة، وعلى نحو آخذ بالازدياد، عالم من القيم المشتركة. إن كل دولة عضو في منظمة الأمم المتحدة تلتزم بالدفاع عن هذه القيم، وتلتزم كل الدول والشعوب التزاماً رسمياً بالرخاء الاقتصادي، وبالسلم. إننا جميعا نقع ضمن نفس المنظومة، وعلى هذا فإنه لا يمكننا أن نزدهر إن لم يزدهر باقي العالم. إن وهم الليبرالية الجديدة في التسعينات يرى أن بعض الدول، وهي الدول المتطورة، يمكنها أن تحافظ على رخائها وازدهارها في حين أن يبقى عموم سكان العالم منتقدين لهذا الازدهار، وهو ما لا يمكن أن يتم، فالازدهار الكوني، مثله مثل السلم الكوني، هو أمر غير قابل للتقسيم .
هل للعالم العربي مشاكله الخاصة به، أي تلك المتعلقة بالتنحية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟ أجل لقد حاولت أن أحلل هذا المشاكل في كتبي، ومنها الفصل الأول في كتاب "الإسلام وخرافة المواجهة"، حيث فندت هناك ثلاثة تفسيرات مألوفة. التاريخ الحتمي الذي لا مفر منه (أي مقولة أن "العرب كانوا دائما هكذا") والامبريالية ("الغرب هو المسئول عن كل شيء")، والاختزال الثقافي (إن كل هذا من جراء الإسلام"). إن فكرتي هي أن علينا أن ننظر إلى أشكال الدولة المختلفة التي تم تأسيسها في العالم العربي في القرن العشرين . إن العرب هم الآن، أكثر من أي وقت مضى، سادة مصيرهم.
"صدام الحضارات" و"نهاية التاريخ" ليسا إلا عنوانين يدلان على نزعة غربية لقراءة شمولية للتاريخ المعاصر للعالم بأكمله. وعلى الرغم من أن الكثيرين قد أظهروا ضعف هذه الطروحات أو خطأها، فهل يمكننا مع ذلك أن فقول أن لها آثاراً سببية مستقبلية؟ بعبارة أخرى، قد ترى بعض الإيديولوجيات السياسية في العالم العربي، وخصوصاً الايديولوجيات الإسلامية، رؤية هنتنجتون صائبة, وتشكل برامجها السياسية على هذا الأساس (أي الصدامي مع الغرب).
بدءاً أرى أنه من التضليل الحديث عن "الغرب" أو الإسلام باعتبارهما وحدات عابرة للزمن وللدول وللرؤى السياسية والاجتماعية والإيديولوجية نفسها الموجودة في الغرب، وبين الدول الإسلامية وداخل كل منها بل إن الحديث عن هذه المصطلحات أمر مغر إلا أنه كثيرا ما يكون أمرا خاطئاً. لا يوجد هناك خطاب "غربي" موحد فيما يتعلق بالشرق الأوسط، أو العالم الإسلامي (والاثنان أبعد ما يكونان الشيء, ذاته )، كما أنه لا يوجد خطاب شرق أوسطي أو خطاب عالم ثالثي في الغرب.
إن تفسير مثل هذه التعميمات الخاطفة هو أمر مركب فكل المواجهات السياسية، سواء حدثت بين الدول أو في داخلها، تستلزم استلهام التاريخ واستخدامه، واستلهام النصوص الدينية المستمدة من التاريخ سعيا وراء أهداف محددة. لقد قال الكاتب الفرنسي ايرنست رينان Ernest Renan "إن تفهم تاريخك فهما خاطئا هو جزء من تكوين أمة من الأمم". وهذا ينسحب على العلاقات بين الدول اليوم على النقاشات الدائرة حول الدين. إن الماضي لا يقدم إجابات على مشاكل الحاضر، لكنه يقدم بديلاً احتياطيا لها، مثل النصوص المقدسة، التي يمكن استغلالها لتبرير أي موقف ترغب في اتخاذه في الوقت الحاضر.
إذن فإن الجواب الأول على هذا السؤال هو أن ثمة قضايا مختلفا عليها في الوقت الحالي يشكل التاريخ فيها مصدرا للشرعية وليس للتفسير، كما يجب أن يكون.
إن الثقافة, أو الحضارة, لا يقدمان إجابة واحدة موحدة على القضايا المعاصرة. وتتجلى أوضح الأمثلة في الخلافات حول الأراضي المتنازع عليها بين الدول, لكن الأمر نفسه قد ينسحب على النقاشات حول النظم السياسية والاقتصادية المتصارعة, أو السلوك السليم للحياة الأسرية, أو كيفية التعامل مع الازدحامات المرورية في المدن.
أن البروفيسور هنتنجتون هو مفكر رائع إلا أن أطروحته حول صدام الحضارات هي فكرة باطلة. إن الثقافة قلما كانت أساسا للصراع في النظام الدولي، والأمر صحيح في الوقت الحاضر. وإن نظر المرء مثلا إلى العلاقات بين الإمبراطورية العثمانية وأوروبا فإننا نرى فترات صراع مع دولة غربية واحدة يوجد فيها أيضا تحالف مع دول أخرى. كذلك فإن ألمانيا وقفت إلى جانب تركيا. وفي الوقت الحديث رأينا الغرب يشجع صعود المحافظة الإسلامية لأهداف ترتبط بالحرب الباردة, أولا ضد جمال عبد الناصر، في الستينات, ثم ضد الوجود السوفييتي في أفغانستان, في الثمانينات. بل أن الصراعات أكثر ما تقع بين الدول ذات التوجهات الثقافية المتشابهة. وانظر إلى الصين واليابان, وألمانيا وفرنسا، وإيران والعراق. أضف إلى ذلك أن ثمة استخداما مضللا للتاريخ في أطروحة هنتنجتون, حيث يبدو أنه يفترض أن الثقافات والحضارات وغير ذلك هي أمور ثابتة, كمواقع في خارطة. والواقع غير هذا، فالثقافات والحضارات يحددها ويعيد تحديدها كل جيل, استجابة لاهتمامات حالية, وتحددها مجموعات معينة على حساب مجموعات الأدلة التي يتم الاستشهاد بها - مثل نسب الادخار العالمية وقيم العائلة, واحترام الحكومة - هي ظواهر معاصرة تستخدم لمواجهة متطلبات من هم في السلطة. إلا أنه كما قال كريس باتن Chris Patten الحاكم البريطاني السابق في هونج كونج مؤخراً فإن استخدامها ينحصر على قيام مجموعة من الناس بإخراس مجموعة أخرى. أما في العالم الإسلامي فنرى أن من هم في السلطة يلجئون إلى الدين لتبرير تمسكهم بالسلطة, أو في حالة من هم خارج السلطة, لتبرير محاولتهم ادعاءها. إن الثقافة أمر مرن ويستغل كوسيلة, ويتوجب علينا أن ننظر إلى بِنى السلطة والثروة في الدول والمجتمعات والأسر، وترى في الطرف الذي يصب في مصلحته كل هذا الاستثمار للثقافة والتراث وعندها يصبح أمرا لا يقتضي وقتا طويلا.
أما الموضع الذي كان فيها هنتنجتون أكثر صوابا فيكمن في قوله أن هدف الاصوليين في العالم الإسلامي هو هدف داخلي. فنحن نرى هذا الأمر مثلا في إيران: حيث افترض أن "الثورة الثقافية" التي طرحها الخميني كانت, كمثيلتها في الصين في عهد ماو، ضد التأثير الخارجي، غير أنها كانت في الواقع موجهة ضد التيارات الأدبية والإيديولوجية التي لم يرض عنها الخميني داخل إيران نفسها. إن أفضل السبل للجم أفواه النقاد في الداخل يكمن دائما في وصمهم بتهمة العمالة لقوة خارجية. إلا أنني أرى أن هنتنجتون قد جانبه الصواب في الاستنتاج الذي وصل إليه مستخدما هذه الحقيقة، فأولا ليس الاتجاه نحو أعداء الداخل حكرا على الإسلاموية, بل إنه سمة لكل الحركات التقليدية الحديثة, فهو صحيح أيضا عن الاحيائية الهندوسية في الهند، كما هو صحيح عن اليمين الديني في إسرائيل, وعن 80 مليون أصول مسيحي في الولايات المتحدة. ثانيا إن علينا أن ننظر إلى المصالح السياسية والاجتماعية التي تخدمها هذه الدعوات. إن الثقافة هنا لا تفسر ما يحدث.
انتقد ادوارد سعيد تعامل الغرب مع الإسلام بوصفه كيانا واحدا بينما يوجد، كما يري هو، أكثر من إسلام, أي أنه يوجد إسلامات محلية في مختلف أرجاء العالم الإسلامي. وفي كتابك الأخير "الإسلام والغرب:خرافة المواجهة" نرى أنك تؤيد الرؤية نفسها محاولا إضعاف أطروحة الخطر الإسلامي. ولكن, الا تغفل هذه الرؤية للإسلام حقيقة أن الإيديولوجيات الإسلامية المعاصرة تشترك في أمور كثيرة, حيث أن أهدافاً كثيرة للجماعات الإسلامية تتجاوز حدود دولها وصولا إلى أهداف أعم مثل الخلافة. أليس هذا إسلاما كونيا؟
من المؤكد إن هناك أطروحات مشتركة في الخطابات الإسلامية. مثل نقد الهيمنة الغربية والفساد، والتضامن مع فلسطين, والنظرة المحافظة اجتماعيا للمرأة, والدعوة إلى تكوين مجتمع فاضل مستقيم يسمى بالمستضعفين أو الأمة أو المؤمنين, أضف إلى ذلك أن هذه الحركات تؤثر أيضا في بعضها بعضا. إلا أنه على الرغم من هذا فإنه توجد بينها اختلافات ضخمة أيضا. لقد ذكرت في سؤالك الخلافة -إلا انه لن تجد من ينصحك بالدعوة إلى هذا الأمر في مكة أو إيران. إن نظام الخميني يشمل في آن واحد ولاية الفقيه ودرجة قوية, مؤسسية, من الديمقراطية، ولا توجد أي حركة إسلامية أخرى تؤيد هذا، أما الجزائريون فيريدون خلق المجتمع الرسالي, مع أنه لا يوجد من يجزم بماهيته، ويوجد العديد من البرامج بعدد الحركات الموجودة - ومرد هذا كله هو أنه على الرغم من كل هذه المؤثرات والثقافة المشتركة إلا أن هذه الحركات تعمل في دول مختلفة, لكل منها تاريخه ونظامه السياسي الخاص به, والأمر نفسا ينسحب على مفهوم الشريعة.
يجادل الأصوليون بأن ثمة برنامجا مشتركا، ويرون أنه لابد من وجود مثل هذا البرنامج, كما يقولون, بسبب أن برامج كل هذه الحركات مستمدة أصلا من النصوص الإسلامية المؤسسة. إن الادعاء بأن الإسلام كدين يتطابق مع الإسلام كمنظومة سياسية أو اجتماعية هو ادعاء لا سند له لسببين. حيث أنه يتوجب أن ننظر إلى ما يفعله الناس, وليس ما يقولونه أو ما يعتقدون أنهم يفعلونه. فأولا يوجد في تاريخ العالم الإسلامي تنوع كبير من الأشكال السياسية والاجتماعية, تماما كما هو الحال في العالم الإسلامي المعاصر. إن تاريخ الإمبراطوريات الإسلامية بدءا بالقرن التاسع فصاعدا, هو تاريخ تكوين الدول المتمايزة على أسس قبلية وحزبية وعرقية مستخدمة الدين لتبرير شرعية هذه الدول ولفرض الطاعة ولاء الآخرين. ومن المؤكد انه يمكنك كتابة تاريخ إسلامي خالص للعالم الإسلامي من تاريخ الهجرة فصاعدا، لكن بالإمكان أيضا يمكن كتابة تاريخ دنيوي. إن الثورة العباسية, أو صعود وانهيار الفاطميين, لا يحتاج تفسيرها إلى مفاهيم دينية, بل إن السعي وراء التفسير الديني هو أمر في غاية الصعوبة, إلا إذا فسرنا التاريخ مستخدمين مفاهيم عامة مثل الفضيلة والرذيلة والصراع بينهما. وينطبق الأمس على التاريخ المعاصر، فلو فسر الإسلام السلوك السياسي والاجتماعي, لوجد لدينا وحدة في الحياة، سياسية واجتماعية, وهو ما لا يوجد بكل تأكيد. إن الثراء العظيم للعالم الإسلامي يكمن في تنوعه. ثانياً، إن سياسة العالم الإسلامي ومجتمعه هما، إن نظرت إليهما نظرة مقارنة نفس ما هو موجود خارجه نعم توجد بعض أشكال التماسك والتكافل, لكن توجد أيضا الدكتاتوريات والديمقراطيات, التصنيع والأزمات الزراعية, والأسر التي تتغير استجابة لمتطلبات العالم المعاصر، والصراعات بين الأعراق, والثورات العرقية والوطنية، وهلم جرا. العرب والمسلمون, يعشقون, ويكرهون ويسرقون, ويجمعون المال, ويموتون كما يفعل الآخرون من بني البشر في أي مكان آخر.
نعم يمكن تكوين تعميمات من نوعين, أولاً: فيما يخص القضايا المركزية للإيمان الديني ثمة عنصر مشترك يوجد في الإسلام كما يوجد في غيره من الأديان, إلا أن هذه العناصر المركزية لا تؤدي إلى وحدة في معظم الأمور، حتى المعتقدات أو الممارسات الدينية. انظر إلى تنوع تفسيرات القرآن, أو إلى الشريعة, أو إلى ما يعتبر ممارسة مسلمة مقبولة. ثانيا: تبييت قوة التفاعل بين المجتمعات خلال العصور، ذلك التفاعل الذي تسارعت بسبب خطاه وسائل الإعلام المعاصرة والتنقل فإن ثمة ضرباً من التكافل والمصير المشترك, وهو ما يشكل شعوراً موحداً بالمصير المشترك. ولكن مرة أخرى فإن هذا الطرح لا يأخذنا بعيدا، فالمسلمون يهتمون بفلسطين والبوسنة وكشمير، غير أنك إن نظرت إلى ما يفعله الأفراد أو الدول فستجد تنوعا من الإجابات. كم من الدول الإسلامية فعلت شيئا حول الشيشان مثلا؟ إن العالم مليء بأناس يؤكدون على وجود عناصر مشتركة أو هويات مشتركة, غير أن هذه لا تعدو كونها طموحات وآمال وليست حقائق. والأمر ينسحب على من يعارض العالم الإسلامي: إنهم يتاجرون بالتعميمات ومعظمها خاطئ. إن مشكلة هذه التعميمات هي أنها ما إن تلفظ وتذاع حتى تصبح لها حياة خاصة بها.
هل يرتبط الاهتمام الأكاديمي الغربي بالعالمين العربي والإسلامي ويتأثر بالعلاقات السياسية بين الغرب والعالم العربي؟
إلى حد ما فإن دراسة أي منطقة في العالم تتأثر بعوامل القوة. إن هذا صحيح عن دراسة أوروبا القروسطية كما هو صحيح عن الصين المعاصرة أو العالم العربي. إلا أنه من الخطأ رؤية علاقة تبطل بالضرورة السعي وراء المعرفة. فهنا اختلف مع ادوارد سعيد، أو على الأقل مع الكثيرين من العالم العربي الذين أخذوا نقده للاستشراق لتفحص أي بحث حول الثقافات الأخرى. خلال مقابلة في التليفزيون السعودي في أحدى زياراتي للرياض, انتقدني المذيع بأنني أتحدث العربية وأكتب عن العالم العربي. لقد بدا له أن كل المستشرقين جواسيس. وهذا موقف ارتدادي. إن الاهتمام بثقافات الآخرين ودراستها هو مسعى إثرائي وايجابي ثقافياً.
أما عوامل القوة فتلعب دورا أكثر أهمية في النقاشات الإعلامية والعامة التي تدور حول الدول الأخرى. إن النقاشات حول العالم الإسلامي في الغرب تؤججها بعض العوامل المضللة التي يتمثل أحدها في قضية الصراع العسكري في الشرق الأوسط. وبعبارة واقعية لم يكن هناك أي تهديد عسكري إسلامي لأوروبا منذ هزيمة العثمانيين على أبواب فيينا عام 1683، إلا أن جملة من القضايا المعاصرة مثل تهديدات العراق لجيرانه, أو قضية الانتشار النووي يمكن تقديمها باعتبارها تهديدا "إسلاميا". إن هذه ليست تهديدات إسلامية, كما أن القنبلة البريطانية أو الفرنسية ليست قنبلة مسيحية, أو أن الرؤوس النووية الإسرائيلية تمثل اليهودية. عامل ثان يتمثل في قضية الهجرة إلى أوربا تحديدا. إن موضوع الهجرة يقدم باعتباره "خطرا" إسلامياً في كثير من الدول, وهنا فإن ما هو عنصري يقدم بلغة دينية. إلا أن عاملا ثالثا هو ديماغوغية الحركات الإسلامية نفسها التي تعتنق فكرة الصراع بين الغرب والعالم الإسلامي وفكرة سياسة إسلامية موحدة, وهي فكرة خاطئة. أضف إلى ذلك أن على المرء أن ينظر إلى الدول المختلفة للوصول إلى تفسيرات مختلفة, وفي كتابي "الإسلام وخرافة المواجهة" ناقشت الظاهرة التي سميتها بـ"العداء للإسلام"، ودرست خمس حالات: صربيا، والهند، واسرائيل, وأوروبا، والولايات المتحدة. تحت كل حالة توجد من هذه الحالات قضايا مختلفة على الرغم من أنه ما إن تظهر إلى السطح, فإن التحامل ضد الإسلام يكتسب سمة موضوعية مشتركة. أما حالة الهند التي تعتبر في الواقع الدولة التي يوجد فيها تحامل علني ضد المسلمين في الخطاب السياسي أكثر من أي مكان آخر في العالم فينبغي أن تنبهنا إلى خطأ افتراض أن مثل هذا الأفكار ينحصر وجودها على الغرب.
بالطبع فإن فكرة التهديد الإسلامي هي فكرة محض هراء. حيث إن للمشاكل الموجودة واقعيا أسبابا وأسسا منطقية أخرى. ففي الوقت الحالي توجد أربع وخمسون دولة إسلامية تتبع كل منها سياسات خارجية مختلفة, حيث تتاجر كل منها وتتفاعل مع العالم غير الإسلامي بطرق مختلفة. وان حدث وان أظهرت تهديدات, أي بغزو جيرانها أو بتملك أسلحة نووية أو تشجيع الارهاب, فإنها تفعل ذلك بناء على مصالح سياسية تتعلق بالدولة وليس بناء على مصالح دينية. أضف إلى ذلك أن الأفعال التي تستحق الشجب التي تأتي بها بعض الدول الإسلامية ليست حصرا على العالم الإسلامي، فالتهديدات الإرهابية الرئيسية في أوروبا والولايات المتحدة ليس مصدرها العالم الإسلامي على كل حال- وانظر إلى الجيش الجمهوري الايرلندي ومنظمة ايتا الباسكية في اسبانيا أو إلى تفجيرات أوكلاهوما.
وبنفس القدر فإن من الهراء الحديث عن "الإسلام" باعتباره تهديدا عالمياً، حيث تتسم الأربع والخمسون دولة الإسلامية بتنوع مواقفها وسياساتها وعلاقاتها العرقية والاجتماعية الموجودة في كل منها. إن المسلمين يشتركون في بعض القيم المعروفة والشعور بالتكافل والتضامن، غير أن هذا أقل قوة من ولائهم للشعوب والدول القطرية، ولنأخذ مثال قبرص: كم من الدول الإسلامية أيدت تركيا في مسألة قبرص؟ وانظر إلى الحرب العراقية الايرانية. ثانياً: حتى وان تحدثنا عن جماعات تطرح برنامجاً إسلامياً، أي الجماعات "الإسلامية"، فإن ثمة تنوعاً عظيما فيما بينها، وليس هناك برنامج مشترك كالذي طرحته الشيوعية. ثالثا, ينبغي علينا أن نتساءل عن السبب الذي يمكن من ظهور هذه الجماعات في كل دولة على حدة, وهنا فإن الأسباب تختلف وتتنوع. فالأمور المتشابهة التي تجمع بين ظهور النزعة الإسلامية في تركيا وإحياء الهندوسية الدينية في الهند تتفوق على ما يجمع بين الإسلامية التركية وطالبان في أفغانستان على سبيل المثال, أو نمط الاسلمة الموجودة في باكستان. وأخيراً فإن هذه الجماعات تسعي للوصول إلى تولي مقاليد السلطة في دولها فقط، فهي في المقام الأول إذاً تشكل تهديداً على مجتمعاتها الموجودة فيها. إن الإسلاموية تهديد للمسلمين - ومعظم من تقتلهم هذه الجماعات هم من المسلمين, سواء كانوا في الجزائر أو باكستان أو أفغانستان, أو كما كان في عهد مضى في إيران.
واذا أردنا تفسير سبب نشوء هذا الأسطورة فإننا نلجأ إلى تفسير جذّاب لكنه سطحي يتمثل في أطروحة "التهديد الضروري"، وحسب هذه الرؤية فإن الغرب قد خسر عدوه المتمثل في الشيوعية بعد عام 1989، وكان عليه الآن أن يعيد اختراع عدو آخر يتمثل في الإسلام. إن هذه الفكرة ليست فكرة مقنعة لعدة أسباب، أولها أن العالم الغربي لم يخترع التهديد الشيوعى - حيث كان موجوداً في الواقع، فقد شارك الاتحاد السوفييتي في سباق تسلح, وفي تنافس على التأثير على العالم الثالث, وهذا إذاً لم يكن أمرا مخادعا، ويعرف هذا كل من عنده معرفة عن التاريخ المصري في الفترة من 1955 إلى 1974، أو بتاريخ الدولتين اليمنيتين. ثانيا, إن الافتراض الذي تقوم عليه فكرة "التهديد الضروري" هي أن العالم الغربي يحتاج بشكل من الأشكال إلى عدو خارجي، وهذا ما لا أراه. نعم, إن من الطبيعي أن التهديد الخارجي قد يصدم الدول والمجتمعات. إن ما يريده الغرب بصورته المتعقلة في الديمقراطيات الصناعية هو ببساطة عالم يكون شبيهاً به ما أمكن, ويتاجر معه ويتمتع معه بعلاقات سلمية ونحو ذلك, وفي هذا توجد تهديدات, لكنها تهديدات ترتبط بالتنافس الاقتصادي، والتهديد الذي يواجهه الغرب حالياً يأتي في واقع الأمر من التصنيع في الشرق الأقصى، ومن تغير السلطة في المحيط الهادي. وبهذا المقياس فليس ثمة وزن كبير للشرق الأوسط - فالشرق الأوسط, ومعه أفريقيا، يقعان إلى حد كبير خارج التحولات الاقتصادية التي شهدتها الأزمنة القريبة. وقد أخفت أموال النفط هذا الوضع الهامشي, إلا أننا إذا تحدثنا بعبارات مقارنة فان الشرق الأوسط قد خسر في التغيرات التي شهدها الاقتصاد العالمي خلال العقود الثلاثة الماضية. إن هذا هو الذي يجعل من الحديث عن تهديد إسلامي حديثاً خاطئاً. وهذا يقود المرء إلى التشكيك في المدى الذي أجابت فيه الحلول التي يطرحها الأصوليون أو القوميون (الحضاريون) في الشرق الأوسط حقيقة على هذه المشكلة. في رأيي إنها لم تقدم إجابات في هذا الجانب.
هل تلاحظ امكانية لصدام اصوليات في العالم العربي، مثلا بين الشيعة والسنة؟
من اليسير الحديث عن الشيعة والسنة باعتبارهما كتلتين تتجهان إلى المواجهة. ومن اليسير بنفس القدر تحليل السياسات الداخلية في بعض الدول بلغة طائفية, كلبنان والعراق وتركيا واليمن. نعم, إن مثل هذا الهويات الطائفية تشكل عاملا، لكنها ليست, ولم تكن أبدا، العامل الوحيد. أنظر إلى العراق مثلا. نعم إن كل نظام ظهر منذ 1920، باستثناء عبد الكريم قاسم, قد سيطر عليه السنة العرب الذين لا يشكلون إلا ثلث سكان العراق، لكنهم أيضا قد وظفوا في صفوفهم عناصر من المجموعات الأخرى، ووزعوا الأموال, والتأثير، بين غير أهل السنة. يمكن للمرء أن يرى نظم حكم تحاول أن تؤجج العداء السني الشيعي بهدف البقاء في السلطة, وأماكن أخرى حيث تثير حركات الاحتجاج نفس العواطف. إلا أن هذا على الرغم من ذلك ليس إلا تبسيطا، وهو تبسيط في غاية الخطورة, فالعوامل الأخرى - الاثنية والاقتصادية والإقليمية - تلعب دورا مهما.
يجادل البعض بأن مفهوم حقوق الإنسان نسبي، أي أنه يتأثر بعوامل الخلفية الثقافية والتطور الاجتماعي, فيما يرى البعض الآخر أن حقوق الإنسان هي ببساطة حقوق للإنسان, بمعنى أنها تعلو على مثل هذه المؤثرات الثقافية, ما هي رؤيتك لهذا ألمفهوم؟
توجد مشكلتان هنا. أولا أن تقسيم العالم إلى مناطق ثقافية منفصلة هو اختراع حديث متوهم. أجل توجد لغات وأديان وأعراق وآداب مختلفة، لكنها تختلف وقد تفاعلت دائما مع بعضها بعصا، واقتبست من بعضها بعضا. أنظر إلى تفاعل الفكر السياسي الإغريقي مع الإسلام القروسطي، مثل مفهوم المدينة الفاضلة عند الفارابي, تلك المدينة العادلة, هي حلقة ربط بين المفهوم الإغريقي الكلاسيكي والتفكير الإسلامي والمفاهيم المعاصرة حول المجتمع المدني والديمقراطية. وأنظر إلى الدين: إن الفكرتين المركزيتين في المفهوم المعاصر لحقوق الإنسان هي القيمة الأخلاقية للفرد, والحاجة إلى تحديد قوة الدولة, وفي حالات متطرفة حق الثورة على الدولة، وكلتا الفكرتين موجودتان في ديانات الشرق الأوسط, حيث أخذتها أوروبا من اليهودية والمسيحية والإسلام. أنظر مثلا إلى الرياضيات: إن العالم بأكمله ينتابه القلق جراء "قنبلة القرن", أي مشكلة تكيف الكمبيوترات مع العام 2000. إن الرقم "صفر" هو أمر مركزي في هذه المشكلة, وهو اختراع هندي وصل إلى أوروبا في القرن الثاني عشر الميلادي، وهكذا الأمر، فإن ما يقدم اليوم باعتباره سياسات أو رياضيات أو أطعمة "غربية " هو نتاج للتفاعل الثقافي. ثانيا: إن حقيقة أن شيئا ما قد ينشأ في بقعة واحدة من بقاع العالم لا يعني انه لا يمكن أن يطور أو يطبق في بقاع أخرى. مثالان بسيطان, لم يشك أحد خلال كأس العالم بأن كرة القدم هي اختراع انجليزي. وبنفس المقدار فإن لا أحد يعترض على مبدأ استقلالية قرار الدول الوطني وسيادتها. هذه أفكار يقبلها العالم بأكمله مهما اختلفت الثقافة. إن الرأي القائل بأن الديمقراطية قد نشأت في الغرب يختلف تماماً عن الرأي الذي يرى أنها لا يمكن أن توجد إلا في الغرب فقط. أضف إلى ذلك أن الكثير مما يقدم اليوم باعتباره ضد الغرب يتأثر بالغرب نفسه, ففكر الخميني السياسي قد أقتبس من الراديكالية الغربية بعض أفكاره، فـ"الجمهورية " و" الثورة " هما مفهومان غربيا النشأة.
أخيرا ينبغي علينا أن نلاحظ أن كل دول العالم تقبل بمبادئ الأمم المتحدة، وتتضمن هذه سيادة الدول, واستقلالية القرار الوطني وحقوق الإنسان. وان رفضت أي دولة هذه المبادئ فإن عليها مغادرة الأمم المتحدة. إن للدول موقعا خاصا في الشؤون العالمية, غير أن عليها في ذات الآن مسؤوليات تتحملها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق