موضع العربة والحصان
مطالعة في كتاب " قضية ترجمة الشعر"
للدكتور عبدالحفيظ محمد حسن
عبدالله الحراصي
من الامور الملحوظة في الآونة الإخيرة تزايد الوعي بالترجمة في العالم العربي سواء على المستوى الثقافي العام (الملاحق والصحف والمجلات الثقافية) أو على المستوى الأكاديمي البحثي (بحوث وكتب وندوات وغيرها من الأنشطة البحثية). التركيز في المستوى الثقافي يتم على أثر الترجمة في المجرى العام للحياة الابداعية والثقافية، اما على المستوى الأكاديمي فنجد بعض الحركة التي تحاول رمي حجر في آسن الحياة الأكاديمية العربية، وتقود هذا التوجه بعض المؤسسات الأكاديمية وعلى رأسها في هذا المجال مدرسة الملك فهد العليا للترجمة التابعة لجامعة عبدالمالك السعدي بطنجة المغربية. ان دور هذه المؤسسة وعلى رأسها الأستاذ بوشعيب ادريسي بويحياوي هو دور سيشهد له التاريخ يوما ما، ويكفيها فخرا اصدار دورية "ترجمان" المتخصصة في مسائل الترجمة، والتي تحاول بها ربط النشاط العالمي في حقل البحث الترجمي بالبحث العربي المتنامي. عدا ذلك لا نرى توجها بحثيا حقيقيا في مجال الترجمة عدا بعض الاصدارات التي تظهر هنا وهناك والتي تحاول تقديم نوع من "المساهمات" في هذا الحقل ومن هذه الكتب كتاب "قضية ترجمة الشعر" لمؤلفه الدكتور عبدالحفيظ محمد حسن، الذي صدر عام 1995 عن دار الثقافة العربية بالقاهرة في 106 صفحات من القطع المتوسط.
يقع الكتاب في مقدمة وتمهيد وفصلين. تحدثت المقدمة عن أهمية موضوع ترجمة الشعر والحاجة اليه ومنهج البحث واقسامه، أما التمهيد فتناول تعريف الترجمة وأهميتها وأقسامها وبداية الترجمة الأدبية في العصر الحديث. ويتناول الفصل الأول قضية ترجمة الشعر بين "الحظر" و "الاباحة" فعرض بتفصيل لهذين القطبين، وتناول في الفصل الثاني موضوع الترجمة الوسيطة للشعر وأهميتها وخطورتها. وسأعرض فيما يلي لبعض الخواطر التي رأيت لها موقعا في عرفي للكتاب.
الكتاب كما يشي لقب مؤلفه "الدكتور" مؤلف (بفتح اللام) أكاديمي. وهذا يعني انه يفترض أن يكون مختلفا عما ينشر في المستوى الثقافي بتحديد مصطلحاته، وهذا ما يفتقده هذا الكتاب من الفه الى يائه حيث نجد أنفسنا في بحر لجي من الاضطراب الاصطلاحي فنحن أمام كثير من
المصطلحات التي لا نرى لها معنى أو "مشار اليه" اذا أخذنا بتقسيم دي سوسور للكلام الى "مشير" و "مشار اليه". والأمثلة التالية قد تشير الى ذلك:
- السياق والفكر: ترمي هذه الترجمة [أي الحرفية] الى تقريب سياق أو فكر لغة الأصل الى القاريء في لغة النقل. (ص 27).
- البلاغ والتبليغ: "وهي [أي ترجمة الجملة ككل] الترجمة الي تسعي الى ايجاد نفس المفعول عوضا عن الشكل، فإنها تتوخى مبدأ التطابق من حيث التأثير. وفي هذه الحالة فإن الغرض هو أن يكون التبليغ في اللغة المنقول اليها وكأن البلاغ صادر في نفس اللغة، لا عن اللغة المنقول عنها" (ص29).
- المنطق اللغوي والمنطق العام: "للغات اذن منطقها الخاص، ولأساليبها طرقها الخاصة التي يجب عرضها وتفسيرها، لا في ضوء المنطق العام، بل في ضوء المنطق اللغوي والاستعمال اللغوي..." (ص 36).
- ذوق الأمة: وبهذا يتضح أن النص الواحد يتغير في مراحل انتقاله بحسب ذوق الأمة المنقول اليها في كل مرحلة.. (ص 96).
الكتاب يمتليء بالأخطاء الحقائقية التي لا يمكن تبريرها، وأهمها وأوضحها هو تعليق المؤلف على التشابه الذي لاحظه بين قصيدة "فلسفة الحب" لشيلي ورباعيات الخيام التي ترجمها فتزجرالد في ترجمته الشهيرة. حيث يقول "وهي [أي قصيدة شيليٍٍ] تشبه رباعيات الخيام -الى حد ما- في الشكل والمضمون، فمن حيث الشكل تشبهها في بنائها المنطقي وقافيتها الرباعية، ومن حيث المضمون في الدعوة الى المتعة واللذة، ولعل شيلي تأثر في ذلك بالرباعيات عن طريق ترجمتها الانجليزية الشهيرة التي قام بها فتزجرالد أواخر القرن الثامن عشر". يلاحظ الكاتب تشابها بين قصيدة "فلسفة الحب" لشيلي وترجمة فتزجرالد الانجليزية لرباعيات الخيام في الشكل والمضمون، ولو أنه يعود فيقيد ملاحظته هذه بعبارة "الى حد ما" التي لم أفهم منها شيئا اذا أخذنا بوجوب تحديد معنى الكلام في السياق البحثي. المهم ان المؤلف لا يكتفي بملاحظته المهمة وغير المثبتة هذه، بل يحاول أن يبررها فيقع فيما لا يقع فيه الباحث الحصيف الذي أقام كتابه بأكمله على مناقشة قصيدة شيلي "فلسفة الحب" وترجماتها العربية في الفصل الأول، وعلى مناقشة ترجمة فتزجرالد لرباعيات الخيام في الفصل الثاني، وهذا ما يقتني كافتراض لا يتسلل اليه أي شك ان الباحث يعي ما يتحدث عنه. يحاول الباحث تبرير هذا التشابه بأن شيلي تأثر بترجمة فتزجرالد للرباعيات وفي هذا وضع للعربة أمام الحصان على نحو أقل ما يمكن وصفه بأنه تراجيدي حيث أن شيلي توفي عام 1822 في حين أن ادوارد فتزجرالد وقع على مخطوطة الرباعيات بالفارسية عام 1857 ونشر أول طبعاتها عام 1859 أي بعد سبعة وثلاثين عاما من وفاة شيلي. وكان هذا طبعا في حوالي منتصف القرن التاسع عشر وليس في "أواخر القرن الثامن عشر" كما يذكر المؤلف.
والأخطاء الأخرى ليست قليلة كتعريفه بأوجين نيدا على انه "من المهتمين بالترجمة، ومتخصص في ترجمة التوراة والانجيل الى الانجليزية" وطبعا نيدا ليس مهتما بالترجمة بل انه من أكبر علماء مبحث الترجمة وهو من الذين يحفظ لهم التاريخ دورهم في تأسيس الترجمة كعلم له قواعده وأصوله، وهو أبو علم الترجمة كما يسميه البعض. ونيدا متخصص ليس في ترجمة التوراة والانجيل الى الانجليزية بل العكس هو الصحيح حسب علمي، فاهتمامه مركز على الصعوبات التي تعترض ترجمة الكتاب المقدس عند اليهود والمسيحيين (التوراة والانجيل) الى اللغات "البدائية" كاللغات الافريقية ولغات بعض المجموعات البشرية كالهنود الحمر وبعض اللغات الصينية التي تختلف تماما عن الانجليزية من ناحية التراكيب والوحدات اللغوية، ومن ناحية المميزات الثقافية.
الكتاب يعاني أيضا من مشكلة محاولة ربط بعض طرائق الترجمة المتبعة عند العرب والأساليب التي تحدث عنها بعض منظري الترجمة في العصر الحديث ويبني ذلك على تفريق الصفدي وبعده الزيات - لطريقتين من طرائق الترجمة "الترجمة الحرفية وترجمة المعنى" هذا على الرغم من أن هذا التفريق متهافت لا يصمد أمام نقاش منطقي مبسط حيث ان لم يكن ما تترجمه في الترجمة الحرفية هو المعنى فماذا يكون؟ ان تقبل تقسيم كهذا على محلاته دون تفكير بسيط في دلالاته أمر لا يمكن القبول به. اننا اذا عذرنا الصفدي في تقسيمه هذا القائم على تقسيم الكلمة الى شكل (حرف) ومعنى فلن نقبل ذلك من باحث في سباق زمني يشارف القرن الحادي والعشرين وخصوصا بعد أن تطور علم اللسانيات تطورا هائلا يجعلنا نقارب التصورات التراثية بعقلية نقدية قائمة على ما توافر لدينا من معرفة وليس ان نبني كياناتنا البحثية على تلك التصورات التي تم تجاوزها.
ان مثل هذا النكوص ومحاولة وضع قناع البحث الحديث عليه أمر ذو نتائج هشة. وعلى سبيل المثال فإن المؤلف يخلط خلطا مريبا بين حديث صلاح الدين الصفدي عن ترجمة المعنى عند حنين بن اسحق والجوهري، وبين مصطلح الترجمة الديناميكية الذي تحدث عنه نيدا. الصفدي يقول إن طريقة المذكورين كانت تقوم على أن المترجم يقرأ الجملة بلغتها الأصلية ويستوعبها ثم يعيد صياغة ما فهمه من معنى بلغته، في مقابل طريقة الترجمة الحرفية التي كانت تقوم على أن المترجم يترجم كلمة كلمة. ورغم عدم تقبل اللسانيات المعاصرة لمثل هذا التصور السطحي لتقسيم الكلمة الى شكل ومعنى فقط (هذا اضافة الى أن النص والخطاب - وليست الكلمة أو الجملة - أصبحا أهم الوحدات اللغوية التي يتحدث عنها البحث اللساني المعاصر) إلا أن ما يعنيه نيدا أمرا آخر في سياق آخر. فبينما يتحدث الصفدي عن مستوى الكلمة يتحدث نيدا عن مستوى أوسع وهو مستوى النص ورحلته السهمية التي تبتدىء بالمؤلف وتنتهي بالمستقبل حيث يمثل النص حلقة تربط الاثنين يضع فيها الأول من الوسائل اللغوية ما يحقق هدفه من انتاج هذا النص. ان مصطلح Dynamic Translation يعني أن على المترجم أن يعيد انتاج النص بحيث يكون للترجمة تأثير على قارئها مشابه للأثر الذي خلفه النص الأصلي في القاريء باللغة الأصلية. ولا يخفى ان الصفدي يتحدث عن مستويات الكلمة والجملة بينما يتحدث نيدا عن العملية النصية بأكملها.
من الملاحظات ذات الأهمية أيضا تقسيم المؤلف لأقسام الترجمة حسب طبيعة النص الى قسمين كبيرين" هما ترجمة الآثار العلمية وترجمة الآثار الأدبية. إذا كان تقسم الأشياء الى علمي وأدبي مقبولا لدى طلبة الثانوية حيث يواجهون هذه الثنائية العجيبة في سيرتهم التعليمية المدرسية فإن هذا لا يمكن قبوله في سياق البحث الأكاديمي الحقيقي. دونما اطالة في بحث هذا الموضوع نقول أن تقسيم النصوص حسب موضوعاتها قد تجاوز هذه الثنائية منذ وقت طويل، فبرزت الى الوجود تسميات لنصوص لا يمكن ادراجها في إطار هذين القسمين الكبيرين. ومثل ذلك نصوص الاعلانات التجارية والنصوص القانونية والنصوص الصحفية..الخ.
الكتاب يستخدم قاموسا قد يثير علامات استفهام اذا ما نظر اليه المرء من منظور محاولة الموضوعية، فيتحدث مثلا عن رأى من يرى بإمكانية ترجمة الشعر ورأي من يرى عكس ذلك بـ "الحظر والإباحة" وهما مصطلحان يمكنني أن أصفهما بأنهماLoaded words (1) أو كلمتان محشوتان ايديولوجيا (انظر 1993: Ng & Bradac) تطورا في سياق خطاب فقهي ديني، وإذ نرى أن القاريء سيفهم حقا مقصد الكاتب إلا أنه من المفضل في النصوص الأكاديمية البعد عن مثل هذه التعبيرات التي قد لا تتماشى والسعي العلمي نحو الموضوعية (النسبية على الأقل ان لم تكن المطلقة)، ومثل ذلك إشارة المؤلف الى أن اللغة الفارسية لا تملك سوى كلمة واحدة في الاشارة الى الأسد فيقول "ومعلوم أن العجم لا تعرف للأسد غير اسم واحد هو "شير" أما نحن فنعرف له خمسين ومائة اسم". اضافة الى ايحاءات النخوة العربية فلا يخفى على القاريء ان المؤلف باستخدامه لكلمة العجم للاشارة للفرس يبدو وكأنه يتخذ موقفا ايديولوجيا ما فكلمة العجم استخدمت للاشارة الى غير العرب واستخدمت تقليبا للاشارة الى الفرس وذلك في العصور العربية الأول في سياق مختلف عن سياقنا الآن واذا كنا لا نستخدم كلمة العجم للدلالة على الفرس - الايرانيين هذه الأيام في المستوى العام من التوصل اللغوي فكيف بنا أن نقبل بكلمة حبلى بالايحاءات في بحث علمي يفترض فيه الموضوعية.
ومن أسس ثبات كتاب ما أو رأي ما تناسقه الداخلي، ونرى أمثلة في كتاب "قضية ترجمة الشعر" توحي بإضطراب داخلي.
فنمضي مع المؤلف في طرحا لرأيه أو تحليله في موضوع ما ثم إذا بنا نفاجأ بأنه يقول عكس ذلك. ومثال ذلك حينما يتعرض لعرض تحليلي لقصيدة "فلسفة الحب" لشيلي التي تتكون من مقطعين رئيسيين كالتالي (الترجمة التالية هي ترجمة مؤلف الكتاب "الحرفية !"):
تمتزج الينابيع مع النهر
وذلك الانهار مع البحر
ورياح السماء تتداخل الى الابد
بعاطفية عذبة
لا شيء في الوجود منفرد
كل الاشياء بقانون الهي
فلم لا اكون كذلك معك؟
انظري الجبال تقبل السماء العالية
والامواج تعانق بعضها بعضا
والزهرة الاخت لا يغتفر لها
ان هي صدت اخاها
وشعاع الشمس يحتضن الارض
وضوء القمر يقبل البحر
فما كل هذه القبلات العذبة
اذا انت لم تقبليني؟
يرى الباحث أن المقطع الأول يورد صورا حسية لامتزاج الطبيعة كالينابيع مع النهر والانهار مع البحر واختلاط الرياح. واذا أمكن قبول هذا فكيف يمكن قبول أن المقطع الثاني ينتقل من الحسي
الى المعنوي، فينتقل من تلك المشاهد الحسية من تمازج مظاهر الطبيعة وتخالطها الى صور معنوية رومانسية من التآلف والتعاطف بين مظاهرها الجامدة (ص55)؟، ويمضي مؤلف الكتاب فيضرب أمثلة من المقطع الثاني كتقبيل الجبال للسماء وتعانق الأمواج وشعاع الشمس الذي يحتضن الأرض، والحقيقة اني لا أرى وجها قويا للقول أن صور المقطع الأول حسية بينما صور المقطع الثاني معنوية رومانسية (؟)، إلا اذا اعتبرنا أن التشخيص هو الذي يجعل الحسي
معنويا. المهم في نقطة الثبات والتناسق الداخلي هو أن المؤلف يعود فينتقد ترجمة فائق رياض فيقول "كنى فائق رياض عن الشمس بالغزالة وحول الاحتضان الى مغازلة فحول الصورة الحسية الى الوجدانية" (ص 60). وهنا كما لا يخفى يناقض المؤلف نفسه فيجعل صورة الشمس حسية بعد أن كانت وجدانية رومانسية وليست حسية حسب رأيه في صفحة (55).
من ناحية منهجية مراجع الكتاب نرى أن هنالك بعض الهنات غير البسيطة. ومثل ذلك عدم ذكره في قائمة مراجعه ومصادره لكتاب كان العمود الفقري للفصل الأول وهو كتاب "شيلي في الأدب العربي في مصر" لجيهان صفوت رؤوف، كذلك كتاب "دراسات في الترجمة" لسوزان باسنت وكتاب "نحو علم الترجمة" لأوجين وغيرها من الكتب التي اشار اليها في متن الكتاب وحواشيه، ودعك من الاشارات الى الدوريات وغيرها من المصادر التي لم يشر اليها مطلقا في قائمة المصادر والمراجع.
ومن الملاحظات المنهجية الأخرى (الكوميتراجيدية حقا) تعليق المؤلف على قوله نفسه أنا الشاعر في المقطع الأول من قصيدة آنفة الذكر "أورد صورا حسية لامتزاج مظاهر الطبيعة واتجاه الضعيف نحو الأقوى ليمتزج به ويتلاشى فيه ليصبحا كيانا واحدا"، حيث يذكر في حاشية الصفحة أن "هذا هو المنطق الأوروبي على المستوى الفردي وعلى المستوى العام الدولي في اتجاهها نحو ابتلاع الدول الضعيفة وامتصاص خيراتها ومحاولة اقناعها بأن ذلك لمصلحتها.." والصمت هو خير تعليق على هذا الربط بين قصيدة شيلي الرائعة وبين "إلاستعمار" و" الامبريالية " و" قوى الاستكبار العالمي".
يختتم المؤلف كتابه بالعبارة التالية "وإني لأرجو أن أكون قد خطوت خطوة بهذه القضية الصعبة نحو الهدف الذي ينشده النقاد والدارسون لها، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل" (هكذا).
الهوامش
1 - يرى كل من سك هنج نج وجيس ج براداك في كتابهما (القوة في اللغة التواصل اللغوي والتأثير الاجتماعي Power in Language: Verbal Communication and Social)Influence) الذي صدر عام 1993 ان هناك كلمات محشوة وهي التي "يمكن استخدامها لإثارة قاطرة من الافكار والمشاعر التي تقود الى اتجاه محدد مرغوب فيه" (ترجمة كاتب المقال). وهذه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق