الفكر المغري وضرورة اجتنابه
عبدالله الحراصي
(الفقرة الأولى)
لا خلاف أن الغرب يتربص بأي شكل من أشكال التقدم في عالمنا العربي والإسلامي، وهو في هذا التربص ينطلق من منطلق لا ضبابية فيه، وهو العداء التاريخي المستحكم بين عالم العرب المسلم، وعالم الغرب المسيحي، مما أدى إلى رغبة لا يخفيها الغرب ومفكروه في ألا تقوم للعرب والمسلمين قائمة.
(الفقرة الثانية)
يشعر الإنسان بالغربة في عالم العولمة، فهذه العولمة التي قربت الشعوب والأمم، وجعلت من العالم قرية كونية واحدة ترتبط ارتباطاً شديداً ببعضها بعضاً، وحولت القرى المتناثرة في الكون الواسع إلى مراكز للتفاعل في ظل وسائط التكنولوجيا الحديثة، هذه العولمة برغم ذلك تجعل الإنسان يشعر بغربة شديدة، فهو لا يعرف نفسه، ولا يعرف مجتمعه، ولا يعرف ما يريد ولا إلى أين يتجه.
(الفقرة الثالثة)
النظر إلى وضع الترجمة المعاصر في العالم العربي يجعل المرء يشعر بالأسى جرّاء ما يرى، فالترجمة غائبة غياباً يكاد يكون كليّاً عن الثقافة العربية المعاصرة، بخلاف أيام مجدها الذهبي في الحضارة العربية الإسلامية حين كان بيت الحكمة مركز الترجمة في العالم بأكمله، وحيث كان المترجم يعيش أياماً ليس لها مثيل.
* * *
الفقرات الثلاث أعلاه هي أمثلة على ما أسميه الفكر المغري. لأبدأ (بطريقة الأكاديميين المعهودة) بالتعريف. أعني بـ "الفكر المغري" ذلك الفكر الذي يسلّم به الكثيرون، ويأتي من لدن الكاتب أو المتحدث تلقائياً باعتباره من المسلمات الفكرية، كما يتلقاه المتلقي تلقياً كليّا دون أن يستوقف تفكيره، وهو ما يعني بعبارة أخرى أن لا الكاتب ولا المتلقي يبديان أي مقاومة فكريّة تجعلهما يعيدان النظر فيه. إنه الفكر الذي يحمل في لبّه إغراء الحقيقة المفروغ منها. وهذا ما أحذر منه في هذا المقال، إذ إن ثبات فكرة ما ورسوخها واستقرارها باعتبارها مسلّمة لا يجد الشك أو إعادة النظر (بأي شكل من الأشكال) سبيلاً ولو ضيقاً إليها هو في حقيقة الأمر أكبر الأسباب التي تجعل من تلك الفكرة ميداناً للتأمل المتفحص ولإعادة النظر فيها بأكملها أو بعض عناصرها.
حديثي ينطلق من منطلقين. المنطلق الأول هو أن الفكر المغري سهل ويسير إذ لا يبذل الكاتب ولا المتلقي جهداً فكرياً حقيقياً في التعامل معه، وإن أمعنا النظر لوجدنا أن مثل هذا الحديث الوارد في الفقرات الثلاث أعلاه يتكرر مئات إن لم يكن آلاف المرّات، وهذا بعكس الفكر غير المغري، أي الفكر المعاند الذي يسائل الأمور ويهز سكون المسلّمات الفكرية، والذي يتميز بأنه "متعب" لفكر المتلقي الذي اعتاد على الفكر المتوقع والمألوف، وهنا أتذكر اعتراض أحدهم على الإمام أحمد بن حنبل لأنه، أي ذلك الشخص، رأى أن هذا العالم يخوض في قضايا غير مألوفة وقد يرتد التفكير فيها والحديث حولها عليه بالضرر، وأن من الأفضل له أن يتحدث في أمور العبادة والدين، فقال له ابن حنبل "إنك من أصحاب العقول المستريحة".
إضافة إلى سهولة الفكر المغري وإراحته للعقول فإن التحذير من الفكر المغري ينطلق أيضاً من حقيقة أن الفكر، أي فكر، قابل دائماً لإعادة النظر، وإلا تحول إلى إيمان يتم قبوله بالقلب لا بالعقل (أوليس الإيمان هو ما وقر في القلب وصدقه العمل؟). إن تحول الأفكار، مهما بدت صادقة وصحيحة، إلى مسلّمات يقينية يوقف حركة التفكير في أي مجتمع، وإلى انسداد أبواب التغيير في ذلك المجتمع.
ولو عدنا إلى الفقرات الثلاث في الأعلى لوجدنا أنها بالفعل من المسلمات الفكرية في الثقافة العربية، غير أن اقترابنا منها بالأسئلة ربما يقودنا إلى أن صحتها لا تمضي إلى المدى التام الذي توحي به تلك الفقرات. وسأضرب بعض الأسئلة على الفقرات السابقة:
(الفقرة الأولى): ما هو الغرب بالتحديد؟ هل هو الدول الغربية؟ هل كل الدول الغربية تندرج في الفقرة الماضية؟ هل الغرب إقليم جغرافي أم أنه نطاق فكري قد تقع فيه دول (وربما عقائد وأفراد) لا يوجدون في الغرب الجغرافي؟ ثم ما معنى "التربص"؟ وهل فعلاً هذا التربص موجود وهو الذي يحكم العلاقة بين الغرب والعرب والمسلمين؟ من ناحية أخرى، أليس من بين العرب والمسلمين من "يتربص" أيضاً بالغرب ويتمنى له الدمار؟ ..
(الفقرة الثانية): ما هي العولمة؟ وهل هي حالة عالمية تشمل كل إنسان في الكون؟ هل فكرة القرية العالمية الصغيرة فكرة صحيحة؟ ألا يوجد من هو خارج هذه القرية الصغيرة؟ وهل التقارب الإعلامي والاتصالي هو الذي يخلق القرية الكونية؟ وما معنى الشعور بالغربة وكيف نقيسه وما هي آثاره؟ وهل الإنسان المعولم فعلاً لا يعرف نفسه ومجتمعه ووجهته وما يريد؟ وكيف لنا أن نعرف هذا؟
(الفقرة الثالثة): هل الترجمة غائبة غياباً كلياً عن العالم العربي حالياً؟ من الذي درس العالم العربي المعاصر وأثر الترجمة فيه؟ وعن أي مظهر من مظاهر الحياة نتحدث أم أننا نتحدث عن أثر كليّ للترجمة؟ وهل فعلا كانت الترجمة تعيش عصراً ذهبياً في أيام مجد الحضارة العربية الإسلامية؟ أوليس من المحتمل أن ما وصلنا عن أيام ذهبية للترجمة كان كذباً؟ أو دعاية سياسية؟ أو ربما يمثل أياماً قليلة فقط وليس حالة مستمرة؟
* * *
العظة التي أدعو إليها في مقالي هذا هي أن علينا جميعاً أن نحذر حين نجد أنفسنا ننزلق لنقول شيئاً يردده الكثيرون، بل إن علينا أن نتفحصه، ونثير الأسئلة حوله، فلربما وجدنا أن تلك "الحقائق" ليست حقائق في واقع الأمر، وإنما محض عبارات صدقها الناس وكرروها حتى اعتبرت حقائق لا يتطرق إليها شكّ شاكّ.
للتعليق على المقال اضغط هنا
للتعليق على المقال اضغط هنا