موضع العربة والحصان مطالعة في كتاب " قضية ترجمة الشعر" للدكتور عبدالحفيظ محمد حسن
عبدالله الحراصي
من الامور الملحوظة في الآونة الإخيرة تزايد الوعي بالترجمة في العالم العربي سواء على المستوى الثقافي العام (الملاحق والصحف والمجلات الثقافية) أو على المستوى الأكاديمي البحثي (بحوث وكتب وندوات وغيرها من الأنشطة البحثية). التركيز في المستوى الثقافي يتم على أثر الترجمة في المجرى العام للحياة الابداعية والثقافية، اما على المستوى الأكاديمي فنجد بعض الحركة التي تحاول رمي حجر في آسن الحياة الأكاديمية العربية، وتقود هذا التوجه بعض المؤسسات الأكاديمية وعلى رأسها في هذا المجال مدرسة الملك فهد العليا للترجمة التابعة لجامعة عبدالمالك السعدي بطنجة المغربية. ان دور هذه المؤسسة وعلى رأسها الأستاذ بوشعيب ادريسي بويحياوي هو دور سيشهد له التاريخ يوما ما، ويكفيها فخرا اصدار دورية "ترجمان" المتخصصة في مسائل الترجمة، والتي تحاول بها ربط النشاط العالمي في حقل البحث الترجمي بالبحث العربي المتنامي. عدا ذلك لا نرى توجها بحثيا حقيقيا في مجال الترجمة عدا بعض الاصدارات التي تظهر هنا وهناك والتي تحاول تقديم نوع من "المساهمات" في هذا الحقل ومن هذه الكتب كتاب "قضية ترجمة الشعر" لمؤلفه الدكتور عبدالحفيظ محمد حسن، الذي صدر عام 1995 عن دار الثقافة العربية بالقاهرة في 106 صفحات من القطع المتوسط.
يقع الكتاب في مقدمة وتمهيد وفصلين. تحدثت المقدمة عن أهمية موضوع ترجمة الشعر والحاجة اليه ومنهج البحث واقسامه، أما التمهيد فتناول تعريف الترجمة وأهميتها وأقسامها وبداية الترجمة الأدبية في العصر الحديث. ويتناول الفصل الأول قضية ترجمة الشعر بين "الحظر" و "الاباحة" فعرض بتفصيل لهذين القطبين، وتناول في الفصل الثاني موضوع الترجمة الوسيطة للشعر وأهميتها وخطورتها. وسأعرض فيما يلي لبعض الخواطر التي رأيت لها موقعا في عرفي للكتاب.
الكتاب كما يشي لقب مؤلفه "الدكتور" مؤلف (بفتح اللام) أكاديمي. وهذا يعني انه يفترض أن يكون مختلفا عما ينشر في المستوى الثقافي بتحديد مصطلحاته، وهذا ما يفتقده هذا الكتاب من الفه الى يائه حيث نجد أنفسنا في بحر لجي من الاضطراب الاصطلاحي فنحن أمام كثير من
المصطلحات التي لا نرى لها معنى أو "مشار اليه" اذا أخذنا بتقسيم دي سوسور للكلام الى "مشير" و "مشار اليه". والأمثلة التالية قد تشير الى ذلك:
- السياق والفكر: ترمي هذه الترجمة [أي الحرفية] الى تقريب سياق أو فكر لغة الأصل الى القاريء في لغة النقل. (ص 27).
- البلاغ والتبليغ: "وهي [أي ترجمة الجملة ككل] الترجمة الي تسعي الى ايجاد نفس المفعول عوضا عن الشكل، فإنها تتوخى مبدأ التطابق من حيث التأثير. وفي هذه الحالة فإن الغرض هو أن يكون التبليغ في اللغة المنقول اليها وكأن البلاغ صادر في نفس اللغة، لا عن اللغة المنقول عنها" (ص29).
- المنطق اللغوي والمنطق العام: "للغات اذن منطقها الخاص، ولأساليبها طرقها الخاصة التي يجب عرضها وتفسيرها، لا في ضوء المنطق العام، بل في ضوء المنطق اللغوي والاستعمال اللغوي..." (ص 36).
- ذوق الأمة: وبهذا يتضح أن النص الواحد يتغير في مراحل انتقاله بحسب ذوق الأمة المنقول اليها في كل مرحلة.. (ص 96).
الكتاب يمتليء بالأخطاء الحقائقية التي لا يمكن تبريرها، وأهمها وأوضحها هو تعليق المؤلف على التشابه الذي لاحظه بين قصيدة "فلسفة الحب" لشيلي ورباعيات الخيام التي ترجمها فتزجرالد في ترجمته الشهيرة. حيث يقول "وهي [أي قصيدة شيليٍٍ] تشبه رباعيات الخيام -الى حد ما- في الشكل والمضمون، فمن حيث الشكل تشبهها في بنائها المنطقي وقافيتها الرباعية، ومن حيث المضمون في الدعوة الى المتعة واللذة، ولعل شيلي تأثر في ذلك بالرباعيات عن طريق ترجمتها الانجليزية الشهيرة التي قام بها فتزجرالد أواخر القرن الثامن عشر". يلاحظ الكاتب تشابها بين قصيدة "فلسفة الحب" لشيلي وترجمة فتزجرالد الانجليزية لرباعيات الخيام في الشكل والمضمون، ولو أنه يعود فيقيد ملاحظته هذه بعبارة "الى حد ما" التي لم أفهم منها شيئا اذا أخذنا بوجوب تحديد معنى الكلام في السياق البحثي. المهم ان المؤلف لا يكتفي بملاحظته المهمة وغير المثبتة هذه، بل يحاول أن يبررها فيقع فيما لا يقع فيه الباحث الحصيف الذي أقام كتابه بأكمله على مناقشة قصيدة شيلي "فلسفة الحب" وترجماتها العربية في الفصل الأول، وعلى مناقشة ترجمة فتزجرالد لرباعيات الخيام في الفصل الثاني، وهذا ما يقتني كافتراض لا يتسلل اليه أي شك ان الباحث يعي ما يتحدث عنه. يحاول الباحث تبرير هذا التشابه بأن شيلي تأثر بترجمة فتزجرالد للرباعيات وفي هذا وضع للعربة أمام الحصان على نحو أقل ما يمكن وصفه بأنه تراجيدي حيث أن شيلي توفي عام 1822 في حين أن ادوارد فتزجرالد وقع على مخطوطة الرباعيات بالفارسية عام 1857 ونشر أول طبعاتها عام 1859 أي بعد سبعة وثلاثين عاما من وفاة شيلي. وكان هذا طبعا في حوالي منتصف القرن التاسع عشر وليس في "أواخر القرن الثامن عشر" كما يذكر المؤلف.
والأخطاء الأخرى ليست قليلة كتعريفه بأوجين نيدا على انه "من المهتمين بالترجمة، ومتخصص في ترجمة التوراة والانجيل الى الانجليزية" وطبعا نيدا ليس مهتما بالترجمة بل انه من أكبر علماء مبحث الترجمة وهو من الذين يحفظ لهم التاريخ دورهم في تأسيس الترجمة كعلم له قواعده وأصوله، وهو أبو علم الترجمة كما يسميه البعض. ونيدا متخصص ليس في ترجمة التوراة والانجيل الى الانجليزية بل العكس هو الصحيح حسب علمي، فاهتمامه مركز على الصعوبات التي تعترض ترجمة الكتاب المقدس عند اليهود والمسيحيين (التوراة والانجيل) الى اللغات "البدائية" كاللغات الافريقية ولغات بعض المجموعات البشرية كالهنود الحمر وبعض اللغات الصينية التي تختلف تماما عن الانجليزية من ناحية التراكيب والوحدات اللغوية، ومن ناحية المميزات الثقافية.
الكتاب يعاني أيضا من مشكلة محاولة ربط بعض طرائق الترجمة المتبعة عند العرب والأساليب التي تحدث عنها بعض منظري الترجمة في العصر الحديث ويبني ذلك على تفريق الصفدي وبعده الزيات - لطريقتين من طرائق الترجمة "الترجمة الحرفية وترجمة المعنى" هذا على الرغم من أن هذا التفريق متهافت لا يصمد أمام نقاش منطقي مبسط حيث ان لم يكن ما تترجمه في الترجمة الحرفية هو المعنى فماذا يكون؟ ان تقبل تقسيم كهذا على محلاته دون تفكير بسيط في دلالاته أمر لا يمكن القبول به. اننا اذا عذرنا الصفدي في تقسيمه هذا القائم على تقسيم الكلمة الى شكل (حرف) ومعنى فلن نقبل ذلك من باحث في سباق زمني يشارف القرن الحادي والعشرين وخصوصا بعد أن تطور علم اللسانيات تطورا هائلا يجعلنا نقارب التصورات التراثية بعقلية نقدية قائمة على ما توافر لدينا من معرفة وليس ان نبني كياناتنا البحثية على تلك التصورات التي تم تجاوزها.
ان مثل هذا النكوص ومحاولة وضع قناع البحث الحديث عليه أمر ذو نتائج هشة. وعلى سبيل المثال فإن المؤلف يخلط خلطا مريبا بين حديث صلاح الدين الصفدي عن ترجمة المعنى عند حنين بن اسحق والجوهري، وبين مصطلح الترجمة الديناميكية الذي تحدث عنه نيدا. الصفدي يقول إن طريقة المذكورين كانت تقوم على أن المترجم يقرأ الجملة بلغتها الأصلية ويستوعبها ثم يعيد صياغة ما فهمه من معنى بلغته، في مقابل طريقة الترجمة الحرفية التي كانت تقوم على أن المترجم يترجم كلمة كلمة. ورغم عدم تقبل اللسانيات المعاصرة لمثل هذا التصور السطحي لتقسيم الكلمة الى شكل ومعنى فقط (هذا اضافة الى أن النص والخطاب - وليست الكلمة أو الجملة - أصبحا أهم الوحدات اللغوية التي يتحدث عنها البحث اللساني المعاصر) إلا أن ما يعنيه نيدا أمرا آخر في سياق آخر. فبينما يتحدث الصفدي عن مستوى الكلمة يتحدث نيدا عن مستوى أوسع وهو مستوى النص ورحلته السهمية التي تبتدىء بالمؤلف وتنتهي بالمستقبل حيث يمثل النص حلقة تربط الاثنين يضع فيها الأول من الوسائل اللغوية ما يحقق هدفه من انتاج هذا النص. ان مصطلح Dynamic Translationيعني أن على المترجم أن يعيد انتاج النص بحيث يكون للترجمة تأثير على قارئها مشابه للأثر الذي خلفه النص الأصلي في القاريء باللغة الأصلية. ولا يخفى ان الصفدي يتحدث عن مستويات الكلمة والجملة بينما يتحدث نيدا عن العملية النصية بأكملها.
من الملاحظات ذات الأهمية أيضا تقسيم المؤلف لأقسام الترجمة حسب طبيعة النص الى قسمين كبيرين" هما ترجمة الآثار العلمية وترجمة الآثار الأدبية. إذا كان تقسم الأشياء الى علمي وأدبي مقبولا لدى طلبة الثانوية حيث يواجهون هذه الثنائية العجيبة في سيرتهم التعليمية المدرسية فإن هذا لا يمكن قبوله في سياق البحث الأكاديمي الحقيقي. دونما اطالة في بحث هذا الموضوع نقول أن تقسيم النصوص حسب موضوعاتها قد تجاوز هذه الثنائية منذ وقت طويل، فبرزت الى الوجود تسميات لنصوص لا يمكن ادراجها في إطار هذين القسمين الكبيرين. ومثل ذلك نصوص الاعلانات التجارية والنصوص القانونية والنصوص الصحفية..الخ.
الكتاب يستخدم قاموسا قد يثير علامات استفهام اذا ما نظر اليه المرء من منظور محاولة الموضوعية، فيتحدث مثلا عن رأى من يرى بإمكانية ترجمة الشعر ورأي من يرى عكس ذلك بـ "الحظر والإباحة" وهما مصطلحان يمكنني أن أصفهما بأنهماLoaded words(1) أو كلمتان محشوتان ايديولوجيا (انظر 1993: Ng & Bradac) تطورا في سياق خطاب فقهي ديني، وإذ نرى أن القاريء سيفهم حقا مقصد الكاتب إلا أنه من المفضل في النصوص الأكاديمية البعد عن مثل هذه التعبيرات التي قد لا تتماشى والسعي العلمي نحو الموضوعية (النسبية على الأقل ان لم تكن المطلقة)، ومثل ذلك إشارة المؤلف الى أن اللغة الفارسية لا تملك سوى كلمة واحدة في الاشارة الى الأسد فيقول "ومعلوم أن العجم لا تعرف للأسد غير اسم واحد هو "شير" أما نحن فنعرف له خمسين ومائة اسم". اضافة الى ايحاءات النخوة العربية فلا يخفى على القاريء ان المؤلف باستخدامه لكلمة العجم للاشارة للفرس يبدو وكأنه يتخذ موقفا ايديولوجيا ما فكلمة العجم استخدمت للاشارة الى غير العرب واستخدمت تقليبا للاشارة الى الفرس وذلك في العصور العربية الأول في سياق مختلف عن سياقنا الآن واذا كنا لا نستخدم كلمة العجم للدلالة على الفرس - الايرانيين هذه الأيام في المستوى العام من التوصل اللغوي فكيف بنا أن نقبل بكلمة حبلى بالايحاءات في بحث علمي يفترض فيه الموضوعية.
ومن أسس ثبات كتاب ما أو رأي ما تناسقه الداخلي، ونرى أمثلة في كتاب "قضية ترجمة الشعر" توحي بإضطراب داخلي.
فنمضي مع المؤلف في طرحا لرأيه أو تحليله في موضوع ما ثم إذا بنا نفاجأ بأنه يقول عكس ذلك. ومثال ذلك حينما يتعرض لعرض تحليلي لقصيدة "فلسفة الحب" لشيلي التي تتكون من مقطعين رئيسيين كالتالي (الترجمة التالية هي ترجمة مؤلف الكتاب "الحرفية !"):
تمتزج الينابيع مع النهر
وذلك الانهار مع البحر
ورياح السماء تتداخل الى الابد
بعاطفية عذبة
لا شيء في الوجود منفرد
كل الاشياء بقانون الهي
فلم لا اكون كذلك معك؟
انظري الجبال تقبل السماء العالية
والامواج تعانق بعضها بعضا
والزهرة الاخت لا يغتفر لها
ان هي صدت اخاها
وشعاع الشمس يحتضن الارض
وضوء القمر يقبل البحر
فما كل هذه القبلات العذبة
اذا انت لم تقبليني؟
يرى الباحث أن المقطع الأول يورد صورا حسية لامتزاج الطبيعة كالينابيع مع النهر والانهار مع البحر واختلاط الرياح. واذا أمكن قبول هذا فكيف يمكن قبول أن المقطع الثاني ينتقل من الحسي
الى المعنوي، فينتقل من تلك المشاهد الحسية من تمازج مظاهر الطبيعة وتخالطها الى صور معنوية رومانسية من التآلف والتعاطف بين مظاهرها الجامدة (ص55)؟، ويمضي مؤلف الكتاب فيضرب أمثلة من المقطع الثاني كتقبيل الجبال للسماء وتعانق الأمواج وشعاع الشمس الذي يحتضن الأرض، والحقيقة اني لا أرى وجها قويا للقول أن صور المقطع الأول حسية بينما صور المقطع الثاني معنوية رومانسية (؟)، إلا اذا اعتبرنا أن التشخيص هو الذي يجعل الحسي
معنويا. المهم في نقطة الثبات والتناسق الداخلي هو أن المؤلف يعود فينتقد ترجمة فائق رياض فيقول "كنى فائق رياض عن الشمس بالغزالة وحول الاحتضان الى مغازلة فحول الصورة الحسية الى الوجدانية" (ص 60). وهنا كما لا يخفى يناقض المؤلف نفسه فيجعل صورة الشمس حسية بعد أن كانت وجدانية رومانسية وليست حسية حسب رأيه في صفحة (55).
من ناحية منهجية مراجع الكتاب نرى أن هنالك بعض الهنات غير البسيطة. ومثل ذلك عدم ذكره في قائمة مراجعه ومصادره لكتاب كان العمود الفقري للفصل الأول وهو كتاب "شيلي في الأدب العربي في مصر" لجيهان صفوت رؤوف، كذلك كتاب "دراسات في الترجمة" لسوزان باسنت وكتاب "نحو علم الترجمة" لأوجين وغيرها من الكتب التي اشار اليها في متن الكتاب وحواشيه، ودعك من الاشارات الى الدوريات وغيرها من المصادر التي لم يشر اليها مطلقا في قائمة المصادر والمراجع.
ومن الملاحظات المنهجية الأخرى (الكوميتراجيدية حقا) تعليق المؤلف على قوله نفسه أنا الشاعر في المقطع الأول من قصيدة آنفة الذكر "أورد صورا حسية لامتزاج مظاهر الطبيعة واتجاه الضعيف نحو الأقوى ليمتزج به ويتلاشى فيه ليصبحا كيانا واحدا"، حيث يذكر في حاشية الصفحة أن "هذا هو المنطق الأوروبي على المستوى الفردي وعلى المستوى العام الدولي في اتجاهها نحو ابتلاع الدول الضعيفة وامتصاص خيراتها ومحاولة اقناعها بأن ذلك لمصلحتها.." والصمت هو خير تعليق على هذا الربط بين قصيدة شيلي الرائعة وبين "إلاستعمار" و" الامبريالية " و" قوى الاستكبار العالمي".
يختتم المؤلف كتابه بالعبارة التالية "وإني لأرجو أن أكون قد خطوت خطوة بهذه القضية الصعبة نحو الهدف الذي ينشده النقاد والدارسون لها، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل" (هكذا).
الهوامش
1 - يرى كل من سك هنج نج وجيس ج براداك في كتابهما (القوة في اللغة التواصل اللغوي والتأثير الاجتماعي Powerin Language: Verbal Communication and Social)Influence) الذي صدر عام 1993 ان هناك كلمات محشوة وهي التي "يمكن استخدامها لإثارة قاطرة من الافكار والمشاعر التي تقود الى اتجاه محدد مرغوب فيه" (ترجمة كاتب المقال). وهذه
الكلمات -بخلاف الكلمات المحايدة التي لا تخفي أثرا مقصودا – موظفة ايديولوجيا على نحو لا يشعر فيه المتلقي سامعا كان أم قارئا انه يستدرج نحو هدف محدد سلفا سواء من قبل المرسل (الكاتب أو المتحدث) أو من قبل الايديولوجيا التي تعمل مثل هذه الكلمات على تعزيز وجودها ومنع الايديولوجيات الاخرى من الوصول الى السلطة الاجتماعية، وهنا تغدو اللغة (في أي مظهر من مظاهرها وأي مستوى من مستوياتها) ميدانا للصراع بين الأيديولوجيات المختلفة، تلك التي في يدها السلطة والأخرى التي تحاول الوصول اليها وللمزيد في هذا الموضوع يمكن للمهتم الاطلاع على كتب الاكاديمي البريطاني نورمان فيركلان NormanFaerclough(وهو أهم الباحثين في العلاقة بين اللغة والقوى الايديولوجية وصاحب التحليل النقدي للغة والخطاب - وهو كاتب ابتدأ من حيث انتهى ميشيل فركو) ومن كتبه Language and Power(اللغة والقوة) و Critical Discourse Analysis(التحليل النقدي للخطاب).
للباحثين الأمين المزروعي ,وابراهيم نور شريف البكري
ترجمة وتقديم: عبدالله الحراصي
تقديم:
قد يتساءل البعض عما يهم الثقافة العربية من إثارة قضية من مثل الهوية السواحيلية ومحدداتها. وهذا التساؤل له حقا ما يبرره حيث لم يخرج موضوع الوجود العربي في شرق افريقيا حتى الآن من متون كتب التاريخ.
الثقافة العربية (أغني الثقافة \الفكر\ الأيديولوجيا) لم تخرج عن كونها ثقافة استعراضية في أوجهها العادة. يتبدى استعراضنا الثقافي في القضايا التي تثار مثلا حول الشعر (الشعر العمودي, الشعر الحر، الشعر النثري،...) وحول قضايا أخرى من مثل حرمة قراءة أولاد حارتنا " لنجيب محفوظ " وغيرها من المواضيع الشبيهة.
ان ثقافتنا العربية المعاصرة تنطوي كلى مفارقة مبكية.. إن لنا كعرب وجودا متميزا في مجالات تاريخية شتى لكننا لم نأخذ قضية وجودنا في حركة التاريخ مأخذ الجد. لقد أصبحت قضايانا الثقافية الاستعرافية مركزا، ونمدا كل شي ء لا يملن تقليصا الى" مانشيت " عريض هامشا، بل عدما في الأغلب. وقضية الهوية اليسواحيلية هي أحدى القضايا التي لم يولها الفكر العربي أي أهمية, بل لم تحظ حسب علمي بأي نقاش في أي صورة من الصور. وإثارة الموضوع ليست من قبيل التباكي كلى ماض لن يعود، فبيت العجائب في زنجبار ليس ماضيا، والعمانيون واليمنيون وغيرهم ممن يجري في أحشائهم الدم العربي وكلى ألسنتهم لغة عربية مازالت محتفظة بجرس الأسر، أولئك الذين مازا لوا متشبثين بجذورهم في كلوة وممباسة وغيرهما من نقاط الساحل الافريقي ليسوا تاريخا. انهم مازالوا هناك.
عرف العرب الشرق الافريقي منذ قديم الزمان. عرفوه مستكشفين ودعاة وبحارة وتجارة وباحثين عن الرزق. والشرق الافريقي - وزنجبار على وجه التحديد - له موقع خاص في الذاكرة العمانية, فقد كان اليساحل امتدادا لعمان الأم ثم أصبح في عصر السيد سعيد بن سلطان مركزا وعاصمة لعمان. وحتى الستينات من هذا القرن كان حكام ساحل شرق افريقيا عمانيين الى أن دارت عليهم الدائرة فضاع الساحل العربي في شرق افريقيا كما ضاعت الأندلس وغيرها.
حتى الآن لم يدرس العرب تاريخهم في شرق افريقيا. أجل توجد دراسات قليلة لكنها لا تمثل قطرة من بحر من الدراسات التي يمكن للمتفحص أن يرى إمكانية إجرائها. والتاريخ أي سير حياة العظماء, ليس هو التاريخ الذي أعنيه هنا. التاريخ المراد دراسته هو الحركة الشاملة لحياة الانسان, أي فحصه وتمحيصه باعتباره روحا. والمجال اذن مفتوح ليس لعلم التاريخ فحسب, بل لكل العلوم التي ترصد الانسان في كل صوره: مجتمعا، معمارا، فنا,شعرا، صحافة, غناء.. الخ.
ان المطلوب ليس فقط البحوث " المدرسية " المتفرقة التي تتعرض مثلا للصحافة العربية في زنجبار, أو لماكرات الأميرة العربية التي هجرت زنجبار الى أوروبا. هذه فروع والمطلوب هو المجرى الرئيس الذي تتموضع فيا كل هذه الدراسات.
ان ترجمة الفصل الثالث من كتاب " السواحيلية: لسان شعب افريقي وهويته " لابراهيم نور شريف البكري والامين المزروعي ترمي الى آفاق تتجاوز موضوع هذا المبحث لتشكا دعوة للباحثين العرب (والعمانيين فصوصا) الى ايلاء موضوع العرب وساحل شوق افريقيا الاهتمام الذي يستحقه وقيما يلي ترجمة الفصل المذكو.
من الأمور المسلم بها أحيانا تلك العلاقة التي لا تنفصم عراها بين تطور لغة قوم وأدبهم. ولكن إن لم يكن بالإمكان فك عرى هذه العلاقة فبالإمكان على أقل تقدير اضعافها أو جعلها غاية في الغموض. ان الجدل السائد الدائر حول لغة الأدب الافريقي هو دليل ساطع على غموض تلك العلاقة التي يفترض عدم اهتزازها بين اللغة والأدب. ويثير هذا الجدل أسئلة ذات شأن حول جوهر كل من الأدبين الأوروبي والافريقي. فما هو الأدب الانجليزي؟ أهو أدب الانجليز؟ أم أنه يشتمل عن الآداب الأخرى التي كتبت باللغة الانجليزية ؟ أم ترى أن المؤلف الافريقي والروح الافريقية أمران كافيان لتشكيل الأدب الافريقي بغض النظر عن اللغة التي كتب بها؟ ان هذه التساؤلات تجلب معها تساؤلات أخرى عديدة. فمن هو الافريقي؟ وهل هناك روح أدبية افريقية ؟ وهل يمكن اعتبار الأدب الذي كتبا ذوو الأصول الهولندية في اللغة الافريكانية أدبا افريقيا؟.
إن تساؤلات واعتبارات شبيهة بهذه شوشت عالم " الأدب السواحيلي " ويمكن بغاية البساطة تعريف الأدب المكتوب بالسواحيلية على أنه أدب الشعب السواحيلي حينما تكون حدود اللغة السواحيلية مشتركة مع حدود العرق السواحيلي. ولكن وكما هو الحال في اللغات الانجليزية والفرنسية والبرتغالية والاسبانية فإن تطور السواحيلية وانتشارها خارج " حدودها" العرقية قد أثار تساؤلات جادة حول أصل الأدب السواحيلي وارتباطه بالهوية السواحيلية. ويرسم تربان هذا السيناريو حينما يتساءل.
هل الأدب السواحيلي هو ذلك الأدب الذي كتبه السواحيليون ؟ واذا كان كذلك فما هو الأمسواحيلي ؟ -إن هذا تساؤل مثيرللجدل. هل الادب السواحيلي هو ?لك الذي يعني بنمط الحياة السواحيلي أوشرق الافريقي؟ام انه الادب السواحيلي الذي كتبه سكان شوق افريقيا؟ (1968: 161).
واذا كان الرأي العام يشير الى انه ليس هنالك عرق سواحيلي وانه ليس هنالك شعب بلغ ترابطه الجماعي حدا يمكنه من تكوين وجود عرقي سواحيلي فعندها يسهل تعريف الأدب السواحيلي في مصطلحات لغوية لا لبس فيها، وإلا فيمكننا أن ننظر للقضية من منظور وطني فنعرف الأدب السواحيلي على أنه الأدب الذي ألف باللغة السواحيلية على يد كتاب لغتهم الوطنية هي السواحيلية. وهذا الأدب -اذا أخذنا بهذا التعريف - سيشتمل على الأدب السواحيلي (باللغة السواحيلية ) الذي كتبه التنزانيون والكينيون والى حد أضعف الأوغنديون ~لكن هذا التعريف سيزيح جانبا ذلك الأدب الذي كتبه الأوروبيون بالسواحيلية على سبيل المثال. ان رينرارنولد هو أحد الباحثين الذين ينحون هذا المنحر - الى حد ما - في تعريفهم للأدب السواحيلي, فالأدب السواحيلي في أيامنا هذه في رأيه:
...لا يمثل إلا الثقافة والمجتمع السواحيليين في الساحل (المشوق افريقي) فحسب. لكنه أيضا جزء لا يتجزأ من الشعوب الحديثة في شرق افريقيا.ومن الناحية العلمية سيكون أكثر تأثيرا أن نسمي الأدب بأدب شرق افريقيا المكتوب باللغة السواحيلية..
يعتبر البعض اذن ان قوى التطور اللغوي" والتحديث " السياسي قد شوهت التطور العضوي للأدب السواحيلي من القاعدة العرقية السواحيلية.
ومما لا ريب فيه ان بإمكاننا أن طرح جانبا وجود العرق السواحيلي دون أن نرفض فكرة الهوية السواحيلية. وكما أشرنا سابقا فانه قد أملي من مقام السواحيلية في تنزانيا بتنصيبها لغة وطنية, وظهر على اثر ذلك ضرب من الثقافة السياسية السواحيلية.وهكذا يصب من المناسب اذن ان نطلق مصطلح الأدب السواحيلي على الأدب الذي ألف باللغة السواحيلية على يد كتاب ينتمون الى هذه الثقافة. ان مفهوم الثقافة السياسية السواحيلية هذا هو الذي يبدو انه قد شكل الموقف الذي يقفه كل من كيانجو وسينجو حينما يكتبان:
..هنا في ارض الوطن نعتبر السواحيلية حامية حمانا, فقد ?نشأتنا منذالفترة الاستعمارية ووحدتنا الى حين حصولنا على استقلالنا. انها اللغة التي تعبر عن حيواتنا الجتماعية... ان يكون المرء
سواحيليا يعني أن يكون تنزانيا. لذا فمن المرجح ان الناس سيقبلون أن يلقبوا بالسواحيلين وسيحاولون تطوير قيم وعادات واعراف بدلا من اعطائهم اهمية أعظم لمفهوم العرق. وهنا عندما يمكننا القول ان لدينا ادبا سواحيليا.
ومما لا شك فيا أن تسييس الهوية السواحيلية وارتباطها في معادلة مع المخلوق الاستعماري المسمى الدولة - الشعب هو ظاهرة تنزانية في المقام الأول. فرغم أن السواحيلية هي اللغة الرهنية في كينيا الا أن اعتبار الكيني سواحيليا هو أمر غريب حقا لدى شعب كينيا، على الأقل في المستقبل المنظور.ولكن الحال جد مختلف في تنزانيا حيث يلاحظ تزايد اندماج الاعراق تحت لواء روح شعب تشكل اللغة السواحيلية عموده الفقري وفي هذا السياق يقول لواهي في معرض تأييده لكيانجو وسينجو معلقا.
ان الثقافة التنزانية هيا اذن المجموع الكلي لكل العادات والتقاليد الحسنة لدي مختلف المجمومات-اللغوية في تنزانيا، سر تم تحويره هذه الثقافات-الاقليمية التي استخدمت لغات أو لهجات محلية الى ثقافة وطنية تستخدم اللغة السواحيلية التي تنال يوما بعد يوم اخلاص التنزانيين وحبهم وتقديرهم. (11:1974)
ولكن ان عرفنا الأدب السواحيلي على هذا النحو فإننا وعلى نحو الي سنقصي الأدب الذي كتبه بالسواحيلية السواحيليون وغير السواحيليين الذين هم ليسوا من أصل تنزاني. وهذا بلا ريب قول يصعب تقبله والتسليم به.
يقترح سينكارو ـ تحت تأثير مفهوم الهوية السواحيلية ـ تعريفا تجاوز حدود الدولة الشعب في قوله.
في البداية تحدثنا عن العلاقه بين أدب المجتمع وثقافته, وهذه العلاقة ستعيننا في تعرف الشعر السواحيلي. وسنقرر ما اذا كان أي عمل ادبا سواحيليا أم غير سواحيلي على أساس تصويره لثقافة الشعب السواحيلي وعلاقته بهذه الثقافة. وهنا فإن مصطلح سواحيلي لا يعني المجموعة العرقية المكونة للشعب السواحيلي وذلك لعدم وجود مثل هذه المجموعة العرقية في الوقت الحاضر.ان السواحيلين هنا هم مواطنو شرق افريقيا ووسطها على وجه العموم ولا يقتصرون على أولئك الذين يعيشون على ساحل الدول.
يفترض سينكارو اذن وجود ثقافة تتخطى الحدود الرهنية ذات أدب من المناسب اعتباره سواحيليا اذا كتب باللغة السواحيلية وتعلق بتلك الثقافة وعبر منها.
وعلى نفس منوال سينكارو ولكن دون التأكيد على. وجود الروابط الثقافية يجادل روبرت فيليبسون بوجود أدب يتجاوز الحدود الوطنية يتضمن الأدب المكتوب باللغة السواحيلية وليس بالضرورة الأدب الذي كتبه " السواحيليون " أو في الثقافة السواحيلية من تنزانيا وكينيا وأوغندا.ويجب حسبما يرى فيليبسون أن يضع هذا الأدب العابر للحدود الوطنية في الاعتبار مشاركة المجتمعات الناطقة بالسواحيلية في زائير واسهامها (فيليبسون 1990: 20). وفي المقيتة يمكن للمرء أن يفرض مفهوم افريقيا السواحيليفونية (على غرار الفرانكوفونية: المترجم ) التي تشمل كينيا وتنزانيا وأوغندا وجزر القمر وبعض المجموعات السكانية من زائير والصومال والسودان وموزمبيق ورواندا وبروندي ومالاوي وفي هذه الحالة سيعرف الأدب السواحيليبكونه الأدب السواحيليفوني المكتوب باللغة السواحيلية.
ويبدو لنا أن آراء كل من كيانجو ه سينجو وارنولد وفيليبسون تنتمي انتماء ملائما الى دائرة الأدب المكتوب بالسواحيلية فهم ـ ضمنيا على الأقل ـ يتفادون إمكانية اعتبار الأدب السواحيلي أدبا عرقيا للشعب السواحيلي. ومن نتائج هذا اذن أنه لا يمكن استخدام ما يسمى بالأدب السواحيلي كسمة مميزة للهوية العرقية السواحيلية.
ان مشكلة هذه الرؤى مي أنها تتعامل مه الأدب السواحيلي في لحظة متجمدة تمتد منذ مقدم الاستعمار الأوروبي وانتهاء بالوقت الحاضر. ان هذا الأدب غريب المنشأ من نواح عرقية وقومية ودينية وايديولوجية, فهو أدب يتجاوز حدود الأعراق والقوميات ولا يربطه رابط سوى اللغة السواحيلية التي جرت العادة على أنها تدور حول نموذجها الكلاسيكي الفصيح. وقد شارك وساهم في صياغة هذا الأدب كل من السواحيلي وغير السواحيلي والتنزاني وغير التنزاني والمسلم وغير المسلم. وهذا الأدب أيضا شفهي ومكتوب ولكن ان كتب فقد جرت العادة عل كتابته بالأحرف اللاتينية.
غير أن الأدب السواحيلي لا يبدأ مع قدوم الحكم الاستعماري الأوروبي. وفي الواقع فإنه لا يوجد سبب يدعونا لنفترض ان السواحيليين لم يسمعوا بالكلمة المكتوبة ؤ مرحلة مبكرة من تطورهم واتصالهم بالعالم العربي، الا أن هذا لا يعني انه تم اعتماد الكتابة مباشرة في انشاء أدبهم. ومن المحتمل أن أدب هذا الشعب النامي في مرحلة تشكله قد ظل شفهيا لقرون عديدة, وربما انه حين عرف السواحيليون الكتابة كانت في البداية حصرا عل توثيق الانشاءات الشفهية, وعلى هذا فإن التأليف في الشكل المكتوب قد يكون أحد الوظائف المتأخرة للكتابة بعد معرفة المجتمع السواحيلي بها.
وبعد أن ذكرنا ذلك فعلينا أن نسرع لنضيف انه لاين للمرء أن يقول بأن بداية تاريخ الكتابة الإبداعية لدى السواحيليين قد ارتبطت بتوافر الوثائق المعروفة. وهذا الضرب من التصور الاستنتاجي يفترض اننا لا نعتبر الشي ء موجودا الا إذا تم توثيقه. ومثل هذا الرأي النصي هو الذي أدى بأغزر الباحثين في الأدب السواحيلي انتاجا الى أن يعتبر عام 1728 نقطة بداية ظهور الأدب السواحيلي(والذي يقصده الباحث كما نرىهو الادب المكتوب) (كنا برت 5: 1971). وكما تبين فإن لدى جامعة دار السلام في مجموعتها وثيقة أدبية سواحيلية يعود تاريخها الى القرن الرابع عشر، ولا يوجد سبب مقنع يحدونا الى ان نفترض ان الكتابة الأدبية السواحيلية التي استخدمت الحرف العربي لم تكن قد ابتدأت قبل القرن الرابع عشر بوقت طويل. وعلينا ان نحترس من الوقوع ؤ عثرات " الأيديولوجية التوثييقة " وخصوصا فيما يتعلق بمجتمع أعطى ـ الى حد قريب على الإقل ـ نوعا آخر من القيمة للكلمة المكتوبة يختلف عما أعطته لها مجتمعات الدائرة الشمالية. وكنتيجة لاختلاف القيمة هذا فقد كان السواحيليون أقل تحمسا لحفظ أدبهم الموثق مما يعتقد كثير من الباحثين الغربيين. والنتيجة قد تكون فقدان كنوز من الأدب المكتوب الموجود سابقا. هذا اذا تجاوزنا الحديث عن حقيقة مفادها انه سرعان ما كانت المخطوطات المحفوظة تهتريء في العادة من جراء المناخ الاستوائي.
وفي المرحلة الحالية من معرفتنا فإنه من المحال أن نحدد النقطة التي تكاملت بها الآداب الشفهية السواحيلية ـ النجانو، والنييمبو، و:لميسيمو، والفنداويلي الخ.... مع الأدب المكتوب الذي قام في الاساس على الحرف العربي. غير أننا نعرف ان الكتابة السواحيلية في الحرف العربي كانت على نحو كاسح منحازة للشعر، وان الادب "الديني" حظي دائما بفرصة أفضل لحفظا في الشكل المكتوب من غيره من انماط الانشاء غير الدينية.وحتى عقود قليلة ظل النثر السواحيلي شفهيا في الأساس. وكانت أصول بعض هذه القصص محلية, سواحيلية وغير سواحيلية (مثال: صومالية, وبونية,وبوكومية, وميجيكندية, وزاراموية لم. في حين انه تم تكييف قصص أخرى محليا ومن أصول غير محلية وتطويعها (خصوصا تلك القصص ذات الأصول العربية والفارسية ). واضافة الى قصص المواعظ وقصص الحيوانات والأساطير والحكايات, فقد أثري الأدب الشفهي بالنثر الذي تم تمويهه من أصول عربية وفارسية. كذلك فقد تم التعامل مع القصص ذات
المواضيع الاسلامية وخصوصا تلك التي تعني بسير حياة الأنبياء والرسل, عل نحو مختلف في التراث النثري الشفهي السواحيلي. وقد كان غرض معظم هذا البعد الشفهي من الادب السواحيلي تعليميا بالطبع.
غير أنه نما بين السواحيليين في ذات الوقت تراث كامل من نظم الشعر وحفظه في قالب مكتوب بالحرف العربي، وقد كان معظم الشعر وعظيا. وكما هو حال هاسو ـ فلاني فقد أصبح الشعر يستخدم باعتباره وسيلة مهمة للارتباط الروحي لدى السواحيليين. وقد كان من القادر حتى الفترة الاستعمارية البريطانية ان نستمع الى قصيدة مثل قصيدة الانكشافي تلقى في المساجد والمدارس الاسلامية. وقد أضحى الشعر الوعظي السواحيلي عل نحو ما جزءا من المجموعة الكاملة من العناصر الاسلامية التي تنتمي الى تقليد تعليمي يقوم على القراءة والكتابة.
وعلى أية حال فقد كان هذا هو الوضع السائد حينما وصل الألمان والانجليز الى الساحل الشرقي لافريقيا: فقد وجد هنالك تراث شفهي متعدد الأبعاد مزدهر قوي، وقام هذا التراث بربط الشعر والنثر بشكل أدبي مكتوب كان منحازا بصورة تامة نحو النظم الوعظي. وقد توافق وجود هذا الأدب مباشرة مع وجود عرق متميز، أي انه أدب ألفه السواحيليون أنفسهم, مستخدمين لهجاتهم الاقليمية السواحيلية.ومركزين على المواضيع التي ارتبطت على نحو مباشر أو غير مباشر بمحيطهم الاجتماعي والثقافي.
وقد جلب الاستعمار البريطاني معه تأثيره الخاص على الأدب السواحيلي. فقد كان الحرف العربي الذي كان مستخدما حتى ذلك الحين حصرا على مسلمي شرق افريقيا. حيث كان حرفا يكتسب من التعليم القرآني والاسلامي. وهنا فقد أدخل الانجليز الحرف اللاتيني، وقد أمكن عبر المدارس والكنائس توصيله الى قطاع عريض من السواحيليين في شرق افريقيا. ان القراءة والكتابة بالحرف اللاتيني ستعرض غير السواحيليين لعالم الأدب السواحيلي, وهذا ما أدى في نهاية المطاف الى ظهور مؤلفين غير سواحيليين كتبوا باللغة السواحيلية. وقد قام الاستعمار البريطاني أيضا بتطوير النجانو (القصة ) السواحيلية لتصبح رواية, والأدب السواحيلي المعروف بتونجو _ مشيري ياكوجيبيزانا ليصبح مسرحا، والتونجو _ مشيري ليصبح شعرا حرا.وبعد هذا النمو تجاوز الأدب المكتوب بالسواحيلية الخلفية العرقية لمؤلفيه وطبيعة مواضيعه وتعدد أنواعه إضافة الى اللهجات السواحيلية التي نشأ بها. وهكذا أضحى نزع العرقية السواحيلية من الأدب السواحيلي أمرا واقعا.
ولكن وبسبب التمايزات العرقية في تراث أدب شرقي افريقيا وتاريخ ذلك الأدب فإنه يبدو من غير الواقعي أن يفترض المرء أن طبيعة الأثر الأوروبي وحجمه على الأدب السواحيلي كانا بنفس المقدار في كل ربوع الاقليم, فالتجربة الاستعمارية أدخلت فعلا أنواعا وفروعا جديدة في عالم الأدب المكتوب بالسواحيلية. غيران تطور هذه الأشكال بين الكتاب سواحيليي العرق كان مقيدا بتراثهم الأدبي في الفترة التي سبقت القرن العشرين, فالتدخل الاستعماري بعبارة أخرى قد ساعد كحافز على خلق تطور عضوي جديد في أدب السواحيليين. فهنالك انسجام بين روايات روائيين معاصرين كمحمد س. محمد وسعيد محمد وروايات بوفرس كزيلاهابي وف. اي. م.ك. سنكارو وهما غير سواحيليين بالمعنى العرقي للكلمة. غير أن الروايات تفصح أيضا عن اختلافات أسلوبية تنبع من مصادر عرقية. فتنتمي الكتابة المعاصرة (أي بعد القرن العشرين ) لدى السواحيليين إذن الى تراثهم العرقي الممتد بالإضافة الى تجربة إقليمية واسعة تجاوزت حدود الأعراق, فهي تجمع النقيضين في آن حيث انها كانت عرقية في جانب ومتجاوزة لحدود الأعراق في الجانب الآخر.
وإذن فأمام هذه الخلفية ـ وإضافة الى التعريف اللغوي ـ يمكن تعريف الأدب السواحيلي من منطلق عرقي على أنه الأدب الذي ألفه السواحيليون باللغة السواحيلية. ويندرج في حيز هذا الأدب أدب فترة ما قبل الاستعمار الذي كتب بالسواحيلية. ولهجات هذا الأدب السواحيلية قد تكون في المستوى المعياري أو قريبة من هذا المستوى، أو أنها مستمدة من اللهجات الرئيسية. وينقسم هذا الأدب أيضا الى أدب شفوي وأدب مكتوب, إلا أن الكلمة المكتوبة قد تكون بالحرف العربي أو اللاتيني. وقد تكون مواضيعه مرتبطة ثقافيا بالعرق السواحيلي، او أنه يقوم على تجارب غير سواحيلية أو أيضا عبرـ سواحيليةtrans- Swahili) ). فهو أدب يتميز بتواصل تاريخي يمتد منذ أقدم العصور الى عصرنا الحالي. وكما نرى فإن هذه السمة التاريخية تمثل جذر الوعي الأدبي لدى السواحيليين, مضيفة بذلك بعدا أدبيا لشعورهم بالهوية المشتركة.
غير أنه بسبب ارتباط الأدب ألسواحيلي في فترة ما قبل الاستعمار بالعرق الخاص بالسواحيليين فإنه مما لا شك فيه أنه أصبح يحظى بموقع خاص في الشعور العرقي لديهم. ولكن في دراسة الأدب السواحيلي, فقد مني هذا الأدب السواحيلي (قبل القرن العشرين ) بكثير من سوء الفهم, أدى بعضه الى تشويه أصل الهوية السواحيلية ذاته. ونتج بعض سوء الفهم هذا من تحيز عربي _ اسلامي وغيره من التحيز الشكلاني لدى الباحثين ذوي التوجه الأوروبي. فلنتجه الآن نحو مناقشة سوء الفهم هذا.
ان التحيز العربي _ الاسلامي الذي طغى على النقاشات التي تتناول الشعب السواحيلي واللغة السواحيلية قد امتد ليشمل دراسة الأدب السواحيلي. وما المقتطعات التالية من كتابات جان نابرت الانموذج على الآراء التي تسود مجرى الدراسات الأكاديمية فيما يتعلق بالوجود التاريخي للأدب السواحيلي قبل القرن العشرين بأكمله:
إن دراسة أصل كل سمة من سمات الثقافة السواحيلية والادب السواحيلي والأسطورة السواحيلية وجذوره في إحدى أراضي المشرق هي امر يحتاج الى مجلد آخر وسنين أخرى عديدة من الدراسة المضنية وقد امكنني في بعض الحالات العثور على أصل حكاية سواحيلية في الادب العربي أو السنسكريتي(1967: 7 ـ 8)
ان الأدب السواحيلي غائر حتى أخمص قدميه في روحه ( الاسلامية ). فكل صفحة من صفحات الادب التقليدي السواحيلي حبلى بالإشارات المستمدة من القران والسيرة النبوية وسير الخلفاء والأئمة المسلمين ومن مواضيع العقيدة الاسلامية (1979: xix).
يمتلي الادب السواحيلي شعره ونثره بالاشارات الى الفقه الاسلامي في ترهيب المؤمنين في كل كلمة من كلماته. وتشكل معرفة الشريعة الاسلامية مقطبا أساسيا لفهم الأدب السواحيلي وخصوصا فيما يتعلق بتسريعات الزواج والتنويعات العائلية.(1979:xviii).
إن نظرة عابرة على كل مرحلة من مراحل تاريخ الأدب السواحيلي كفيلة بإظهار مدى خطأ آراء نابرت. فلا يمكن تحديد أي مرحلة من مراحل تاريخ السواحيليين التي كتبوا فيا قدرا من الأدب الديني يفوق ما كتبره من أدب دنيوي. وهذا التحيز المشرقي في دراسة ما يسمى بالأدب التقليدي السواحيلي يتجلى أعظم تجل حينما تقارن الدواوين الشعرية السواحيلية المكتوبة بالسواحيلية مع تلك المكتوبة بالانجليزية حيث تتضمن الدواوين السواحيلية ما يلي: ديوان ياموياكإ بن حاجي الغساني (هتشنز، 1940، ومسومويني روبرت / 1959),وشريازا كوتونجو مشيري ناديراني يا امري (أدبي، 6954)، وما لينجا ما لفيتو (بهالو 1971)، وساوتي ياضيكي تاما (عبدالله,1975) إضافة الى دواوين أخرى. وتتناول هذه الدواوين مواضيع دنيوية.وفي الجانب الآخر نجد بين أيدينا كتبا عديدة حول الشعر السواحيلي كتبت باللغة الانجليزية منها الشعر السواحيلي لم هاريس: 1962)، والشعر التقليدي السواحيلي (نابرت, 1967)، وثلاثة مجلدات في الشعر الاسلامي السواحيلي (نابرت, 1971)، والتيندي (ألن, 1971). وتتميز هذه الكتب بتركيزها على المواضيع الشعرية الدينية في الأساس. ونري أن اختلاف التركيز بين الدواوين السواحيلية ودواوين الشعر «التقليدي" السواحيلي المكتوبة بالانجليزية ليس أمرا عفويا من صنيع الصدفة, ولكنه عميق الجذور في تحيزين آخرين داخل النموذج الأوروبي: تحيز " شكلاني" وتحيز "عرقي".
يعني التحيز الشكلاني بالقيم التي تف ض على الكلمة المكتوبة. وهنا فإن المكتوب, حتى لو كان هامشيا، يحظى ببروز أكثر من الشفهي حتى لو كان الشفهي محوريا في ثقافة معينة. وكما المحنا أعلاه فإنه قبل أن يبدأ السواحيليون أنفسهم انتاج دواوينهم المكتوبة بالحرف اللاتيني كان هنالك الكثير مما يدعى بالشعر التقليدي السواحيلي المتميز بدنيويته في الشكل الشفهي أساسا بينما يحظى الشعر الديني بالتوثيق أو أنه يؤلف مكتوبا بأحرف عربية, ومرد ذلك عموما هو آراء الطبقات الاجتماعية وتفضيلات تلك الطبقات التي كانت مهتمة بصورة مباشرة بإعداد الوثائق المكتوبة وحفظها. وقد كان هذا الأدب المكتوب اذن الذي حدد فعليا أفق الأدب السواحيلي في الدراسات الأوروبية التوجه التي عملت وفقا لفليسفة ديكارتية زائفة مفادها: " انني أكتب فأنا إذن موجود"وافترضت عدم وجود ما لم يكتب وتم تدوينه.
أما في الجانب الآخر فقد عمل التحيز العنصري العرقي وفقا للطبقية الالمانية القائمة على " الأعراق ": الأوروبيه "الشرقي" الافريقي. وان كان " العرق " الشرقي أعلى من العرق الافريقي بوجه من الوجوه فإن ما هو شرقي يغدو عل نحو طبيعي أكثر تفوقا وبناء على ذلك أكثر استحقاقا للاهتمام الفكري من مثيله الافريقي. وهكذا فإن التحيزين " الشكلاني" و "العرقي" في التحيز الأوروبي قد اتحدا على الشاطيء السواحيلي كي " يتأمرا " ضد الشعر الدنيوي في الأدب السواحيلي دفاعا عن الشعر الاسلامي الذي - اذا اخذنا بهذا الفرض - يفشي روابطه مع الشرق.
ورغم كل ذلك فهناك باحثون أوروبيون أقروا بأن الأدب السواحيلي لم يكن دينيا بأكمله. على الأقل في القرن السابق على الاستعمار البريطاني. فيعلق ليندون هاريس على سبيل المثال على الشعر الذي ظهر في الصحف المحلية في تنجانيقا بقوله:
إن الممارسة الحديثة واسعة النطاق للشعر السواحيلي قد أدت الى تخلية عن مقاصده الأولى المتمثلة في التعبير عن روح الاسلام وطقوسه.أما الآن فإن الآلية موجهة نحو غايات اكثر دنيوية. فقد يكون أحد مواضيع الاخبار موضعا لعدد من الابيات,ولكن هذا هو التقلد الذي أسسه خلال القرن التاسع عشر كتاب من أمثال موياكا بن حاجي من مومباسا الذي خرج بالشعر من المساجد الى الاسواق ( هاريسى 1962:2).
وبعبارة أخرى فإن موياكا (حوالي 1776- 1856) يعتبر نقطة التحول التاريخية في الشعر السواحيلي وهكذا يفترض أن الشعر الدنيوي السواحيلي قد برز الى الوجود في " الفترة الموياكية ".
غير أن استنتاج هاريس هو نفسه نتاج للرؤية الشكلانية الأوروبية حيث انه ليس من الواضح كيف استطاع هاريس أن يستنتج أن مو ياكا كان أول شاعر سواحيلي يؤلف شعرا دنيويا. ومن المحتمل ان هذه الرؤية قد تأثرت بظهور مجموعة هيتشنز لشعر موياكا بالشكل المطبوع وبالكلمة المكتوبة. ويبدو الأمر وكأن ظهور ديوان موياكا مطبوعا يثبت وجود شعر غير ديني فى النظم السواحيلي. ومن الأمور المحتملة أنه لولا ظهور ديوان موياكا مطبوعا لكان ظهور الشعر الدنيوي في الأدب السواحيلي أمرا يعود للقرن العشرين فحسب. وهكذا فإن أثر التحيز الشكلاني قد تعدى الآراء المتعلقة بقدم الشعر الدنيوي السواحيلي ليشمل قدم التقليد الشعري لدى السواحيليين بأكمله. وهذا يرتبط بسجع فيومولويونجو. حيث إنه بغض النظر عن انه أقدم بطل معروف في الفلكلور السواحيلي فإن السواحيليين يعتبرونه أيضا أقدم شاعر سواحيلي ذا شأن يعتقد أن أعماله قد وصلت الى أيدينا في الوقت الحاضر. وكما أصبحت شخصية موياكا أمرا مركزيا في مسألة قدم الشعر الدنيوي السواحيلي فإن ليونجو أصبح مجسما للجدل الدائر حول قدم الشعر السواحيلي عموما. أما في عيون السواحيليين فقد أصبح ليونجو يعني أكثر من هذا بالطبع,وكما ذكر أحد مؤلفي هذا الكتاب في موضع سابق فقد أضحى ليونجو.
يعتبر تمثيلا أيقونيا لعمق الثقافة وانجازها وبيئتها ككل. وقد أضحت قضية حياته لالف عام رمزا لقدم التقلد الشعري وكذلك الانجاز المبدع المبكر في هذا التقليد. إن كون فوموليونجو شاعرا كبيرا و" بطلا» في المجال الاجتماعي في آن واحد يجعله في المخيلة الجماعية تشخيصا لمزج النظم الشعري بالأداء الاجتماعيان الذي يلخص النموذج السواحيلي للقدرة الانسانية التي بلغت من التطور ذروته ( شريف1991: 153 ـ154)
وهكذا فإن شخصية فيومو ليونجو موجودة بعمق في المخيلة الأدبية والثقافية عند السواحيليين, وتأريخ حياة ليونجو يصبح مرتبطا على نحو وثيق بالحس التاريخي لدى هذا الشعب وبهويته.
غير أن التحيز الشكلاني الأوروبي قد شك ل عمق هذا التقليد التاريخي من خلال قضي وجوده على الفترة التي تتوافر عليها الأدلة الموثقة, ويقول نابرت على سبيل المثال:
من احتمل ان ارجاع تاريخ وفاة ليونجو الى عام 1690 أوالى أقدم من ذلك هو أمر ليس فيه اي تخوف. الاارجاعه الى فترة أقدم من ذلك يبقى دائما مثارا للخلاف, فيرد البروفسور فريمان ـ جرنفل عام وفاته الى حوال 1580, بينما يعتمد جيمس كركمان أيضا أنه من الممكن أن يكون قد عاش حوال عام 1600(1979: 66).
وهذا يتضارب على نحو فج مع موقف الباحثين الذين اعتمدوا بدرجة كبيرة على التقليد الشفهي، ومنهم شيراغدين (1973: ا ) وهتشنز (1939: 51) وهاريس (1962: 6) الذين رأوا أن ليونجو عاش بين القرنين التاسع والثالث عشر. وهكذا فإن أساس الاختلاف يكمن حول ما إذا كان ليونجو قد عاش في مرحلة أقدم (أي خلال فترة ما قبل البرتغاليين ) أم في فترة لاحقة (أي خلال الفترة البرتغالية ) في شرق افريقيا.
غير أن أثر قضية فترة حياة ليونجو يتجاوز موضوع قدم التقليد الأدبي السواحيلي ليشمل أيضا التركيب الديني لهذا المجتمع. فالأغلبية العظمي من السواحيليين ينتمون الى الديانة الاسلامية وفي تراثهم الشفهي نجد أن ليونجو لم يشاركهم فقط في فنهم وثقافتهم بل وفي عقيدتهم أيضا. فالإسلام كان سمة مركزية ملازمة للهوية السواحيلية الى حدان القول بأن ليونجو لم يكن مسلما يقترب من الادعاء بأنه ما كان سواحيليا. وبعبارة أخرى فإن مثل هذا الادعاء لن يقلل من شأن تاريخ الثقافة السواحيلية فحسب بل ومن الوعي التاريخي لدى السواحيليين أيضا. فإن كان ليونجو عاش في وقت ما بين القرنين التاسع والثالث عشر الميلاديين وإذا كان الاسلام كان قد أصبح سمة للهوية السواحيلية (هورتون 88:1987) فإنه ما لا يمكن أن يتخيله العقل السواحيلي أن شاعرهم البطل فيومو ليونجو لم يكن مسلما. وقد أوجد نابرت ـ بإعتقاده أنه عاش في فترة البرتغاليين ـ مجالا للظنون بأن ليونجو كان مسيحيا (68:1979، وانظر أيضا 92) وليس مسلما كما كان يعتقد سابقا.
وقد أثبت أحد مؤلفي هذا الكتاب في مقالة حديثة (شريف 1991) بأن التراث الشفهي السواحيلي حظي بدعم الدلائل الأثرية التي قدمها مارك هورتون (1987) التي تثبت أن حياة ليونجو سبقت القرن الرابع عشر، قبل مقدم البرتغاليين الى شرق افريقيا بوقت طويل. وقد أظهر شريف في المقالة نفسها بإنه اذا اعتمد " تنصير" فيومو ليونجو المأمول على قراءة خاطئة لبعض السمات المميزة للتاريخ السواحيلي وشعره,فقد اعتمد في أحايين كثيرة على تشويه وتلاعب مقصودين بالبيانات الأدبية السواحيلية.
وبتلخيص, اذن فإن فترة حياة ليونجو كانت منذ فترة طويلة مجالا للتخمين بين الباحثين الذين تربوا في أحضان النماذج الغربية. ويبدو أن البحث عن تاريخ حياة ليونجو قائم وعلى نطاق واسع على بحث علمي بريء رغم حقيقة أنه يشك في التاريخ الأدبي السواحيلي. الا أن هناك قلة من الباحثين الذين يبدو أنهم قد أفادوا من مجال التخمين هذا في ربط عقيدة ليونجو بدين غير الذي ربط به ليونجو بين الناس في العادة وهو الاسلام. ونرى أن الفحص الدقيق لهذا الخط من الاستنتاج الذي يربط ليونجو بالمسيحية يظهر هدفا علميا غير بريء، حيث تنتمي هذا المحاولة الى سلسلة من الحجج أوروبية الطابع التي تبدو انها موجهة الى القاء الهوية السواحيلية في مزيد من فوضى المفاهيم.
غير أن التشويه الأدبي قد لا ينتج من عدم موضعة النصوص تاريخيا فحسب بل من سوء فهم محتودها فمنذ قدوم الحكم الأوروبي في شرق افريقيا توسع الأدب السواحيلي ليس في شكه فحسب بل أيضا في الوظائف التي جعل لها. فقد " ارتقى" التعليم الأوروبي بالافريقي المتعلم وفصله عن بقية أفراد مجتمعه وخصص لابداعه الأدبي وظيفة تأملية خيالية مجردة لم تكن مألوفة في المجتمع السواحيلي.وكان نظم الشعر السواحيلي قبل ذلك مرتبطا الى حد كبير بالسياق الاجتماعي والوقائع الاجتماعية. والواقع بان الارتباط بين الشعر وبقية المجتمع بلغ من القوة حدا جعل اللغة الشعرية في العادة شكلا معبرا عن التواصل الاجتماعي المعتاد. وأصبحت اللغة الشعرية بفعل اندماجها الكلي بالمجتمع أوضح دليل على البلاغة التحدثية في التعامل الاجتماعي العادي.
ان من مستلزمات السياقية الاجتماعية السائدة انه لا يمكن اكتشاف المدى الكامل والمحدد لقصيدة معينة دون معرفة مسبقة بالظروف الاجتماعية التي صاحبت تأليفها. وحتى الآن فليس من المستغرب أن نجد متحدثين سواحيليين أو أكثر في جدال حول الشخص الذي تشير اليه أن الحادثة التي تشير اليها أغنية بثت في المذياع. يعتقد الفرد السواحيلي في قرارة وعيه تقليديا أن القصيدة ان لم تكن تشير الى شخص اجتماعي أو واقعة اجتماعية أو سياق اجتماعي معين تغدو ضربا من التجريد،ولهذا فلن يقبلها عقله. ويعلق هاريس في أحد كتبه.
وينبغي أن نشدد باديء ذي بدء على الصعوبة التي لابد وان يواجهها أي غربي حينما يقدر قيمة شعر مكتوب بلغة أجنبية حينما يدور ذلك الشعر حول حوادث وظروف محلية. وسيكون من الخطل أن يحاول المرء تقييم القصائد من خلال نصوصها الموجودة في هذا الكتاب فقط. ذلك أن القصد الذي من أجله تم تأليف كثير من القصائد هو انشادها والترنم بها وهي تحمل قيما اجتماعية ودينية قد لا تظهرها النصوص المجردة, فقصائد القرن التاسع عشر السواحيلية كانت تنظم على إثر ظرف تاريخي حديث. وربما أنه حتى لو اجهدنا أنفسنا في البحث الشاق فلن نستطيع استعادة الدلالة الصحيحة لبيت شعري لاننا قد لا نستطيع اعادة تشكيل الظرف الحقيقي. وتوجد المئات من القصائد السواحيلية في مكتبة مدرسة الدراسات الشرقية والافريقية في لندن التي مازالت تستعصي على التفسير وأحد أسباب ذلك هو أنه لا يستطيع أحد معرفة السياق التي كتبت فيه هذه القصائد ( هاريس 1962 ).
وهذه الملاحظة التي يذكرها هاريس ليست بالأمر المستغرب عند السواحيليين الذين اعتادوا على ربط القصائد بسياقها الاجتماعي كتقليد أدبي معروف.
وقد كانت قصائد فترة ما قبل القرن العشرين عرضة لسوالفهم بسبب التصاقها الشديد بسياقها. وقد تم حفظ القصائد التي يجهل سياقها الاجتماعي وترك أمر شرحها للعباقرة واسعي الحيلة ولإبداع الباحثين في المستقبل. وقد يختار الباحث أن يكون دقيقا محكما وأمينا في سعيه وراء سياق قصيدة معينة ويصل لذلك الى تفسير قد يكون نصيبه الصواب أو الخطأ بوجه من الوجوه بما يتماشى مع حساسيات الشعب السواحيلي أو أن الباحث قد يختار أن يستغل " تعذر وصوله " الى السياق ليصل الى فهم لا يتماشى الا مع مصالحه الآيديولوجية الخاصة. وقد يكون أحد الباحثين ضحية بريئة للمعلومات المغلوطة مما يقوده الى استنتاجات خاطئة رغم حسن نيتها. وتصبح هذه التفسيرات بعد كتابتها عرضة للتحيز الشكلاني الأوروبي الذي يعتبر الكلمة المكتوبة أمرا مقدسا. وهذا ما يقوي أمر التفسيرات حسنة القصد غير الصائبة ويربطها أخيرا بهويتها في نهاية المطاف.
فحينما يقرأ المرء على سبيل المثال كثيرا من تفسيرات نابرت (1979) لقصائد سواحيلية سيخرج بانطباع مفادا أن السواحيليين غارقون في شبق جنسي وعاطفي قوي جدا. ونابرت قد يقودنا ضمنا الى خارقة, حيث أن الشعر الذي قيل انه غارق في الروح الاسلامية هو في ذات الوقت جنسي حسي. ويتم تقديم هذه التفسيرات الجنسية على أنها حقائق لا يطال الشك صحتها دون أن يبذل الكاتب أدنى جهد بعرض السياق الاجتماعي للقصائد التي قام بتحليلها. وحتى حينما يتم عرض مثل هذا السياق فإنه يكون من صنيع خيال المؤلف نفسه. فعلى سبيل المثال يصل نابرت في طبعة 1979 الى بعض الاستنتاجات الخاطئة والعجيبة التي تدعي مثلا أن " الطعام الذي حطت عليه الذبابة " في المجتمع السواحيلي يعتبر رمزا " للفتاة التي فقدت عذريتها" وان " القط رمز متكرر للحبيبة " أو " الفتاة القاتلة " وان " عصير جوز الهند رمز للعذرية والجمال الانثوي".
ان خطورة تصوير الناس في صور معينة أمر محدود بتفسير المحتوى الشعري. ويمكن تطبيقها على نحو متساو في اختيار أمثلة لاستنتاج نقطة معينة. فيقول أوهلي عل سبيل المثال حينما يتحدث عن مواضيع فن النيمبو السواحيلي.
وربما تظهر في العادة بعض التناقضات الاجتماعية في الاعمال التي تم حفظها,. فيعتبر الأمة والحرة متساويتين مثلا في نظر العاشق,إلإ أنه سرعان ما تظهر الامة كإحدى حريم الحاكم(1985: 467)
ان هذا المثال يقوم أساسا بإعادة إثارة موضوع استعماري مألوف وهو الرق في الثقافة السواحيلية غير أن أوهلي لا يخبرنا شيئا عن الأغنية التي يعنيها: هل هي موجودة حقا أم أنها ليست الامن صنيع خياله ؟ وهل كان أوهلي حينما ذكر هذه العبارة معنيا بالنزعة الموضوعية الحقيقية في الأغاني السواحيلية أم أنه كان خاضعا فحسب للمواضيع الغربية ؟ واذا وجد مثل هذا الموضوع حقا في الأغاني السواحيلية فإننا ندعي أنه ليس إلا استثناء ولا يمثل القاعدة. والسؤال الذي يتبدى للخاطر هو لماذا يولي كاتب كثير القراء كأوهلي موضوع الرق أهمية أكبر عن غيره من مواضيع التناقض الاجتماعي الأكثر عادية ؟ والحقيقة ان هذا أشبه بعزل كائن بكتيريا واحد من كائن يغص بالباكتيريا وتضخيما الى حد يجعل كائنات البكتيريا الأخرى غير مرئية. وهكذا وفي وضع يوجد فيه تاريخ راسخ من المعلومات المغلوطة حول الناس فإن هذا النوع من البحث وبتضخيمه الانتقائي للأمثلة لن يؤدي إلا الى مفاقمة تشويه السواحيليين ونشر الضبابية حول هويتهم.
وتلخيصا فقد تبنينا تعريفا لفريا لمصطلح الأدب السواحيلي يجعله الأدب الذي ألف باللغة السواحيلية, ولكن يمكن فهما أيضا في أطر عرقية بأنه أدب السواحيليين, حيث يمكن للمرء أن يقول أن الأثر الأوروبي على الأدب الذي انتجه الشعب السوأحيلي في فترة ما قبل الاستعمار قد انتج مركبا لا يمكن وصفه إلا بكونه سواحيليا بالمعنى العرقي. غير أن تاريخ أدب السواحيليين الذي ألف في الفترة التي سبقت الاستعمار وتفسير ذلك الأدب أصبحا في بعض الأحيان عرضة لتشويهات وسوء فهم طالت تاريخ التقليد الأدبي السواحيلي وكينونته. وهذا ما تسبب في خلق الارباك في التعبير الأدبي عن الهوية السواحيلية.
غير أن البعد الأدبي للهوية السواحيلية هو أمر " معقد" ليس بسبب قضايا تاريخ الأدب السواحيلي وتفسيره فحسب بل أيضا أخذا بعين الاعتبار خصائص الشكل والقيمة الأدبية. ولذا فسننظر في الفصل اللاحق في خصائص الأدب السواحيلي هذ0بسبب تأثيرها عل قضية الهوية السواحيلية.
المصادر والإحالات
1. Abdallarn Abdilatif. Sauti ya Dhiki. Nairobi: Oxford University Press, 1975.
2. Abedi, Kulta Amini. Sheria za Kutunga Mashairi na Diwani ya Amiri. Dar es Salam: East Africa Literature Bureau,1965.
3. Allen, J.W.T. Tendi. London: Heinemann, 1791
4. Amold, Rainer. 'Swahili Literature and Modern History A Necessary Remark on Literary Criticism Kiswahili 24.2 and 43.1 (1973): 68-73.
5. Chiraghdin, Shihabuddin. 'IJtangulizi" (Foreword) Utenzi wa fumo Liyongo.by Muhammad Kijumwa. Ed. Abdilatif Abdalla. Dar es Salaam: Chuo cha Uchunguzi wa Lugha ya Kiswahili,1973.i-iv.
13. ……..Four Centuries of Swahili Verse. London: Heinemann,1979
14. Lodhi,Abdulaziz, Y. 'Language and Cultural Unity in Tanzania.."Kiswahili 44/2 (1974):10-13.
15. Mohamed, Mwinyihatibu. Malenga wa Mrima. Dar es Salaam: Oxford University Press.
16. Mohamed, Said Ahmed.'Sikate Tamaa'. Nairobi: Longman, 1981.
17. Ohly, R.'Literature in Swahili.'Literature in African Lanauages. Ed. B.W. Andrzejeweski et ai. Cambridge: Cambridge University Press, 1985. 460-92.
18. Robert, Shaaban. Masomo Yenye Adili. London: Nelson, 1967.
19. Senkaro, F.E.M.K. Ushairi: Nadharia na Tahkiki. Dar es Salaam: Dar es Salaam University Press,1988.
20. Shariff, Ibrahim Noor. 'The Liyongo Conudrum: Reexamining the Historicity of Swahilis'National Poet, 'Research in African Literatures 22.2 (1991): 153-67
21. Topan, Farouk. 'The Origin of the Name' Swahiko Tanzania Notes and Records 77and77.(1976):27-371
نشرت مجلة نزوى في عددها الجديد (ابريل 2010) ترجمتي لقصة "جحيم فسيح" للكاتب الأرجنتيني جوليرو مارتينيز. يمكنكم تنزيل القصة بالضغط هنا أو بالضغط هنا.
ترجمة قصة "انتظار" للكاتب النيجيري أوسوندو
نشرت مجلة العربي الكويتية (عدد فبراير 2010) ترجمتي لقصة "انتظار" للكاتب النيجيري أوسوندو. يمكن تنزيل الترجمة بالضغط على الصورة في الأعلى أو هنا أو بالضغط على الزر الأيمن من الماوس واختيار أمر الحفظ عند الضغط هنا.